الملك سعنخ كارع «منتو حتب الثالث» (٢٠١٩–٢٠٠٧ق.م)

لقد عاش الأمير «أنتف» بكر أولاد «نب حبت رع» حتى جاوز سن الكهولة، ثم وافاه القدر المحتوم قبل والده، ولذلك آل الملك لأخ له يدعى «منتو حتب»، وقد اشترك «منتو حتب» هذا في الحروب والغزوات التي شنها والده على ملوك «هيراكليو بوليس»؛ إذ نشاهده في منظر من مناظر معبد الدير البحري مرسومًا خلف والده مباشرة، بوصفه ابن الملك «منتو حتب» في ملابسه الحربية ويحمل برتًا (بلطة) وقوسًا (Naville, XI Dyn. Temple 1, 7 Pl. XII b.).
وعلى أثر وفاة والده تقلد الألقاب الفرعونية المعتادة وأسلوب الملك؛ مسميًا نفسه «حور-سعنخ تاوى-إف» (الذي يجعل أرضيه تحييان وصاحب الإلهتين «سعنخ تاوى إف») وحور الذهبي «حتب» (السلام) ملك الوجه القبلي والبحري، سعنخ كارع (الذي يجعل روح رع تعيش) ابن الشمس (منتو حتب) (Bisson de La Roque, Ibid, P. 6, Petrie Qurneh. P. 5 Pl. VII).
وفي القرون التالية كان اسمه ذائع الصيت، فنجده في نقوش الكرنك يُسمى «الإله الطيب رب الأرضين، وسيد القربان سعنخ كارع» المبرأ — وقد ذُكرت هذه التسمية بعد ذكر اسم «نب-حبت-رع» مباشرة. (Prisse, Ibid Pl. I; Sethe Urkunden IV P. 609).
وقد ظهر اسمه كذلك على لوحة «تِنرِي» التي عثر عليها في مقبرته بسقارة. (Porter & Moss, Ibid III, 192).
وفي ورقة «تورين» نص عنه أنه حكم اثنتي عشرة سنة، وقد كانت أعوام سلام وهدوء. (Farina, Ibid, P. 35 Pl. V; Winlock, J. E. A. 1940. P. 119).

إذ كان قد انقضى على السنين الأولى الطافحة بالعصيان والثورات من حكم «نب حبت رع» جيل، وخلفها عهد سكينة واستقرار استمتع به «سعنخ كارع» حينما تولى العرش، وكان وقتئذ يناهز الخمسين من عمره، وقد كان يذعن لأخيه الأكبر «أنتف» الشطر الأعظم من حياته هذه قبل توليته الملك.

(١) أعماله

وقد كان هَم الفرعون الجديد في تنمية فنون السلم الذي يشد الرخاء عضده، فأقام معبدًا في «إلفنتين» قد بقي لنا منه قطعة حجر جيري نقش عليه منظر يرى فيه مادًّا صولجانه؛ ليقدم قربانًا لبعض الآلهة، ومقياس رسم هذا المنظر صغير، غير أنه لم يبقَ لنا من عهد والده «نب حبت رع» ما يضارع الفن الذي في هذه القطعة من حيث الإتقان والدقة إلا النزر اليسير (Cledat, Rec. de Trav. 1909, P. 64).
وإذا ما تركنا «إلفنتين» منحدرين في النهر حتى «أرمنت» الواقعة قبل مدينة الجبلين مباشرة نجد أنه قد أقام بعض المباني هناك؛ إذ عثر على قطعة في هذا المكان من المرمر نقش عليها اسمه الحوري ولقبه (Brugsch, Thesaurus P. 1455 No. 85).

(٢) آثاره

وكذلك وجدت هناك قطعة من الحجر الجيري عليها نقش جميل، يمثل الملك يرقص أمام الإلهة «وازيت» التي تعلن:

لقد أعطيت كل الصحة، ولقد جعلتك تظهر على عرش حور.

(Williams, New Yourk Historical Society Quarterly Bulletin April 1918 P. 17).
وفي «طود» التي تقع قبالة أرمنت كان الفرعون قد بنى جزءًا كبيرًا من معبدها مما جعله يظهر في منظر بهيج، ويلاحظ أن الصور في هذا النقش كانت صغيرة كتلك القطعة التي عثر عليها في إلفنتين، غير أن فيها حلاوة ورقة وتفاصيل غنية في دقتها مما يجعلها تضارع أحسن ما عثر عليه في عهد الأسرة الثانية عشرة، ولدينا من حجرة واحدة أجزاء من ستة أحجار قد رسم عليها الإله «منتو» وزوجه «تننت». ونشاهد على الجدار الخلفي من الحجرة أن الملك قد رُسم مواجهًا لكل من «منتو» و«تننت» اللذين ظهرا في الرسم ظهرًا لظهر، وكذلك شوهد في هذه القطع رسم قارب مقدَّس وفي مقدمته رسم رأس كبش، وقد حمل هذا القارب أمام الإله «منتو» وقد وجد من بين القطع التي أعيد استعمالها في بناء هذا المعبد بعد نصف قرن من عهد هذا الفرعون سقف حجرة عليه جزء من ألقاب «سعنخ كارع»، وقطعة حجر نُقش عليها اسم أمير وراثي يدعى «أنتف» (Bisson de la Roque, Ibid, PP. 62, 79, Fig. 32–57 Pl. XXI, 2-XVIII).

أما في الكرنك فقد عثر «لجران» على جزء من تمثال صغير من المرمر لملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري «سعنخ كارع» العائش مخلدًا، وقد كتب اسمه على عروة حزامه.

ويلاحظ أن هذا التمثال نُحت راكعًا مقدِّمًا إناءين للإله [ولا نزاع في أن الإله المقدَّم له هذا القربان هو الإله «منتو»، ويحتمل أن هذا التمثال كان في معبده أصلًا، وإن كان قد كشف عنه بين هذا المعبد والمحراب الذي في معبد آمون].

ونجد هذا الفرعون قد أقام لنفسه في «طيبة الغربية» على قمة عالية هيكلًا غريبًا رمزيًّا محاطًا بجدار عالٍ من اللبن (Petrie, Qurneh P. 4 Pls. IV–VIII.) وقد عثر على أجزاء من تابوت نموذجي في هذا الهيكل نقش عليه «حور سعنخ تاوى-أف» وسيد الإلهتين [سعنخ تاوى-أف]، حور الذهبي حتب، ملك الوجه القبلي والوجه البحري [سعنخ كارع ابن الشمس] منتو حتب العائش مخلدًا، لقد عمل هذا … للذكرى، وقد نقش عليه صلاته الموجهة إلى الإلهة «حتحور» والإله «حور».
أما في العرابة المدفونة فنجد أن الأهلين هناك قد أقاموا بدلًا من معبد الدولة القديمة المشيد من اللبن، وهو الذي أصلحه «نب حبت رع»، بناء جديدًا من الحجر الجيري تبلغ مساحته خمسة عشر مترًا مربعًا، وعلى أية حال فإنه كان لا يزال مطبوعًا بالطابع الريفي، وإن كان قد زيد في مساحته عن ذي قبل، على أن أجله كان كأجل معبد «طود» لم يمكث أكثر من نصف قرن، وقد بقي طوال هذه المدة بمثابة بيت روح «سعنخ كارع» (Petrie, Abydos 11, 12, 15, 33, 43, Pls. XXIII, XXV. LV).

(٣) بعوثه إلى بلاد بنت ووادي الحمامات

ومن أهم أعمال هذا الفرعون العظيمة استغلاله محاجر وادي الحمامات، وتمهيد الطريق من «قفط» إلى البحر الأحمر لتسهيل طرق التجارة بين مصر وبلاد «بنت»، وقد كانت محاجر وادي الحمامات معروفة للمصريين منذ الدولة القديمة، غير أنها لم تستَغل بطرق منظمة إلا في عهد الأسرة الحادية عشرة. ولقد كان لزامًا على الفراعنة أن يخضِعوا بدو الصحراء الشرقية أولًا حتى يتيسر لهم الوصول إلى مآربهم، ولذلك أخذت البعوث التي ترسَل إلى وادي الحمامات صبغة حربية، كما سنشير إلى ذلك بعد، فأرسل في السنة الثامنة من حكمه القائد «حنو» حامل خاتمه في بعثة إلى بلاد «بنت»، فسار بجيش يبلغ عدده نحو ٣٠٠٠ مقاتل، واتخذ طريقًا حفر فيه عدة آبار حتى وصل إلى البحر الأحمر، وكذلك جهز سفينة هناك قامت بالرحلة إلى بلاد «بنت» وعادت محملة بالطرف والتحف التي أحضرتها من هذه الأقطار، وفي عودته إلى البلاد المصرية مر «بوادي الحمامات» واستخرج منه الأحجار النادرة وحملت إلى مصر، وقد ترك على صخور هذه المحاجر نقوشًا طويلة عن تفاصيل هذه الحملة نوردها هنا بنصها:

السنة الثامنة، الشهر الأول من الفصل الثالث (أي الشهر التاسع) اليوم الثالث يقول «حنو» خادمه المحظوظ حقًّا، الذي يفعل كل ما يمدحه كل يوم، وحامل الخاتم الملكي، والسمير الوحيد والمشرف على ما وجد وما لم يوجد بعد، مدير المعابد، ومدير المخازن، والبيت الأبيض (المالية) ومدير كل ما له قرن وحافر، ورئيس محاكم العدل الست، وصاحب الصوت العالي عند إعلان اسم الملك في يوم ردع … والذي يسر قلب سيده بوصفه حارس باب الجنوب، والمشرف على إدارة مقاطعات الجنوب رئيس المالية … والذي يقهر «الهبنو» (سكان جزر البحر الأبيض) والذي تأتي إليه الأرضان خاشعتين، والذي تقدِّم إليه كل إدارة تقريرها، ولابس الخاتم الملكي، والسمير الوحيد، ومدير البيت: لقد أرسلني سيدي له الحياة والسعادة والصحة لأبعث بسفينة إلى بلاد بنت لتحضر له عطورًا «مرا» جديدة من المشايخ المسيطرين على الأرض الحمراء؛ وذلك لأن خوفه كان في الأراضي الجبلية، ولقد خرجت من قفط على الطريق الذي أمر بها جلالته، وقد كان بصحبتي جيش من الجنوب … مقاطعة الغزال وتبتدئ من هنا حتى «الجبلين» ونهايتها «شايت» وقد انضم إليَّ كل وظيفة في بيت الفرعون، وكذلك أولئك الذين كانوا في المدينة والحقل، وقد كان الجيش يمهد أمامنا الطريق قاهرًا أولئك الذين كانوا غير موالين للملك، وقد قام الصيادون وأبناء الجبال حراسًا لهم، وقد وضع كل طائفة مستخدمين لجلالته تحت سلطتي، وقد بلغوني عن السعاة وصفي أنا الوحيد الذي يقود (الحملة) ويصغي إليه.

ثم سرت بجيش قوامه ٣٠٠٠ رجل، ولقد جعلت من الطريق نهرًا، ومن الأرض الحمراء (الصحراء) حقلًا؛ وذلك لأني أعطيت قربة ماء وقضيبًا لحمل الأمتعة وإناءي ماء و٢٠ رغيفًا لكل فرد في كل يوم، وكانت الحمير محملة بالأثقال.

ولقد حفرت اثنتي عشرة بئرًا في العشب وبئرين في «إداهت» إحداهما عشرون ذراعًا مربعًا والأخرى واحد وثلاثون ذراعًا مربعًا، وحفرت ثالثة في «باهبت» ذرعها ٢٠ × ٢٠ في كل جانب من جوانبها، وبعد ذلك وصلت إلى البحر الأحمر وبنيت هذه السفينة، وأرسلتها بكل شيء وأقمت من أجلها قربانًا عظيمًا من الماشية والثيران والغزلان.

وبعد أن عدت من البحر الأحمر نفذت أمر جلالته، وأحضرت إليه كل الهدايا التي وجدتها في إقليم أرض «الإله» وعدت عن طريق وادي الحمامات، وأحضرت له قطع أحجار فخمة للتماثيل الخاصة بالمعبد، ولم يحضر مثلها قط لبلاط الملك، ولم يعمل مثل هذا على يد ثقة للفرعون أرسل منذ عهد الإله، ولقد فعلت ذلك لجلالته؛ لأنه كان يحبني حبًّا جمًّا …

على أن ما يلفت النظر في هذه البعثة هو تموين ٣٠٠٠ رجل، حقًّا إن العشرين رغيفًا هي في الواقع رغفان صغيرة مستديرة، ولكنها كانت تكلِّف المشرف على أمور البعثة أن يورد ٦٠٠٠٠ رغيف كل يوم، وسنرى فيما بعد أن «أمنمحات» كان جيشه مؤلفًا من عشرة آلاف رجل، فإذا كان تموينهم على هذا النمط كان لا بد لجنوده من ٢٠٠٠٠٠ رغيف يوميًّا لتغذية هذا الجيش، ولا شك أن في هذا درسًا عمليًّا مفيدًا للأمم التي تُعنى بتجهيز البعوث إلى البلاد الأجنبية، وإنه لمن المفيد لهم أن يأخذوا ورقة من الكتاب المصري الخاص بتنظيم البعوث لتكون منارًا لهم يهتدون به في مجاهل الصحراء في العناية برجالهم؛ إذ الواقع أننا في الوقت الحاضر نفضل أن نسرف في الرجال ونتهاون في أرواحهم، أما المصري القديم فكان بعيد النظر يحافظ على حياة رجاله بالعمل على راحتهم في المسالك الخطرة، وإمدادهم بكل ما يكفل راحتهم وسعادتهم كما تنطق النقوش بذلك (Couyat et Montet, Ibid No. 114, Pl. XXXI; Breasted, A. R. Vol. I par. 437–33).

(٤) حالة البلاد الزراعية والاجتماعية

والظاهر أن مدينة «منف» التي يحتمل أنها كانت تسمى «دد أسوت» باسم هرم الملك ثني (Winlock, Deir el Bahari PP. 58, 61, 65) قد بقيت المركز الإداري للبلاد، وقد استولى الطيبيون على ممتلكات هناك وبخاصة عِلية القوم منهم، وقد كشف لنا الغطاء عن هذه الحقيقة مجموعة أوراق عثر عليها في مقابر «طيبة» من هذا العصر، وهذه الأوراق لها أهمية خاصة فضلًا عن ذلك؛ لأنها تضع أمامنا صفحة مجيدة عن الحياة الأسرية والحياة الزراعية والاجتماعية في ذلك العصر الغامض، وفيها تلميح عن نواحي الحياة الدينية؛ ولذلك وجدنا أن نثبت بعض محتوياتها هنا ليرى المصري الحديث التشابه العظيم بين حياته الحالية وحياة أجداده منذ أربعة آلاف سنة مضت.

كان المصري رغم تشككه الديني في هذا العصر وتحوطه للمحافظة على قبره، لا يزال يبذل عن سخاء محافظة على بقاء روحه المادية «كا» فيجهز القبر بكل ما يحتاج إليه، فإذا كان المُتوفَّى من أصحاب اليسار ومن المقربين إلى الفرعون وقف الضياع على روحه وأقام القربان لروح المُتوفَّى في المواسم والأعياد من ريع هذه الضياع، وقد كان لزامًا على الكاهن أحيانًا أن يسكن في مزار مقبرة المُتوفَّى مدة من الزمن ليل نهار (وهذه عادة شائعة في مصر الآن) ولذلك كان يضطر أن ينقل معه بعض أوراقه الخاصة ليقوم بدرسها وقت فراغه في المزار، وقد أسعد الحظ الأستاذ «ونلك» فعثر على بعض هذه الأوراق بعد أن مضى عليها أربعة آلاف عام، وكانت تعد من المهملات، وقد وجدنا فيها أن كاهن الروح الطيبي الأصل كان يفكر في أشياء أخرى خارجة عن نطاق الأمور الدينية التي تُصورها لنا دائمًا بعض مناظر القبور، وأول مهملات من هذا النوع عثر عليها كان في شق طبيعي في مغارة صغيرة بالقرب من مقبرة «حور حتب» بمقابر الدير البحري؛ إذ عثر على بعض من الفخار كتب عليها كاهن الروح مذكرات بقطعة من الفحم، وكذلك عثر على قطع بردي وكتب عليها أناشيد دينية، وعلى ظهرها كتب حساب قمح أُعطي اثني عشر رجلًا مختلفين، ومن بينها كذلك ورقة أخرى كتب عليها حساب قمح وشعير وبلح صرف جراية للجيش، ومن المحتمل أن هذه كانت ضرائب يجبيها كاهن روح «حور حتب» بصفته المسيطر على أوقاف القبر.

وفي مقبرة «مكترع»، التي سنتكلم عنها فيما بعد، عثر على حزمة من ورق البردي المهشم في حجر في الطريق المؤدي إلى باب مزار المقبرة، وعند فض هذه الأوراق وجدت أنها تحتوي على نتف من قوائم وبيانات عن أرض قد أعطاها الملك (له الحياة والصحة والعافية) خادم الروح، وهذه بلا شك كانت الأوقاف التي منحها الفرعون للمقرب «مكترع»، وقد وجد مع هذه الأوراق خطاب كُتب على طريقتنا المصرية الحالية التي نشاهدها عند عامة الشعب في مكاتباتهم؛ إذ نجد أن ثلث الخطاب قد خُصص للموضوع الأصلي، وثلثيه الآخرين للتسليمات والتحيات بألفاظ منمقة، ولهذا الخطاب أهمية أثرية عظمى؛ إذ إن صاحبه كان يبتهل فيه لآلهة «منف» و«هراكليو بوليس» (إهناسية المدينة) مما يدل على أنه كتب في الجهة الشمالية من القطر.

رسائل «حقا نخت»

وأهم من كل ما سبق الرسائل التي عُثر عليها لكاهن الوزير «إبي» المسمى «حقا نخت» وكان الوزير قد وقف على قبره ضيعة في بلدة «دديسوت» بالقرب من «منف» (يحتمل أنها منف نفسها)، وضيعة أخرى في الجنوب بالقرب من مدينة «طيبة»، ويظن الأستاذ «ونلك» أن «منتو حتب الثاني» قد استولى على هذه الأراضي الشمالية بعد انتصاراته على مملكة «إهناسية» وقسمها بين أتباعه الذين أظهروا له إخلاصهم التام، وإن تقسيم هذه الأملاك الموقوفة كان يلزم كاهن الروح «حقا نخت»١ أن يقوم برحلات متعددة طويلة الأمد في الدلتا، وفي أثناء انتقالاته هذه كان ينوب عنه ابنه الأكبر «مرسو» في الإشراف على ممتلكاته الواقعة في «طيبة» وكذلك كان يقوم بدلًا عنه في كهانة الروح في مقبرة «إبي» على أن «حقا نخت» المسن لم يهمل الكتابة لأسرته مدة غيابه في الوجه البحري، وقد كان في غربته يهتم بإدارة بيته فكان يكاتب ابنه، وقد عُثر على هذه الرسائل ضمن المهملات، وتُعد أوراق «حقا نخت» من أهم الكنوز التي عُثر عليها في حفائر «طيبة» من عهد الأسرة الحادية عشرة، ولم يتم بعد درسها درسًا وافيًا، على أن ما نعلمه منها حتى الآن يصور لنا الحياة المصرية من الناحية الزراعية والناحية الأسرية منذ أربعة آلاف سنة، ويمكننا أن نعتبرها أبسط وأصدق صورة صوَّرها المصري بنفسه عن حياته الريفية بكل ما فيها من محاسن ومساوئ، والرسائل كلها في موضوع واحد عدا رسالة واحدة من ابنة لأمها، وفي نهاية هذه الرسالة تقول الابنة لأمها: «بلغي سلامي إلى «جر» منحه الله الحياة والصحة والعافية، ولا تجعليه ينسى الكتابة إليَّ عن أحواله.» والظاهر أن الوالدة رأت أن أحسن وسيلة لتوصيل رسالة ابنتها أن تمحو عنوان الخطاب الذي جاء باسمها وتكتب بدلًا منه إلى مدير البيت «جر».

أما باقي الوثائق السبع فهي كما يأتي: قطعة صغيرة، وثلاث رسائل والثلاثة الباقية قوائم حسابات كاملة، ويوجد بين الخطابات رسالة مختومة ومعنونة وملفوفة كما طواها كاتبها.

ووثائق الحسابات كلها خاصة بأملاك الكاهن «حقا نخت»، وقد كانت هذه الوثائق موضع حيرة عند حلها؛ إذ وجد أن بعضها قد عُنون كما يأتي: كاهن الروح «حقا نخت» يرسل هذا إلى أسرته في «تبسيت» ورسالة أخرى مختومة معنونة إلى المشرف «رع نفر» من «حقا نخت»، وقد كان وجه الغرابة هو أنه كيف يتفق أن هذه الرسائل يرسلها «حقا نخت» إلى مكان مفروض أنه موجود فيه؟ ولكن اتضح كما أسلفنا أن «حقا نخت» كان صاحب أوقاف مقبرة الوزير «إبي» وقد كان جزء من هذه الأملاك في الدلتا، وكان يذهب «إبي» من وقت لآخر ليشرف على إدارة تلك الضياع، وبالموازنة وجد أن الرسالة التي كتبها «إبي» إلى «رع نفر» تشبه من كل الوجوه الرسالة التي وجدت في مقبرة «مكت رع» فقد كُتبا بخط كاتب واحد، هذا إلى أنه اتضح من رسالة أخرى أن الأسرة كان لها غلال في بلدة «دديسوت» إحدى ضواحي «منف» كما اتضح أنه كان لها ضيعة أخرى بعيدة عن «منف» وبعيدة عن «طيبة»، وقد كان السفر في تلك الفترة إلى «منف» متعبًا، وكانت زيارات «حقا نخت» لهذه الضياع تستغرق نحو ثمانية عشر شهرًا أحيانًا، ولذلك كان يرتب أعماله الأسرية بدقة وعناية قبل الشروع في السفر، وقد عين ابنه الأكبر «مرسو» مديرًا لأشغاله في بيته ونائبًا عنه في كهانته مدة غيابه، و«مرسو» هذا هو الذي أحضر هذه الوثائق لدرسها وقت فراغه من أعمال الكهانة في مزار المقبرة، وتدل الأبحاث على أن بلدة «تبسيت» كانت تقطنها الأسرة، وتقع عند منعطف النيل بين بلدة «الجبلين» و«الرزقات»؛ أي إنها على مسافة خمسة عشرة ميلًا من «طيبة» تقريبًا.

وكان «حقا نخت» وقتئذ معتادًا الذهاب إلى «منف» تاركًا كل شيء في يد «مرسو»؛ وقبل قيامه بأول رحلة نعرفها جمع في حضرته ابنه «مرسو» وولدين آخرين بالغين من أكبر أولاده ومعهم أمين أسرته وموضع ثقته «حتى» بن «نخت»، ثم نشر على حجره وثيقة كبيرة من البردي، وأخذ يفحص معهم مهام أموره، وقد كتب في بداية الوثيقة: السنة الخامسة من عهد الملك، الشهر الثاني من فصل «شمو» (الصيف)، اليوم التاسع من الشهر. ولعمري فإن ذلك يشبه ما نكتبه الآن مثلًا ١٤ / ٣ / ١٩٤٣، ولكن كان للعثور على هذه القائمة في قبر لم يمس بعد؛ فضل في أنه أمكننا أن نعرف عن طريق الحدس أن المقصود من الملك الذي لم يذكر هو «منتو حتب الثالث».

ولم نفهم معنى كلمة شمو «صيف» قبل أن نصل إلى هذه النتيجة، والواقع أن فصل «شمو» عند المصريين نظريًّا هو فصل الحصاد، ويقع بين ١٦ مارس و١٣ يوليو، ولكن لما كانت النتيجة المصرية خالية من سنة كبيسة كان كل فصل من فصول السنة يأتي مبكرًا يومًا كل أربعة أعوام، حتى إنه في عهد «منتو حتب الثالث» قد جاء في الخريف، وهذا التاريخ يوافق تاريخ حكم هذا الفرعون تقريبًا، بعد هذا التاريخ نجد العنوان الآتي: بيان عن شعير «حقا نخت»؛ ثم يتفرع من هذا العنوان ما يأتي: عمله لابنه «مرسو»؛ ثم «علف للثيران» ثم الشعير الذي حصل عليه «حقا نخت» لأجل أتباعه كل واحد منهم بقدر ما أعطاه بالشوفان (وكان يقدر قيمته بثلثي قيمة الشعير) وكتب بالمداد الأحمر خوف الخطأ في الجمع. بعد ذلك يأتي بيان عن الثيران التي أعطاها «حقا نخت» ابنه سنبوت هذا إلى ٣٥ رأسًا من الماشية دوِّنت تحت خمسة أنواع، وكذلك نجد الملاحظة الآتية: وإذا شكا إلى «سنبنوت» عن ضياع ثور … فإن نصف ما يفقَد سيكون مسئولًا عنه هو و«حتى» بن «نخت».

ولا نزاع في أن «حقا نخت» قد أجرى عمل حسابه خوف ما عساه أن يحدث عندما نظم أحوال بيته. ونجد أخيرًا بيانًا عن الخبز الذي كان يعطي ابنه «مرسو»، وكان مؤلفًا من ثلاثة أنواع مختلفة ومجموعه ٧٠٠٠ رغيف، والواقع أن هذا العدد يظهر ضخمًا جدًّا، ولكن إذا لاحظنا أنه كان لا يختلف عن نوع الخبز الصغير الذي يُصنع في صعيد مصر وريفها للآن فإن دهشتنا تتلاشى، ولا نعرف حال الأسرة في خلال رحلة «حقا نخت» الأولى؛ ولما أراد «حقا نخت» القيام بالرحلة الثانية في السنة الثامنة من حكم الملك أحضر الوثيقة القديمة ثانية، وكان لا يزال فيها متسع له ليكتب فيها تقويم عقاره، وفي هذه الدفعة كان يستعد لرحلة إلى «منف» في مايو أو يونيو؛ لأن المحصول كان قد جُمع وقُدر بنحو مكيالًا (بوشل) من الشعير والشوفان، وهو ما بقي في ذمة «مرسو» أو خزن عند ثلاثة عشر شخصًا من الجيران، ولكن الوقت لم يكن قد حان بعد لطحن الحبوب وخبزها فلم يدرج عدد الرغفان، وكذلك لم تدرج قائمة بالماشية في الوثيقة، وإن كانت رسائل «حقا نخت» تشير إلى شيء من ذلك، ويلاحظ أنه قد وضعت خميلة أشجار في حيازة الأسرة ليباع ما نما من خشبها، وبعد أن أتم ترتيب كل شيء في داخلية بيته سافر «حقا نخت» إلى «منف» و«دديسوت» في الدلتا، وكان أول رسالة بعث بها «حقا نخت» عندما عاد من «دديسوت» إلى ضياعه الأخرى القريبة من «منف» يقول فيها: «عندما وصلت إلى هنا متجهًا نحو الجنوب»، وكان ذلك في وقت الصيف، ويدل على ذلك ما طلبه من «مرسو» قائلًا: «أن أرسل إليَّ مقدار ٥٠٠ بوشل من القمح، وما يمكنك أن ترسله من الشعير، وكذلك ما يزيد عن مئونتكم إلى أن يأتي محصول الصيف.» وكان يبتدئ في ٢ سبتمبر، ويحتمل أنه كتب هذا الخطاب في أول أغسطس؛ لأن الفيضان لم يكن بعد عاليًا ليعرف منه مقدار حالته، ولذلك نجد في الخطاب تعليمات خاصة بذلك؛ إذ يقول: «أما إذا كان النيل حسنًا» والواقع أن النيل قد أخذ في الارتفاع عندما كان «مرسو» «في خلال تلك المدة يزرع محصوله الصيفي، فقد كتب أنه يخشى ألا تتحمل جسوره ضغط الماء، فيفيض الماء على حقوله قبل أن يحصدها.» وقد ذعر كذلك «حقا نخت» فكتب في الحال بسرعة، ولم يجرِ على عادة تبليغ السلامات والتحيات كما كانت الحال في الخطابات، بل كتب مباشرة قائلًا:

الكاهن «حقا نخت» يخاطب «مرسو»! أما من جهة فلاحة أرضنا فإنك أنت الذي تزرعها! وستكون مسئولًا عن ذلك، فعليك أن تجتهد في الفلاحة، واحترس جدًّا، وحافظ على كل ما أمتلك؛ لأنك ستكون مسئولًا عنه.» وفي منتصف الخطاب عادت إليه وساوسه ومسئولية ضياع المحصول والغلال فاندفع قائلًا: «وإذا حدث أن أرضي غرقت عندما يكون «سنفرو» أخوك يفلحها معك هو و«أنبو» فالويل لك و«لسيحتور».»

وقبل أن نتكلم عن رسائل «حقا نخت» الأخرى يجدر بنا أن نلاحظ هنا أن الخطاب الثاني الذي كتبه قد كتبه بعد عام من الخطاب السالف، وفي خلال تلك الفترة كان مقيمًا في إحدى ضياعه التي كانت في الشمال، ولا شك في أنه كان يكتب كثيرًا أثناء غيبته إلى أهل بيته في «نبسيت» يخبرهم بالكيفية التي يجب عليهم أن يتصرفوا بها في الأمور عندهم، فمثلًا نجد أنه يشير إلى خطاب أول سنة خاصًّا بالقربان لعيد أول يوم في الشهر للإله «خنتخاتي» في معبد الباب المزدوج وإلى خطابين خاصين بابنه «أنبو» غير أن «مرسو» لم يحمل لنا الخطابات معه إلى المقبرة.

أما الخطاب الثاني الذي حمله معه «مرسو» ضمن تلك الوثائق فكان مؤرخًا في أول يوليو، وقد كان النيل في الشتاء المنصرم منخفضًا جدًّا؛ حتى إن الحقول قد انتابها القحط ولم تنتج محصولًا، هذا إلى أن المخزون من العام الماضي قد نفد وحل القحط بالبلاد إثر محصول ضئيل، ولكن «حقا نخت» كان في حالة هادئة هذه الدفعة فلم ينسَ كتابة السلامات والتحيات التي يجب أن يبتدئ بها الخطاب قال:

إن الولد يتكلم لأمه، وكاهن الروح يخاطب أمه «إبي» ثم «حتبت»: كيف حالكما، لكما الحياة والصحة والعافية ببركة الإله «منتو» رب طيبة؟ وكل الأسرة كيف حالكم؟ كيف حالكم في الحياة؟ أتمنى لكم السلامة والصحة، لا تشغلوا بالكم بي، إنني طيب وفي صحة جيدة.

اعلموا أنكم كرجل كان فيما سلف قد أكل حتى الشبع، ولكنه أصبح ذا مسغبة؛ حتى إنه يغمض عينيه، والبلاد كلها تموت جوعًا، لقد وصلت هنا في الجنوب، وقد جمعت لكم كل ما يمكن من طعام، أليس النيل منخفضًا؟ والطعام الذي جمعته لكم يتفق مع حالة الفيضان، فعليكم بالصبر أنتم يا من ذكرت بالاسم؛ لأنكم ترون أني كنت قادرًا على إطعامكم إلى هذا اليوم.

وعند هذه النقطة يقدم لنا قائمة بأسماء الأفراد الذين تتألف منهم أسرته، ويحدد النصيب الذي يستحقه كل واحد منهم من الطعام الذي يرسله ثم يستأنف الكلام قائلا: «ويجب عليكم ألا تغضبوا لما يحدث؛ إذ الواقع أن البيت كله بما فيه من أطفال عبء عليَّ وكل شيء ملكي، وأن عيشة التقشف خير من الموت كلية، والإنسان لا يمكنه أن يتكلم عن القحط إلا إذا كان هناك قحط فعلًا، وعلى أية حال فإن الناس قد بدءوا يأكلون الرجال والنساء! ولا يوجد في أي مكان آخر أناس يقدم لهم طعام كهذا، ويجب أن تعيشوا حتى عودتي، وإني عازم على تمضية فصل «شمو» (الصيف) هنا أو بعبارة أخرى حتى الثلاثين من شهر ديسمبر القادم»، هذه كانت تعليماته العامة، أما تعليماته الخاصة جدًّا في نفس الخطاب فهي: «إن «حقا نخت» الكاهن يخاطب «مرسو» و«حِتِي» ابن «نخت» معا: يجب عليكما أن تعطيا أهلي هذا الطعام فقط عندما يقومون بما عليهم من الأعمال، وعليكما أن تراعيا ذلك، واستغلا أرضي كلها بقدر المستطاع، واعملا بكل ما عندكم من جهد في فلاحة الأرض وذلك بجعل كل همكم في العمل، واعلموا أنكم إذا كنتم مجدين فإن الإنسان يدعو الله لكم، وإني سأكون حَسَن الحظ عندما يكون في مقدوري أن أدعو لكم، وإذا عاف أي فرد من نساء أو رجال الطعام فدعه يحضر إليَّ ليعيش كما أعيش»، ولن يحضر واحد منهم.

ونلاحظ أن إدارة شئون المزارع في «نبسيت» وما جاورها لها نصيب كبير فيما يلي من هاتين الرسالتين، ويمكن الإنسان أن يقدِّر على وجه التقريب موقف «مرسو» من هذه الأمور عندما حمل حزمة الرسائل التي نحن بصددها إلى مزار مقبرة «إبي» الوزير، ولا نذهب بعيدًا فإن التعليمات التي كان يجب عليه اتباعها قد جاءت في الخطاب الأول من والده؛ إذ يقول: «مُر «حتي» بن «نخت» أن يذهب في الحال مع «سنبنوت» إلى بلدة «برحاعا» لزراعة حقلين من أرض مستأجرَين على أن يأخذا قيمة أجرهما من المنسوجات التي نُسجت هنا، ويجب أن تقول: إن صناعتها غاية في الإتقان، ولكن دعهما يأخذاها، وبعد بيعها في «نبسيت» دعمها يأخذاها، وبعد بيعها في «نبسيت» دعهما يدفعا إيجار الأرض بثمنها، وعليك أن تجد أرضًا، ولكن من غير أن تتورط في أرض شخص ما، بل عليك أن تستعلم من «حاو» الصغير، وإذا لم تجد عنده أرضًا فاستشر «رع نفر» فهو الذي يمكنه أن يرشدك للأرض الجيدة السهلة الري في «خبشيت»، أما فيما يختص بما يمكن أن يعمله «حتي» بن «نخت» في «برحاعا» فاعلم أني لم أميزه بأية مئونة، وجراية الشهر هي أردب من الشعير لأسرته، وسأعطي أسرته نصف أردب آخر من الشعير في أول الشهر، واعلم أنك إذا خالفت ذلك فإني سأنتقص ذلك مما تأخذه أنت، أما فيما يختص بما قلته لك — أعطه أردبًا من الشعير شهريًّا، فعليك أن تعطيه فقط أربعة أخماس أردب من الشعير شهريًّا — افهم ذلك.»

واتفق أن «حاو» لم يكن عنده أرض ليؤجرها، على حين أن «رع نفر» كان له حقل مجاور لحقل «حاو» فاستأجره كل من «سنبنوت» و«حتي»؛ هذا إلى أن «مرسو» قد دخل في معاملات أخرى في «برحاعا» وكتب ملخصها في وثيقة، عُثر على نسخة منها بين الأوراق التي وجدناها في المقبرة، ويحتمل أن النسخة الأخرى قد أُرسلت لوالده، وقد جاء فيها:

كان لحقا نخت غلال في بلدة «يوسبقو» في ذمة «إبي» الصغير، وكذلك في بلدة «سبات معات» في ذمة «نحري» بن «إبي»، وقد نزل عنها «حقا نخت» في الخطاب الثالث إلى «رع نفر». ومن جهة أخرى نجد في الخطاب الثاني ما يشير بإتمام مسألة «رع نوفر» وبيع المحصول بمبادلته بزيت. وقد أرسل الخطاب الثالث «حقا نخت» لهذا السبب، ولا بد أن «سنبنوت» و«حتي» قد سلَّماه إلى «رع نفر» حتى يتمم هذا الموضوع، ولكن لسبب ما لم يصل هذا الخطاب لصاحبه، أو أهمله «مرسو» فتُرك مختومًا كما وصل إليه.

أما الخطاب الذي أمر بكتابته «حقا نخت» بيد أحد الكتبة في «منف» والذي يجب إثباته هنا برمته؛ فهو نموذج للرسائل التي تُكتب بأسلوب أهل الحضر الذين يعيشون في المدن الراقية وهو:

خادم الضيعة وكاهن الروح (المادية) «حقا نخت» يقول: أرجو أن يكون حالك حال الإنسان الذي يعيش مليون عام، وأتمنى أن يرعاك الإله «حريشاف» رب «إهناسية» وكل الآلهة الموجودين أيضًا، وليت الإله «بتاح» الذي يسكن جنوب جداره بمنف يشرح قلبك فتحيا طويلًا، وأتمنى أن يجزيك «حريشاف» رب إهناسية جزاء حسنًا.

خادمك يقول: دع كاتبك — منحه الله الحياة والسلامة والعافية — يعرف أني أرسلت «حتي» بن «نخت» و«سنبنوت» بخصوص ذلك الشعير والشوفان اللذين عندك. ويستطيع كاتبك (منحه الله الحياة والصحة والعافية) أن يتسلمهما دون أن يفرط في شيء منهما وذلك فضل منك إذا تكرمت بالقيام به. أما الثمن فضعه عند تسلمه في بيت الكاتب (منحه الله الحياة والصحة والعافية) إلى أن يأتي من يتسلمه منه، واعلم أني قد كِلْت هذا القمح بالمكيال الخاص به، وهو يملأ مائة حقيبة تمامًا، واعلم أنه يوجد في «برحاعا» ١٥ أردبًا من الشوفان عند «ننكسو» و أردبًا من الشعير عند «إبي» الصغير في بلدة «إيسبكو» وكذلك يوجد في بلدة «سبات معات» ٢٠ أردبًا من الشوفان عند «نحري» بن «إبي» وعند أخيه «دشر» ثلاثة أرادب من الشعير؛ فيكون المجموع ٣٥ أردبًا من الشوفان، أردبًا من الشعير، وعلى من يملكه أن يعطيني ما يساوي مقدار ذلك من الزيت، ولا بد أن يعطي مقابل كل أردبين من الشعير أو ثلاثة من الشوفان مكيالًا «حبت» من الزيت؛ ومع كل فإني أفضل أن أتسلم متاعي شعيرًا، ولا تنسَ أن تكتب لي عن «نخت» وعن كل شيء يأتي إليك من جهته فهو يلاحظ كل أملاكي. وقد ذكر «حقا نخت» في الرسالتين الأوليين أمورًا تتعلق بالزراعة، فنجد أن الخشب الذي كان يؤخذ من غابات الضيعة قد بيع، وما كان يأخذه «سنبنوت» أجرًا له في الخطاب الثاني كان من محصول بيع هذه الأخشاب، وكذلك كان «سيحتحور» مستأجرًا قطعة أرض، وكان يرسل إليه «حقا نخت» ٥ أرطال من النحاس ليدفع بها الإيجار المطلوب منه. هذا؛ ويخبرنا «حقا نخت» عن موضوع إيجار آخر قد جعله «مرسو» صعبًا عليه، وذلك أنه أجَّر الأرض وزرعها شعيرًا فقط، ثم يخبره بأنه قد انتقص من شعير «حقا نخت» الجاهز عنده؛ ولذلك كتب له الأخير محذرًا إياه ألا يقوم بأي تعدٍّ آخر.

على أن الجزء الفكه من خطابات «حقا نخت» هو ما جاء فيها تلميحًا عن الحياة الأسرية، وأظن أننا قد اقتبسنا في الخطابات السابقة ما يجعلنا نعرف شخصية «مرسو» بن «حقا نخت» الأكبر؛ والظاهر أن «مرسو» كما يصفه والده تلميحًا كان غبيًّا بعض الشيء، وكان يشكو منه أحيانًا، ورغم كل ذلك كان يمكنه الاعتماد عليه في أمور بيته؛ والواقع أن «حقا نخت» كان يتطلع إليه في إدارة أحوال أسرته المعقدة وحفظ النظام والطمأنينة في بيته، وكان يساعد «مرسو» في ذلك «سنبنوت» أخوه، و«حتي» أمين الأسرة. أما الابن الثالث «سيحتحور» فنراه في مناسبات غير مشرفة له، ففي الخطاب الأول نرى أنه قد اقترح على «مرسو» اقتراحًا أثار غيظ «حقا نخت» المسن؛ ولذلك يقول الأخير: أما من جهة إرسال «سيحتحور» إليَّ بشعير جاف قديم من بلدة «دديسوت» وعدم إعطائي عشرة الأرادب من الشعير الجديد فإني لا أقبل ذلك بأية حال طبعًا، حقًّا إنك سعيد بأكل الشعير الجديد، واعلم أني على البر، والقارب قد رُبط في المرسى تمامًا، ولكنك عندما تصل إلى الشاطئ ستفعل كل شيء خطأ، فإن كنت قد أرسلت إليَّ بشعير قديم ليحل محل الجديد فما عساي أنا قائل؟ إنه حسن جدًّا!

وفي الخطاب الثاني أخبر «مرسو» أن يلاحظ «سيحتحور» في كل وقت يحضر فيه إلى البيت، وكان الإخوة الثلاثة متزوجين وكذلك «حتي» وكان لهم أولاد يقيمون في بيت الأسرة في «نبسيت»، هذا فضلًا عن وجود نساء وأطفال في بيت «حقا نخت» نفسه مما جعل عدد الأسرة يبلغ نحو الثلاثين نسمة على أقل تقدير، فكان هناك «إبي» وأمه وخادمتها وكذلك إحدى قريباته تسمى «حتبت»، وكان معها ابن صغير يسمى «ماي»، وسواء أكانت «حتبت» هذه دخيلة أو عبئًا على البيت فإنا نعلم أنها كانت ممقوتة من «مرسو»؛ ومن أجل ذلك كان «حقا نخت» مضطرًا أن يكتب لابنه من أجلها: لقد أخبرتك ألا تباعد بين «حتبت» وبين صاحبة لها سواء أكانت قريبتها أم إحدى معارفها، واعتنِ بها، وإني أتعشم أنك ستفلح في كل شيء تعمله بسبب ذلك، هذا رغم أنني على يقين من أنك لا تريدها معك.

وعلاوة على أبنائه الثلاثة المتزوجين كان ﻟ «حقا نخت» ولدان آخران هما «انبو» و«سنفرو» وكان كلاهما قاصرًا لم يؤهله سنه للقيام بعمل جدِّي عندما سافر «حقا نخت» في السنة الخامسة؛ ولذلك لم يظهرا في قائمة الأقارب التي تركها في ذلك الوقت، ولكن في خلال رحلته الثانية نحو الشمال بعد انقضاء ثلاثة أعوام على الرحلة الأولى كانا حاضرين في مخيلته، فكتب قائلًا:

اعتن كثيرًا بكل من «انبو» و«سنفرد» فتحيا معهما وتموت معهما، افهم ذلك.

وكان «انبو» أكبر الاثنين سنًّا مما جعله قادرًا على أن يساعد «مرسو» و«سيحتحور» في زرع المحاصيل الصيفية التي كانت على وشك الغرق، وقد أشعر هذا العمل الولد الصغير بأن أخاه لم يعتنِ به تمامًا، ففي خلال مدَّة الشتاء شكا من ذلك لوالده فأمر «مرسو» أن يعطي «انبو» ثانية ما في ذمته، وكل شيء ناقص لا بد أن يدفع عوضه، ثم قال: ولا تجعلني أكتب إليك في ذلك مرة أخرى؛ إذ قد كتبت لك مرتين بخصوص ذلك.

أما «سنفرو» وهو أصغر أولاد «حقا نخت» فكان طفلًا مدللًا، وكان صاحب الحظوة عند والده، وكان عند سفر والده لا يزال صغيرًا جدًّا فلم يكن له مرتب خاص، ولكن حقا نخت قد عدل عن ذلك فيما بعد، وكتب إلى «مرسو»:

«افهم إذا لم يكن «لسنفرو» مرتب في البيت معك فلا تنسَ أن تكتب لي في ذلك؛ لأني سمعت أنه غاضب، فعليك أن تعتني به وتعطيه غذاء، وبلِّغه سلام «خنتخ» ألف مرة بل مليون مرة، واعتنِ به، ولا بد أن ترسله إليَّ في الحال بعد الفراغ من الزراعة.»

غير أن هذا العرض الأخير لم يرُق في عين «سنفرو» ورفض بصراحة أن يسافر إلى والده. وفي الصيف التالي نجد «حقا نخت» يكتب مكتئبًا:

«وإذا كان «سنفرو» يريد أن يحرس الثيران فاجعله يحرسها؛ لأنه لا يريد أن يروح ويغدو حرًّا في الزراعة معك، وكذلك لا يريد أن يأتي إلى هنا معي، فاتركه يفعل ما يريد.»

وكان كذلك ضمن أسرة «حقا نخت» شخص يدعى «رنكاس» له أسرة ومعه أخت أرملة تسكن معه في البيت، هذا إلى ثلاثة أطفال صغار من بينهم بنت صغيرة تدعى «نفرت» ولم يكن له أم، والنتيجة أن «حقا نخت» كان أرملًا. وأمام كل هذه المتاعب لا يسع الإنسان إلا أن يفكر في أنه مع هذه الأسرة العديدة كان عنده من المشاغل ما يكفي لانصرافه إلى الاهتمام بتدبير شئونه، ولكن الأمر كان عليه أهون مما نتصور؛ إذ اتخذ لنفسه حظية اسمها «ايتنحاب» ويمكننا أن نتصور إحساس أسرته وشعورهم تجاه هذا الأمر من الرسائل المتأججة التي كان يرسلها «حقا نخت» لهم فيقول: «لا بد أن تعزل الخادمة «سِنِن» من بيتي في الحال وحافظ تمامًا على ألا يزورك «سيحتحور» كل يوم، واعلم أنه إذا أمضت «سنن» في البيت يومًا واحدًا فستكون أنت المُلام إذا أساء إلى حظيتي، وإلا فلماذا أنا أعولكم، وما الذي يمكن أن تعمله حظيتي ضدكم وأنتم خمسة أولاد، بلِّغ سلام والدتي «لإبي» ألف مرة ومليون مرة، وبلِّغ سلامي إلى «حِتبت» وكل أفراد الأسرة وإلى «نفرت»، واحذر إيقاع الضرر بحظيتي فإنك لست شريكي في أملاكي، فإذا لزمت الهدوء فإن ذلك سيكون شيئًا جميلًا جدًّا.»

ولا غرابة في أن ترى «حقا نخت» يكتب ذلك منذ أربعة آلاف عام، فإن ما كتبه هو بعينه ما نشاهده كل يوم بين ظهرانينا.

على أنه لم يفلح توبيخ «حقا نخت» في صفاء الحياة الأسرية المتعكرة المضطربة؛ إذ في الصيف التالي لذلك نجد أن صبر «حقا نخت» قد نفد، ففعل ما كان يجب عليه أن يفعله من زمن طويل، فكتب: يجب عليك أن ترسل «ايتنحاب» وما دام هذا الرجل على قيد الحياة وأعني به «اٻ» مؤاجري فهو عدوي، ومن يسيء إلى حظيتي فهو عدوي وأنا عدوه؛ وافهم أن هذه هي حظيتي، ومن المعلوم أن حظية الرجل يجب أن تعامَل معاملة حسنة، واعلم أنه لا يمكن أن يقوم لها أي إنسان بمثل ما قمت به، وإذا استطاع أحدكم أن يصبر إذا اتُّهمت زوجته أمامه فإني سألزم الصبر لما يحدث مع حظيتي، ولكن كيف يمكن أن أعيش معكم في دار واحدة إذا لم تحترموا حظيتي إكرامًا لي؟

ولا شك في أن ما لمَّح به «حقا نخت» لابنه «مرسو» من أنه ليس شريكًا في أملاكه وأطفاله، وكذلك تهديداته بأن يقصي كل أولاده من داره إذا لم ينفذوا أوامره؛ لم يأتِ بفائدة.

والواقع أن «حقا نخت» كان يلذ له كثيرًا انتهاز الفرصة لتنبيه أولاده بأنهم عبء عليه وأنهم يأكلون خبزه، وأن كل شيء ملكه، وأن كل أفراد الأسرة كَلٌّ عليه.

والحق أنه كان رجلًا مشاغبًا متعبًا، وكانت رسائله مملوءة بالتهديدات مثل قوله: «افهم هذا، واحترس جدًّا، وكن نشيطًا جدًّا، وستكون مسئولًا أمامي عن ذلك، ولا تنسَ أن تجيب عن كل شيء كتبت لك عنه.» أو نراه يشدِّد في قوله «افهم أن هذه سنة يجب فيها على الرجل أن يشتغل لسيده.» أو يقول: «ليست هذه سنة يهمل فيها الرجل سيده أو أولاده أو أخاه.»

ولا شك في أن «مرسو» قد تنفس الصعداء عندما سافرت «ايتنحاب» إلى «حقا نخت» الذي كتب بأنه سيبقى بعيدًا ستة أشهر أخرى.

هذه جولات خاطفة في هذه الوثائق إلى أن تُدرس درسًا عميقًا، ومع ذلك فإنها تكشف لنا من صفحة مجيدة من حياة القوم الأسرية والاجتماعية في عصر مظلم لا نعرف عنه إلا القليل. والمتأمل في هذه الوثائق يمكنه أن يستنبط أمورًا كثيرة لم يتسنَّ لنا معرفتها حتى في أزهى العصور المصرية، وسنترك ذلك لفطنة القارئ على أن نعود إليها كلما دعت الضرورة عند درس مدنية الدولة الوسطى جملة.

(٥) آثار الملك سعنخ كارع

وقد بقي لنا عدد محدد من الآثار الصغيرة التي تحمل اسم الفرعون «سعنخ كارع» ففي سقارة عثر له على تمثال محفوظ الآن في متحف اللوفر، ويقال: إن له كذلك خاتمًا من الذهب نُقش عليه اسمه (Wiedemann Ibid, P. 221).
وتوجد له لوحة من ودائع الحجر الأساسي لمعبده، وهي بديعة الصنع قد نُقش عليها «ملك الوجه القبلي والوجه البحري (سعنخ كارع) محبوب «منتو» رب طيبة.» (Petrie, Historical Scarabs, P. 165).
وقد عثر «نافيل» على خرزة كرية الشكل لونها أزرق قاتم تحمل لقبه. (Hall, Egyptian Scarabs in the British Museum No. 61).
وكذلك يوجد في مجموعة «بتري» جعران ولكن يحتمل أنه من عصر متأخر. (Petrie, Scarabs and Cylinders Pl. XI, 11. 9).
على أنه إذا كان «سعنخ كارع» قد قارب الخمسين من عمره عند توليته عرش الملك فقد كانت الضرورة تملي عليه أن يسارع في إقامة مثواه الأخير، ولكن تدل ظواهر الأمور على أنه كان يقوم بهذا العمل بشيء من الفتور والتراخي. (Winlock, A. J. S. L. 1915 P. 29, Figs 1, 6–9; 1941, P. 146, Pl. 23).

فنعرف أنه قد وضع تصميم طريق ابتداء للعمل في البقعة التي قام عليها معبد الرمسيوم الحالي، وكان الحجارون قد بدءوا من جهة أخرى يقطعون طريق المعبد في الطرف الجنوبي لشيخ عبد القرنة وعلى سفح التلال للجبل، وكان انحدار هذا الطريق بنسبة واحد إلى خمسة وعشرين، ومن المحتمل أن هذين المكانين اللذين ابتدأ عندهما العمل لم يتصل بعضهما ببعض قط، وإذا اتخذنا الخنادق الظاهرة حتى الآن وهي التي قُطعت في سفح التل، أساسًا لحكمنا استنتجنا أن العمل كان يقوم به شرذمة قليلة من العمال، وقد تركوا عدة قطع من الأحجار المنزوعة من الصخر في مكانها في الرصيف السفلي من الجبل، وإنه لمن السهل أن يتتبع الإنسان أثر الجانبين اللذين سيتكون منهما عرض الطريق، ومن ثم يمكن الحكم بأن تصميم عرضه كان مثل عرض طريق «نب حبت رع».

وفي أعلى هذا الطريق كان العمال قد بدءوا عمل رصيف ممهد تقريبًا طوله نحو ١٠٠ متر، ومن المحتمل أن عرضه كان يساوي طوله لو تم، وكذلك كان العمل قد بُدئ في حفر خندق لإقامة جدار طوله نحو ٧٠ ذراعًا أمام مقبرة الملك، غير أنه لم يتم، وكان قد وضع خمس ودائع لحجر الأساس، وهي قربان من اللحم في حُفَر عُملت في الصخر، وكذلك شرع العمل في نحت قبر للفرعون، غير أنه لم يتم منه إلا قطع الممر المنحدر، وطوله نحو ٣٥ مترًا. وعندئذ أُعلن وفاة الفرعون؛ فكانت النتيجة أن وُسع نهاية الممر بسرعة واتُّخذ منه حجرة دفنٍ للملك، ثم سُدَّت بعدُ بقطع من الحجر الجيري الأبيض بدلًا من حجر الجرانيت الذي كان يغلَق به حجرة دفن الملوك.

  • المعبد: أما معبد الفرعون فكان يتألف من جدار رخيص ملتوٍّ بني، من اللبن، فوق المكان الذي دُفن فيه، وقد أقيم خارج هذا المعبد بيت صغير من اللبن للكاهن الحارس، ولم نجد حول قبر هذا الفرعون إلا حُفرًا صغيرة اتُّخذت مقابر، وكان لكل منها بئر مستطيلة الشكل، ولم يقُم بجواره حتى فيما بعد إلا بعض مدافن مربعة الشكل في أوائل الأسرة الثامنة عشرة.
  • مقبرة مكت رع٢: أما الأغنياء الذين كان في مقدورهم أن ينحتوا لأنفسهم مقابر على جوانب التل المشرف على موقع هذا المعبد، فكان يبلغ عددهم نحو الثلاثين. على أنه من الأمور الغريبة التي يلاحظها الإنسان في هذا المكان أنه كلما جال المرء حول منحدرات هذا التل يلحظ أن معظم هذه المقابر التي حُفرت في واجهته قد هُجرت قبل أن يتم العمل فيها، وأن العدد القليل منها نسبيًّا هو الذي قد استُعمل للدفن فعلًا، ففي واحد منها نجد اسم مدير البيت للقصر الداخلي المسمى «سي أنحور» على قطعة من غطاء وجه (Winlock, Dier el Bahri P. 32).

    ولكن أهم القبور وأعظمها في الجبانة كلها كان قبر الأمير الوراثي، والحاكم، وخازن بيت مال ملك الوجه القبلي والأمير الوراثي، عند بوَّابة (جب) مدير البيت العظيم والسمير الوحيد، وحامل الختم «مكت رع» وهو نفس الرجل الذي ذهب في ركاب الفرعون «نب حبت رع»، ومضى اسمه في «شط الرجال» على الصخور بوصفه المحبوب حقًّا من سيده وحاكم المحاكم الست العظيمة. والواقع أن محتويات هذه المقبرة قد كشفت لنا عن صفحة مجيدة في حياة القوم الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والدينية بشكل مجسم مما لم نكن نحلم به في هذا العصر البخيل بآثاره.

    ولذلك سأتكلم عنها وعن محتوياتها ببعض التفصيل، ولنترك الملوك وآثارها ونعيش مع موظف كبير وما يحيط به من عامة الشعب على مختلف نِحلهم وطبقاتهم.

    نُحتت هذه المقبرة العظيمة في الصخرة المطلة على معبد الأسرة الحادية عشرة بالدير البحري، وقد حاول الكشف عنها «درسي» في عام ١٨٩٥ فلم يصل إلى نتيجة، ثم جاء بعده «السير مند» عام ١٩٠٢ واستطاع كشف الطريق المؤدِّية إلى بابها (A. S. II. P. 133 & VI, P. 77)، وقد بقيت مطمورة بالأتربة حتى كشف عنها «ونلك» عام ١٩٢٢. و«مكترع» هذا كان موظفًا كبيرًا يلقَّب بحامل الختم ومدير القصر، عاش في عهد الملك «منتو حتب الثالث» وقد عثرنا قبل على اسمه في معبد هذا الملك بالدير البحري (Naville, XI, Dyn. Temple II. Pl. IX. d.)، والظاهر أنه عاش في عهد الملوك الذين خلفوا «منتو حتب الثاني»، وتدل محتويات قبره على أنه كان صاحب سلطان عظيم في البلاط، فقد انتخب لنفسه أفخم مكان في جبانة عصره، فهو يشرف كما قلنا من قبل على معبد سيده الجنازي، ويمكن مشاهدة القبر من ساحة المعبد، وتصميم المقبرة يُشعر بأن «مكترع» قد نحت لابنه المسمى «أنتف» مقبرة في نفس مقبرته، وقد أصبح فيما بعد «أنتف» هذا أميرًا، وحامل ختم الملك، ورغم أن المقبرة وُجدت منهوبة فقد عثر فيها على حجرة سرداب لم يُمس بعد.
  • السراديب ومحتوياتها: وقد كان استعمال السرداب شائعًا في عهد الدولة القديمة ومخصصًا لحفظ تماثيل المُتوفَّى في بادئ الأمر، ثم أخذ القوم بالتدريج يضعون فيه مع تمثال المُتوفَّى بعض أفراد أسرته أو خدمه، وقد كانوا أحيانًا يضعون سردابًا خاصًّا للخدم وأصحاب الحرف والصناعات التي كان يحتاج إليها المُتوفَّى في آخرته، كل ذلك كان يُصنع من الحجر الجيري الأبيض أو الحجر المحلي في جبانة الجيزة أو في جبانة سقارة. وفي عهد الأسرة السادسة كثر عملها من الخشب؛ وربما كان سبب ذلك اتصال التجارة بين مصر و«سوريا» وجلب الخشب منها. وقد لاحظنا أن هذه التماثيل أخذت تكثر شيئًا فشيئًا، وبخاصة أنها كانت مجرد نماذج صغيرة، ولوحظ أن تمثال صاحب المقبرة أخذ يصغر حجمه حتى أصبح في النهاية يعمل بحجم تماثيل الخدم وأصحاب الحرف والصناعات. وقد رأينا في أواخر الدولة القديمة وما بعدها أن تماثيل الخدم وأصحاب الحرف والصناعات تُعمل في مصانع خاصة بها كما يظهر، وتكوِّن كل منها فرقة خاصة بصناعة أو حرفة أو تعمل في قوارب.

    أما تمثال صاحب المقبرة فقد كان يشرف على ما تقوم به هذه الفرق من الأعمال، وقد كانت العقيدة السائدة في هذه الفترة عند معظم الشعب أن روح هذه النماذج من العمال، وكذلك روح الطعام الذي كانوا يصنعونه ليكون خالدًا يمد صاحب المقبرة بما يحتاج إليه من طعام وغيره، وهذه الفكرة كانت منتشرة انتشارًا عظيمًا بين المصريين حوالي سنة ٢٠٠٠ق.م، فكان كل فرد في مقدوره أن يشتري مثل هذه النماذج لتوضع معه حول تابوته أو بالقرب منه في المقبرة، وكان لا يتأخر قط عن الحصول عليها؛ ولذلك نجد بعض التماثيل من هذا النوع منتشرة في متاحف العالم، على أن المهم في مقبرة «مكترع» هو أنه كان رجلًا صاحب يسار وثروة عظيمة، وأراد حسب اعتقاده أن يحيا حياة بذخ وترف في عالم الآخرة كما كان ينعم بالحياة في الدار الفانية؛ ولذلك جهز نفسه بمجموعة فخمة من هذه النماذج مما لم يعثر على مثيلاتها للآن لشخص عادي. ويرجع الفضل في بقاء هذه المجموعة لنا إلى مهندسه الذي عاد إلى اتباع طريقة بناء السرداب، كما كانت الحال في عهد الدولة القديمة مما لم يتنبه إليه اللصوص الذين تعودوا نهب القبور في هذا العهد، ولذلك أفلتت من أيديهم هذه المجموعة الفذة لفائدة العلم والتاريخ، وما ذلك إلا لأن طريقة وضعها في المقبرة لم تكن مألوفة للصوص الذين كانوا يعرفون طرق الدفن في ذلك العصر وفي كل عصر بمهارة فائقة، ونحن بوصفنا هذه المجموعة هنا نكشف عن صحيفة اجتماعية في تاريخ الشعب المصري في تلك الفترة الغامضة.

    fig8
    شكل ١: حاملة القرابين.

    على أننا في مثل هذا الكتاب لا يمكننا أن نصف مجموعات النماذج التي بلغت أربعًا وعشرين، جهز بها «مكترع» قبره لتقوم بحاجياته في الحياة الآخرة.

    والواقع أن كثيرًا من هذه المجاميع يوضح لنا عمليات ومناظر حيوية وصناعات دقيقة وغير ذلك مما يحتاج إلى درس طويل قبل أن نشرح تفاصيل كل مجموعة شرحًا وافيًا، ولا نزاع في أن هذه التفاصيل وبخاصة ما دق منها هي التي تصور لنا حياة وادي النيل منذ أربعة آلاف سنة مضت، وفي ذلك تنحصر أهمية هذه النماذج فهي صور مجسمة من الحياة اليومية بعيدة عن الفكرة الدينية المحضة التي كانت الوازع في عمل الأثاث الجنازي، فمثلها عندنا اليوم مثل متاحف الشمع، وإذا استثنينا من بين هذه النماذج ثلاث مجموعات لها علاقة مباشرة بالفكرة الدينية كان ما تبقى منها دنيويًّا محضًا.

    fig9
    شكل ٢: إحصاء الماشية.

    وهذه المجاميع الجنازية تنحصر فيما يأتي: مجموعة تمثل بنتين واقفتين على جانبي السرداب، وترتدي كل منهما ملابس طلية ملوَّنة بالألوان الزاهية، وتحمل كل منهما قربانًا؛ فإحداهما على رأسها سلة فيها لحم وخبز وفي يد كل منهما إوزة حية، وتمثالا هاتين البنتين مصنوعان من الخشب بنصف الحجم الطبيعي.

    والمجموعة الثانية تتألف من أربعة أشخاص واقفين على كرسي واحد جميعًا، ويمثلون على التوالي كاهنًا مستعدًا بمبخرته وآنية الطهور، ورجلًا يحمل على رأسه مجموعة ملاءات من الكتان للأسرة، واثنتان أخريان تحملان إوزًا وسلتين فيهما طعام، أما ما بقي من النماذج التي يحتويها السرداب فتمثل صور الحياة التي كان ينعم بها «مكترع» مدة حياته في عالم الدنيا، وهي نفس الحياة التي كان يزعم أنه سيتمتع بها في الحياة الآخرة.

    fig10
    شكل ٣: حظيرة الذبح.

    وأفخم هذه الصور وأعظمها المجموعة التي يظهر فيها هذا العظيم وهو يحصي ماشيته بمتحف القاهرة، وقد ظهر هذا المنظر ممثلًا في الردهة التي أمام بيته، ويطل عليها إيوان ذو أربعة عمد ملونة بألوان زاهية، وفيه يجلس «مكترع» ومعه ابنه ووارثه، ويلاحظ أنهما متربعان على رقعة الإيوان في جانب منه، وفي الجانب الآخر جلس أربعة من الكتبة منهمكين في تدوين حسابات الضيعة على قراطيس البردي، وترى ساقيه ومن يرعى بيته قد وقفوا في الإيوان على إحدى مراقيه، وفي الردهة المقابلة للإيوان يقف رئيس الرعاة منحنيًا تحية لسيده ويقدم له تقريره عن الإحصاء، وفي بداية هذا المنظر يشاهد الرعاة وهم يلوِّحون بعصيهم ويشيرون بأيديهم حينما يسوقون ويقودون الماشية المختلفة الألوان، وقد مثل كل من هذه الماشية بحجم يبلغ حوالي ثلثي قدم، ولا يعتبر صنع تماثيل تلك الماشية من النوع الممتاز من الوجهة الفنية، غير أنها مع ذلك تشعر بصدق التمثيل ودقة الملاحظة؛ إذ إن حركاتها قد أبرزت بحذق، فهذه النماذج بما فيها من ألوان زاهية تعبر عن الحياة والمرح اللذين لا تصادفهما في القطع المصرية الفنية التي صُنعت حسب قواعد موضوعة متبعة.

  • طريقة تسمين الثيران: وبعد عملية الإحصاء هذه لثيران «مكترع» نجده قد مثل لنا طريقة تسمين الثيران في الحظيرة (تماثيل هذا المنظر محفوظة في متحف متروبوليتان) فنشاهد في الحجرة التي تُعلف فيها الثيران لتسمينها بعض الحيوان مربوطًا حول مقود، ثم نشاهد في حجرة أخرى الثيران التي قد سمنت وهي تُغذى باليد، ويلاحظ أن الثور قد امتلأ جسمه لحمًا وشحمًا؛ لدرجة أنه أصبح من ثقل من وزنه راكعًا على الأرض، والراعي يدس له الطعام في فمه دسًّا.
  • ذبح الثيران وتجفيف لحمها: وبعد ذلك ننتقل إلى آخر منظر في حياة الثور، وأعني بذلك حظيرة الذبح (متحف المتروبوليتان) فنشاهد هنالك الثيران وقد سيقت إلى قاعة ذات عمد مكوَّنة من طابقين مفتوحة للعراء من جهة واحدة، فهناك تُطرح الثيران أرضًا بعد أن تعدَّ للذبح، وترى أن في هذه الحظيرة كاتبًا ومعه أدوات الكتابة المؤلفة من جعبة أقلام وقرطاس من البردي يقوم بعملية الحساب، وترى كذلك رئيس القصابين يشرف على عملية الذبح، وطاهيَين يقومان بطهو عصيدة دم على مواقد في ركن الحظيرة، وفي شرفة القاعة قطع لحم معلقة للتجفيف.
  • أهراء الغلال: ونشاهد أنه بعد أن يحصل «مكترع» على حاجته من اللحم، يهتم بالحبوب التي كانت تعد لطعامه، فنشاهد أهراء الغلال، وترى كتبة يجلسون في ردهته كل يحمل قلمه وقرطاسه ليدوِّن حساب الغلال، ونشاهد في الوقت نفسه رجلين يكيلان القمح بمكاييل خاصة ليوضع في حقائب يحملها طائفة من الرجال ويصعدون في سلم ليضعوها في مخازن عظيمة الحجم بمتحف المتروبوليتان، وقد جلس عند باب الحظيرة «أحدب» وفي يده عصا يشرف على العمل بيقظة حتى لا يترك العمل عامل قبل انتهاء الوقت المحدد.
  • صناعة الخبز والجعة: ثم ننتقل بعد ذلك إلى مشهد صناعة الخبز والجعة، وقد خُصص لهما بناء واحد، بمتحف المتروبوليتان، فيشاهد في الحجرة الأولى من هذا المبنى امرأتان تطحنان القمح، ثم يُرى رجل يصنع من دقيقه أقراصًا من عجين يلوكها آخر في وعاء، وبالقرب منه نجد العجينة التي تُركت لتختمر في أربعة قدور، وبعد أن تختمر العجينة يشاهَد إنسان آخر يصبها في صف من الأواني المصفوفة وقد أحكمت عليها سداداتها ووضعت مسندة على طول جدار الحجرة، أما في الحجرة الثانية فنجد عملية إنضاج الخبز؛ حيث نشاهد رجالًا يدقون الحبوب بمدقات، ونساء يطحنَّ الدقيق، وآخرين يقلبون العجين ويصنعون منه أرغفة وفطائر في أشكال غريبة، وغيرهم يقومون بوضعها في الأفران.
  • النسيج والتجارة:
    fig11
    شكل ٤: حانوت النسيج.
    fig12
    شكل ٥: حانوت النجارة.

    أما الأشغال اليدوية فقد عُثر منها على نموذجين: فنجد في صورة نساء يغزلن وينسجن في حانوت، كما يشاهد النجارون يقومون بعملهم في حانوت آخر، وفي حانوت النسيج ثلاث نسوة قد أحضرن الكتان ووضعنه في وعاء ليقوم بنسجه ثلاث نسوة أخر، بعد أن تقوم بغزله نسوة يشاهَدن واقفات، وفي اليد اليسرى لكل منهنَّ مغزل تحركه بيدها اليمنى على ركبتها بمتحف القاهرة، وعندما تمتلئ المغازل بالخيوط المغزولة، توضع محتوياتها على حمالات مثبتة في الجدار المقابل الذي يشتغل النسوة بجواره، ونشاهد في نفس الوقت نساء ينسجن على آلتين (نولين) منصوبتين على رقعة الحجرة.

    ننتقل بعد ذلك إلى حانوت النجار وهو مكوَّن من ردهة مسقف نصفها، وتحتوي على مشحذ لشحذ آلات النجارة وصندوق ضخم يضم الآلات اللازمة؛ ففيه مناشير وقواديم وأزاميل ومخاريز، وهذا الصندوق موضوع تحت الجزء المسقوف من الحانوت (متحف القاهرة)، أما في العراء فيجلس النجارون زمرًا يقومون بقطع الأخشاب الغليظة بالقواديم، ثم يصقلون سطحها بقطع كبيرة من الحجر الرملي، وفي وسط تلك الردهة نشاهد نشارًا ربط قطعة من الخشب في عمود وأخذ في نشرها ألواحًا، وفي مكان آخر نرى نجارًا جالسًا على الأرض وفي يده لوح من الخشب يقوم بثقبه بمثقب ومدقة.

  • بيته وحديقته: نعود الآن إلى ما أعده «مكترع» لنفسه في حياته الخاصة المنزلية، فنشاهد أنه قد شيد لنفسه حديقتين منقطعتي النظير في كل ما عثر عليه من الآثار المصرية في هذه الناحية.
    fig13
    شكل ٦: البيت والحديقة.

    والواقع أن المفتن المصري الذي صنع نماذجهما قد بذل مجهودًا جبارًا في إظهار كل الأجزاء الهامة التي ينتظمها بيت الشريف المصري وحديقته التي تسرِّي عن قلب صاحبها، وتُدخل عليه الفرح والغبطة بمناظرها البهجة الأنيقة، وجزء من نماذج هذين المنظرين يوجد بمتحف القاهرة والجزء الآخر بمتحف المتروبوليتان وأول ما يلاحَظ أنه قد أقام جدارًا حاجزًا يحجب البيت عن العالم الخارجي، وفي داخل هذا الجدار أنشأ بركَة مستطيلة الشكل صنعها من النحاس حتى يسهل وضع ماء حقيقي فيها، ثم حفَّها بأشجار الفاكهة وأنشأ قبالتها إيوانًا عظيمًا محلَّى بعمد ملونة بألوان نضرة بهجة، وفي نهاية هذا الإيوان أقيم باب رسمي ذو مصراعين، في أعلاه نافذة يدخل منها الهواء والنور، وكذلك أقيم باب آخر صغير للاستعمال العادي، وتشاهد أيضًا نافذة طويلة يخيل للإنسان أنها واجهة البيت نفسه، وقد صُنعت أشجار هذه الحديقة من الخشب، وكل شجرة قد رُكبت فيها أوراقها بعد حبك صناعتها، وهذه الأشجار تمتاز بالبساطة الطبعية التي نشاهدها ماثلة في كل هذه النماذج، أما فاكهة هذه الأشجار فيلاحظ أنها لا تنبت من أغصان الأشجار، بل من سيقانها الأصلية وفروعها.

  • نماذج سفنه المختلفة: على أن نصف ما عثر عليه من تلك النماذج كان يشتمل على قوارب وزوارق من التي تجري في النيل والبحر، ولا غرابة في ذلك فإن الشريف في تلك الأزمان كان في حاجة ماسة إلى القيام بأسفار في النيل جنوبًا وشمالًا ليدير أملاكه المبعثرة أو ليقوم بما عليه من الواجبات في إدارة حكومة البلاد، ولقد كانت الأسفار في الأزمان الغابرة دائمًا بالنيل في القوارب، وكان لعظماء القوم بطبيعة الحال سفنهم الخاصة بهم للسياحة والنزهة، ولا يدهشنا ذلك؛ لأن النيل والمستنقعات كانت هي مسرح المصريين في غدواتهم وروحاتهم، ومن أجل ذلك كان نصف النماذج التي عثرنا عليها قوارب وسفنًا لتقوم بسد حاجات «مكترع» في عالم الآخرة الذي لم يكن في نظر المصري إلا صورة من عالم هذه الدنيا كما ذكرنا.

    على أن «مكترع» قد عاش في عصر يبعد جيلًا أو جيلين عن العصر الذي ظهرت فيه الشعائر الدينية الجديدة في الوجه القبلي، وهي التي كانت تتطلب من المصري أن يجهز نفسه بقارب مقدس ليصحب الشمس في سياحتها، ونتشكك كثيرًا في أن «مكترع» قد أعدَّ واحدًا من هذه القوارب لغرض جنازي، بل الواقع أنها كانت نماذج لسفن عادية من التي كانت تمخر عباب النيل صعودًا وهبوطًا منذ أربعة آلاف سنة مضت.

    ويوجد من بين هذه القوارب المصغرة أربعة، وطول الواحد منها في الأصل نحو أربعين قدمًا، وقد صنع نموذجه في نحو أربعة أقدام فقط، ويحتوي القارب على عدد من الملاحين يتراوح بين اثني عشر وثمانية عشر عدا الرعاة والرماة والضابط.

    وكانت هذه القوارب عندما تقلع نحو الجنوب إلى أعالي النيل سائرة مع الريح الشمالية، تنشر فيها أربعة من الشرع، ونشاهد النواتي الصغار يثبتون الأمراس ويشدون حبال الشرع بمتحف القاهرة ولكن في العودة عند الانحدار مع تيار النيل حيث يضاد التيار الريح؛ تخفَض السارية، ويُلَف الشراع على سطح السفينة، ويشتغل الملاحون بالمجاديف، كما نشاهد اليوم في قوارب النيل. وترى في كل من هذه القوارب الشريف «مكترع» جالسًا على فراش وثير فوق كرسي، وفي يده زهرة يشم عبيرها، كما يشاهَد ابنه جالسًا بجانبه، وفي الجانب الآخر منه مغنٍّ يمسح فمه ليجلو صوته للغناء، وفي إحدى هذه المناظر ترى بجوار المغني عوَّادًا ضريرًا، وقد وضع عوده على قاعدة من الخشب بين ركبتيه (متحف المتروبوليتان)، ومما تجدر ملاحظته في أحد هذه القوارب أن الصانع كان يتوخى تمثيل الحقيقة إلى درجة تثير الإعجاب والضحك معًا؛ إذ نجد في حجرة قارب من هذه النماذج مدير البيت ممثلًا جالسًا وبجانبه كوَّة، فيها حقيبتان مستديرتان في النهاية تشبه كل منهما تلك التي كانت تستعمل منذ جيلين من الزمان عندنا للسفر (متحف القاهرة).

    fig14
    شكل ٧: قاربان تصيد السمك.

    ولم تكن سفن النهر في هذا الوقت كبيرة الحجم؛ ولذلك لم يكن يطهَى الطعام فيها، بل كان يهيَّأ للمطبخ قارب خاص يسير وراء القارب الكبير وعند تناول الطعام كان يُربط به، (متحف المتروبوليتان). هذا؛ ويشاهَد على سطح القارب نساء يطحنَّ ورجال يعجنون أحيانًا بأيديهم وأحيانًا بأرجلهم، ثم يقتطعون الرغفان من العجينة بأيديهم. وكذلك نرى في حجرات القوارب قطع اللحم معلقة، ورفوفًا صُفت عليها أواني الجعة والنبيذ، وأظن أن ذلك منتهى ما يمكن رؤيته من ضروب البذخ وحياة الرفاهية والنعيم في عصرنا.

    أما في السياحات القصيرة الأمد أو النزهة فكانت تُستعمل قوارب نزهة صغيرة ضيقة الحجم ذات لون أخضر، قيدومها، ومؤخرتها معقوفان، وعندما يكون الريح ساكنًا ملائمًا يرفع الملاحون السارية، وينشرون الشراع المربع الشكل، وهو الذي كان يُستعمل في سفن السياحة، أما إذا كان معاكسًا فكانت تُنزَّل السارية ويطوى الشراع ويقوم ستة عشر نوتيًّا بالتجديف (متحف المتروبوليتان) ومثل هذه القوارب كانت خالية من حجر النوم، وكان الشريف وابنه يجلسان تحت قبة صغيرة مفتوحة.

    أما إذا خرج الشريف لصيد الطيور والسمك فكان يستعمل لهذا الغرض قاربًا صغيرًا (متحف المتروبوليتان) وكان يقف في مقدمته الصيادون بمقامعهم، وإذا صيدت سمكة عظيمة الحجم جرت من حافة القارب إلى داخله، ويلاحظ أنه قد ربط في جانب حجرة القارب عمد وأوتاد خاصة بشباك الطير، وترى في القارب ولدًا وابنة قد أحضرا إوزًّا حيًّا مما اصطاده الشريف وابنه، ويشاهَدان جالسين فوق سطح القارب، ثم نشاهد أخيرًا قاربين من الغاب يجرَّان شبكة عظيمة مفعمة بالأسماك؛ ويلاحظ أن كل قارب من هذين يجدف فيه رجلان، وفي وسط القارب يقف صيادو السمك وهم يجرون الشبكة ومعهم مساعد يأتي بالسمك إلى القارب (متحف القاهرة).

    على أن الأهمية العظمى التي نستخلصها من نماذج السفن هذه منحصرة في المعلومات التي نصل إليها عن كيفية تجهيز السفن بالأمراس والأشرعة والمجاديف، فقد وجدناها تامة إلى حدٍّ بعيد جدًّا ومُحكمة الترتيب والإتقان، ومحفوظة بحالة جيدة لدرجة أن في إمكاننا مشاهدة أمراس القارب وعقده سليمة جدًّا، وكذلك وجدنا المجداف الذي يحرك السكان في حالة جيدة يمكننا بها فحصه تمامًا لأول مرة، وقد ذكر لنا الأستاذ «ونلك» أنه في صيف عام ١٩٢١ قد بعث الدهشة والعجب في نفوس أهالي ساحل «مين» في الولايات المتحدة إلى درجة يقصر عنها الوصف عندما جهز قاربًا بأمراس وآلات لقارب صُنع على نمط قوارب الأسرة الحادية عشرة، فقد صنع مجاديف عظيمة الحجم كالتي على القوارب المصرية، ثم أقام فيها أعمدة لسكان القارب، ووضع المجاديف في أماكنها، ونقل كل الحركات التي كان يقوم بها المصريون في تجديفهم، وقد أسفرت التجربة عن نجاح باهر جدًّا.

(٦) الحروب الداخلية (٢٠٠٧–٢٠٠٠ق.م)

لقد كان الفرعون «سعنخ كارع» يأمل أن يتولى العرش بعد وفاته بكر أولاده، ومن النقوش المهشمة التي عثر عليها في الكرنك٣ نجد أن «سنوسرت» (الوالد المقدس) (وهو لقب ديني) قد جاء بعد اسم هذا الفرعون مباشرة، وذلك يذكرنا «بالوالد المقدس» (أنتف) الذي كان وارثًا للفرعون «نب حبت رع» حتى عام ٣٩ من حكمه على أقل تقدير، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

سنوسرت (الوالد المقدَّس)

غير أننا لا نعلم من مصير «سنوسرت» هذا إلا أنه اختفى من مسرح التاريخ قبل أن يلبس تاج البلاد فعلًا؛ وقد أعقب ذلك سبع سنوات مليئة بالفوضى والاضطرابات حسب قول «ونلك» (Winlock J. E. A. Vol. XXVI. P. 118) ومن المحتمل أن «سنوسرت» هذا قد قُتل ولم يترك لنا أي أثر في مخلفات هذا العصر بقدر ما وصلت إليه الكشوف حتى الآن.
١  Bulletin Metropolitian Museum Of Art Part II (1921-22) P. 37 f.f; Fig. 31, 32, & J. E. A, X. (1924) P. 15.
٢  M. M. A. December 1920, P. 14 ff.
٣  Chevrier A. S. (1938) P. 601.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤