جرجي زيدان

تاريخ آداب اللغة العربية

تفضل حضرة الكاتب المؤرخ جرجي أفندي زيدان، فبعث إليَّ بكتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» على غير سابق معرفة بيننا. وتفضَّل فأرسل لي كلمة يسرني جدًّا أن تكون أول تخاطب بيني وبينه؛ لذلك لم يسعني حين وصلني الكتاب إلا أن أتفرَّغ لقراءته بإمعان. فلما فرغت منه حسبت من الواجب عليَّ أن أكتب عن الأثر الذي تركته قراءته في نفسي اعترافًا بفضل صاحبه، وتبيينًا للقراء عن مبلغ تقديري لقيمة ما يحويه.

جرجي أفندي زيدان من أكبر كُتَّاب التاريخ في مصر. بل لا أبالغ إذا قلت: إنه هو الرجل الوحيد المتفرِّغ في الوقت الحاضر لكتابة التاريخ. وتحت يدي قائمة كتبه تحوي من الكتب والروايات التاريخية أكثر من خمسة وعشرين كتابًا تقع في أكثر من ثلاثين جزءًا. هذا غير كتبه في الموضوعات الأخرى. وإذن فقبل أن يفتح الإنسان كتابه هو واثق من أنه سيقرأ كتابة مؤرخ درس التاريخ وعرف ما هو.

ولتاريخه في آداب اللغة العربية من الفضل أنه جاء بعد تجربة طويلة، وحنكة وخبرة بالطرق في أساليب التأليف وكيفية ترتيبه. لذلك ننتظر منه دقة كثيرة في الوضع. وإذا حاسبناه على شيء حاسبناه بالدقة عينها؛ فلا نتجاوز معه كما نتجاوز مع من لم يطرق كتابة التاريخ إلا حديثًا، ولا نتهاون في عدم التحقيق أو السهو أو نحو ذلك.

وإنما ندقق كذلك لعلمنا أنه يقابل انتقادَنا بصدر رحب، ويجيبنا إذا دعت الحال عن أسباب ما قد نرى مما يستحق النقد — يسمع كلامنا ويجيبنا بهذه الروية والسكينة التي هي من طبع العالم البحاثة، ولا يفعل فعل غيره من الذين يطرقون باب الكتابة أو التأليف جديدًا، يستفزُّهم الغضب كلما أظهر ناقد خطأهم في شيء كأنهم يحسبون أن ما جاءوا به هو الكمال.

كتب جرجي أفندي زيدان أكثر من خمسة وعشرين كتابًا في التاريخ كما قدمناه، ويظهر حين قراءتها أن غرض المؤلف منها نشر التاريخ وتعميمه؛ ليعرف الناس الحوادث التي وقعت في الماضي، ولتكون عندهم فكرة عامة من العالم بأسره أو من أمة بعينها. أريد أن أقول إن جرجي أفندي زيدان لا يقصد من مؤلفاته التاريخية إلى تأييد فكرة له في طريق سير العالم كما يفعل بعض الفلاسفة من كتاب التاريخ، ولكنه يريد نشر المعرفة، وذلك ما يسميه الإفرنج Vulgarisation.

هذا فيما أعتقد هو الغرض الذي يرمي إليه صاحب (تاريخ آداب اللغة العربية). ويقوي اعتقادي هذه طريقة المؤلف في التأليف وأسلوبه في الكتابة. فإنك تراه واضح الأسلوب تمامًا، يكتب للناس بلغتهم المتعارفة التي يتفاهمون بها في جرائدهم ورسائلهم، لا بتلك اللغة المخصوصة التي يتخذها جماعة من الكتاب دِرْعًا لهم يقيهم عند غموض الفكرة أو فساد التعابير التي يجيئون بها. ويكتب من غير عناء ولا تكلف، بل يرسل قلمه حرًّا إلى أقصى درجات الحرية؛ لذلك يجيء أحيانًا بتعابير لو استعادها الكاتب أمام نظره لرآها غير صالحة في الكتابة. كما أنه يجيء أحيانًا أخرى بتعابير غريبة خاصة له. كقوله مثلًا في مواضع متعددة من كتابه «إلى هذه الغاية» يريد بذلك أن يقول: (إلى الآن)، ومثل ذلك تعبيران أو ثلاثة يجدها القارئ ثم يعتادها باعتياده لغة المؤلف.

وبهذا الأسلوب البسيط يعبر عن كل ما يريد، ويفهم القارئ بكل دقة الفكرة التي تجول في نفسه. ثم هو لا يلجأ في كتابته إلى اللغة الخطابية إلا نادرًا. بل تراه يذهب في قصصه التاريخي الذي يريد أن يقصه بكل سهولة وبساطة. يعبر عما في ضميره كما هو في ضميره لا يجتهد في تفخيمه ولا تجميله، ويحكي القصة التي وقعت كما وقعت من غير حاجة لإلحاق كل عمل منها بالصفات والمترادفات التي يضعها بعض الكتَّاب في كل المواضع، ولو مع عدم لزومها.

إذن فهو إنما يريد من كتابته أن تؤدي فكرته (من حيث ترتيبها وسبكها في عبارة سهلة سالمة من الركاكة والتعقيد)، كما يقول في مقدمة الجزء الثاني من كتابه. ويرى ذلك شرطًا لازمًا لمن يريدون بكتابتهم خدمة المصلحة العامة، أما من يكتبون (في شؤون خصوصية) أو (يكون مرماهم من التأليف بيان قدرتهم على الإنشاء والغوص على المعاني العويصة والألفاظ الغريبة، فهؤلاء وأمثالهم يكتبون لأنفسهم أو لطبقة خاصة لغرض خاص، ولهم منزلة وفضل، ولكن في غير الخدمة العامة).

هذا هو أسلوب جرجي أفندي زيدان، وهذا هو رأيه في الكتابة. وهو لا شك محق في اعتبار جماعة الذين يكتبون اللغة القديمة (أصحاب فضل ولكن في غير الخدمة العامة).

إذا اتفقنا مع جرجي أفندي زيدان على هذه النقطة، وجب علينا بعد ذلك أن نتعداها لما بعدها. وهي التساؤل عن الأسلوب الجيد أي شيء هو؟ ها عدد من الكتاب يكتبون باللغة العربية المصرية، ويفهمهم الناس جميعًا، ويؤدون أفكارهم بعبارة خالية من الركاكة والتعقيد. فأيهم أجمل أسلوبًا وأمتن عبارة؟

ليس من الممكن وضع قاعدة لقياس جمال الأساليب ومتانتها، فكل نوع من الأدب ولكل كاتب ذي قيمة أسلوب خاص في كتابته. وقوة الأسلوب وجماله يحس بهما الإنسان، ويعرف أسبابهما في شيء خاص أو رجل خاص. لكنه لا يستطيع أن يستنبط من تجاربه — على ما أعتقد — قاعدة معينة مطَّردة. فإذا قلت: إني أعتبر أحسن الأساليب الأسلوب السيال الدقيق الذي يحوي روح الكاتب، ويجذب إليه القارئ، ويكون بذلك واسطة لطيفة في التعارف بينهما تعارفًا يجعل الثاني يفهم الأول بإشارة خفية أو يصعد معه إلى سماوات الشعر، أو يرى بعينه الأشياء التي يكتب عنها — إذا قلتُ ذلك لم أكن جئت في تعريفي بكل الأساليب.

على كل حال يرى القارئ أني أعلق الأهمية الكبيرة على الكاتب، أريد أن يظهر هو بشخصه في كتابته. وإنما يكون ذلك بأن يبدع فيها شيئًا جديدًا في اللفظ أو في المعنى يميزه عن غيره ويجتذب إليه قارئه. حينذاك يكون صاحبَ أسلوب متين وكاتبًا مقتدرًا.

هذا النوع من الكُتَّاب قليل الوجود في مصر. ذلك بأن أكثر كتابنا لا يفكرون، بل هم ينقلون أفكارًا قديمة يضعونها بعضها جنب بعض، وينقلونها أغلب الأحيان بالكلمات التي قالها بها أصحابها. فكل ما لهم من الفضل في كتابتهم هو اختيار وترتيب هذه الأفكار والألفاظ. أما الكاتب المنطقي الذي يبدأ من مبدأ معين في نفسه، ويستمر يرتب بعد ذلك نتائج هذا المبدأ واحدة بعد الأخرى، كما هي مرتبة في رأسه ليصل أخيرًا إلى النتيجة المطلوبة، والشاعر الذي يستمد الخيال من المناظر والحوادث والأشياء التي حوله، والقصصي الذي يرى الناس وأحوالهم وينقل منها صحيفة تطابق الأثر الذي تركته هذه الأشياء في نفسه — على العموم الكاتب الذي يريد أن يخاطب الناس بما يرى هو، يكاد يكون غير موجود في مصر.

جرجي أفندي زيدان من الكتَّاب الذين يتوخَّوْن في كتابتهم أن ينقلوا للقراء فكرتهم (بألفاظ خالية من الركاكة والتعقيد)، وتلك إحدى فضائل الكتابة عنده. غير أنه يرى التعمق في الأفكار أو التعمق في الألفاظ خروجًا على قاعدة الكتابة للمصلحة العامة. أي إنه يرى أن الكتابة للمصلحة العامة يجب أن تكون من البساطة، بحيث تكون في متناول كل الأفهام. وبما أن مستوى كل الأفهام هو دائمًا غير راقٍ فهو — إما مريدًا أو بميله الطبيعي — يجعل كتابته دائمًا قريبة من هذا المستوى.

قلنا: إن لجرجي أفندي زيدان أكثر من خمسة وعشرين كتابًا في التاريخ تقع في أكثر من ثلاثين مجلدًا، وقلنا: إن الظاهر أن مراده نشر المعرفة، فهو يكتب بما يعتقده أسلوب النشر. وبما أن الذين سبقوه لذلك قليلون جدًّا، وبما أنه يريد مخاطبة المجموع، فهو معذور إن بقي أسلوبه غير ذلك الأسلوب العذب الجذاب الذي تمتاز به اللغة السهلة، ما دامت فيه صفة الوضوح التي تمكن كل الناس من فهم ما يريد.

ويظهر غرضه أيضًا في طريقة تأليفه. فهو في الغالب يجيء بالأفكار والحوادث العامة؛ ليخرج قارئه منه بفكرة عامة في تاريخ الأمة التي قرأ ما كتبه جرجي أفندي زيدان عنها. وهو لا يقف عند الحوادث الصغيرة يريد أن يستفسرها عن معنى الحوادث الكبيرة؛ لأنه — على الأقل فيما يظهر من كتاباته — يرى ذلك غير ضروري لعامة القراء. فإذا أنت جئت على كتاب من كتبه لم تصل إلى العلم بدقائق ما كتب عنه، ولكنك تكون قد عرفت الأفكار العامة التي تفسر الحوادث العامة التي شرحها لك.

وربما ساق جرجي أفندي غرضه أحيانًا لأن يكون ناصحًا أو أخلاقيًّا. فتراه في كلامه يمدح الفضائل بطريقة تحبب فيها، وإن يك من طرف خفي؛ مما يدل على حسن اقتداره. لكن ذلك من شأنه أن يجعله أحيانًا يقع في أغلاط تاريخية كان من السهل تجنبها.

•••

لما تكلم المؤلف عن تاريخ آداب العرب قسمها باعتبار الأزمان التي وقعت فيها. فزمن الجاهلية ثم زمن الراشدين ثم الأمويين ثم العباسيين … إلخ. وهذا التقسيم حسن يؤدي إلى الغرض الذي يرمي إليه المؤلف من تعميم معرفة هذا التاريخ أحسن من أي تقسيم آخر؛ ذلك لأن الذي يطلب الاطلاع على نوع معين من أنواع الأدب وكيفية تقلبه على مختلف عصور التاريخ، في الغالب يريد أن يتعمَّق في هذا الباب قدر المستطاع، وذلك كما بينَّا ليس هو غرض جرجي أفندي زيدان.

متابعة له في هذا التقسيم نرى أن نسير في نظرنا إلى الكتاب متتبعين هذه العصور المختلفة من تاريخ الأمة العربية واللغة العربية:

(١) عصر الجاهلية

والآن نبدي نقدنا على ما يستحق النقد في كتاب جرجي أفندي زيدان عن عصر الجاهلية. ونبدأ فننقد الصورة التي وضع بها معارفه التمهيدية. فإن الذي يقرأها يكاد يتصور أن عرب الجاهلية، على أنهم قوم بدو رحل، قد بلغوا من العظمة في العلم والأخلاق والسياسة ما يناهض أرقى الأمم في القرن العشرين. وذلك أمر لا يسهل تصديقه، خصوصًا وأن المؤلف لم يتقدم لتأييده بحجة قاطعة، بل بنى رأيه على استنتاجات ظنيَّة أخذها عن مقدمات يمكن تفسيرها بشكل مختلف عن تفسيره هو إياها كل الاختلاف، وإلى القارئ مثلًا من ذلك. قال المؤلف عن ارتقاء الجاهليين في السياسة والعمران:

«على أنك إذا نظرت في لغتهم تبين لك أن أصحابها من أرقى الأمم سياسيًّا واجتماعيًّا، وإن عرفناهم بدوًا رحالة — واللغة دليل أخلاق الأمة ومرآة آدابها وسائر أحوالها — ومن المقرر أن اللغة لا تتولد فيها كلمة إلا للتعبير عن معنى حدث في أذهان أصحابها. فإذا وجدنا في لغة من اللغات اسمًا لنوع من اللباس نحكم قطعيًّا أن أصحابها عرفوه أو لبسوه، أو نوعًا من الأطعمة عرفنا أنهم أكلوه. واللغة العربية من أغنى لغات الأرض بالألفاظ العمرانية والسياسية. إن فيها عشرات من الألفاظ لضروب الجماعات من الناس على اختلاف أغراض اجتماعهم، وعشرات منها عن فرق الجند، وفيها للتعلم والورق عشرات من الأسماء والألقاب، ولكلٍّ منها معنًى خاص.»

ولست أدري كيف يفسَّر بذلك رقيُّ العرب الجاهليين في السياسة والعمران. العرب الجاهليون بطبيعة حياتهم البدوية ينقسمون إلى قبائل كبرى وصغرى، ومن شأن ذلك أن يستدعي اختلافًا في تسمية كل نوع من هذه القبائل، خصوصًا وأن التعداد المضبوط الذي نعرفه نحن لم يكن معروفًا عندهم. كما أن اختلاف القبائل كان يجعل كل قبيلة تجيء باسم مخصوص لشيء له اسم آخر في قبيلة أخرى، فإذا ما تقاربت القبيلتان استعارت كل واحدة منهما كلمة جارتها وخصصتها لمعنًى. وهذه هي الأسباب أيضًا في تعدد أسماء فرق الجند، أضف إلى ذلك ما في طبائع العرب من الغزو. كما أني لا أظن المؤلف يقول إن ما عند العرب من أسماء فرق الجند يزيد على ما عند الأمم الراقية اليوم.

ومثل هذا الخطأ فيما يتعلق برقيِّ العرب الجاهليين السياسي والاجتماعي، وقع للمؤلف فيما يتعلق برقيهم الأخلاقي. وأضرب لذلك مثلًا ما جاء في صُلب الكِتَاب عن مبلغهم من الأنفة والعفة. فقد ذكر المؤلف أن العفة كانت عندهم كل شيء. وضرب لذلك مثلًا ما ثار من الحروب دفاعًا عن المرأة وعِرضها، كأنما اعتبر أن العرب الجاهليين يتكوَّنون فقط من رؤساء القبائل. ثم استشهد للتدليل على ذلك ولذكر الفرق العظيم بين عفة هؤلاء المتقدمين وتهتك المتأخرين بقول عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها

وقارنه بقول أبي نواس:

كان الشباب مطية الجهلِ
ومحسن الضحكات والهزلِ
والباعثي والناس قد رقدوا
حتى أتيت حليلة البعلِ

ولست أدري كيف يقيم المؤلف المقارنة بين عنترة وأبي نواس، أي بين شاعر حماسي غزلي وشاعر متهتك. فقد كان من السهل مقارنة عنترة بغيره من أمثاله الحماسيين أو الغزليين. كما أن في الجاهلية التي منها عنترة جماعة من كبار الشعراء هم مثل الفسوق في أشعارهم. وأقرب ما يحضر لذهن أي إنسان قول امرئ القيس، وهو أقدم من عنترة وأعرق في الجاهلية:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعٌ
فألهيتها عن ذي تمائم محولِ

والبيت الذي بعده أبلغ في التهتك كما هو مشهور.

أو قوله:

سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالًا على حالِ
فأصبحت معشوقًا وأصبح بعلها
عليه القتام كاسف الظن والبالِ

أو قول المنخل اليشكري:

ولقد دخلت على الفتاةِ
الخدر في اليوم المطيرِ
فدفعتها فتدافعتْ
مَشْيَ القطاة إلى الغديرِ

أو بعض أبيات قصيدة النابغة التي فيها:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطَهُ
فتناولته واتَّقَتْنَا باليدِ

أو غير ذلك مما لا يحصره العد. وإنما كان الكلام عن العفة أكثر في أيام الجاهلية؛ لأن انقسام العرب إلى قبائل جعلهم يحتفظون بالأنساب لحفظ العصبية؛ ولذلك ترى مؤرخيهم يردون نسب كل من يترجمونه إلى أصل قبيلته. كما أن المفاخرة بالانتساب إلى جد معين كعدنان أو سواه جعلت العفة عندهم من أمهات الفضائل. لكن اعتبار جماعة أو أمة لشيء أنه فضيلة ليس معناه قمع الطبيعة البشرية.

كذلك أخطأ المؤلف في تقدير عالي حكمتهم. فقوله مثلًا عن أشعار زهير المعروفة:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يُعَمَّرْ فيهرمِ

والأشعار التي بعده. قوله عنها: (لا تقل شيئًا عن أحكام — ولعله يريد حكم — أكابر الفلاسفة) فيه من المغالاة الظاهرة ما يعجب الإنسان له. وإني مع إعجابي بهذه الأشعار لا أري فيها ما يجعلها من نوع الفلسفة.

مثل هذا الخطأ تجده في اعتباراته التمهيدية كما تجده في غيرها. والسبب أن المؤلف فيما يظهر شديد الإعجاب بعرب الجاهلية، فهو لا يرى إلا الوجه الحسن من تاريخهم، أو هو يريد أن يجدهم كما وجدهم غيره من كتابنا «مثال الكمال البشري». أو أنه ربما يسير في الكلام عنهم على قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم».

كيف يكون ذلك من رأي جرجي أفندي زيدان؟ كيف يعتبرهم آلهة لا تتطرق الشهوات الإنسانية إلى نفوسهم، حيث يقول في كلامه عن نساء العرب في الجاهلية: «فاجتماع الرجال والنساء للمحادثة والمذاكرة على هذه الصورة بلا ريبة ولا سوء ظن لم يبلغ إليه الناس إلا في الأمم الراقية وفي أرقى جمعياتهم»؟ تصور ذلك وطبقه على حال العرب البدو الرحل. كم كان هؤلاء الناس ملهَمين كل الفضائل والصفات العالية! كم كانوا عليه من العفة والطهارة! أو لو كان بينهم امرؤ القيس والكثيرون من أمثاله؟ أفلا يضر شيئًا. ألا لا أظن الناس كانوا في زمن من الأزمان من العصمة بالمكان الذي يريد أن يحملنا جماعة الكتاب على تصوره للعرب. بل كانوا جميعًا — العرب وغير العرب — يسعون إلى جهات الخير والشر. وليس الرقيُّ دائمًا تابعًا لما نعتبره نحن في مصر الفضيلة؛ بل أظن كثيرًا من أهم فضائلنا — نحن المصريين — من معطلات الرقي. العرب كغيرهم، أمة عاشت في زمن مخصوص مدفوعة كغيرها من الأمم لإرضاء حاجاتها المادية وغير المادية إما بطرق حسنة وإما بطرق خسيسة. وليس أهون على من يريد الوقوف على ذلك من أن يقرأ أخبارهم كما جاء في كتبهم. والأغاني والأمالي وغيرهما بين أيدينا مثلٌ حيٌّ على ما كان هناك.

أما أن يحسب كاتب أن تمثيل العرب في صورة من الكمال يحمل القُرَّاء على تحري مثلهم — أي أن يكون المؤرخ في الوقت عينه كاتبًا أخلاقيًّا — فذلك وَهْمٌ في تصوره وخطأ وتجنٍّ على التاريخ؛ هو وَهْمٌ لأن المرء إنما يتأثر بالوسط الذي يعيش هو فيه أولًا وقبل كل شيء. فإذا كان ثمت تأثير لمثل هذه الكتابة فهو ثانويٌّ وبسيط، ولا يستحق أن يغير من أجله معنى الحوادث.

المؤرخ مطالب قبل كل شيء بأن يثبت حقيقة الوقائع والأشياء التي يتكلم عنها. فإذا لم يتمكن من إثباتها كانت غير تاريخية بالمعنى العلمي. وسواء كان في إثباتها إظهار لفضيلة أو بيان لرذيلة فليس ذلك ليجعل المؤرخ يغير من حقيقتها شيئًا، وإلا خرج عن أن يكون مؤرخًا.

التاريخ لا يكتب اليوم ليرى الناس صالح أعمال سلفهم فيتبعوه وسيئها فيتركوه كما كان يخبرنا المؤرخون القدماء. فقد أثبتت التجارب أن الناس يسيرون في طريق مرسوم لهم بالحوادث والأشياء المحيطة بهم. وليس يكفي أن يريدوا تغيير هذا الطريق ليتغير. كما أن التجربة أيضًا دلت على أن السارق لا يكفيه أن يسمع أن السرقة عارٌ أو أنها تؤدي إلى السجن ليرجع عنها.

•••

لماذا إذن يُكتَب التاريخ؟ لماذا نكتب آداب العرب أو ندون علومهم؟ لماذا نضيع أعمارنا ونَهَبُ أنفسَنا للبحث عن آثارهم؟ … للسبب الذي من أجله يكتب الإفرنج آداب اليونان أو الرومان! وما هو ذلك السبب؟ … الكثيرون منا وأكثر الذين تصدَّوْا لهذا الموضوع يقولون: إنهم يكتبون أدب العرب حبًّا في العلم والحقيقة، وحتى يعرف أبناء العرب تاريخ أجدادهم ومجد هؤلاء الذين ملأوا الدنيا بفتوحاتهم وبأشعارهم! ثم ما دام الغربيون يكتبون آداب لغتهم وآداب لغات الأمم القديمة المدنية، بل ما دام منهم من يتصدى لآداب اللغات الشرقية، فمن العار أن نبقى — نحن الشرقيين — من غير أن نتحرك بأنفسنا لهذا العمل، بل من غير أن نقضي أعمارنا فيه! من العار أن نترك غيرنا يبحث عن نفائس لغتنا من غير أن نبدي نحن أكبر الهمة في ذلك! من العار …! هذا ما يقوله الواحد منا في نفسه. وخوف العار هو الذي يدفع الأكثرين منا للعمل. فإذا تحركنا وبحثنا عن الحقيقة التي نريد ووجدناها ودفعنا العار بذلك عن أنفسنا لم نعرف ماذا نعمل بها وكيف نستفيد منها. وكأنا لا نعلم أن السعي وراء الحقيقة التي لا ننتفع منها بأكثر من أن نعرفها أمر لا قيمة له. وإذا كان كتاب التاريخ إنما يكتبونه ليوقفونا على أخبار الماضين من غير نظر إلى ما بعد ذلك فما أضيع تعبهم! إنما يكتب العلماء ويبحثون وينقِّبون عن الحقائق الماضية من أجل نفع الحاضر والمستقبل. أي: لتتبين لهم سلسلة حياة أمة من الأمم أو سلسلة حياة الإنسانية فيستطيعون أن يصفوا لها طريقها الممكن اتِّباعه في الحاضر للوصول إلى أكبر قسم من السعادة لأعظم عدد من الناس؛ وليكونوا على علمٍ بما سيكون في المستقبل؛ حتى لا يكون عملهم الحاضر سببًا في سوء يَنَال الأجيال المقبلة.

قضى الإنسان حياته شاغلًا نفسه بالتفكير في مستقبله. وبما أن الأشياء الغامضة هي أكثر ما يلفت الذهن كانت نظرية ما بعد الموت هي الشاغل الأكبر لأهل العصور الأولى. فقدروا لحياتهم في القبور وجعلوا نصب أعينهم مثال الجنة والنار، وأشكال العذاب والثواب لكل واحد من الناس. ولا يزال — ولن يزال — من كبار المفكرين والفلاسفة من يشتغلون بالبحث عن مصير الإنسان. لكن الكثيرين منهم يرون في الحياة غاية الحياة؛ لذلك قام منهم من يوجه أكثر نظره لحاضر الأمم ومستقبلها. وإنما يصلون لذلك بملاحظة الحاضر وإثبات صورته، ثم النظر في التاريخ إلى أصوله. بذلك يمكن تقدير الطريق الذي تسير هذه الأمم فيه — وهذا هو الغرض من الأبحاث التاريخية.

هل يريد كتابنا ذلك حين يكتبون عن أدب العرب؟ هذا هو الذي كنا نريدهم أن يصنعوا. ولكنهم مع أكبر الأسف لم يصنعوه.

جرجي أفندي زيدان كان أحرى الناس على سعة معارفه التاريخية بأن يختطَّ هذه الطريقة ويرمي لهذا الغرض. وأول المطلوب من المؤرخ الذي يرمي لهذا الغرض أن يتحرى في التاريخ الذي يكتب كل دقيقةٍ وجليلة، وأن يفسر الحوادث بالدقة والضبط. وقد رأينا أن صاحب تاريخ آداب العرب لم يقم بذلك على الوجه الأكمل.

بل إن ما وقع فيه من الخطأ من هذا القبيل يتعدَّى المعارف التمهيدية إلى تاريخ أدب العرب، أي إلى موضوع الكتاب ذاته. مثال ذلك أن المؤلف جعل الجاهليين أبعد الناس عن المبالغة في تعبيراتهم، وإنما هم يصفون الطبيعة على ما هي عليه. ومع أني أقتصر على ما جاء في صلب كتابه من الأشعار أجد كثيرًا منها يرد على نظريته هذه بقوة أعتقدها لا تدافع. فإذا كان هو يعتبر رثاء جليلة لكليب زوجها حين قتله جساس أخوها «بعيدًا عن أن يوهم القارئ أن السماء انطبقت على الأرض، وأن الشمس كسفت … إلخ»، فإن في أبيات المهلهل يرثي كليبًا أيضًا.

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها
إن أنت خليتها فيمن يخليها
نعى النعاة كليبًا لي فقلت لهم
مادت بنا الأرض أو مادت رواسيها
ليت السماء على من تحتها وقعت
وحالت الأرض فانجابت بمن فيها

في هذه الأبيات ما يُبِين عن معنًى أقوى من كسوف الشمس، بل أقوى من انطباق السماء على الأرض مع أنها آية في التعبير عما في نفس الشاعر من الحزن والغضب … وكم من المبالغة يجد القارئ في قول عامر بن الطفيل:

وما الأرض إلا قيس عيلان كلها
لهم ساحتاها سهلها وحزونها
وقد نال آفاق السموات مجدنا
لنا الصحو من آفاقها وغيومها

وكم من المبالغة أيضًا في أشعار عنترة الحماسية وفي أوصاف امرئ القيس للخيل. بل أي شاعر عربي لم يصل إلى أسمى درجات المبالغة؟!

يكاد الإنسان حين يرى ذلك كله يقول: إن جرجي أفندي زيدان لم يدخل إلى روح العرب لكي يستطيع أن ينشرها أمام نظره ويفتش عليها ويعرف دقائقها، ويتمكن بذلك من الوقوف على السبب في ترتيب الوقائع والأشعار والأخبار في هذه الأمة بشكل مخصوص. ولكن الإنسان يتردد كيف ينكر عليه ذلك مع ما ألف في تاريخهم ولغتهم وآدابهم وأخبارهم كل ذلك الذي ألف. غير أنَّا نأسف أن نجد كل هذا الذي اعتبرناه خطأً في فهم العرب، كما أنَّا نأسف أيضًا أن نجد ألفاظًا غامضة لا يستطيع الإنسان أن يفهم منها رأي المؤلف عن العرب. فمثلًا قوله على الكهانة: إن الكاهن كان إذا استفسر عن رؤيا «تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب» معناه أن هؤلاء الكهَّان كانوا لا يعتقدون بحقيقة ما يقولون. مع أنَّا نجد مثلًا عن نبوءة جماعة من العرب كورقةَ بْنِ نوفل في كتاب جرجي أفندي نفسه. كما أن أخبار الكهان الواردة في تواريخ العرب تدلُّ على أن هؤلاء الناس كانوا يعتقدون بصحة حرفتهم. فهلَّا كان المؤلف أعطانا الأسباب التي استنتجها من بحثه لتدل على مجرد «تظاهر» هؤلاء الناس.

ولما انتقل المؤلف من الكلام عن الاعتبارات العامة والمظاهر الأدبية للعرب الجاهليين إلى الكلام عن كل شاعر على حدة، جعل يكتفي بإيراد أشياء قليلة عن أخبار هؤلاء الشعراء وحياتهم؛ لذلك لم يكن في كتابه متسع لنقدهم! وهو إنما يخبرنا عن الصفة العامة الظاهرة في شعر كل منهم. فواحدهم وصَّاف للخيل والنوق، والثاني يجمع الحِكَم في أشعاره المتينة، والثالث معروف بحسن الديباجة ومتانة التركيب. وعندنا أن من الواجب تحليل الشاعر أكثر من هذا، وإظهار صفاته بتطويل بعض الشيء. وإلا كان الذي اطلع ولو قليلًا على أشعار العرب وأخبارهم لا يستفيد من قراءة هذه التراجم شيئًا مطلقًا.

أطلنا الكلام عن الجاهلية ونقد كتاب جرجي أفندي زيدان فيما كتبه عنها. والسبب في ذلك أنه هو أيضًا أطال القسم الذي أفرده لها؛ إطالة بحق لأن هذا القسم من أدب العرب هو الأساس لما بعده. والمؤلف أراد أن يوقفنا على حقيقة هذا الأساس. وقد قدمنا رأينا للقارئ، ونظن الآن مناسبًا أن ننتقل لعصر الراشدين.

(٢) عصر الراشدين

كان الجاهليون قوم بدو يسيرون حيث المرعى أو المغنم؛ لذلك لم يكن ببلاد العرب إلا مدن قلائل. وكانت الديانة الغالبة عند جميع العرب يومئذ هي الوثنية. والوثنية بقية دين قديم. والأديان جميعًا كلما قدمت دخلها التمثيل أحيانًا بالكواكب وأخرى بالحيوانات وثالثة بالأصنام إلى غير ذلك من أنواعه الكثيرة. والأمثلة على ذلك متعددة عند القدماء من المصريين واليونان والعرب وعند أمم كثيرة اليوم. وفي فرنسا بلد اسمه (لورد) يحج إليه الكاثوليكيون من كل جانب، ويعتقدون في قبر (سيدة لورد) قدرة إلهية كبيرة تشفي المريض، وتردُّ إلى المجنون صوابه.

هذا التمثيل ذهب به العرب بعيدًا فانتهى إلى أن صارت أصنامهم آلهة، وأن صاروا يعتقدون فيها القوة والجبروت. لكن مثل هذا التمثيل عندهم إذا جاز على العامة فإن كثيرين ممن يفكرون يرون ما فيه من العته. على ذلك كان بعض العرب ممن تقدم الإسلام كأمية بن أبي الصلت وغيره ينصرفون عن الدين العام ويفكرون لأنفسهم.

لكن هؤلاء الناس كانوا يقتصرون على اختطاط طريق حياتهم هم، ولا يقومون بالدعوة إلى معتقداتهم. وسبب ذلك في الغالب شيء من عدم الاهتمام بالمجموع أو من عدم الثقة المطلقة بالعقيدة التي وصلوا إليها.

تكونت الفكرة عند العرب بفساد المعتقدات السائدة قليلًا قليلًا، وتأثرت آدابهم بهذا التغيير. فصرت ترى في القسم الأخير من عصر الجاهلية جماعة غير قليلين من الشعراء والخطباء يبدون ما في نفوسهم من الشك في عبادة الأصنام. كما أن كثيرًا من العادات السائدة يومئذ كانت من الوحشية بحيث تستفزُّ النفس. كوأد البنات مثلًا، وكأخلاق شتَّى فشت بين العرب مع أنها تنافي الفضيلة أو تنافي طبيعة بلادهم.

وسط هذه الحال من الأخلاق والعادات العامة، وبين هاته الشكوك التي أبداها جماعة المتكلمين، وجوابًا لانتظار الناس لمصلِح يهديهم ولنبي قد حان حينه وأدرك (العرب) أوانه … بين ذلك كله، ووسط هذه الأمة السامية الأصل قام النبي داعيًا لعقيدة جديدة ومصلحًا كبيرًا.

كان من أثر قيام النبي بالدعوة وإجابة الناس إياه أن اجتمعت كلمة القبائل، ثم جعلوا يسيرون في الأرض ينشرون الدين ويغزون ويفتحون البلاد. وكان من أثر ذلك على الأدب أن راجت سوق الخطابة، وسبقت الشعر الذي كان الكل إلا قليلًا في آداب العرب الجاهليين. والسبب في أن سبقت الخطابة الشعر هو كما يقول جرجي أفندي زيدان: «حاجة المسلمين إليها في الفتوح والغزوات والعرب لا يزالون على بداوتهم تتأثر نفوسهم من التصورات الشعرية، سواء سبكت في قالب الخطابة أو في الشعر … فكما كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر في تقييد مآثرهم وتفخيم شأنهم، والتهويل على عدوهم، والتهيب من فرسانهم، أصبح الخطيب في الإسلام مقدَّمًا على الشاعر لفرط حاجتهم إلى الخطابة في استنهاض الهمم، وجمع الأحزاب، وإرهاب الأعداء.» (ص١٩٣ ج١).

وهناك لذلك سبب آخر مرجعه الفرق بين الحياتين: حياة الارتحال التي كان عليها الجاهليون، وحياة الغزو الذي شغل به المسلمون. فإن في حياة البدوي الساري على ناقته تهزه بلطف فوق ظهرها ويبعث النسيم والفضاء بخيالاته إلى أقصى غايات التصور، وتعرض عليه صور الأشياء وذكرى من تركهم وهو يهتز في سكينة فوق مركبه ما يدفعه للتغني والحُداء والتوقيع، أو بكلمة أخرى ما يدفعه لقول الشعر يذكر فيه كل ما مر بخياله. في حين أن حياة الحرب حين تقف الجموع متأهبة للقتال، ويتوقع الناس الموت لحظة والنصر أخرى، وتتدافع في نفوسهم الإحساسات، أو حين يكونون في مأزق حرج يريدون الخروج منه. هذه الحياة تخلق من طبعها رئيسًا يصيح في مرؤسيه بالأمر أحيانًا وبالاستفزاز أخرى، أي إنها تخلق الخطابة.

لا شك أيضًا في أن ورود القرآن بالنثر وقوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. لا شك في أن ذلك ليس من شأنه أن يحرض على قول الشعر. والناس في تلك الفترة الأولى من الإسلام كانوا يحرصون كلَّ الحرص على اتِّباع الكتاب شأن كل أمة عند ظهور مذهب جديد. كما أن الخلفاء كانوا يصرفونهم عن قول الشعر.

هذه النقطة كلها استظهرها جرجي أفندي زيدان في كتابه، واستظهرها في بعض الأحيان بالدقة وضرب الأمثال. ثم ذكر السبب الذي من أجله لم يترجم شعراء هذا العصر في هذا الباب من الكتاب، وذلك أنه ترجمهم (مع شعراء الجاهلية؛ لأنهم نشأوا وتطبَّعوا بطباع أهلها).

لكنه لم يترجم الخطباء، ولم يذكر السبب في سكوته على ذلك؛ إذ كل ما ذكره لنا عن علي بن أبي طالب — وهو بلا شك من الأدباء الخطباء ذوي القيمة — كلمة بسيطة على الهامش إن صح هذا التعبير، حين تكلم عن الخطابة والخطباء، هي أن خطبه تعد بالمئات، وأنها مجموعة في كتاب (نهج البلاغة). لكنه لم يذكر لنا شيئًا عن الصفة المميزة للخطيب في خطبه ولا عن الروح السارية فيها.

وأهم من ذلك سكوته المطلق عن القرآن والحديث كأنهما لا يدخلان في تاريخ أدب اللغة العربية، بينما يدخل الطب والكهانة. وأحسب أن لنا من الحق أن نسأل عن سبب هذا السكوت. لم لم يذكر المؤلف شيئًا عن التاريخ الأدبي للقرآن وصلته بالأدب الجاهلي والفرق بينهما؟ القرآن كتاب كريم ذو شأن عظيم، لا في أمر الدين الإسلامي فقط، بل كذلك في أمر آداب الأمة العربية وسياستها وكل جهات حياتها؛ لذلك كنا نود أن يوقفنا كاتب (تاريخ آداب اللغة العربية) على الأصول الأدبية التي استمد منها هذا الكتاب وجوده.

ولقد وضعت نفسي موضع المؤلف، وسألتها عن سبب هذا السكوت فلم أجد جوابًا صريحًا أقتنع به … وأخيرًا قلت: لعله رأى أن في كلامه عن القرآن والحديث وأصولهما وقيمتهما الأدبية ما يمسُّ بعض العقائد. فليس مما يتصور أن المؤلف لم يجد في ذلك ما يستحق الكلام عنه. أم لعله اعتبر هذه الفترة القصيرة التي جاء فيها النبي والخلفاء الراشدون فترة عرضية في حياة الأمة العربية، ثم كان ما أشار إليه من رجوع العرب في عهد الأمويين إلى الروح الجاهلية. يجعل النظر إلى هذه الفترة كالنظر إلى حادثة طارئة في حياة أمة من الأمم. وليس من الضروري عند تدوين التاريخ التطويل في ذكر الحوادث الطارئة؟ أم ماذا؟

أما إذا كان السبب مراعاة العقائد العامة، فإن ذكر تاريخ القرآن والحديث لا يمسُّ هذه العقائد في شيء. ذلك بأن كل مسلم يعلَم أن القرآن جاء بلغة العرب مراعيًا في نزوله عوائد العرب وعقائدهم السابقة. فما جاء في تحريم الخمر أو تحريم الربا أو غير ذلك من الآيات، إنما جاء متعاقبًا ولم ينزل مرة واحدة؛ لكيلا يتحرج به الناس، وهو دين يسر لا دين عسر؛ لذلك كان ما يريده المسلم المحب لدينه اليوم أن يقف على مبلغ التغيير الذي أحدثه الكتاب في العقائد والعوائد التي كانت موجودة قبله. وبما أن المقام مقام الكلام عن الأدب فكل مسلم لا شك يريد أن يعرف الصلة الأدبية أو الفرق الأدبي بين القرآن وما قبله.

قدمنا ما ذكره جرجي أفندي زيدان عمن حرَّموا على أنفسهم عبادة الأوثان وشرب الخمر ونحو ذلك قبل أن يجيء به الإسلام. ونعلم أنهم قالوا في ذلك أشعارًا وخطبًا. فهلَّا كان من واجب الكتاب في أدب اللغة أن يبينوا لنا الصلة بين هذه الأشعار وبين آيات القرآن التي نزلت في هذه المعاني حتى نقف على حقيقة سلسلة الحياة النفسية التي هي أساس الحياة الأدبية عند العرب. كذلك كنا نريد أن نعرف الصلة بين طريقة رواية الأخبار والحوادث عند العرب وروايتها في القرآن. وكنا نريد أن نعرف إن كانت سورة يوسف التي هي آية الإبداع في القصص أول ما جاء من نوعها أو أنها سبقت بغيرها من صورتها. كنا نريد أن نحيط علمًا بهذه الأشياء التي أهملها جرجي أفندي زيدان على أهميتها، وعلى أنها من لب تاريخ الأدب وصلبه. وهي في الوقت عينه لا تمس العقائد العامة بشيء.

أما إن كان المؤلف قد ترك هذا القسم لأنه اعتبر هذه الفترة حادثة استثنائية في تاريخ الأمة العربية، وأن العرب رجعوا مع الإسلام والأمويين إلى عاداتهم وأخلاقهم وآدابهم الأولى إلا بعض ما حرم صريحًا، فإن ذلك يكون من المغالاة والمبالغة الزائدة التي يرفضها جرجي أفندي نفسه حيث يقول: إن الإسلام أحدث انقلابًا سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا، وإنه أدخل إلى آداب العرب تغييرات بنسخ بعض ما كان، واستحداث سواه على ما يوافق العوائد والعقائد والأخلاق التي جاء بها.

لا شك أن تكوين الأمم الذي يتم على الأجيال والقرون لا يمكن في سنين معدودة قلبه رأسًا على عقب. ولا شك أن الإسلام لم يغير العرب مرة واحدة عما كانوا عليه بما نسخ من المعتقدات والعوائد، ولكنه من غير شك أيضًا أحدث هزة عظيمة في أعصاب هذه الأمة كانت سبب ما تلاه من التغيير؛ لذلك كان من الواجب على من يريدون درس العرب أيام الأمويين والعباسيين أن يرجع إلى التغييرات التي أحدثها الإسلام؛ ليقف على أصل مهم من أصول تاريخ هؤلاء الأمويين والعباسيين.

ولذلك نرانا منقادين بهذا التعليل البسيط لنرى النقص في «تاريخ آداب اللغة العربية»، فيما يتعلق بتاريخ الأدب في عصر النبي والخلفاء الراشدين.

بل كنا نود أن يفرد المؤلف كلمة عن النبي وحياته من جهتها الأدبية والمصادر التي استقى منها، وكيف وصل ليكون أسلوبه كما كان. ولئن كان هذا الباب قد طُرق من قبل من الجهات السياسية والاجتماعية والأخلاقية بشكل ما، فإن جهته الأدبية لا تزال بكرًا. ولهذا كنا ننتظر من جرجي أفندي زيدان أن يضع لنا في تاريخ آداب اللغة العربية كلمة تاريخية صحيحة عن أظهر رجل في الحياة العربية من كل جهاتها.

هذا هو النقص المهم في هذا الباب من أبواب الكتاب، وأخشى أن يكون نقصًا جوهريًّا. وحبذا لو تداركه المؤلف إذا طبع كتابه طبعة ثانية، فيكون قد سد فراغًا تاريخيًّا ذا قيمة.

ومهما يكن غرض جرجي أفندي زيدان من كتبه نشر معرفة التاريخ لا التدقيق في نقطة، ومهما يكن هو ينظر للأشياء دائمًا من جانب الفكرة العامة، فإنا نعجب كيف فاته أن يكتب هذه الكلمة التي ننبه إليها.

سوى ذلك فإنه لم يذكر لنا عن حقيقة روح هذا العصر شيئًا أكثر من أن العرب اشتغلوا بالفتوحات، وأن القرآن كان دليلهم في الفكر والكتابة، مع أن الفتن الداخلية كانت يومئذ لا تُحصى، وكان لها قادة من الخطباء والشعراء والكُتَّاب. ورِدَّة العرب بعد موت النبي وخروجهم على عثمان وقتله، وانقسام عليٍّ ومعاوية على الأمر، كل ذلك يمس الأدب العربي عن قرب، ويمسه في مواضع كثيرة.

على أنا نرجع فنقول: إن الكمال محال. كما أنه ربما كانت في نفس المؤلف فكرة لم نقف عليها يفسِّر بها هذا الذي نعده نقصًا في كتابه. وإنما دعانا للتدقيق في هذا الموضع من مواقع النقد اعتدادنا بهذا القسم من آداب العرب وتقديرنا لأهميته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤