نظام الحكم والعهد الإقطاعي الأول

لقد رأينا فيما سبق مقدار ما أظهره «أمنمحات» من النشاط العظيم للتدخل في أحوال حكام المقاطعات ليحد من قوتهم، ولا داعي لأن نفكر لحظة في قدرته على أن يقضي على هذه الأرستقراطية الرفيعة الشأن، الثابتة القدم دفعة واحدة، ويعيد البلاد إلى ما كانت عليه من نظام موحد في عهد الدولة القديمة؛ إذ كانت طبيعة الأمور توحي بأن النظام الطبعي اللائق للحكومة والمجتمع معًا يتطلب بل يحتم على العكس وجود طبقة أرستقراطية وما يتبعها من الأشراف المميزين؛ ولأجل أن نفهم هذا الوضع يجب أن نستعرض أمام القارئ في لمحة خاطفة حالة العصر الذهبي لحكومة الإقطاع ورسوخ قدمه في البلاد، ويعتبر العهد الإهناسي — في الواقع — العصر الذهبي للحكومات الإقطاعية التي قامت على حساب الدولة، فقد كانت كل مقاطعة مقسمة إداريًّا وعسكريًّا تقسيمًا محكمًا كأنها مملكة صغيرة؛ فكان لها قائد يسوق جيشها إلى ساحة القتال، ولها مدير مخازنها، ومدير ماليتها، وموظفوها وكُتابها، وكان كل أمير مقاطعة يرث مقاطعته عن أبيه، وكان أبناء أمراء الإقطاعات يشتركون مع آبائهم في توجيه دفة أملاك المقاطعة، وفي إدارة شئونها، فكان الابن يكتسب من ذلك تجارب تؤهله لحكم مقاطعة والده. وكان أمير المقاطعة يتبع في سياسته مع موظفيه من النصح ما كان يسير على نهجه حكام الدولة القديمة، فاستمع إلى الكلمات التي كان يتغنى بها أمير «أسيوط» في العهد الإهناسي: «لا يوجد امرؤ فصلتُه عن عمله، ولا إنسان اغتصبت أملاكه ما دام متبعًا حدود وظيفته؛ ولقد نشرت السعادة على الأرض، واقتفيت إثر اللص، وكنت أمقت انتهاك حرمة الملكية» (Griffith, “Suit”, Tomb No. III, line 9).

وقد كانت توجد بجانب طائفة الموظفين الذين حُرموا وظائفهم في أنحاء المقاطعات بسبب الفقر الذي عمَّ البلاد، عندما أخذت موجة التدهور الأولى تطغى على مصر في نهاية الأسرة السادسة؛ أسر قوية جدًّا يدَّعون انتسابهم إلى أصل إلهي، نُسل من إله مقاطعتهم المحلي مثل الفرعون نفسه، وأن لهم حق الوراثة في عرش مصر منذ أقدم العهود؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى إلههم نظر الفرعون إلى إلهه. وقد توصل بهذه الوسيلة (وإن شئت فقل بهذا الادِّعاء) أمراء «طيبة» إلى أن يضربوا ضربتهم الممتازة الحاذقة، بعد أن مهدوا لها بحروب طاحنة جاءوا فيها على الأخضر واليابس. وقد مكثت سنين طويلة استطاعوا في نهايتها أن يتولوا عرش الملك، ويوحدوا البلاد بعد طول الانقسام والشقاق، وأنشئوا صرح الأسرة الحادية عشرة، وقد كان من الطبعي أن ينسبوا انتصارهم السياسي والحربي على أمراء «أسيوط» وملوك «إهناسية المدينة» المعادين إلى إله مقاطعتهم «آمون»، وقد كان في نظرهم يمثل أقدم الآلهة، ومن ثم اعتبروه رئيس الآلهة وملك الأرضين، وإن كان هذا الزعم لا يرتكز على أساس تاريخي صريح، وفي هذا الوقت ظهرت كذلك أوصاف عن مظاهر الظلم وعدم استتباب الأمن في صور مقالات أدبية كتبها جماعة من حملة الأقلام مطالبين بالعدالة الاجتماعية، وتأسيس سلطة جديدة تخلص البلاد مما حاق بها من ظلم وجور؛ غير أن النظام الإقطاعي كان متغلغلًا في نفوس الأمراء حتى إن انتزاعه من البلاد كان من أصعب الأمور وأعنفها، وقد عبر عن هذا الروح أحسن تعبير في قطعة من ترجمة حياة أحد أمراء مقاطعة «سيوط» تعد مثالية في هذا الموضع فاستمع إليه وهو يقول: «إني قد ثويت هنا (في القبر)، وقد احتل ابني مكانتي، ومجلس الحكم مطيعون له منذ أن كان حاكمًا، ولم يكن طوله قد تجاوز بعد ذراعًا (أي منذ أن ولد).» وكان عندما يخرج مثل هذا الأمير الرفيع الشأن من بيته يُحاط بأتباعه ويُحمل على المحفَّة، وتسير وراءه كلاب الصيد، ومعه رجال الصيد الذين كانوا في العادة يمشون في ركابه، وكذلك القزم الذي يقوم على خدمته الخاصة به.

ومنذ العهد الإهناسي كان يسير في ركاب أمير المقاطعة فرقة حربية، وكانت تظهر مع «أتباع الأمير» وكان جنودها مسلحين بالدروع والحراب والبلط، والأقواس، والنشاب، والسهام، وخلف هؤلاء كان يسير رجال آخرون يحملون النعال وأواني الغسيل وحقائب الملابس، كل ذلك تشبهًا بما كان يجري في عهد الدولة القديمة. وكان كذلك من الضروري لكل أمير مقاطعة رئيس أطباء، ومدير ملابس، وساق ليقوم على خدمته أثناء بسط المائدة أمامه، ولقد بقيت هذه الصورة التي رسمناها هنا عن حياة الأمير الإقطاعي في الظاهر حتى منتصف الأسرة الثانية عشرة؛ ولا أدل على ذلك من إدارة الموظفين الذين كانوا في كنف أمير «قوص» راجع Blackman, “Meir”, I–III; Newberry, B. H., I, 45 ff.) وكذلك كان «الكُتاب» يسودون في بلاط أمير المقاطعة بطبيعة الحال، فمثلًا نرى في بلاط أمير مقاطعة «الأشمونين» المسمى «تحوتي حتب» أنه كان في خدمته مدير حقول، ورئيس خزانة، ومدير (حريم) المدينة، ومزارعون لأراضي المقاطعة، ومدير ثيران، ومدير البهائم الصغيرة، وهكذا بالتدريج نزولًا حتى نصل إلى مدير السمك. أما الإدارة المالية فكان يديرها موظفان كبيران وهما رئيس الخزانة (وهو على ما يظهر لم يكن يشغل مركزًا عاليًا) ومدير الخزانة (Newberry, “Bersheh” I, Pl. XXVII; Amenemhat II-Senwesert III).
وكذلك كان لأرض المعبد ولأرض الأوقاف الجنازية التابعة للمقاطعة مدير خاص (Blackman, “Meir” II P. 6; III, 5; Ibid, I, P. 19, II, P. 6) وكان يقف بجانب الأمير مدير مكتب وحاجب، وكذلك كان له مدير قاعة الإدارة، وهو الذي كان مكلفًا تنظيم الأعمال أمام المحكمة للسلطة العليا، (Newberry, B. H. I, Pl. XIII, P. 16) فلم يكن من الغريب إذن أن يحاط هؤلاء الأمراء بأعظم مراسم الاحترام ومظاهر العظمة في احتفالات البلاط مما كان يندر وقوعه في عهد الدولة القديمة حتى لوزير؛ ولذلك نجد في هذا العهد أن أمير مقاطعة «أرمنت» يقول عن نفسه: «إنني عند دخولي على سيدي يكون الكبراء خلفي، وحارس الباب يقف مطاطئ الرأس حتى أصل إلى المكان الذي فيه جلالته» (Griffith, P. S. B. A, 18, PP. 195 ff)، ومن جهة أخرى كانت قد ألفت في هذا العهد فكرة سياسية لمقاومة هؤلاء الأمراء، وذلك عندما أخذ الوزير يجمع لشخصه كل ألقاب الشرف التي كان يتحلى بها أمراء الإقطاع مما لم نجد له نظيرًا، وبخاصة في نهاية حكم الأسرة الحادية عشرة، ولا أدل على ذلك من الألقاب التي كان يحملها الوزير «أمنمحات» في أواخر الأسرة الحادية عشرة، وكذلك التي كان يحملها «منتو حتب» في عهد «سنوسرت الأول» (Die Veziere des Pharaonen Reiches. Von. Arthur Weil). وقد كان للوزير من الهيبة والعظمة ما جعل القوم يدعون له كما كانوا يدعون للفرعون بالحياة والصحة والعافية، وأول ما حدث ذلك في عهد «سنوسرت الأول»؛ على أنه لم يدعَ لأمير مقاطعة بمثل هذا الدعاء إلا أمير مقاطعة «الأشمونين».

على أن قوة أمراء الإقطاع التي وصفناها كان يوجد فوقها منذ الأسرة الثانية عشرة قوة أعظم من قوتها، وهي التي كانت تتمثل في الفرعون، فلم يعد الفرعون الذي يجلس على عرشه في «أثث تاوى» (اللشت) مجرد صورة أو خيال يستغله رعاياه الأقوياء، أو يتخذ ألعوبه في أيدي أمراء الإقطاع الذين كانوا لا يعترفون للملك بأي حق عليهم إلا اسمًا، فقد أصبح الآن سيد البلاد كلها، فلا يتحرك إصبع أو يرتفع صوت إلا بأمره، وكذلك أصبح من الأمور المستحيلة أن يتصور الإنسان ملكًا «كأمنمحات» أو «سنوسرت» في ركاب أحد أمراء المقاطعات كما كان يفعل «خيتي» أمير مقاطعة «سيوط» في وقت الحروب التي كانت قائمة بينه وبين أمراء «طيبة» كما سبق ذكره، ولا جدال في أن أقل ملك من ملوك الأسرة الثانية عشرة كان في مقدوره أن يستخدم أمراء «سيوط» فيما يريد مع وضعهم في أمكنتهم اللائقة بهم إذا دعا الأمر لذلك، على أنه كان في استطاعة أصغر الأمراء في عهد الفوضى في البلاد أن يقاوم الفرعون وينتصر عليه بحدِّ السيف.

فمن ذلك أن أميرين من الأمراء الذين حكموا مقاطعة الأرنب (البرشة) وعاصمتها «الأشمونين» العظيمة كانا يفتخران بانتصارهما على الفرعون فيقول أحدهما: «لقد خلصت مدينتي في أيام الشدَّة من طغيان البيت المالك.» وهذا أكبر دليل على منتهى الفوضى في البلاد وضعف فرعونها في تلك الفترة؛ فلما جاء ملوك الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة تمكنوا من وضع حدٍّ لهذه الفوضى بإدخال تغييرين عظيمين كان من جرائهما أن ضعفت سلطة أمراء الإقطاع، وأصبحوا غير قادرين على إحداث ضرر ما؛ وفي الوقت عينه لم يمس هذا التغيير ما كان لهم من سلطان مادي، وبخاصة بالنسبة لممتلكاتهم التي ورثوها عن آبائهم.

وأول تغيير هو تحريم الحروب الداخلية التي كان يثيرها هؤلاء الأمراء الأقوياء بينهم، كما كان يحدث في أوروبا في العصر الإقطاعي. أما التغيير الثاني فهو محو انتقال ملكية المقاطعة بالوراثة بلا قيد ولا شرط بين أولاد أمراء المقاطعات، وكان المبدأ الذي أصبح متبعًا هو أن يمنح الفرعون تقليد حكم المقاطعات إلى الأمراء الوراثيين المباشرين؛ أي إلى الابن أو ابن البنت عندما يكون نسل الذكور قد انقطع، ولكن إذا كان هذا التقليد خاصًّا بأسرة ثائرة على العرش، أو كانت تأتي بما يغضب الفرعون، فإنه كان يحرمهم هذا الحق، ويمنحه غيرهم من خدَّامه الذين يظهرون له إخلاصهم وولاءهم، وقد كان هؤلاء الأمراء كذلك يفتخرون بما شيدوه من قبور ضخمة وبشرف محتدهم، وشرف محتد زوجاتهم اللائي كنَّ لا تقل شهرتهن عنهم، غير أنه لم يعد احتفاظ هؤلاء الأمراء بسلطانهم راجعًا إلى أصلهم وحقوقهم الوراثية، بل كان يتوقف تقليدهم السلطة على ولائهم للفرعون الذي بيده السلطة، فهو الذي كان يوليهم بعد موت آبائهم، ويعين لهم حدود مقاطعاتهم الفاصلة، وما يخصهم من النهر العظيم حسب خط تقسيم المياه، ومن ثم بدأ أمراء المقاطعات ينقشون أسماء الملوك على جدران مقابرهم؛ غير أن سلطة أمراء الإقطاع الوراثيين استمرت عظيمة حتى منتصف حكم الأسرة الثانية عشرة، بقدر ما كانت عليه في عهود أمراء الإقطاع في عصر الأسرة السادسة. فقد كان «أميني» أمير مقاطعة الغزال في عهد «سنوسرت الأول» يفخر بأعماله العظيمة وصفاته الممتازة التي تدل على روح العدالة الإنسانية كما سبق ذكره. ومن أقواله نعلم أن كل السكان المزارعين في المقاطعة كانوا عيالًا عليه بما أظهره من حسن الإدارة في حكم المقاطعة؛ ولم يقتصر ذلك على مواليه في ضياعه الخاصة، بل كان يدخل ضمن هؤلاء الفلاحون الأحرار والمأجورون، وكان شباب الفلاحين ينظمون فرقًا ويجندون، ويصبح من واجبهم أن يقدموا لأمير المقاطعة خدمة إجبارية (عمل يسخرون فيه)، وكذلك كان يتألف منهم الجنود الاحتياطيون للمقاطعة، وهؤلاء كان يقودهم الأمير لمحاربة أعداء الفرعون عند قيام أية حرب ضده، وعندما تكون المقاطعة ممتدة على شاطئ النيل كان لكل شاطئ فرقة تميز باسمها، فكانت فرقة الشرق وفرقة الغرب، مجاراة لما كان يحدث في الأزمان القديمة، وقد عرف بعض أمراء المقاطعات كيف يكسب قلوب أهل مقاطعته بحسن المعاملة، فمن ذلك ما نشاهده في مناظر قبور بعضهم مما يثبت ذلك كالمنظر الذي يخلد ذكرى «تحوتي حتب» أمير مقاطعة الأرنب (الأشمونين) فقد أمر بنحت تمثال له ضخم من المرمر المستخرج من محاجر «حتنوب»، وقد اشترك في جرِّه لنقله إلى مقبرة الأمير كل شباب المقاطعة، يساعدهم في ذلك الكهنة غير المحترفين بقوة ساعدهم، وكان مما زاد في قوتهم حسن إرادتهم ورغبتهم في ذلك. وقد حدث ذلك على مرأى من الشعب الذي كان يهتف لهم. هذا وكانت الجزية المستحقة للفرعون تصل إليه عن طريق المقاطعة؛ إذ كان هو الذي يجبيها، وقد افتحر «أميني» أمير مقاطعة «بني حسن» بأنه يدفع إلى بيت مال الفرعون كل سنة جزية من المواشي يبلغ عددها ٣٠٠٠ ثور من مقاطعته دون أن يكون عليه أي دين.

ولا نزاع في أن التغييرين اللذين أدخلهما الفرعون للحدِّ من قوة الأمراء الإقطاعيين كانا على جانب عظيم من الأهمية؛ فالأول: وهو إبطال الحروب الداخلية؛ كان نعمة على الأهلين، وذلك بتأليف جيش قائم تحت قيادته مباشرة. أما الثاني: وهو الاستغناء عن الحكام الوراثيين تدريجًا، وإحلال غيرهم من الموالين للفرعون محلهم، فكان له محاسنه كما كان له بعض المساوئ المؤقتة؛ إذ كان ينقص الحاكم الجديد عند توليته في بادئ الأمر الحب المتبادل في دائرة إقليمه، وبخاصة عندما يكون الحاكم أجنبيًّا عن أهل المقاطعة. وهذا لا يقدم لنا المثل الأعلى في نظام الحكم؛ على أن من حسناته في الوقت نفسه أنه كان يحفظ حاكم المقاطعة من التحيز، وإن كانت هذه العاطفة ليس بالهين التغلب عليها؛ إذ الواقع أن الحاكم المحلي، وإن كان له خبرة بأحوال القوم وشعورهم في إدارة المقاطعة، إلا أنه في الوقت نفسه يحمل في صدره أحقادًا محلية وميولًا شخصية لا تجعل توزيع العدل بين أفراد شعبه خاليًا من الظلم والإجحاف والانحياز إلى فريق من الناس دون الفريق الآخر، على حين أن الموظف الذي كانت تنصبه الحكومة الرئيسية، رغم أنه كان جاهلًا بأحوال القوم الذين سيحكمهم؛ فإنه في نفس الوقت يكون خلوًّا من الأغراض الشخصية التي طالما كانت أكبر باعث على سوء الحكم في كل زمان ومكان.

سلطة أمراء المقاطعات لم تُمحَ جملة

ورغم هذا التغير فإن أمراء البلاد لم يُمحوا من البلاد جملة، بل كل ما حدث هو أن الفرعون قد حضد من شوكتهم؛ إذ لم تكن السلطة الرئيسية في يده قد بلغت الحد الذي يمكنه فيه أن يقضي على الأشراف في البلاد جملة؛ وكان الأشراف لم يبلغوا من الضعف بعد المرتبة التي تجعلهم في البلاد زينة أو أشباحًا، بل الواقع أن الأمير المحلي كان لا يزال قوة عظيمة في مقاطعته وإن كان يهاب مع هذا سلطان الفرعون، وكان لا يقوم بعمل هام في مقاطعته، إلا بعد الحصول على رضى الفرعون. فمن ذلك أن «تحوتي حتب» صاحب مقاطعة الأرنب كان محترسًا في عمله عندما أخبرنا أنه قد نال موافقة الفرعون عند شروعه في نحت تمثاله الضخم فيقول: «إن قلوبهم في عيد عندما رأوا سيدهم وابن سيدهم يقوم بنحت أثره، وهذه علامة على رضى الملك.» وبالاختصار يظهر أن فراعنة الأسرة «الثانية عشرة» الأول كانوا في مركز وطيد يمكنهم من الحصول من أشراف الأقاليم على أقصى ما يمكن من الأعمال المفيدة دون أن يتعرضوا للأخطار التي يسببها وجود مثل هؤلاء الأمراء، غالبًا كما حدث في الأيام الأخيرة من عهد الدولة القديمة وأدت إلى سقوطها، وهذا القول ينطبق بوجه خاص على النصف الأول من قيام هذه الأسرة.

السلطات التي اكتسبها الفرعون

وخلاصة القول نجد أن الأسباب التي نقلت السلطة جملة إلى يد الفرعون في كل البلاد من أقصاها إلى أقصاها تنحصر في أمرين عززهما ثالث؛ وهي تأليف جيش قائم، تقييد وراثة الملك في المقاطعات، وقد سبق الإشارة إليهما، ثم وضع نظام حكم ممتاز يلاءم حالة البلاد وهو ما دعا إليه طائفة الكُتاب الذين كانوا يطالبون بالإصلاح الاجتماعي. ويلحظ في أول هذه الإصلاحات أن الفرعون لم يعد يرتكز في تنفيذ إرادته أو المحافظة على سلطانه على جنود حكام المقاطعات، بل اعتمد في ذلك على جيشه الذي ألفه هو ليكون عضده في تنفيذ سياسته داخل البلاد وخارجها (راجع مصر القديمة ج٢).

قانون وراثة حكم المقاطعة

أما الإصلاح الثاني: وهو موضوع تولي الأمراء الوراثيين حكم المقاطعات فقد وضع الفرعون في سبيلهم العقبات ليكبح من جماحهم ويكسر من شوكتهم. وحقيقة الأمر أن الأمراء العظام في البلاد كانوا لا يتولون وراثة المقاطعات عن آبائهم بدون قيد ولا شرط، بل كان كل أمير منهم يسيطر على نوعين من الضياع: واحدة منها ورثها عن والده؛ وهذه كانت تتوارثها الأسرة جيلًا عن جيل، ولا يمكن فصلها منهم؛ ومن هذه الناحية كان الأمير مستقلًّا عن ملك البلاد تمامًا، وقد كان من واجبات الفرعون أن يراعي قوانين الوراثة معه، كما تُراعى لأي فرد آخر، فلم يكن لديه الوسيلة ليتعدى عليه من هذه الناحية. ولكن من جهة أخرى كان أمير كل مقاطعة يستولي على نوع آخر من الأراضي التي كانت في الواقع إقطاعات ملكية؛ وكان لا بد عند توريثها لأي أمير آخر من الحصول على موافقة الفرعون، وإلا فلا يمكن أن يستولي عليها بأية حال، وفي العادة كان رضى الفرعون وموافقته أمرًا طبعيًّا. ولكن كان لا بد منها حتى مع أسرة «خنوم حتب» أمراء مقاطعة الغزال الذين اشتهروا بولائهم وخدماتهم للبيت المالك. وقد ذكر لنا «خنوم حتب الثاني» أن الفرعون عيَّن خاله «نخت» بحظوة خاصة أميرًا على «منعات خوفو» … فعين … «نخت» المنتصر المبجل ليحل بحكم وراثته في «منعات خوفو» بمثابة حظوة عظيمة من الملك، وذلك حسب الأمر الذي صدر من فم جلالة الملك «سنوسرت الأول» له الحياة والصحة والسعادة مثل «رع» أبديًّا. وقد عومل «خنوم حتب الثاني» هذه المعاملة نفسها قبل أن يتولى حكم الإقطاع الملكي فيقول: «الملك «أمنمحات الثاني» … أحضرني؛ لأني كنت ابن حاكم لأرث حكومة أملاك أم والدي؛ وذلك لأنه كان يحب العدل كثيرًا … ونصبني حاكمًا في السنة التاسعة عشرة على «منعات خوفو».»

ومن ذلك نرى أنه رغم استمرار الأسرة في تولي حكم الإقطاع الملكي وإدارة ضياع الأسرة الخاصة، فإن القاعدة المتبعة كانت أن يؤيد ذلك بمرسوم ملكي طوال قيام هذا النظام في عهد الأسرة الثانية عشرة. والظاهر أن سكان المدن كانوا يتمتعون في هذا العهد بحرية عظيمة تفوق التي كان ينعم بها أهل الريف، فقد كانوا تحت إدارة حاكم المقاطعة ومراقبة الشرطة؛ ولذلك نرى أنه عندما أسس «أمنمحات الأول» مدينة جديدة في مصر الوسطى وضعها تحت مراقبة أمير المدينة وحاكمها، وهذه المدينة اسمها «سحتب إب رع» تيمنًا باسم التاج الذي يحمله الفرعون «أمنمحات»، وكانت تحت حكم الأمير «نحري» (Newberry B. H., I. pP. 62 ff)، وكان يحمل لقب حاكم المدينة الجديدة (؟)، وهو لقب كان شائعًا في عهد الأسرة السادسة، على أنه لم يكن تحت حكم الفرعون مباشرة، أو بعبارة أخرى تحت حكم وزرائه الذين كانوا يعتبرون حكام المدينة إلا مقر الملك و«منف» العاصمة الحقيقية للبلاد، ويحتمل كذلك «طيبة».

أما مدن المقاطعات فلم يكن هناك مراقبة متصلة يقوم بها «مديرون» و«كُتاب»، ولم يجند منها أفراد لأعمال السخرة، وكان من حق كل إنسان أن يباشر مهنته حرًّا، ويظن أنه كان في استطاعته أن يهاجر إلى مدينة أخرى ويتخذها له موطنًا. وقد كان لدى موظفي الفرعون الوسائل التي تخوِّل لهم التدخل في شئون المقاطعة، ورغم ما كان لحاكم المقاطعة من القوة العظيمة فإنه مما يشك فيه أنه هو الذي كان يعين قضاة المحاكم في المدن. وقد نمت في المدن حياة قوية كلها جد ونشاط؛ ولذلك نجد أن جمًّا غفيرًا من الأفراد الذين لم يكونوا منخرطين في سلك الوظائف الحكومية، يشتغلون صناعًا ونحاسين ونحاتين وتجارًا، وقد وصلوا إلى درجة عظيمة من الثراء يشهد بذلك ما يفهم من اللوحات الكثيرة التي أقاموها على قبورهم، على حين أننا نجد أقل منهم بمراحل في المدنية من دهماء القوم، فمنهم الفلاحون الذين يزرعون الأرض، ويقومون بأعمال السخرة، وكذلك نجد الصانع الصغير الذي يعيش تابعًا لغيره، وهؤلاء هم ثمرة المخالطة غير الشرعية، فليس لهم والد وهم كما يقال عبيد العصا، يُضربون أمام القوم.

تعاليم خيتي

ولدينا كتاب أدبي من هذا العصر يحتوي على نصائح والد لابنه، وقد نقلته مدارس الكتبة، وهو كتاب النصائح التي وجهها «خيتي بن دواوف» لابنه «بيبي»، وقد ظلت هذه التعاليم أو النصائح تُعرف بتعاليم «دواوف» إلى عهد قريب، والواقع أن صاحبها هو «خيتي بن دواوف» (راجع كتاب الأدب المصري ص٢٠٧ ج١)، وهذه التعاليم تصف لنا بصورة قاتمة عنيفة البؤس والشقاء الدائم الذي كان يعانيه كل فرد لا يحترف الكتابة (أي غير موظف)؛ إذ كان الموظف يعتبر مسيطرًا على الناس، وكان يغبطه على عمله كل أصحاب الحرف الأخرى، وإذا كانت الأوصاف التي جاءت في هذه التعاليم صحيحة في تفاصيلها؛ فإنها تضع أمامنا صورة تدل على روح يغمره التعصب، ويحيط به ضيق التفكير الشديد، وكذلك تدل على أن كبرياء الموظفين لم ينحنِ أمامه قط الطبقات العاملة، ولا الصناع الذين كانوا يظهرون في كتاباتهم الجنازية كبرياء يعادل كبرياء الكُتاب، ولكنه على حق، وسنورد هذه التعاليم هنا ونعلق عليها لما لها من أهمية خاصة في كشف النقاب عن الحياة الاجتماعية في هذا العصر.

تعاليم ألقاها مسافر اسمه «خيتي بن دواوف» لابنه «بيبي» في سفينة حينما سافر مصعدًا في النهر إلى عاصمة الملك ليلحِق ابنه بالمدرسة بين أولاد الحكام. وهذا العنوان وحده يكشف لنا عن حقائق خطيرة من الوجهة التعليمية والتاريخية، فمنه نعلم أنه كان يوجد مدرسة جامعة يتعلم فيها أولاد عِلية القوم في عاصمة الملك، وأن العاصمة كانت وقتئذ في الوجه القبلي؛ لأنه كان على «خيتي» أن يقلع بسفينته مصعدًا في النهر، ومن الجائز أنها كانت وقتئذ «إهناسية المدينة» أو «طيبة». هذا إلى أن هذه المدرسة كان يعلَّم فيها أولاد حكام المقاطعات ومن في طبقتهم، وسنرى أن «خيتي» يقول لابنه وستكون رئيسًا لمجلس «قنبت» وهو ذلك المجمع الذي كان يدير حكومة البلاد في العهد الإقطاعي (راجع كتاب الأدب المصري القديم ص١٣٠) وكان معظمه في ذلك الوقت من حكام المقاطعات.

ونجد أن أول ما يُلقي «خيتي» على ابنه من النصائح هو أن يرسم له صورة قبيحة للجاهل، ثم يغريه بأن يحب العلم أكثر من حبه لأمه، ويقول له إنه عاجز عن تصوير جماله ثم يشير إليه بأن صناعة الكتابة تفوق كل الحرف، وأنه لو تعلمها هنأه القوم على ذلك فيقول: لقد رأيت من ضُرب، فعليك أن توجه قلبك لقراءة الكتب، ولقد شاهدت من أعتق من الأشغال الشاقة، تأمل! لا شيء يفوق الكتب.

اقرأ في نهاية «كمت» (لعله اسم كتاب قديم) تجد فيه هذه:
إن الكاتب عمله في كل مكان في حاضرة الملك ولن يكون فقيرًا،١ والرجل الذي يعمل على حسب عقل غيره لا ينجح، ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر من والدتك، وليت في مقدوري أن أظهر جمالها أمام وجهك، وإنها أعظم من أية حرفة … وإذا أخذ التلميذ في سبيل النجاح، وهو لم يزَل طفلًا، فإن الناس تهنئه، ويكلف تنفيذ الأوامر، ولا يعود إلى البيت ليرتدي ثوب العمل (مثل أرباب الحرف الأخرى).

بعد ذلك يصف الأب لابنه الفرق بين مهنة الكاتب وما ينال صاحبها من الشرف وبين المهن الأخرى التي يكون من جرائها تعب الجسم واضمحلاله، وتعرض محترفها للأخطار فيقول: «على أنني لم أرَ قط قاطع أحجار كلف برسالة، ولا صانعًا أرسل في مهمة.» ثم يتناول بالشرح كل مهنة وما فيها من متاعب وحقارة بالنسبة لمهنة الكتابة، ويقدِّم لابنه درسًا في الحياة الاجتماعية، ويستعرض أمامه نواحي مصر الصناعية، ونصيب كل صانع من متاعبها، يذكر ذلك في شيء من المبالغة، ولكنه يكشف لنا في الوقت نفسه عن نوع الحرف التي كان يتخذها أبناء العصر المظلم الذي يتحدَّث عنه.

وإذا كان القارئ الأجنبي لا يحفل بهذا العرض كثيرًا فإن القارئ المصري يستهويه أن يراه؛ لأن فيه صفحة مضى عليها أربعة آلاف سنة، يستطيع أن يقرنها بصفحة مصر الحاضرة، فيرى أن الأخيرة تكاد تطابق الأولى مع طول العهد بينهما، وأن هذه المطابقة تشتد وتقوى في الدساكر والقرى حيث يضعف تأثير المدنية الحديثة.

فيتكلم أولًا عن صانع المعادن فيقول: ولكني رأيت النحاس يقوم بعمله عند فوهة الأتون، وأصابعه كجلد التمساح (أي إنها مجعدة وخشنة كجلد التمساح)، ورائحته أكثر كراهية من البيض والسمك.

ثم ينتقل إلى الخراط والسماك فيقول: وكل صانع يقبض بمهارة على المخرطة٢ يناله الإعياء أكثر مما يفلح الأرض، وميدانه الخشب، وفأسه المخرطة (حرفيا المعدن)؛ وفي الليل حينما يطلق سراحه يعمل فوق طاقة ساعديه؛ وفي الليل يشعل النور (أي يستمر في عمله فلا راحة له).

ثم ينتقل إلى الكلام على البَنَّاء وما يناله من التعب الجثماني فيقول: والبناء يبحث عن عمل له (؟) في كل أنواع الأحجار الصلبة، وعندما ينتهي منه تكون ذراعاه قد تكسرتا، ويصبح مضني، وعندما يجلس امرؤ كهذا عند الغبش، فإن فخذيه وظهره تكون قد حطمت.

بعد ذلك يتناول حرفة الحلاق فيظهر لابنه أنها مضنية، وصاحبها لا بد أن يجول في الشوارع ليبحث عن عمل يسد رمقه بما يكسبه، فنراه يقول: والحلاق يحلق متأخرًا إلى الغروب … ويجول من شارع إلى شارع ليبحث عمن يحلق له وينهك ذراعيه لأجل ملء بطنه كالنحلة التي تأكل وهي تكد.٣

وكذلك يظهر له المتاعب التي يلاقيها التاجر الجوال ليحصل على ثمن سلعته فيقول: والتاجر (؟) يسيح إلى الدلتا ليحصل على ثمن سلعته، ويكد فوق طاقة ساعديه، والبعوض يقتله (لما يحمله من الجراثيم) …

ويتناول بعد ذلك أحقر الحرف وهي صناعة اللبن فيقول: وصانع اللبن (ضرب الطوب) الصغير الذي يصنعه من غرين النيل يقضي حياته بين الماشية (؟)، وهو على أية حال مختص بالكروم والخنازير (في المصرية تورية بين كلمة كروم وخنازير، وربما كان ذلك هو السبب في ذكرها هنا)، وملابسه تكون خشنة … وهو يشتغل بقدميه ويدق …

والظاهر أن حرفة البَناء كانت شاقة عند المصريين حتى إن حكيمنا هنا قد رصد لها فقرتين، غير ما ذكر، ولكن الفقرة الثانية فيها بعض الغموض فيقول: دعني أحدِّثك فضلًا عن ذلك عن البناء الذي يكون غالبًا مريضًا (؟)، وملابسه قذرة، وما يأكله هو خبز أصابعه، ويغسل نفسه مرة واحدة … وهو أتعس ما يمكن أن يتحدَّث عنه الإنسان بحق (؟) فهو كقطعة حجر (؟) في حجرة طولها عشر أذرع في ست … والخبز يقدِّمه إلى بيته، وأطفاله يضربون ضربًا … (وهذه القطعة غامضة في الأصل).

ثم يصف الحكيم لابنه حالة البستاني، ويظهر أنه يقصد به زارع الخضر والفاكهة على السواء فيقول: «أما البستاني فيحضر أثقالًا، وذراعه ورقبته تتألمان من تحتها، وفي الصباح يروي الكرَّاث، وفي المساء الكروم (لأن ذلك أحسن وقت لريها عندما تكون محملة بالفاكهة … فحرفته أسوأ من أية حرفة).

ثم ينتقل إلى وصف حالة الفلاح وهو الذي ينطبق على حالة فلاح مصرنا؛ الذي تفتك به الأمراض، وصاحب الأملاك يستنفد كل محصوله، فهو كالحيوان الضعيف الذي يعيش بين الأسود، فهو لا بد مأكول فيقول الحكيم: أما الفلاح فحسابه مستمر (أي إن صاحب الأرض يُطالبه دائمًا بتأدية ما عليه من الديون) إلى الأبد، وصوته أعلى من صوت الطائر «آيو» … (دائمًا يشكو)، وهو كذلك أكثر تعبًا ممن يمكن التحدث به، وحالته كحالة الذي يعيش بين الأسود، وهو في غالب الأوقات مريض (؟) وعندما يعود إلى بيته في الغروب، فإن المشي يكون قد مزقه إربًا إربًا (أي إن طول الطريق يجهده إجهادًا كبيرًا فوق ما لاقى من التعب خلال اليوم).

يتناول بعد ذلك «خيتي» حكيمنا الناسج الذي يعمل وهو جالس طول اليوم، فيشبهه بقعيدة البيت، فهو لا يتمتع بالهواء الطلق، وهو مراقَب دائمًا، فإذا تباطأ عن العمل يومًا ضُرب بالسوط، وفي رواية أخرى انتُزع من مكان راحته كما تُنتزع زهرة السوسن من البركة، وإذا أراد أن يخرج من مصنعه ليستنشق الهواء، فلا يصل إلى ذلك إلا بالرشوة فيقول: وحال الناسج داخل مصنعه أتعس من حال المرأة، فركبتاه تكونان في بطنه، وهو لا يمكنه أن يستنشق الهواء، وإذا أمضى يومًا دون عمل انتُزع (من مكان راحته)، كما تُنتزع زهرة السوسن (وفي رواية أخرى فإنه يُضرب بسوط ذي ٥٠ شعبة) أو (فإنه يُضرب كسائمة الضحية ٥١ سوطًا)، وهو يقدم لحارس الباب خبزًا ليسمح له في ضوء النهار بالخروج.

بعد ذلك يصف الحكيم المحنك لابنه «حرفة» من الحرف التي كانت شائعة في ذلك العصر، ولكنها قد اختفت في عهدنا تدريجًا بانتشار المدنية؛ وأعني بذلك صناعة «السهام» التي لم يفتأ يستعملها المصري؛ لأنها كانت من أهم أسلحة الحرب، فيصف كيف يحتم على صاحبها أن يذهب إلى الصحاري والجبال، حيث الظران الذي تُصنع منه السهام، وما في ذلك من بُعد المسافة، وما يعانيه هو وحماره، وما يستلزمه من المال لمن يرشده إلى الطريق في وسط تلك الفيافي والقفار، وما يتطلبه كل ذلك من وقت ونصب فيقول: وصانع السهام يكون تعسًا عندما يرحل إلى الصحراء، وإن ما يعطيه حماره لكثير، هذا فضلًا عن أنه عمل يستغرق وقتًا طويلًا، ويعطي كذلك الذين في الحقول، والذين يرشدونه إلى الطريق كثيرًا أيضًا، ويصل إلى بيته في المساء بعد أن يكون السير قد أنهكه.

ثم يتناول بعد ذلك حرفة أخرى من التي أخذت تتلاشى في مصر، وإن كانت لم تزَل باقية في بعض الجهات المتطرفة التي لم تصلها المدنية الحديثة، وأعني بها نقل البريد برجال خُصوا بذلك، فيصف لنا كيف أن عامل البريد عند ذهابه إلى بلد أجنبي يترك وصيته خوفًا من عدم عودته، لما في رحلته من المخاطر، وحتى إذا عاد إلى مصر ثانية فإنه لا يعود مرتاح النفس؛ لأن التعب يكون قد أضناه فيقول: وحامل البريد عندما يسافر إلى بلد أجنبي يوصي بأملاكه لأولاده خوفًا من الأسود والأسيويين، وهو يعلم ذلك وهو في مصر، وعندما يعود إلى بيته يكون تعسًا؛ لأن المشي قد كسره، وسواء أكان بيته من النسيج أو اللبن (؟) فإنه لا يعود منشرح القلب٤ (وفي رواية أخرى: وعندما يصل إلى بيته مساء فإن قلبه يكون فرحًا).

ويعقب ذلك كلام على حرفة لم نصل إلى كنه معناها، والغرض من ذكرها هنا هو أن يُظهر له بشاعة رائحة محترفها؛ ولذلك سنورد الكلمة هنا بأصلها المصري.

أما اﻟ «سثناوي» فإن رائحة إصبعه تكون نتنة، والرائحة التي تتصاعد منها هي رائحة جثة، وعيناه تكونان مثل … (؟) … بسبب المسوح … وهو لا يقصي عنه «سثناوي» وهو يقضي وقته في تقطيع الخرق (؟) وما يمقته هو الملابس.

ثم يشفع ذلك بالتحدث عن حرفة يظهر أنها تشبه السابقة في قذارتها، وأعني بها حرفة الإسكاف، فيصف الحكيم لابنه كيف أن هذا التعس يحمل أوانيه التي فيها آلاته وجلده، وكيف أن صحته تسوء وجسمه يهزل، وقد يُجبر على قطع الجلد بأسنانه فيقول: والإسكاف يحمل أوانيه إلى الأبد (وفي نسخة أخرى يحمل آلاته إلى الأبد) وصحته تكون كصحة الجيفة؛ وما يعض عليه هو الجلد.

ثم يأتي بعد ذلك الكلام على حرفة الغسال، ومجازفة صاحبها بنفسه أمام خطر التمساح — مما يدل على كثرة هذا الحيوان في ذلك العصر في النيل — وما يلاقيه بسببها من تعب جثماني، وما يشعر به من تعس عندما يضع مئزر سيده ليؤدي فيه عمله، فيقول: والغسال يغسل على الموردة، وإذ ذاك يكون جارًا قريبًا للتمساح (في صورة إله)، وعندما يخرج الوالد «الغسال» متجهًا نحو الماء المضطرب، يكون ابنه وابنته في عمل هادئ منعزل عن كل عمل آخر، وعندئذ يقول ابنه وابنته: إن هذا ليس بعمل يجد فيه الإنسان راحة، وهو منفصل عن أي عمل آخر، وغذاؤه يكون مختلطًا بمكان حساباته، وليس فيه عضو سليم، وإذا ارتدى مئزر المرأة فإنه وقتئذ يكون تعسًا، وهو يبكي حينما يمضي وقته حاملًا اﻟ «مكاتن» … ويقال له «الغسيل» أسرع إليَّ …

ويعقب هذا بحرفة أخرى ليست من نوع الحرف السابقة بل هي حرفة لهو؛ ولذلك يقول عنها إنها تجعل صاحبها يهمل أعماله، وأعني بها حرفة صيد العصافير، فيقول: وصائد العصافير تراه في منتهى التعس عندما يشاهد ما في السماء ويهمل أعماله، (وفي رواية أخرى)، وعندما تطير الطيور المتنقلة٥ في السماء يقول: ليت عندي شباكًا هنا، ولكن الله لا يهيئ له نجاحًا (؟).

بعد ذلك ينتقل إلى حرفة صيد السمك، ويصف الحكيم لابنه ما فيها من أخطار التمساح، فيقول: إني مخبرك كيف أن حرفة صياد السمك أكثر تعسًا من أية حرفة أخرى، فإنه يشكو منها، أليس عمله على النهر حيث يختلط بالتماسيح (؟)، وإذا لم يقُل له الإنسان يوجد تماسيح فإن خوفه يعميه.

وهنا ينتقل الكاتب الحكيم إلى إطراء حرفة الكتابة، فيقول: إن صاحبها هو الذي يصدر الأوامر.

ثم يصفها بأنها أحسن من كل الحرف التي استعرضها أمامه، فيقول: تأمل! فإنه لا توجد حرفة من غير رئيس لها إلا صناعة الكاتب، فهو رئيس نفسه،٦ فإذا عرف الإنسان الكتب فإنه يقال عنه بحق: إنها مفيدة لك … وما أقوم به في سياحتي إلى الحاضرة، تأمل! إني أقوم به حبًّا فيك، ويوم في المدرسة مفيد لك، وما تعمله فيه يبقى مثل الجبال.

ويعقب هذه الكلمات الحكيمة بعض فقرات غير مفهومة وتدل مقدمتها هذه: «دعني ألق عليك فضلًا عما سبق كلمات لأعلمك» أنها تبحث في موضوع جديد؛ ومن المحتمل أنها إضافات قد أُدخلت على المتن الأصلي فيما بعد، فمنها فقرة تعلِّم الإنسان حسن السلوك في حضرة العظيم، فيقول حكيمنا: وإذا دخلت ورب البيت مشغول بآخر قبلك، فعليك أن تجلس ويدك في فمك، ولا تسألن عن أي شيء، وفضلًا عن ذلك لا تتكلمن بكلمات غامضة، ولا تنطق بلفظة وقحة … ثم إذا حضرت من المدرسة وقد أعلن وقت الظهر لك وأنت سائر تصيح فرحًا في الطرقات، فحينئذ … وإذا أرسلك رجل عظيم برسالة فأدِّها كما ألقِيت عليك ولا تنقِص منها ولا تزِد …

ويلي ذلك نصيحة غالية في القناعة في المأكل والمشرب من أحسن ما قيل في هذا الباب؛ إذ يقول: «كن قنوعًا بطعامك، إذا كان يكفيك ثلاثة رغفان، وشرب قدحين من الجعة، فإذا لم يكن بطنك قد اكتفى بعد فحاربه (؟).»

ثم إن الحكيم يحض ابنه على أن يستمع لكلمات الرجل العظيم ويتخذ لنفسه صديقًا من سنه، فيقول: انظر، إنه لحسن أن تفض الجمهور وتستمع منفردًا إلى كلمات العظيم … اتخذ لنفسك رجلًا صديقًا من جيلك.

وفي النهاية نرى «خيتي» يقول لابنه: إنه قد وضعه على الطريق الإلهية وإن ربة «حصاد الكتاب» على كتفه منذ ولادته؛ أي إنه لن يقاسي آلام الحاجة، وأنه بفنه يصل إلى أعلى وظيفة في البلاط، بأن يصبح عضوًا في المجلس الأعلى للحكام «قنبت»، بل قد يكون الرئيس فيه بما أوتيه من علم وحكمة، ثم يخبره أن هذه الطريق ممهدة أمامه وأمام أولاد أولاده، فيقول: انظر، إني قد وضعتك على طريق الإله، وإن «رننوتت» الكاتب (أي ربة الحصاد للكاتب) قد أصبحت على كتفه منذ ولادته، وهو يصل إلى باب مجلس «القنبت» عندما يصل إلى سن الرجولة، تأمل! إنه لا يوجد كاتب قد حُرم القوت الذي هو متاع بيت الملك (عاش في صحة وفلاح)، و«مسخنت» (إلهة الكتابة) هي سعادة الكاتب، وهي التي تضعه على رأس المجلس الأعلى «قنبت»، ويجب على الإنسان أن يشكر والده ووالدته اللذين وضعاه على طريق الأحياء، والآن تأمل! فإن هذا (أي ما نصحتك به) ما أضعه أمام وجهك ووجه أولادك، وقد انتهى هذا بسلام.

ويستنتج مما ذكر أن الكُتاب كانوا كثيرين، وأن الكاتب كان صاحب القدح المعلى، والرأي المتبع (Chronique d’Egypte, No. 43, P. 50 ff.).
١  قد يحتمل أن كل وظيفة يشغلها لها صلة بالبلاط، وعلى ذلك فللكاتب نصيب قبل غيره في الأرزاق التي توزع هناك.
٢  لا شك أن حكيمنا يبالغ في هذه الصورة التي يضعها أمام ابنه؛ لأنه مما لا شك فيه أن بعض أصحاب هذه الحرف كان يحب مهنته لذاتها، وإلا لما وصلت إلينا تلك القطع الفنية النادرة في إتقانها من أيدي هؤلاء الصناع.
٣  أي إنه يأكل أثناء عمله، وهذا ما نشاهده الآن في القرى المصرية.
٤  لأن أولاده يكونون قد قسموا ملكه ظنًّا منهم أنه قد مات في طريقه.
٥  تؤلف الطيور المتنقلة عنصرًا هامًّا في طعام المصريين.
٦  هذه الفكرة هي الغرض الذي يرمي إليه الكاتب من أقواله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤