الحروب والعلاقات الخارجية

كانت الثقافة والأنظمة الحكومية في عهد الدولة الوسطى مصرية بحتة، لا يعزى شيء منها إلى بلد أجنبي؛ لذلك كان تقدمها محليًّا، ولكن هذه الحال قد أخذت تتبدل بعض الشيء على يد ملوكها العظام، والواقع أن مصر كانت تجد كفايتها في تربة بلادها، وكانت لا تخرج عن نطاق حدودها، إلا عندما كانت إحدى الممالك المجاورة تهدد حدودها، أو عندما كانت تغير على تخومها طلبًا للغنائم. ولم تشذ مصر عن هذه الخطة على ما يظهر إلا عند قيامها بالتوسع في رقعتها من جهة الجنوب في أوائل الدولة الوسطى، حيث قد امتدت الحدود المصرية في عهد الدولة القديمة إلى الشلال الثاني، وقد بقي السبب الذي دعا إلى هذا الفتح غامضًا حتى كُشفت عنه الحفائر الأثرية التي قامت في بلاد النوبة كما ذكرنا آنفًا.

ولما تولى ملوك الأسرة الثانية عشرة عرش الملك، رأوا من واجبهم أن يعيدوا سيطرة الفراعنة القدامى على فتوحاتهم في بلاد النوبة ويدافعوا عن حدودها الأخرى بعد أن ضاعت في عهد الفوضى الذي تلا الأسرة السادسة. ففي أوائل عهد «أمنمحات الأول» نجد مذكورًا في النقوش أن من بين أعدائه السود والأسيويين، ولكن يحتمل أن هؤلاء كانوا جنودًا مرتزقة، يحاربون في جانب أعدائه من المصريين، وعلى أية حال فقد افتخر قائده «نسومنتو» بأنه قد هزم «المنتيو» (الأسيويين) و«الحروشع»؛ أي سكان الرمال من الأسيويين، وخرب قراهم، والظاهر أنه تقدم في زحفه حتى «فلسطين».

ويرجح أن «أمنمحات الأول» كان أول من استعمر الواحات، وتدل النقوش التي عثر عليها حتى الآن أن الواحات كانت معروفة للمصريين منذ الدولة القديمة؛ إذ عثر على نقش من عهد الأسرة السادسة لموظف يدعى «خوفوحر»، وقد جاء فيه أنه ذهب إلى «إلفنتين» على طريق الواحة (Sethe, Urkunden I, 125)، ومن ذلك نعلم أن طريق القافلة التي كانت تربط الواحات المختلفة في الصحراء الغربية من جهة الشمال حتى «دارفور» كان معلومًا في ذلك الوقت. والظاهر أن الواحات كانت آهلة بالسكان، غير أنها لم تكن على ما يظهر تابعة لمصر، ولكن عندما نظم «أمنمحات الأول» مصر ثانية فإنه بدأ بسياسة حماية تخومه الغربية؛ ولذلك أقام قلعة في «وادي النطرون» لهذا الغرض، ومن المحتمل كذلك أنه أقام أخرى في «الواحة الخارجة».١
(Ahmed Fakhry, A. S., Vol. XL, PP. 815–847; “The Egyptian Deserts, Siwa Oasis”, P. 24).
وقد كان يرسل الحملات لتأديب اللوبين، وقد أرسل ابنه «سنوسرت الأول» بحملة من هذا النوع، وعندما سمع بموت والده رجع في الحال (راجع [أمنمحات الأول ٢٠٠٠–١٩٧٠ق.م – المؤامرة ضد ولي العهد ونصيب «سنوهيت» فيها وفراره])، ولما تولى «سنوسرت» المُلك اتبع سياسة والده؛ ولذلك يقول أحد عماله المسمى «دديكو» (A. Z. 42, P. 124): «لقد غادرت «طيبة» بوصفي شريفًا يعمل كل ما يمدح على رأس جيش من الشباب لأعيد الحكم في أرض أهل الواحات بوصفي موظفًا ممتازًا.» ثم يقص علينا في نفس النقش أنه امرؤ يراقب ويحمي تخوم الفرعون.
وفي لوحة «كاي» (A. Z. LXI, P. 108) التي سبق ذكرها، وكان صاحبها يحمل لقب رئيس صيادي الصحراء ومدير الصحراء الغربية ورئيس بعث، وجاء فيها على لسانه: «لقد وصلت إلى الواحة الغربية، وفحصت كل طرقها وأحضرت الهاربين الذين وجدتهم هناك» (Fakhry, “Bahria Oasis”, PP. 12-13).
ومنذ ذلك العهد اتجهت أنظار «أمنمحات الأول» وخلفه إلى إخضاع اللوبين «تمحو»، وهذا ما يفسر لنا صور اللوبيين من رجال، ونساء، وأطفال، وهم اللذين رسمهم «خنوم حتب الأول» على جدران مقبرته «ببني حسن» ليمثلوا الغنائم التي استولى عليها في حروبه في جانب الفرعون (Newberry, B. H. I, Pls. 45 ff.) ولما مات هذا الفرعون وجد «سنوسرت الأول» نفسه في حروب ضد اللوبيين، وفي السنة التي سبقت ذلك تحدثنا الآثار عن حملة قامت ضد إقليم «واوات»، وقد أصبحت منذ ذلك العهد خاضعة «مثل المازوي» للحكم المصري، وتحميها قلاع، ومن ثم كان مفروضًا على رؤساء السود أن يقوموا بغسل التبر واستخراج الذهب بمثابة (A. Z. 20, 30, 12, 112, 13, 50; Petrie, “Season”, P. 540; Maspero, “Melange d’Arch.,” PP. 217. ff)، جزية يدفعونها.
وعلى أية حال فإن أشد أعداء مصر وأصلبهم عودًا هم «الكوش» سكان بلاد «النوبة الوسطى»، وقد ظهر اسمهم هنا لأول مرة في المتون المصرية، وقد هزمهم كذلك «سنوسرت الأول». ولما تقدم «خنوم حتب» في السن في تلك الفترة أخذ ابنه «أميني» قيادة جيش مقاطعة الغزال بدلًا من أبيه ليحارب بجانب الفرعون، وقد ساق الفرعون جيوشه حتى آخر الدنيا، وقد أمر بإقامة تذكار في «وادي حلفا»، بالقرب من الشلال الثاني رمزًا لانتصاره، فنجد هناك الإله «منتو» إله الحرب في «طيبة» يقود الأسرى وهم القبائل المغلوبة، ويلاحظ أن معظم أسمائهم لا نعرفها إلا من هذه الوثيقة؛ (Breasted, A. R, I, Par. 540).

وكان من نتائج هذه الحملات على بلاد «النوبة» أن وضعت في يد المصريين مناجم الذهب التي كانوا يستغلونها؛ وتشمل أودية سهل صحراء وادي «علاقي». وفي عهد «سنوسرت الثاني» رجع «أميني» وهو «أمنمحات الثاني» إلى مصر يصحبه حراس أقوياء، ومعه ما حصل عليه من الذهب المستخرج من هذه الجهة. وقد أقيمت قلعة لحماية الطريق إلى هذه المناجم في المكان المسمى الآن «كوبان» حيث تنفصل الطريق من وادي النيل. أما إخضاع هذا الإقليم فقد تم على يد الفرعون «سنوسرت الثالث»، وقد قام بعدَّة حملات في العام الثامن والثاني عشر والسادس عشر والتاسع عشر من حكمه، ضد الكوش الخاسئين، ومنذ حملته الأولى إلى هذه الجهات قام بحفر قناة صالحة للملاحة في صخور الشلال الأول لنقل جنوده فيها، على أن هذه الحروب لم تعدم مجالًا للقيام بأعمال بطولة عظيمة، اللهم إلا أن الفرعون وضباطه قد وجدوا فيها مادة للفخار، فقد حرقوا القرى، ونهبوا الحقول، وأتلفوا الآبار، وساقوا السكان إلى ذل الاستعباد.

ومع ذلك فإنه كان من الصعوبة بمكان ضمان الأمن واستتباب السكينة في هذا الشريط الضيق المنزرع بين قبائله الذين كان في مقدورهم أن ينسابوا في وديان الصحراء، وقد مد «سنوسرت الثالث» الحدود المصرية حتى منحدرات مياه «سمنة» و«قمة» فيما وراء الشلال الثاني وحماها بإقامة ثماني قلاع على مرتفعات،٢ وفي الجزيرة التي وسط النهر هناك؛ وكانت آخر هذه القلاع من جهة الجنوب قلعة «أورنارتي» Ouronarti واسمها يعبر عنها؛ أي التي تقصي السودانيين «إينتيو» Iountiou، هذا إلى أن بلاد «النوبة السفلية» كان يحميها أربع قلاع أخرى، وقد أقيم هناك لوحتان في السنة الثامنة والسنة السادسة عشرة في عهد «سنوسرت الثالث» ذكر فيهما ما يحرم على السود المستقلين أن يتخطوا الحدود إلى الشمال في النهر، اللهم إلا إذا كان يقصد التجارة مع إقليم الحدود المسمى «إقن» على شرط أن يستعملوا في هذه التجارة سفنًا مصرية. والواقع أنه منذ هذه اللحظة بدأت فعلًا بلاد «النوبة السفلية» تكون جزءًا حقيقيًّا من الإمبراطورية المصرية، ومن ثم أخذ المصريون يستعمرونها، وكذلك أصبح «سنوسرت الثالث» يعدُّ في أعين أخلافه الفاتح الحقيقي لبلاد النوبة، وقد رفعه «تحتمس الثالث» إلى مرتبة إله هذه البلاد وشيد له معبدًا في «سمنة»، وقد استمرت علاقات مصر بأملاكها في بلاد النوبة في عهد هذا الفرعون، كما كانت في عهد خلفه «أمنمحات الثالث»، على أحسن ما يكون. وقد عثر في «الرمسيوم» ضمن البردي الذي عثر عليه «كوبيل» سنة ١٨٩٦ على برديتين إحداهما تحتوي على معلومات جغرافية ولغوية وتلقي بعض الضوء على القلاع التي أقامها «سنوسرت الثالث» لتحصين بلاده. أما الثانية فتحتوي على صور رسائل يرجع تاريخها إلى عهد الفرعون «أمنمحات الثالث»، وسنتكلم عن كل منهما. وهذه الرسائل على جانب عظيم من الأهمية من الوجهة الاقتصادية والعلاقات التي كانت قائمة بين مصر وبلاد النوبة، وهي صورة عدد من الرسائل أرسلت من قلعة «سمنة» التي كانت تسمى «خع كاو رع» (سنوسرت الثالث)، ومن مكان آخر.

وهذه الرسائل قد كُتبت على ظاهر الورقة أما خلفها فكتب عليه متن سحري. ولسوء الحظ لم نجد رسالة من هذه الرسائل كاملة، ويظهر أن صاحبها كان من كبار رجال الدولة.

والرسائل تحدثنا عن ذهاب بعض «النوبيين» إلى «سمنة» لتصريف متاجرهم، وكذلك عن قوم من «المازوي». وقد ذكر في هذه الرسائل أكثر من مرة الخطوات التي اتخذت لاقتفاء أثر حركات أهل الجنوب في الصحراء. والشيء الذي يسترعي النظر في أمر هذه الرسائل وما جاء فيها أن الحكومة كانت تهتم في هذا العصر باتخاذ التدابير لإرسال تقارير رسمية عن مثل هذه المعاملات البسيطة في ذاتها لترسلها إلى الجهات العليا، وإلى الحصون الأخرى غير قلعة «سمنة»، وتحفظ منها صورة في سجلاتها.

(١) التحصينات التي أقامها «سنوسرت الثالث» في بلاد النوبة

كان من بين الأوراق التي كشف عنها «كوبيل» في معبد «الرمسيوم» والتي يرجع عهدها لعصر الدولة الوسطى بردية مهشمة، وقد ظهر بعد فحصها أنها تحتوي على قائمة مفردات مرتبة في مجاميع فنية، والظاهر أنها كانت تُستعمل في وقتها بمثابة كتاب هجاء، أو قاموس، أو دائرة معارف إذا قسناها بنظائرها في عصرنا. ومما يؤسف له جدَّ الأسف أن لم يبقَ لنا من محتويات هذه البردية أكثر من ٣٢٣ كلمة مختلفة، يضاف إلى ذلك حاشية غريبة تشمل أسماء نحو عشرين نوعًا من الحيوانات المختلفة كُتبت أسماؤها باختصار، ومن بين هذه الأسماء التي ورد ذكرها في هذه البردية أسماء زيوت وطيور، ونباتات وحيوانات من ذوات الثدي، وأسماء فطائر، وأنواع حبوب، وبعض أسماء أجزاء من جسم الإنسان، وفي وسط هذه المجاميع وجد كذلك قائمة بأسماء حصون في بلاد «النوبة»، غير أن هذه القائمة لم تقتصر على ذكر هذه الحصون النوبية، بل استمرت تذكر لنا سلسلة من أسماء مدن الوجه القبلي. وتنحصر أهمية هذا القسم الجغرافي من هذه البردية في ذكر هذه القلاع والمدن مرتبة حسب الموقع الجغرافي ترتيبًا متتابعًا من الجنوب إلى الشمال، والمهم في هذا أنه لم تصلنا وثيقة أخرى من عصر مبكر كهذه وموضوعه على هذا النحو من الترتيب. وتدل شواهد الأمور أن هذه الورقة يرجع تاريخها إلى أواخر الدولة الوسطى.

ويبلغ عدد هذه الحصون سبعة عشر حصنًا وسنذكرها هنا حسب ما جاءت في البردية من الجنوب إلى الشمال، ثم نتكلم عن أهميتها بالنسبة للفرعون «سنوسرت الثالث» الذي يعتبر أكبر ملك فاتح في عهد الدولة الوسطى:
  • (١)

    … … …

  • (٢)

    قلعة «خع مع خرو» ومعناها «سنوسرت الثالث» مظفر، وموقعها قلعة «سمنة الغرب» الحالية.

  • (٣)

    قلعة «انتو بدوت» «صد الأقواس» وهي قلعة «قمة» الحالية وتسمى كذلك «سمنة الشرق».

  • (٤)
    قلعة «خسف أونو» «صد الؤنو» وهي «أورونارتي» الحالية، ويطلق عليها كذلك اسم «جزيرة الملك»، وقد عثر في هذا المكان على اللوحة التذكارية التي أقامها «سنوسرت الثالث» في السنة السادسة عشرة من حكمه، وقد جاء في بدايتها ما يأتي: «لوحة أقيمت في السنة السادسة عشرة الشهر الثالث من فصل الشتاء في الوقت الذي أقيمت فيه القلعة المسماة «صد الؤنو»» (L. D. 11, 631 h).
  • (٥)

    قلعة «وعف خاسوت» (كبح الممالك)، ومن الجائز توحيدها ببلدة «شالفاك» الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل على مسافة قريبة من سكة حديد محطة «سرس». وقد قام الأستاذ «ستيندورف» بحفائر في داخل هذه القلعة، فوجد فيها مباني عظيمة ذات جدران سميكة. ومن الجائز أنها كانت مخازن للأسلحة أو الحبوب … إلخ.

  • (٦)
    قلعتا «در-وتيو» (إخضاع سكان الواحة) و«إقن»؛ وهاتان القلعتان تقعان بين القلعة الخامسة و«بوهن» = (وادي حلفا)، ومن الطبعي والمحتمل أن توحدا بقلعتي «مرجيس» و«دينارتي» على التوالي، غير أننا لا يمكننا الآن أن نفرق بينهما على وجه التأكيد، ولكنا من جهة أخرى نعرف بعض التفاصيل عن «إقن» من لوحة الحدود الصغيرة التي عثر عليها في سمنة (L. D. 11, 136 I) وهي التي أقامها «سنوسرت الثالث» كما سلف ذكره. وذكر لنا الكابتن «ليونز» أن القلعة الأولى اسمها «مرجيس» ولكن المستر «سومرز كلارك» ذكرها في مقاله باسم «متوكا» (J. E. A. Vol. 111, P. 165) وقد أقيمت هاتان القلعتان لصد أهالي السودان المغيرين.
  • (٧)

    قلعة «بوهن» وهي (وادي حلفا الحالية).

  • (٨)

    قلعة «إنق تاوى» = (ضام الأرضين).

  • (٩)

    قلعة «خسف مزاو» = (صد المازوي). وهاتان القلعتان الأخيرتان لا بد أنهما تقعان قبل «وادي حلفا» و«عنيبة». ويظن الأستاذ «جاردنر» أن موقع الأولى هو المكان المعروف الآن «بسرة الغرب» على مسافة ١٥ ميلًا من شمال حلفا. أما الثانية فلا يمكن تحديد موقعها على وجه التحقيق.

  • (١٠)

    قلعة «معام» وهي «عنيبة» الحالية، وتقع على الشاطئ الغربي، ولا تزال بقاياها إلى الآن.

  • (١١)
    قلعة «باقي» وهي «قبان» أو «كوبات» الحالية وتقع على الشاطئ الشرقي للنيل، وعلى مسافة بضعة أميال شمالي «كوبان» توجد قلعة «كشتامتة» = (إككور) أو (كوري)، ويرجع تاريخ أقدم جزء فيها إلى الدولة القديمة، غير أن هذين المكانين لم يُذكرا في البردية، ولكن المستر «فرث» Firth يظن أنهما يكوِّنان مع «كوبان» وحدة.
  • (١٢)
    قلعة «سنمت» Snmt وهي «بجة» الحالية.
  • (١٣)

    قلعة «آبو» (إلفنتين أو أسوان الحالية)؛ وقد جاء ذكرها في مقبرة «رخ مارع» وزير «تحتمس الثالث».

  • (١٤)

    وجد اسم هذه القلعة مهشمًا في البردية.

  • (١٥)

    وجد اسم هذه القلعة مهشمًا في البردية.

  • (١٦)

    «خني» (بلدة السلسلة).

هذه هي أسماء القلاع كما وجدت على هذه البردية، وإذا ألقينا نظرة عامة على هذه القائمة نجد أن ثمانية من هذه الحصون السبعة عشر قد أقيمت في إقليم الشلال الثاني؛ أي من «سمنة» إلى (وادي حلفا)، وكذلك نلاحظ أن ثلاثة منها على أقل تقدير كان لها علاقة بالفرعون «سنوسرت الثالث»، بل ومن المحتمل أن سبعة الحصون التي في جنوب «وادي حلفا» تنتسب إلى هذا الفاتح العظيم أيضًا، وإذا كان هذا الفرض صحيحًا فإنه يفسر لنا سبب عبادة هذا الفرعون في كل أنحاء بلاد النوبة السفلية، على أننا من جهة أخرى نعلم أن هناك قلاعًا ضخمة كانت قد أقيمت في جنوبي هذه القلاع في تاريخ مبكر عن الذي نحن بصدده. وقد أماط لنا اللثام عن هذه الحقيقة الدكتور «ريزنر» بالحفائر التي قام بها في بلدة «كرمة»، غير أن ذلك لا يقلل من أهمية الخطوة التي خطاها «سنوسرت الثالث»، والتي كان غرضه المعين منها أن يضم مصر وبلاد النوبة السفلية تحت لواء واحد؛ وذلك بإقامة حاجز منيع عند «بطن الحجر» (الشلال الأول)، ولكن لسوء الحظ سنجد فيما بعد أن سياسته كان مصيرها الخيبة لما حل بالبلاد من تقلبات أسرية هدمت كل ما قام به من فتوح في هذه الجهات (J. E. A. Vol. III, P. 184) وهذه الوثائق المدهشة تضع أمامنا بوضوح جلي أن بعض القلاع النوبية كان لها وظيفتان؛ إذ كانت من جهة قد أقيمت لتكون بمثابة سد منيع أمام أي اعتداء حربي منتظر، وكذلك كانت حاجزًا ضد الضغط المستمر الذي كان يهدد مصر وأملاكها من جهة الشمال، وهو ما كان يقوم به أهل السودان من الغارات، ومن جهة أخرى كانت تستعمل بمثابة مَحاط تجارية. وقد كانت «سمنة» في عهد الدولة الوسطى آخر الحدود كما نعلم ذلك من لوحتي بطل مصر «سنوسرت الثالث» كما سلف ذكره.

وتحدثنا هذه الرسائل عن أهل الجنوب الذين نزحوا إلى الحدود المصرية ليبيعوا سلعهم؛ إذ كانوا يصرفون متاجرهم ثم يقفلون راجعين إلى أوطانهم، وكذلك نجد أن بعض أهل «المازوي»، وهم الذين كانوا يعلنون أنهم أتوا لخدمة الحكومة المصرية، قد سرحوا إلى الصحراء. ومن ثم يظهر أن هؤلاء القوم لم يكن مصرحًا لهم أن يتخطوا الحدود، وهذا يتفق مع الأمر الملكي الذي نُقش على لوحة «سمنة» الصغرى؛ حيث يذكر فيها أن النوبي الذي أتى ليتجر مع «إقن» الواقعة شمالي الحدود، أو الذي جاء لأمر رسمي يمكنه أن يمر شمالي «حح»، وهي التي تعرف الآن عادة بأنها واقعة في إقليم سمنة، وكذلك لا يسمح لقوارب النوبيين أو قطعانهم بأية حال من الأحوال أن تتخطى الحدود. فالنوبيون الذين كان يسمح بمرور بضائعهم كانوا تجارًا قاصدين «إقن»؛ حيث كانت تصرف بعض أنواع من منتجات بلادهم، وكانوا يقطعون باقي رحلتهم بالقوارب فقط، وكانت هذه القوارب دائمًا مصرية.

ومما يلفت النظر كذلك في هذه الرسائل، فضلًا عن الصيغ العادية التي نجدها في أسلوب الكثير منها في عهد الدولة الوسطى، أنها كانت تحتوي على شيء جديد، وهو التأكيد غير العادي بسلامة الضياع الملكية، والظاهر أن أملاك الفرعون هنا كانت تحتوي على أراضي التاج، ثم تشمل دخل التاج الذي كان يُجبَى من الضرائب، ومن مصادر أخرى، كالاحتكار وغير ذلك. ومن هذا يتضح أن التجارة حسب ما جاء في هذه الرسائل كانت عند الحدود يقوم بها موظفون حكوميون لحساب الضياع الملكية «برنسو»، وكذلك كان هؤلاء الموظفون هم المسئولون عن البضائع التي كانت تُرسل من مصر للمبادلة، وكذلك كان موكولًا لهم أمر إرسال البضائع التي حصلوا عليها من النوبيين بوصفها ملكًا للتاج (J. E. A., Vol. XXXI, P. 5).

(٢) نشاط مصر خارج حدودها من جهة آسيا

وقد استمر ملوك الأسرة الثانية عشرة يستغلون محاجر «وادي الحمامات»، وكانت الحملات قد بدأت ترسَل إلى «بنت» منذ عهد الأسرة الحادية عشرة كما سبق ذكر ذلك، وقد كانت تبتدئ رحلتها من ميناء «ساوو» (وادي جاسوس).

أما المحاصيل التي كانت تأتي من «بنت» فقد ذُكرت بالاسم مرات عدة في النقوش، وليس من المحتمل أنه كانت توجد علاقات تجارية حرة بين تجار مصر، وتجار بلاد العطور؛ وذلك لأن السفن كانت مِلك الفرعون. أما رؤساء الحملات البحرية فكانوا يلقَّبون بحاملي أختام الفرعون (وكلاء)، يرافقهم جنود الفرعون. وقد وصلت إلينا قصة خرافية من هذا العصر، وهي تصوِّر لنا إلى أي حد كانت هذه الحملات تؤثر في مخيلة الشعب.

على أن الممالك الأخرى المجاورة لمصر عندما رأوا غزو مصر لبلاد النوبة تراجعوا عن تنفيذ مشروعاتهم ضد مصر تمامًا؛ وذلك لأنه منذ عهد الانحطاط الذي جاء بين عهدي الدولتين القديمة والوسطى أخذ الأقوام الذين على حدود مصر يستغلون ضعف البلاد ويغيرون عليها، ولكن عندما رأوا أن مصر قد أصبحت ثانية في يد فراعنة أقوياء كان همهم تنظيم ملكهم وعلاقتهم بالأصقاع المتاخمة، فأخذوا ينكمشون في بلادهم. وقد قامت على وجه التحقيق حروب بين مصر و«لوبيا» رغم أن المعلومات تعوزنا في هذا الصدد، ولكن من المؤكد أن (A. Z. Vol. 35, PP. 112 ff.; Lange und Schafer, “Grab und Denkstein”, No. 20539 b. 16 ff)، «أمنمحات الأول» قد أدبهم. هذا ونعلم أن «الواحة الخارجة» كانت تابعة لأمير «طيبة»؛ وذلك لأن طريق القوافل كان يبتدئ من «العرابة المدفونة» إليها، أما في شبه جزيرة «سينا» فقد أخذ المصريون يستغلون المناجم.
وفي عهد «أمنمحات الثاني» فُتح منجم جديد وأُعيد استعمال آخر في «سرابة الخادم» شمالي «وادي مغارة» (Weill, Rec. PP. 159 ff.; Petrie, “Sinai”)، أما عن المناوشات التي قامت بين المصريين والبدو فقد انتهت، وكذلك عادت العلاقات بين مصر وجارتها في الشمال الشرقي في «سوريا» و«فلسطين» على أحسن ما يكون من ود وصفاء بسرعة مدهشة. وقد كان هؤلاء الأعداء من طراز خاص؛ إذ كان في مقدورهم أن يهددوا الأمن على الحدود، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا قادرين على المقاومة، وقد وصفوا وصفًا دقيقًا لا مثيل له في الدقة في تحذيرات «مري كارع» فاستمع لما يقول: «والعامو (الأسيويون) التعساء بلادهم التي يعيشون فيها لا تسكن؛ إذ لا ماء فيها ولا شجر يكثر، وطرقها وعرة، لما يتخللها من الجبال، فهم لا يسكنون في مكان معين، بل دائمًا يرخي الواحد منهم لساقيه العنان، وهم دائمًا في حرب منذ زمن «حور» فهم لا يَهزمون ولا يُهزمون، وهم لا يعلنون يوم هجومهم. فمثلهم في هذا كمثل من يقوم بمؤامرة؛ ولذلك كان أكبر ضمان ضد جار كهذا، أن يقيم الإنسان المعاقل والحاميات على الحدود.
وقد فطن لذلك المصريون منذ عهد ما قبل التاريخ، فأقاموا الجدران والحصون؛ ولذلك لما جاءت الأسرة الثانية عشرة وجدنا مراقبة شديدة عند الحدود الشرقية المصرية حيث يحمي الطريق المسمى «طريق حور» بقلعة «سارو»؛ حيث الطريق الذي يؤدي إلى الصحراء بوساطة «وادي طليمات» قد سُدَّ «بجدار الأمير»، ولكن سلطان الفرعون كان يمتد إلى أبعد من ذلك بكثير في داخل بلاد «سوريا»، وقد كانت توجد بعوث تروح وتجيء بين البلاط المصري وهذه البلاد، وقد كانت المحاصيل الأسيوية ترد إلى مصر، وكان «أمنمحات الأول» يملك على النيل، مثل سلفه «سنفرو»، أسطولًا من السفن المصنوعة من خشب الأرز المصدَّر بلا شك من «جبيل» (ببلوص)، وقد كان البدو «سوتيو»، وهم الرماة على ما يظهر يأتون غالبًا إلى مصر يحملون متاجرهم، وحتى عندما يكونون في ضيق في وطنهم، فإنهم يسعون في الإقامة في مراعي وادي النيل، وبهذه الطريقة كان قد وفد في السنة السادسة من حكم «سنوسرت الثاني» رئيس الأجانب «إبشا»، ومعه عشيرته التي كانت تتألف من ٣٧ عامو (كنعانيين) الصحراء «شسو» من رجال ونساء وأطفال (L. D. II, Pl. 133; Newberry, “B. H.” 1, 28, 30, 31, 38)، وظهرت فيهم الملامح السامية بوضوح، وقد مثل أمام «خنوم حتب الثاني» صاحب «منعات خوفو» سيد إقليم الصحراء حاملًا له هدية من الكحل، ومما لا شك فيه أنه كان يرجو من وراء ذلك أن يحصل على تصريح بالإقامة في إقليمه، على أننا نعرف كيف كانت تسير الأمور من قصة «سنوهيت» التي سبق الكلام عنها.
وبلاد «رتنو العليا»التي وصفها لنا «سنوهيت» في صورة حية هي إقليم «فلسطين» الجبلي الذي كان على اتصال بمصر كثيرًا، ولدينا لوحة مهشمة جدًّا عثر عليها في مناجم «سينا»، ويرجع تاريخها إلى السنوات الأخيرة من عهد الأسرة الثانية عشرة، وهي تعدد لنا أسماء الذين أرسلوا في بعوث إلى ملك بلاد «رتنو» (Weill, “Rec. Insch, Sinai”, P. 186).

وقد كانت «آسيا» كذلك ميدانًا للحروب، غير أنه مما لا شك فيه أن سيطرة كل من «أمنمحات الأول» و«سنوسرت الأول» لم تمتد قط كما نعلم من قصة «سنوهيت» أكثر من إخضاع شبه جزيرة «سينا»، وكذلك عندما يحدثنا «منتو حتب» وزير «سنوسرت الأول» أنه أخضع الأسيويين، وجعل سكان الرمال يلزمون السكينة والسود يجنحون إلى السلم، فإن ذلك لا يكفي لأن يجعلنا نفكر في أنه كانت تقوم هناك حرب حقيقية.

(Lange & Schafer Grãb No. 20539).
وكذلك تحدِّثنا الآثار كثيرًا عن إماء أتينَ من آسيا، ولكن هؤلاء أيضًا يمكن أن يكنَّ قد اشتُرِين أو اغتصِبن من العدو في الهجمات التي كانت تقوم بين الفريقين (Muller, “Asien Und Europa,” P. 391; Griffith, Kahun Papyri, 35).
ومن جهة أخرى نعلم يقينًا من نقش للضابط «سبك خو»، في عهد «سنوسرت الثالث» أنه قام بحملة إلى فلسطين (Garstang, “El-Aŕabah,” P. 4; Breasted, A. R. I, Par. 676).

وقد سار بجيشه نحو الشمال ليخضع الأسيويين «مونتو ساتت» وعسكر في إقليم يسمى «سكمم»، أو «زكمم». وهذا الاسم لا بد أنه اسم جمع كنعاني ومعناه سكان «زخم» وتقع وسط «فلسطين».

وعندئذ هُزم «زكمم» كما هُزمت في الوقت نفسه الخاسئ «رتنو»، على أن «سبك خو» لم يخبرنا بشيء أكثر من هذا؛ اللهم إلا شيئًا عن شجاعته، وذلك أنه في طريق رجعته هاجمه «العامو» على غرة، أما عن حوادث الحرب نفسها فلا نعلم عنها شيئًا قط، على أنه قد يكون من الصعب جدًّا أن يعتقد الإنسان أن هذه الحملة كانت الوحيدة التي قام بها المصريون ضد إقليم سوريا، وهم في هذه النقطة لم يفعلوا شيئًا أكثر من أنهم اقتفوا أثر الدولة القديمة؛ ولذلك فإن ظهورهم بمظهر أسياد على كل الأجانب لم يكن ليرتكن على غير أساس؛ إذ نرى «سنوسرت الثالث» ممثلًا على صدرية من الذهب مرصعة بالأحجار الثمينة، وجدت في مقبرة ابنته بدهشور، فيظهر عليها حسب الطراز القديم في صورة أسد برأس صغير تحميه إلهة العقاب، وهو يطرح أرضًا أسيويين وزنوجًا، وكذلك نشاهد على حلي من نفس النوع، الفرعون «أمنمحات الثالث» قابضًا على ناصية بدوي من الأسيويين ورافعًا سيفه المقوَّس ليقطع رأسه (انظر شكل ١).
(De Morgan, “Dahchour”, Vol. I, PIs. 15, 19, 20, PP. 63 ff).

ولما كان كل ما ذكرنا يوحي بوجود سيادة مصرية في بلاد آسيا كالتي كانت لها في بلاد النوبة؛ آثرنا أن نفرد بابًا خاصًّا عن المعلومات التي وصلت إلينا حتى الآن في هذا الصدد فنقول:

الإمبراطورية المصرية في آسيا في عهد الدولة الوسطى

لا يزال حتى الآن موقف مصر بالنسبة إلى البلاد المتاخمة لها من جهة الشمال يحوطه بعض الغموض والإبهام، ولكن الكشوف الحديثة في مصر وفي تلك الأصقاع الشمالية المجاورة تزيح الستار عن ذلك شيئًا فشيئا، ومن ثم يمدنا ما توافر لدينا من المصادر ببعض الشيء لبحث هذا الموضوع على ضوئها واستخلاص نتيجة منها بقدر ما تسمح المعلومات التي في متناولنا.

والواقع أن العلاقات بين الأمم تنحصر في القوى الكامنة في كل منها، وما تقوم به الواحدة من معاملات مع جارتها، وردَّ الفعل الذي ينتج عن تلك المعاملات، فقد يكون السيطرة وقد يكون المساواة، وهذا يتوقف على قوة البلاد الحيوية. ففي عصر ما قبل الأسرات المتأخر تدل البحوث على أن آسيا كان لها تأثير عظيم على سكان وادي النيل، ولكن سرعان ما نرى أن مصر قد استثمرت بدورها شبه جزيرة «سينا» ومن المحتمل «فلسطين» من الوجهة الاقتصادية، وذلك في عهد الدولة القديمة، ولكن نجد ثانية في العهد الإقطاعي الأول أن الأسيويين قد غزوا الوجه البحري، وبعد ذلك عادت مصر وزحفت ثانية إلى الأقاليم الأسيوية في عهد الدول الوسطى ونشرت بعض سلطانها، أما العصر الذي تلا سقوط الدولة الوسطى، فيشاهد أن الهكسوس قد اجتاحوا البلاد المصرية واستوطنوها لمدة طويلة، ثم لم نلبث أن رأينا نجم الغزاة قد أفل، وقامت الدولة الحديثة، وأسست إمبراطورية شاسعة في آسيا، ثم مال الميزان كرة أخرى، وأخذت كفة مصر تهوي، عندما أراد أعداؤها في القرن الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد أن يغزوها.

ومما سبق نعلم أن الأدوار التاريخية التي مرت على البلاد كانت واضحة لا يعتروها أي غموض، غير أننا في عهد الدولة القديمة والعهد الإقطاعي وعهد الدولة الوسطى لا نعلم إلا القليل عن مقدار نفوذ مصر، وامتداد حدودها في البلاد المتاخمة لها وبخاصة من جهة الشمال.

والسؤال الذي نريد أن نضعه الآن هو: ما نوع السيطرة الإمبراطورية المصرية في عهد الدولة الوسطى؟

وفي الحق أن الدولة الوسطى لم يجلس ملوكها على عرش الملك آمنين؛ إذ نعلم أن ملوك الأسرة الحادية عشرة، وملوك الأسرة الثانية عشرة، قد بذلوا زمنًا طويلًا وجهدًا عظيمًا في توطيد سلطانهم داخل البلاد، وبعد أن تم لهم ذلك أصبحوا في مأمن للسير إلى أقطار خارج حدودهم، فنعلم أن «سنوسرت الثالث» قد مد سلطان بلاده حتى الشلال الثاني، ووصلت المحاط التجارية في عهده حتى «كرمة» بجوار الشلال الثالث، فهل كان سلطان مصر مشابهًا لذلك في «سوريا» و«فلسطين»؟

ولأجل أن نجيب على السؤال الأخير إجابة شافية يجب أن نفحص كل ما وصل إلينا من الآثار المصرية التي عثر عليها في الأقطار الأسيوية، وكذلك الآثار التي عثر عليها في مصر نفسها خاصة بهذه الأقطار، أو تشير إليها من بعيد أو قريب، ثم نستخلص منها نتيجة علمية.٣

كان أهم أثر يلفت النظر عثر عليه أخيرًا هو الجزء الأسفل من تمثال جالس لشخص يدعى «تحوتي حتب» وقد عثرت عليه بعثة «المعهد الشرقي الأميركي» في بلدة «مجدو» بفلسطين وهي «تل المتسلم الحالية» وكذلك عثر مع هذه القطعة على ثلاث قطع أخرى عارية من النقوش، وقد حدد رئيس الحفائر عمر هذه القطعة حسب الطبقة التي وجدت فيها من المعبد، وأكد أنها ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، أما مادة هذا التمثال فهي الجرانيت الأسود الصلب، أو حجر البازلت. ويستدل من القطعة الباقية من التمثال على أنه كان جالسًا على كرسي وراحته اليسرى على ركبته، ويده اليمنى قابضة على منديل وموضوعة على فخذه، ويرتدي قميصًا مجدولًا ذا طيات في جزئه الأمامي، وتدل عضلات الساق الأيسر التي لا تزال محفوظة على أن صانع التمثال كان ماهرًا.

وقد نقش على الجانب الأيسر من قاعدة التمثال هذه أربعة سطور بالهيروغليفية، وأربعة أخرى على الجانب الأيسر، ويحتمل أن العمود الذي يحمي ظهر التمثال كان يمتد حتى الرأس، وقد نُقش عليه سطر واحد. وصاحب التمثال هو فرد يدعى «تحوتي حتب». أما النقوش التي على القاعدة فهي كما يأتي:
  • (١)

    على الجانب الأيسر: «قربان يقدمه الملك إلى «خنوم» رب الأرض الأجنبية وللإله ليقدم قربانًا من خبز وجعة أو [وما شيه] وطيور … إلخ، إلى روح المحترم الشريف (حاكم) ومراقب التاجين أو «العرشين»، والمشرف على الكهنة، ورئيس الخمسة، والصديق الملكي، والمطلع على أسرار [بيت الملك؟] والحاكم العظيم [لمقاطعة الأرنب] … والمحبوب الملكي … على رأس اﻟ … «وتحوتي حتب» الذي وضعته «ست خبر كا».«

  • (٢)
    على الجانب الأيمن: نقش ما يأتي:

    قربان يقدمه الملك إلى «تحوتي حتب» رب الكلمات المقدسة … المحترم في حضرة الإله العظيم، الحاكم «الشريف» ومراقب التاجين (أو العرشين) والمشرف على الكهنة والقاضي وحاكم «بوتو» وفم نخن (هيراكنبوليس) وهي (الكاب الحالية) وكاهن … عشرون … في القصر وكاهن «تحوت الأعظم» والكاهن سم (وهو لقب كهنوتي عظيم جدًّا) الذي قرأ له المتن … ابن كاي «تحوتي حتب»؛ أي «تحوتي حتب» بن «كاي».

  • (٣)
    على العمود خلف القاعدة: «… في بيت «تحوت» عظيم الكشف وحاكم [الجبلين]، ويحتمل أن اللقبين الأخيرين هما لقبان دينيان لبعض كهنة في معبد «خنوم» إله الشلال، وهذه النقوش التي أوردناها هنا رغم ما أصابها من التهشيم فإنها تدل بالموازنة على أنها للموظف المصري والكاهن، «تحوتي حتب» ابن «كاي» واسم أمه «ست خبر كا»، ويستخلص من الأسماء والألقاب التي وردت في النقش أن «تحوتي حتب» هذا هو بلا نزاع نفس «تحوتي حتب» حاكم مقاطعة الأرنب، وهي المقاطعة الخامسة عشرة من مقاطعات الوجه القبلي، وعاصمتها «هرمو بوليس» «الأشمونين» الواقعة على الجهة المقابلة للنيل قبالة «البرشة» الحالية، (Sethe, “Historische Biographische Urkunden des Mittleren Reiches,” Vol. I, Par. 688 ff.)

ونجد في نقوش قبر هذا الأمير أنه كان يدعى «الطفل الملكي» في عهد «أمنمحات الثاني»، وفي عهد «سنوسرت الثالث» كان لا يزال موظفًا نشيطًا يقوم بمهام مقاطعته، وقد قلده والده «كاي» حُكم مقاطعة الأرنب، وأمه تسمى «ست خبر كا»، ولا نزاع في أن هذه القطعة الصغيرة من تمثال هذا الأمير كانت من تمثال خاص ببلدة «مجدو» في وقت ما خلال حياة «تحوتي حتب» كاهن الإله «تحوت» الأعظم في «الأشمونين»، وحاكم مقاطعة الغزال في مصر الوسطى.

والآن يتساءل المرء ما الذي دعا إلى وجود مثل هذا التمثال في بلدة «مجدو»؟ وأقرب الظن أن صاحبه كان مقيمًا في هذه البلدة يؤدي عملًا ما، ولكن ما هذا العمل؛ هل كان عضوًا في مستعمرة تجارية هناك؟ والجواب على ذلك لا بد أن يكون بالنفي؛ لأن ألقابه وما يوحي به مجال حياته في عهد ثلاثة ملوك بالتتابع من ملوك الأسرة الثانية عشرة لا يدل على أنه كان تاجرًا، ولا أنه كان قد نُفي من الأرض مثل «سنوهيت»، ولكن من المحتمل أنه كان يقوم بأعمال سفير مصري في هذه الجهة، رغم أننا لا نعرف شيئًا كثيرًا عن المبعوثين المصريين في ذلك الوقت لنتأكد من أن رجلًا في منزلة «تحوتي حتب» ومسئولياته يمكن أن يرسل سفيرًا إلى بلدة مثل «مجدو»، وعلى ذلك لا بد أن نلخص فيما يلي ما جاء على بعض الآثار التي وصلتنا من عهد الدولة الوسطى من أرض آسيا أو لها علاقة بها، لنصل إلى نتيجة تزيح الستار عن وجود هذا التمثال في مثل هذا المكان؛ إذ الواقع أنه قد عثر على بعض القطع الأثرية في «آسيا»، وتحمل أسماء مصرية، غير أن هذه يمكن أن تُنسب إلى أعمال تجارية قام بها صاحبها. ولكن تمثال «تحوتي حتب» الذي نحن بصدده وتمثالًا آخر لشخص يُدعى «سنوسرت عنخ» كُشف عنه في «رأس شمر»، كان كل من صاحبيهما له مركز مسئول في خارج البلاد المصرية، وإذا كانت هذه النظرية صحيحة فلا بد من تغيير الفكرة السائدة عن علاقات مصر بآسيا، وهي التي كانت تعد علاقات تجارية وثقافية وحسب، ولم تكن علاقات حربية، أو إدارية.

وتدل شواهد الأحوال على أن ملوك الدولة الوسطى قد مدوا نفوذهم في «آسيا» كما كانت الحال في بلاد النوبة، وبخاصة من الوجهة الإدارية؛ مما جعلها تقبض بالقوة على شرايين التجارة الرئيسية مع بلادها عبر الحدود المصرية في الشمال والجنوب.

وسنورد هنا قائمة بالآثار الهامة التي وجدت خاصة بمسألة العلاقات بين مصر وسوريا وفلسطين، وهي في مجموعها على ما يظهر توحي بوجود إمبراطورية من نوع خاص في هذه الأقاليم الأسيوية المتاخمة.

والواقع أن تاريخ حياة «تحوتي حتب»، كما نقرؤه في مقبرته، أو على قاعدة التمثال التي عثر عليها في «مجدو» لم يقدم لنا مادة هامة تساعد بصفة قاطعة على تأييد هذه الفكرة، هذا إلى أن قبره لم يمدنا بأي دليل على أنه كان يسكن خارج مصر، ولكن لدينا لقب واحد من بين ألقابه يوحي بشيء من هذا وهو لقب «باب كل بلد أجنبي» (Newberry, “Bersheh”, I, P. 16) والواقع أن هذا اللقب لم يعثر عليه بين الألقاب المصرية في عهد الدولة والوسطى؛ ولذلك نتساءل هل هذا اللقب يعني أنه كان مشرفًا على الحدود أو العوائد أو المسئولية القنصلية؟ يضاف إلى ذلك أنه قد لفت نظر الأستاذ «بلاكمان» في اللوحة رقم ١٨ من كتاب «البرشة» للأستاذ «نيوبري» (J. E. A., Vol. II, PP. 13 ff)، نص في هذا المنظر يفسر منظر حيوانات، فقد خوطبت هذه الحيوانات أو ماشية «رتنو» «سوريا وفلسطين» بالكلمات التالية: «لقد كنت ذات مرة تسيرين على الرمال ولكنك الآن تسيرين على الكلأ»؛ ومعنى هذه العبارة أن هذه الماشية قد نُقلت من آسيا إلى مصر. ويعقب الأستاذ «بلاكمان» على هذه العبارة بأنها إشارة غير مباشرة إلى حملة حربية إلى بلاد «سوريا» و«فلسطين»؛ وعلى ذلك فإن هذا النص يجعل الإنسان ينظر إلى تمثال «تحوتي حتب» بنظرة تقرِّبه مما تشير إليه الجملة الخاصة بهذه الحيوانات الأسيوية، وقد يعضد هذه الفكرة أو هذا الرأي أيضًا ما جاء في منظر من مناظر أحد مقابر «مير» التي تُنسب إلى الدولة الوسطى، وهو يمثل مواشي نقش فوقها العنوان التالي، «ماشية الأسيويين «عامو» قد أحضرت من (أو أحضرت بمثابة» …» ولكن من الجائز أن هذه الحيوانات (Meir, II, P. 18 n)، في كل حالة من الحالات السالفة قد تكون أحضرت إلى مصر عن طريق التجارة لا عن طريق الفتح، وتوجد لوحة محفوظة الآن في متحف منشستر ذكر فيها فتح «سنوسرت الثالث» لقطر أسيوي يُدعى «سكمم»، وقد تكلمنا عنها فيما سبق، غير أن هذا الفتح أو الغارة يمكن أن تكون غزوة تأديبية ضد العصاة الذين كانوا على الحدود المصرية يهددونها. والواقع أننا لم نجد إشارة مباشرة أو نصًّا صريحًا عن حملة حربية مصرية في عهد الدولة الوسطى إلى بلاد «آسيا» إلى الآن، ولكن لا بد أن نلاحظ هنا قطع الأحجار التي عثر عليها في «الكرنك» وتعزى إلى الدولة الوسطى، فقد وجد منقوشًا عليها أسماء حاملي الجزية من «فلسطين».
(K. M. Engberg, “The Hyksos Reconsidered”, P. 33 No. 38).
هذا؛ ولا يدل وجود «العامو» (الأسيويون) في مصر؛ تجارًا أو عبيدًا، على أن بلادهم كانت تحت النير المصري، بل قد تكون بين البلدين علاقات سلمية كالتجارة، وأكبر دليل لدينا على ذلك المنظر المشهور في «بني حسن» الذي يمثل دخول ٣٧ أسيويًّا إلى مصر جالبين معهم الكحل (Beni Hassan, Vol. I. Pls. XXX-XXXI).
ولدينا إشارات عابرة عن إحضار أسيويين إلى مصر بمثابة عبيد اشتُروا بالمال كما جاء في ورقة «كاهون» (Kahun Papyri, 12, 10-11; 13, 15–17; 30, 35).
وكذلك لدينا في نفس هذه الورقة إشارات لراقصات أسيويات كنَّ يرقصن في الأعياد المصرية (Ibid, 24, 4–6; 13-14).
ولا يدل ما احتوى عليه كنز «طود» من التحف الأسيوية المحضة في عهد «أمنمحات الثاني» على أن هذه البلاد كانت تحت حكم مصر، بل كانت تعتبر إما مواد تجارية محضة أو هدايا ملكية، دون أن تعتبر جزية فرضت على هذه الأصقاع (Fouilles de l’Institut Française, “Vol. XVII, Pls. XV–XVII,” PP. 113 ff).
على أنه لدينا أدلة متنوعة كثيرة على نوع العلاقات بين مصر وسوريا، وهذه تقع في حيز عهد طويل، من ذلك غارة الأسيويين على الدلتا المصرية في العهد الإقطاعي الأول، وكذلك موضوع بناء «سور الأمير» على الحدود الشرقية، وهو ما سبق الإشارة إليه. ويحتمل أن تكون سلسلة قلاع أقامها «أمنمحات الأول» ليصد بها الستيو «الأسيويين» ويحطم سكان الرمال، وكذلك لدينا متون اللعنة فإنها مهما كان تاريخها الحقيقي يدل على تهديد التاج المصري ونشاط علاقات المدن الأسيوية؛ هذا بالإضافة إلى معلومات مفصلة بعض الشيء عن موظفي هذه البلاد الأسيوية. (Sethe, Die Achtung Feindlicher Fursten Volker und Dinge. etc).
وقد عثر على وثائق أخرى من نوع متون اللعنة هذه، وقد فحصت كتابة هذه الوثائق على ضوء جديد، ووجد أنها لا تتعدى عهد «سنوسرت الثالث» (Albright, Bulletin of the American School of Oriental Research, No. 18, (1941) PP. 16 ff).
ولا يدل استثمار المناجم في عهد الدولة الوسطى في «سينا» وبخاصة في عهد الأسرة الثانية عشرة على أن العلاقات بينها وبين مصر كانت علاقات تدل على السيطرة المصرية المطلقة، فمثلًا في عهد «أمنمحات الثالث» أعظم ملوك هذه الأسرة أرسلت حملة مؤلفة من ٧٣٤ جنديًّا٤ إلى مناجم «سينا» (Breasted, A. R. 1, Par. 713) وهذه القوة لم تكن قد أرسلت لتحمي المناجم من البدو، بل كان الجند يعملون هناك لاستخراج المعادن، وذلك ينطبق على ما فعله «منتو حتب» الرابع في عهد الأسرة الحادية عشرة من قبل، وما فعله «رعمسيس الرابع» فيما بعد عندما أرسل ٥٠٠٠ جندي إلى «وادي الحمامات» لقطع الأحجار، (Breasted, A. R. IV. Par. 466).

وبعبارة أخرى فإن هذه القوة لا يمكن أن تحمي الحدود المصرية في «آسيا» في عهد «أمنمحات الثالث»، وعلى أية حال فإنه لا يمكن للباحث أن يفهم هذا العصر بوجه عام دون أن يدرس الخطوات التي أدَّت إلى إقامة «الهكسوس» في مصر، وتدل البحوث الحديثة على أنهم كانوا قد بدءوا ينزحون إلى البلاد المصرية قبل عهد الأسرة الثانية عشرة، ثم بلغوا منتهى مجدهم بعد أن مزقوا شمل قوة الدولة الوسطى.

(Engberg and Albright’s Studies, “Journal of the Palestine oriental Society,” Vol. VIII, P. 223; Vol. XV, P. 94).
ننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الجعارين والأختام التي وجدت في «فلسطين» و«سوريا» وبخاصة مجموعة «رو» (Rowe, “Catalogue of Egyptian Scarabs in the Palestine Archaeological Museum.”).
ويمكن تقسيم هذه الوثائق قسمين، واحد منهما خاص بالجعارين التي تشمل الألقاب والأسماء المصرية الخاصة بالمصريين النزلاء في «آسيا»، والآخر خاص بالجعارين التي تحتوي على ألقاب وأسماء أمراء أسيويين، فمثلًا نجد على جعران: كاتب الوزير «سنبف» وقد عثر عليه في «جريكو» (Rowe, S. 5) وآخر نُقش عليه «حارس ١١٠ أسيوي» المسمى «وسرخبش»، ولا يعرف مصدره في «فلسطين» (Rowe, No. 15 (?)) أما في «سوريا» فنجد أنه قد نقش على جعران: «ربة البيت (ست وسر)» (”Syria”, VIII, PP. 85, ff.) ثم الأمير الوراثي الحاكم «إمبي» (Ibid)، وكل هؤلاء الأشخاص كان لهم وظائف مؤقتة في «آسيا»٥ على أنه من جهة أخرى لدينا جعارين خاصة بأشراف «ببلوص» (جبيل)، وهؤلاء الأشراف يحملون أسماء أسيوية مثل «عتنتن» و«عيبشمو» «وأبشمويب» (”Syria”, X, PP. 12 ff.; “Kemi,” Vo. I, PP. 90.ff J. E. A., Vol XIV, P. 109, Vol. XIX, P. 54).
وهؤلاء الأسيويون قد حكموا «جبيل» بوصفهم أمراء مواطنين، غير أن بعضهم كان يحمل اللقب المصري «حاتي عا» الذي يترجم على حسب التقليد بكلمة «شريف» أو «حاكم مقاطعة»، وهذا له أهميته؛ إذ في مصر كان هذا اللقب يمنحه الفرعون لمن يريد من الأفراد المقربين له؛ ولذلك نشاهد أن «زفاي حعبي»، بوصفه شريفًا (حاكم مقاطعة) لم يكن في مقدوره أن ينقل ملكية ضيعته بوصفه حاملًا لهذا اللقب، (Breasted, A. R., Vol. I, Par. 358)، وحتى إذا كان هذا النظام لا يطبق على خارج مصر، فإن حمل أمراء «ببلوص» لهذا اللقب يضع أمامنا الدليل على أن الحكام الأسيويين في «ببلوص» كانوا معضدين في حكمهم بملك مصر، وفي هذا ما يدل على مقدار الرقابة والسيطرة المصرية.

وفضلًا عن ذلك يوجد في نهاية قائمة الجعارين التي دوَّنها الأستاذ «رو» ملخص نسبي للآثار المصرية التي عثر عليها في فلسطين لمختلف الدول التي قامت في مصر، ففي الدولة الوسطى نجد النسبة ٣ إلى ٧ في عهد الهكسوس، إلى ١٠ في الدولة الحديثة، ٣ في العصر الذي تلا الدولة الحديثة، وهذه النسبة لا تشعر حقًّا بوجود دولة مصرية في آسيا في عهد الدولة الوسطى، ولكن على الرغم من ذلك فإنها نسبة تشعر ببداية تلفت النظر إلى مد النفوذ المصري في «آسيا».

والآن ننتقل إلى فحص القطع الأثرية المصرية التي تحتوي على تراجم نُقشت على الحجر وعثر عليها في التربة الأسيوية، فمن ذلك نقوش الساقي «حقا اب» والمواطن «ددي آمون» وكلاهما وجد في «جيزر» (راجع: R. A. S. Mac Alister, “The Excavation of Gezer”, Vol. II, PP. 311 ff) وكذلك كُشف عن تمثال «لأمنمحات الرابع» في صورة «بو الهول» في «بيروت» (راجع: (Breasted, “Museum Quarterly”, Vol. II, PP. 78 ff. Syria, Vol. IX, P. 300)) هذا إلى تمثال للأميرة «أتا» Ita بنت «أمنمحات الثاني» في جهة المشرفة (قطنا) (راجع: Syria, Vol. IX, P. 300)، ووجد كذلك في «رأس شمر» تمثال للفرعون «أمنمحات الثالث» في صورة بو الهول» (راجع: Syria, Vol. XIV, Pl. XV, P. 120)، ثم قاعدة تمثال لزوج الفرعون «سنوسرت الثالث» المسماة «خنمت نفرحزت» (راجع: “Syria”, Vol. XIII, Pl. XVI, P. 20)، وكشف أيضًا عن تمثال صغير للوزير «سنوسرت عنخ» (Ibid, Vol. XV, Pl. XIV, PP. 116, 131 ff) والتمثال الأخير يعتبر أهم وثيقة للموضوع الذي نبحثه الآن؛ إذ عندما أراد الأستاذ «برستد» أن يعلق على العبارة التي وردت في نقوشه وهي: «الذي أعطى ذهب الشرف» قال: «إن هذا الذهب كان قد مُنح لهذا الوزير مكافأة لعمل عظيم قام به في الخارج، فلا بد أن هذا الوزير المصري كان يقيم في بلد أجنبي هام ويشغل مركزًا ساميًا فيها، ويحتمل أنه كان سفيرًا فوق العادة أو حاكمًا، وقد يكون المركز الذي كان يشغله يشبه في أهميته ما نشاهده يجري في الدول العظيمة، فمن الجائز أن «سنوسرت عنخ» كان مبعوثًا مصريًّا عاليًا، أرسل من قبل الحكومة المصرية ليراقب بعين يقظة إقليما سوريًّا، ربما كان مستقلًّا اسمًا، ولكنه في حقيقة الأمر كان تحت الحماية المصرية.»
ولسنا في حاجة إلى أن نقف هنا لنعدد الآثار التي عثر عليها في قبور أمراء «ببلوص» (جبيل الحالية) وتحمل اسم «أمنمحات الثالث» وابنه «أمنمحات الرابع»؛ إذ فيما ذكرنا ما يكفي (راجع Montet “Byblos et l’Egypte”, P. 155) والواقع أن هذه الأشياء كانت هدايا ملكية لأمراء موالين، أو كانت دليلًا على الحب والمصافاة، وهذا ما ينطبق على تماثيل «بو الهول» التي سبق ذكرها.
أما التمثالان الصغيران اللذان كُشف عنهما في بلاد «الأناضول» فلهما شأن آخر، فواحد منهما للمرضعة «ست نفر» وقد عثر عليه في «أطنة» (M. M. A. Vol. XVI, PP. 208 ff.) أما التمثال الآخر فلشخص يُدعى «كري» والنقوش التي عليه تدل على أنه عارٍ عن كل لقب، وقد كشف عنه في شرقي «أنقرة» (A. J. S. L. XLIII, p.p. 294 ff) والواقع أن الإنسان لا يذهب تفكيره إلى حد أن مصر قد امتدت فتوحاتها حتى وصلت إلى هذا البعد الشاسع، وكونت إمبراطورية وصلت إلى بلاد الأناضول في هذه الفترة من تاريخها، ولكن المعقول أنه من الجائز أن السيدة «ست نفر» كانت مربية مصرية تعمل في بلاط أحد أمراء بلاد «الأناضول»، أما «كري» فيحتمل جدًّا أنه كان تاجرًا مصريًّا. ولكن المهم أن وجود هذين التمثالين في قطر ناءٍ كهذا عن وادي النيل يمكن أن يتخذ مقياسًا على مدى انتشار نفوذ الثقافة المصرية في عهد الدولة الوسطى، هذا إذا طرحنا جانبًا كل اعتبار آخر لوجودهما هناك، يضاف إلى ذلك إنه قد وُجدت قطعة من قضيب سحري في خرائب بلدة «مجدو»، وقد بقي من نقوشها السحرية ما يدل على أن ربة البيت «بعاتومو» كانت تلتمس الحماية السحرية في وقت الغروب لمدة الليل وأثناء النهار (راجع: The Illustrated London News, November, 1939, p. 25) وهذه القطعة قد وجدت في طبقة من طبقات الحفر يقرب تاريخها من الدولة الحديثة، ولكن سياق الكلام يرجع بها إلى عهد أقدم، وبخاصة أن القُضب السحرية كانت شائعة جدًّا في عهد الدولة الوسطى. وأخيرًا نوجه النظر إلى قصة «سنوهيت» وهو هارب سياسي قد فر من منطقة المراقبة المصرية عند موت «أمنمحات الأول»، ولا نزاع في أن جغرافية البلاد التي مر بها والتي آوى إليها في «آسيا» ليست واضحة تمامًا، غير أنه ذهب في جولاته حتى «ببلوص» على ساحل «فينقيا»، والظاهر أنه بعد ذلك اخترق تلك الجهة إلى الجهة الشرقية حيث استقبله أحد أمراء «رتنو العليا» في إقليم فيه الفاكهة والكروم والحبوب والماشية، ورغم أنه كان يعيش على مقربة من طريق يرى منه الذاهب إلى مصر والراجع منها، فإنه لم يكن في متناول الشرطة المصريين، أو تحت سلطانهم القضائي، ولا يبعد أنه كان يسكن في إقليم «بقعا» الذي يحتوي على طريق عظيم يمتد شمالًا وجنوبًا بين «لبنان» والإقليم المقابل لها.
وإذا كان هذا الزعم مقبولًا أمكن القول بأن المراقبة الفعلية المصرية في هذه الجهات كانت في «فلسطين» و«فينقية» أكثر منها في داخل بلاد «سوريا»، أو قد يجوز أن مصر كان لها مكانة ضئيلة في أوائل الأسرة الثانية عشرة في آسيا، وذلك قبل أن يتمكن الفراعنة الذين حكموا في نهاية هذه الأسرة من أن يجعلوا لمصر نفوذًا عظيمًا في القارة الأسيوية. ويظهر أن الرأي الأخير هو المرجح، وعلى الرغم من كل ما أوردناه هنا من الأدلة والبراهين، فإنا لم نصل إلى نتيجة فاصلة، ولكن انتداب الوزير «سنوسرت عنخ» ليقيم في «أوجاريت» Ugarit (رأس شمر الحالية)، وكذلك إقامة الكاهن الأعظم لمدينة الأشمونين في مدينة «مجدو» له أهميته؛ إذ الواقع أن هذه الإقامة كانت تعتبر أكثر من سلطان تجاري أو ثقافي، فإرسال شخصيات مثل أولئك لهم مقامهم في بلادهم إلى «آسيا»، يدل على أنهم كانوا يبعثون إلى مراكز ذات قيمة عظيمة في خارج بلادهم، وهذا ما يحتم وجود نفوذ إداري، وحربي يوحي بنفوذ إمبراطوري. وعلى ضوء البراهين التي لدينا حتى الآن يمكن قبول النظرية التالية وهي أن مصر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد كانت تؤيد حكم الأمراء المحليين وفي الوقت نفسه كانت تجعلهم تحت مراقبتها بإرسال مندوب سامٍ مقيم، ويحتمل أن حامية كانت تشد أزره؛ ولذلك لا نكون بعيدين عن الصواب إذا قلنا إن مصر في القرن التاسع عشر بعد الميلاد كان مثلها كمثل الإمبراطورية المصرية في آسيا في القرن التاسع عشر قبل الميلاد.

(٣) علاقة مصر بجزر البحر الأبيض المتوسط

أما علاقات الوجه البحري بالبلاد الواقعة وراء البحار فلم ينقطع أسبابها أيضًا. فمنذ الأسرة السادسة نجد في مصر أختامًا كل منها على صورة زر، وغالبًا ما يكون له مقبض مستدير الشكل، وقد رُسم عليها أشكال بعضها يحتوي على خطوط منوَّعة وبعضها يحتوي على صور حيوانات مختلطة الشكل خيالية، وهي تشبه تلك الحيوانات الهائلة المرسومة على لوحات طحن الكحل التي وجدت في العهود العتيقة جدًّا، وهذه الصور كانت تعتبر علامة خاصة يعرف بها صاحبها، والواقع أن هذه الأختام قد عثر على أمثالها في «كريت». ومنذ بداية الأسرة الثانية عشرة بُدئت تصنع الأختام في صورة «جعل» (أو جعران)، وهذا الجعران أصبح في نهاية الأمر يحل محل الأسطوانات والأزرار القديمة جملة (.Evans J. H. S. Vol. XIX, PP. 335 ff.; Garstang, “Bet Khallaf”, P. 33, Pl. XXXIX; Newberry, “Scarabs”, PP. 56 ff.; Meyer, Gesch. Par. 200).
أما الإشارات المنقوشة على هذه الأختام (وهي في غالب الأحيان اسم صاحبها) فإنها تحاط بخطوط حلزونية ملتف بعضها ببعض بصورة متكررة. وليس هناك من شك في أن ظهور الشكل الحلزوني في مصر له بعض العلاقات بانتشاره العظيم في وقت واحد في «كريت»، و«جزر بحر إيجه»، ولا نزاع كذلك في أن فراعنة الأسرة الثانية عشرة كان لهم أسطول يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط كما كان لأسلافهم فراعنة الدولة القديمة، ومن الجائز جدًّا أنهم كانوا أحيانًا يتدخلون في أمور جزر هذا البحر. حقًّا إن النقوش لا تتحدث قط عن هذه الجزر، غير أن حامل الختم «حنو» في عهد الفرعون «منتو حتب الثالث» كان يفخر بأنه قضى على قوم «الهنبو» (شعوب البحر أو الشمال) (Lange und Schafer, “Grab und Denkstein”, 20425) ويقص علينا موظف آخر يحتمل أنه من عهد «سنوسرت الأول» بلغة هذا العصر المتكلفة أن «قلمه يأخذ ويشمل الهنبو»؛ ويعني بذلك أنه ضمن الإدارة التي تشرف على العلاقات التي مع شعوب البحر، وعلى حسب الوجهة المصرية كانت هذه الإدارة هي التي تصدر لهم الأوامر. وقد وصل إلينا آثار من آثار شعوب البحر هذه على غرار التي وصلتنا من العهد الطيني، وتشتمل على قطع من الخزف الأجنبي. ونجده ثانية في مصر في أماكن خاصة، فقد أقام «سنوسرت الثاني» عند مدخل «الفيوم» بالقرب من هرمه عند «كاهون» بالقرب من «اللاهون» مقر حكمه، وقد هجرت منذ بداية الأسرة الثالثة عشرة، وعلى ذلك لم تعمر أكثر من قرن «من حوالي ١٩٠٦–١٧٨٠ق.م». وقد عثر فيها، غير عدد عظيم من قطع الخزف المصري، على قطع أخرى من طراز يدعى «كامارس»، وهو طراز كان شائعًا وقتئذ في «كريت» وفي جزر «سيكليد». وقد أمدتنا مصر بتاريخه، ومن ثم نعرف أن أهالي «كريت» كان لهم في هذه الجهة مؤسسات يرجع أسبابها لأمر من الأمور التالية، فإما أن يكونوا قد أقاموا في هذه الجهة بوصفهم أسرى (ويحتمل أنهم في هذه الحالة كانوا قرصان بحر)، وإما أنهم كانوا تجارًا ومن أصحاب المخاطرات الذين يقومون بجولات إلى البلاد النائية. وقد أتوا إلى مصر باحثين وراء الثروة كما فعل أهالي «سردنيا» الذين أتوا بعدهم بزمن طويل، وقد حُفظ لنا في قبر «بالعرابة المدفونة» آنية فاخرة من طراز «كامارس»، وعثر بجانبها على أسطوانات باسم «سنوسرت الثاني» و«أمنمحات الثالث». وكذلك عثر في «كاهون» وفي خرائب مدينة «الخطاعنة» بالقرب من «فاقوس» على قطع من الفخار الأسود مرسوم عليه خطوط غائرة باللون الأبيض، ويظهر أنه أُتي به من «قبرص» (Chataana; Hall, “The Oldest Civilization of Greece”, P. 68) وعلى العكس وجد في «كنوسوس» عاصمة «كريت» في أقدم الطبقات الأثرية للقصر تمثال صغير مصري (Evans, “Annual of the British School of Athens”, Vol. Vl. P. 27, Griffith, “Archaeological Report”, (1889–1900) P. 65) وهذا التمثال الجنازي يرجع تاريخه إلى حوالي الأسرة الثالثة عشرة، على أنه لو جادت تربة الدلتا بعدد عظيم من الوثائق لأصبح في مقدورنا أن نفهم الكثير عن هذه العلاقات، على أن مجرد عثورنا في بئر جنازي قديم في بلدة «تركويني» (الأترسكية) (بإيطاليا) على دمية صغيرة، وهي تمثال الإلهة «باست» المصرية، وعلى جعران للملك «منتو حتب الثالث» لدليل على بُعد الأماكن التي نُقلت إليها المحصولات المصرية (راجع: Targruni Ghirardini not degli Scavi 1882; 183, pl. 13 bis 10 Helbig Homer Epos, 2, 24.).

هذا وقد عثرنا على بعض الأواني التي تعزى إلى «كريت» في حفائر الجيزة، غير أنها لم توجد في مقابر، بل وُجدت في الرمال والأتربة المتراكمة حول المقابر المدفونة تحت هذه الرمال.

١  Breasted, A. J. S. L., (1905), XXII, PP. 154 ff.
٢  Steindorff, “Ber. Sachs Ges. phil. Cl. (1900), P. 230; Meyer, Gesch. 1, P. 287.
٣  A. J. S. L., Vol. VIII, “July 1941” PP. 225 ff.
٤  ومن الجائز أن الحملة التي قام بها «أمنمحات» وزير «منتو حتب الرابع» وكانت مؤلفة من عشرة آلاف جندي لمحاربة أهل «سينا» وحماية الذين كانوا يقطعون الأحجار للمباني الفرعونية، وليس هذا بغريب، فإن سلطان الدولة الوسطى لم يكن ثابت الأركان في هذا العهد، وبخاصة في عهد «منتو حتب الرابع»، الذي تولى المُلك اغتصابًا، وكان عصره عهد اضطرابات.
٥  J. E. A., Vol. XIV, P. 109.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤