خالد أو سبيل اليقين

… ولم يكن في الواحة إلا خالد وأهله، لجأ إليها بعد أن سلخ من عمره سبعين عامًا قضى شطرًا منها في أعمال الحكومة، وشطرًا في المتاجر. أما سنو شبابه فقضاها في القصف والغزل. وكان عيشه في هذه الواحة مثال التقشف والزهد، وكان المحيطون به دائمي الإحساس بشيء من الملال، ولولا كتبه ومكتبته لوقع هو الآخر فيما وقعوا فيه، لكنه اعتزلهم إلا عند الحاجة، وعكف على مكتب له من الخشب الأبيض قديم، يغطيه مشمع أخضر عليه بقع شتى من الحبر، فلا يتركه إلا ليسير تحت أشجار النخيل المنتشرة في الواحة يقرأ آونة ويحدق بالسماء الصافية أخرى.

وكان همه الأكبر من قراءته أن يصل إلى عزاء عن الحياة بعد إذ قضى الحياة ضاحكًا من الحياة وما فيها، هازئًا بالسرور والألم، ساخرًا من الأمل واليأس، معظمًا للرجل محتقرًا للجماعة. وطالما ناوأته الهموم كأنما تريده على التكفير عن ذنب فرط منه لا يعرف ما هو … ثم تراجعه نفسه القديمة القوية الشابة، فيضحك من نفسه العجوز الخائفة من الموت، المحبة للحياة، الطامعة في العيش المهتمَّة له وقد كانت تعتبره سخرية وهزوًا.

فإذا انقضى النهار ولم يدرك غرضه ولم يتعزَّ عن الحياة تسخَّط واستشاط، ودخل إلى قومه وكله الغيظ. فإذا دنا منه أحد علا غضبُه وتطاير في كل صوب شرره، وأسمع الفضاء المحيط به أنات ألم تقضُّ مضجع من حوله.

وكثيرًا ما كان يقول لهم: «غدًا أموت ولم أكسب من حياتي شيئًا، وتدفنونني وكلكم جذل أن سيرجع إلى حريته، فيترك وحدة الصحراء إلى بهجة المدن، وأبقى أنا هنا وحيدًا تحيط بروحي المنفردة أرواح المساء الصامتة، فأكون بينها أشد صمتًا ووجلًا. وتذهبون أنتم إلى القاهرة وإلى الإسكندرية ترقصون وتطربون، وإذا جنَّ الليل تهيمون. ألا ما أضيع حياتي وما أشد كفرانكم.» فتسكن ثائرته عائشة ابنته ببعض كلمات رقاق ترسل بها كأنها نغمات الكمنجا تسلِّي العجوز عن بعض همه، فيلمس بيده الناشفة على يد ابنته الشابة اللينة، ويستزيدها ولا هَمَّ له إلا أن يسمع رنين صوتها على موجات الهواء. فإذا تخدرت أعصابه بهذه النغمات نادى: «يا باترا» فجاءت الخادمة وهي أرشق ما تكون قوامًا وأحلى ما تكون نظرة، فوقفت أمامه وبقي هو يحدِّق بها ويستدنيها منه … ثم يأخذه بعد ذلك دوار وذهول يستيقظ منه جزعًا مناديًا ربه، مستغفرًا عما سلف، مستعيذًا بالآلهة، مستمدًّا عونهم. ثم يقوم إلى ظل نخلة كبيرة حيث يبقى في شبه الذهول ساعة أو ساعتين.

وكانت عائشة نعم السلوان له في منفاه. وإن الإنسان ليدرك عظيم تضحيتها لأبيها حين يرى إشراق وجهها الطفل الجميل بنور نظراتها المملوءة شبابًا وعطفًا، وحين ينمُّ قميصها الأبيض الرقيق عن جسمها الخصب وقوامها الممشوق. ويزداد شعورًا بعظيم التضحية إذا جلس إليها فسحره حلو حديثها عن نفسه ولعب بفؤاده وعقله. وكم تركت وراءها من ذائب حسرة يوم أعلنت عزمها على اتباع أبيها وهجر المدن ومن فيها. بل لقد تبعها بعض عبادها حتى صدَّتْهم عنها بأن صارحتهم أنها ذاهبة إلى غير عودة، مما بعث إلى نفوسهم اليقين أنهم لن يصلوا إلى يدها. فلما نزلت الواحة ورتَّبت دارهم فيها اتخذت لباسًا للواحة الناسكة أقمصتها البيضاء، فبدت فيها ملكًا أرسلته السماء؛ ليبعث الحياة الناضرة إلى جدب الصحراء.

أما «باترا» فكانت فتاة رومية الأصل نشأت في بيت خالد، وماتت أمها في خدمته، فدخل إلى قلبها من حب خالد ومن حب عائشة ما هوَّن على نفسها الانقطاع عن الناس لهما. وكانت في الحادية والعشرين من عمرها لدنة القد، بارزة النهد، عالية العنق، يونانية الأنف. تنم عيناها الزرقاوان عن رقة وحنان يسبيان. وكان يعينها ويساعد عائشة خادم قديم يبلغ الخمسين؛ ولقد تبعهم لأنه كان موقنًا أن لن يجد أسيادًا أقل منهم كلفة، كما أنه كان من العجز والكسل على أعظم جانب.

وهؤلاء هم سكان الواحة. ولقد كانوا يحسون فيها بمضاضة العزلة، لولا تشبث خالد بالبقاء بها حتى يموت. ولو أنهم كانوا أكثر عددًا لتوزيع الهم عليهم فخف حمله. لكنهم خضعوا أخيرًا للقضاء، وخلقوا لأنفسهم عزاءً من لا عزاء، وألهمهم حب الحياة جمال الصحراء، أما خالد فظل دائبًا على التفكير يريد قبل الموت أن يطمئنَّ إلى ما هو مصيب بعده.

ولم يكن يفاتح في أمره هذا أحدًا إلا ما كانت تتبيَّنه عائشة خلال حديثه من شديد لهفه بالإيمان وشوقه إليه. إذ ذاك كانت تجاهد للتخفيف من لوعته ولتقوية ضعفه. لكن مركز الشك عسير يحفه أغلب الأمر الخوف والهلع. والفتاة لا تفهم هذا ولا تستطيع أن تخاف موتًا تعجز صورته عن أن تتسرب إلى خيالها الشاب. وما دام خيال الموت بعيدًا فالناس لا يرتاعون لما بعد الموت، ولا ينصرفون لشيء انصرافهم لكسب الحاضر وما فيه. وربما أثارت خطوب الحوادث في نفوسهم بعض الضعف أحيانًا، ثم سرعان ما ينسون ضعفهم، وسرعان ما تزول آثاره.

وكان من أكبرهم عائشة يومئذ أن تصل لمعرفة دخيلة قلب أبيها. وكم جاهدت تريد أن تقف على الكتب التي كانت تراه دائبًا على قراءتها فيحول دون ذلك احتفاظه بها ووضعه إياها في أحرز موضع. وكانت تظن أنها إن وقفت عليها عرفت مسرح أفكاره وأسباب ألمه، فاستطاعت أن تخفف منها وأن تهون على نفسه أمرها.

وأخذها العجب؛ أَيُّ سر تحوي هذه الكتب يستطيع أن يفعل هذا الفعل في نفس العجوز الذي كان دائمًا صديق السرور نصير الفرح؟ أيُّ سُمٍّ انطبع على صحفها يطير إلى قلبه ويهزه هذا الهز الشنيع. لا بد أن يكون فيها من دواعي القلق شيء جسيم يكدِّر صفو راحته إلى الحد الذي ترى!

ودفعها عجبها للبحث عنها والحرص على معرفة ما فيها. فرأت أن تستعين في ذلك بباترا التي كانت تلزم خالدًا أكثر أوقات يقظته، وتجد من عطفه ما يسمح لها بالتدلُّل عليه وطلب كل ما تريد من غير أن تخشى رفضًا. وعجيب أن هذا المعذَّبَ النفس، التائه اللُّبِّ، الباحث بكل قواه عما وراء الموت، بقي متعلقًا بأشياء من اللهو الذي كان فيه من قبل، وبقي لذلك تعلوه القشعريرة حين تلامس يد باترا الناعمة يده الناشفة، ويحتل وجهه الطرب حين يملس على شعرها الذهبي الأملس. وكأنما كان في الوقت ذاته عظيم الخوف من الموت وما بعده، دائم الحيرة فيما بعد الموت. فهو يريد أن يؤمن حتى يكسب ما بعد الحياة، ويريد أن لا يفوته شيء مما في الحياة مخافة أن تكون الحياة آخر متاعه.

ولم تكن باترا تضنُّ على العجوز بعطفها حين تراه في حاجة إليه، كما كانت تزيد في الدل والتمنع كلما رأت الشباب راجَعَه وملكه. وبين دل باترا وجمالها الفتَّان وتحت أثر حديث عائشة العذب الساحر من ناحية، وبين ما في كتبه الداعية إلى الزهد المنادية بدناوة الدنيا وباطل زخرفها من الناحية الأخرى، كان الرجل في أعظم الحيرة والوجل.

استعانت عائشة بباترا فأجابت هذه طلبتها وذهبت إلى خالد، فألفته جالسًا إلى ظل نخلة يحيط بها الرمل، قد أرسل إليه ريح المساء رطوبة تزيد لذة الجلوس فوقه، مقفلًا كتابه محدِّقًا بالفضاء الهائل أمامه. ويطبق جفونه أحيانًا كأنما هو في حلم بعيد عميق. فوقفت إلى جانبه من غير أن تبدي حركة تنبهه بها. وظلت محدقة به وظل محدقًا بالفضاء زمنًا، ثم حانت منه التفاتة فرآها فطوقت ثغره ابتسامة خفيفة وقال: هأنتِذي من جديد يا باترا. هأنتِذي يا ملكة الأرض. أين كنت كل هذا الزمن يا عزيزتي؟ لم تركتِني هكذا منفردًا أتطلب ملكًا في الفضاء، فيخيل إليَّ أنه مملوء بالأرواح والشياطين؟ أنت وحدك الملك وأنت إله هذا المكان.

وفيما كان يتكلم جاهد حتى قام بأسرع ما تمكنه قواه الذاهبة، ووقف يملس بيده على شعرها المرسل يتلاعب به الهواء. أما هي فوقفت في قميصها الأبيض لا تُبدي حركة ولا تشير بطرف كأنها تمثال مصمت بعثت به السماء؛ ليزين قطوب الواحة الحزينة. فلما رآها كذلك غيَّر من حديثه وجعل يلاطفها ويسألها عما أصابها: ما لك يا باترا؟ ماذا يحزنك؟ … لم لا تجيبين؟ … ما لكِ يا عزيزتي؟ … خبِّريني.

لم تجب باترا ولم تتحرك ولم يبد عليها من التغير إلا احمرار وجنتيها ودمعتان جالتا بعينيها ورعشة سريعة نمت عن تأثرها لحال خالد. فلما أعيته الحيلة صاح: حدثيني وإلا فاهجريني.

قال هذا وخر إلى الأرض صعقًا كأنه بنيان تَدَاعَى فقطعت هي صمتها بالبكاء. ثم انهدَّت إلى الأرض ووضعت رأسها على ركبتها وجعلت تعول كأنها الطفل. فرجع هو يناجيها ويتودد إليها. وبعد لَأْيٍ أجابت: إنما أتيت إليك طمعًا في أن أنال منك الإذن بمغادرتك. لم يبق في قوس صبري منزع. إن ما أراك عليه من كثرة الفكر وسوء الحال يجعلني أشعر في أعماق قلبي بألم لا أطيق احتماله. وإذا لم يكن في عملي هذا ما يجب عليَّ من الاعتراف بجميلك، فقد أبديت لك عذري عنه فسامحني.

كاد الرجل يجن لما سمع، وفي مآقيه الفانية ترقرقرت دمعة انحدرت على خده، ونَمَّ كل وجهه عن ألم عميق.

– وكذلك تهجرينني يا باترا بعد إذ ربيتك وأحببتك حب الأب لابنته؟ … ما أتعسني! هل هذا أجري عما سلف؟! كنتِ أمام عيني ملكة الوجود وملكة حياتي، وكنت أبدًا أحبك وأعزك. أفيكون هذا جزائي منك؟ إن كنت قد صممت على الرحيل فأرجوك الانتظار يومًا أو يومين علِّي أقضي نحبي أسًى وأرفع عنك وزر الكفر بالنعمة.

قالت الفتاة: ما إنكارًا لجميلك يا سيدي أريد أن أهجرك. لكن نفسي تتألم لأقل ما يصيبك. وقد رأيتك دائم الحزن، مكبًّا عليه، مسلِّمًا نفسك له، أضعاف ما أسلمتها من قبل للمسرة. فكأنك تريد أن تجمع في أقصر وقت أكبر حزن لتكون خاليَ الدين من هموم العالم وملذاته. وحزن كهذا لا طاقة لفتاة مثلي باحتمال مرآه.

قال خالد: وهل أتيت هذه الساعة لغير شيء إلا أن تخبريني أنكِ مفارقتنا؟ أحسب أن ثمت سببًا آخر.

– نعم. وذلك أني أريد أن تكون سعيدًا لأقيم معك سعيدة. وأي نفس لا تحب السعادة؟ وأحسب أن في هذه الكتب التي عندك وتخفيها عنا سرًّا مكنونًا هو السُّمُّ الذي اندسَّ إلى حياتك فأفسدها عليك وعلينا؛ لهذا أريد أن أصل إليها لأطلع سيدتي عائشة عليها.

– ما أبلغ خطأكم. هذه كتب لا تنفعكم ولا تضرُّني. هي ككل الكتب نقرأ ما فيها قَطْعًا للوقت واستعانة على الملال. ولو علمت أنكم تجدون فيها لذة لأعطيتكم إياها. لكنها تزيدكم ملالًا وضجرًا. وتجعلكم لحياتنا الحاضرة أشد بغضًا.

هنا دخلت عائشة وقد سمعت طرف الحديث وعرفت أن باترا قد وصلت للب ما اتفقتا عليه، فرأت أن تشاركها وتتعاون وإياها على انتزاع هذا السلاح الخطر من يد أبيها المسكين. وما كادت تدخل حتى ارتمت إلى أقدامه قائلة: رحمة بنا يا أبت وأسلمنا هذه الكتب! وما دمت تراها لا تنفعنا ولا تضرك فذرنا نشترك معك فيها علَّنا نجد منها نحن أيضًا بعض العزاء عن الوقت وطوله. ورب فتاتين مثل باترا ومثلي تستطيعان بعد ذلك إيصال المسرة إلى نفسك. فاسمح ولك منا أجزل الشكر.

– إذا كنتما تلحَّان إلى هذا الحد فإني مطلعكما عليها جميعًا. غير أني لا أرى ما دخل هذه الكتب في سعادتي وفي شقائي. ستجدانها جميعًا كتبًا قديمة جادت بها خيالات المتكلِّمين وأبحاث المفكرين في الحياة المستقبلة.

كان الوقت قد أمسى وهبطت كسف الليل تغطي الصحراء وتشتمل الواحة الصغيرة في رداء الظلمة. ففضل خالد أن يقوموا إلى داخل الدار اتقاء طقس الليل وسوء أثره على صحته.

وساروا يتوسط العجوز الفتاتين وهما في اللباس الأبيض ملكان يسريان يحملان على أجنحة من الخيال والوهم هذا الخالد الفاني يريدان نقله من سعير الشك إلى جنة اليقين والشباب. ووجد هو في جوارهما ذكرًا حلوًا، وسرى إليه من أجسامهما الشابة تيارٌ أنساه شعوره البيضاء وتجاعيد جبينه، وأنساه الكتب والمتكلِّمين واللاهوت والناسوت … وبعد لحظة صامتة قضاها ذاهبًا في أحلامه قال في بطء وسكون: ما أحلى هواء هذه الساعة. إنه ليبعث للنفس السرور ويشرح الصدر الحزين. إنه شفاء لكل دواعي الشجن. اقتربي مني يا باترا وضعي يدك في يدي. وأنت كذلك يا عائشة. ادْنُوَا مني وحدِّثاني. ابعثا بنغمات أصواتكما العذبة على أوتار هذا الهواء الرقيق ما يرسل إلى قلبي العجوز بعض ذكرى الشباب الذاهب. ألا تريان في هذا السكون الصامت المحيط بنا، وفي هذه الرمال الفسيحة الممتدة حولنا، وفي عزلتنا الهادئة المنقطعة ما يؤسِّي قلبي الكليم أدماه الناس بلؤمهم ونفاقهم. ألا ما أحوجني للوحدة والسكون وللطمأنينة والراحة. تكلَّما يا فتاتَيَّ.

وساد بعد كلام خالد صمت ظل زمنًا، ثم قالت عائشة: أتذكر يا أبت موت أمي. ما كان أرقَّها وأحناها.

– نعم عائشة أذكره. ولعله بعض السبب في هجرتي المدن والناس. ألا إن نعمة النسيان لأعظم نعمة. لو بقي قلبي فيما كان فيه من همٍّ يوم فارقتني ومد لي مع ذلك في الحياة إلى اليوم لما رأيتما لعيني دمعة ترقأ، ولظل قلبي دائم الخفقان حتى يصيبه الوقوف الأخير. لكن سير الوقت يأسو الألم وتقادُم العهد يبرد اللوعة. هما مرهم الجرح وطبه. هما دواء وشفاء. يقذفان بنا إلى المستقبل ويحجبان عن عيوننا الماضي. وفي هذه اللحظة الذاهبة الباقية التي نسميها الحاضر يتركان لنا الذكرى عزاءً وتَعِلَّةً. نعم أذكر موتها يا عائشة. وموتها هو الذي أخرجني من نعمتي وسعادتي وجعلني أهيم بما بعد الموت. ولو أنها صبرت لنموت معًا لبقيت فيما كنت فيه من قبل من سعادة وعماية … ولكنها ماتت وتركتْني فريسة للشك واليأس. وهأنذا اليوم أتقلَّب على أشواكهما وكلي الأمل في أن يأتيني اليقين. ولعلي أجد فيه ما يردها إليَّ بعد موتي لنستعيد من جديد ذاهب سعادتنا.

بلغوا الدار ودخل العجوز إلى مخدعه وجلس على سريره. وكأن هواء المساء وجهد الحديث قد أشعراه بالحاجة إلى الراحة والسكون، أو هي ذكرى زوجته في العالم الآخر قد أشعرته الحاجة إلى الوحدة. فأهدى الفتاتين التحية وطلب إليهما أن يتركاه، ونادى — كعادته — بالخادم حمزة ليكون على مقربة منه الليل كله. فلما كان الصباح ذهب حمزة فأيقظ سيدته عائشة وقال لها: لقد قضى سيدي ليلة مملوءة بالأحلام. وكثيرًا ما سمعته في أحلامه يذكر اسم سيدتي المرحومة أمك. ولما تبدَّت نجمة الصبح من خلال النافذة انقطعت أحلامه، وبقي ساعة مستغرقًا في نوم عميق. ثم هزت جسمه رعشة فتح معها عينيه ونادى باسمك. وبعد فترة كرَّر النداء. فرأيت أن أدعوك إليه.

قامت عائشة من مضجعها وبها أثر الكَرَى، وليس عليها سوى قميص النوم، فذهبت إلى غرفة أبيها فإذا به في مرقده وعيناه مطبقتان.

فلما كانت إلى جانبه أمسكت بيده ففتح عينيه وحدَّق بها ثم بالنافذة ثم قال: عِمِي صباحًا يا عائشة.

– نعمت يا أبت وسعدت. كيف قضيت ليلتك؟

– قضيتها على ما أحب. قضيتها مع الخيالات الذاهبة وكأنها تناديني إليها. وكم مر بي طيف أمك، وكلما أردت أن أمسك بها انفلتت من يدي ووقفت بعيدًا ثم قالت: «تعال إلينا فدارنا أحسن من داركم.» ولكأنني أحس في نفسي شوقًا للحاق بها في عالم لم يبقَ عندي بعد هذه الليلة خيال شك في وجوده … وأين باترا؟

– إنها لا تزال نائمة مهدودة بعد إذ أضناها بالأمس همك.

– ألا تفتحين هذه النافذة لعل نسيم الصباح يبعث لنا ما ينعش الروح ويجدد القوة الذاهبة.

– أخشى أن يكون النسيم باردًا فلا يكون أثره عليك على ما تحب …

– ذريني من أثره ومما أحب وما لا أحب. لي بقية ضئيلة في هذه الحياة. أفلا أمتع نفسي منها ولو بنسيم الصباح. افتحي. افتحي.

فتحت عائشة النافذة ووقفت لحظة تحدِّق في الخارج بالنخيل وبالعشب وبرمال الصحراء بعدهما. وتموَّج النسيم هادئًا يدخل الغرفة وينعش جسمها، ويبعث إلى وجناتها وردها. وأرسل قرص الشمس — وهو لا يزال عند الأفق — أشعته على قميصها ألصقه النسيم بها فأظهر خطوط جسمها. وأنعش النور والنسيم خالدًا فجلس وحدَّق بابنته معجبًا بتمثال الشباب أمامه. ولفظ اسمها بصوت خافت فتلفتت متمهلة، ونظرت إليه بعيونها الواسعة الدعجاء. فلمَّا ملأ العجوز منها عينه التي لا تشبع من النظر لكل جميل قال: ألا لا حياة بعد ذهاب الشباب.

– وكيف تجد النسيم يا والدي؟

لم يجب العجوز، فذهبت ابنته إليه وجلست إلى جانبه، وجعلت تجاذبه الحديث. وفيما هما كذلك دخلت باترا وعليها قميص لونه لون السماء وعيونها الزرقاء الطفلة وثغرها الباسم عن لؤلؤ أسنانها وخدودها المتوردة وجبينها الوضاح وكل وجودها ينادي: لنرقص جذلًا بمطلع النهار والنور.

وجلس الشيخ والفتاتان زمنًا كان فيه مطمئنَّ النفس هادئًا. لكنه كان مع ذلك مثقل الرأس لا يبرح النوم يساوره، كأنما قضى ليله في نصب ولغوب. فلما رأت عائشة ذلك منه استأذنته، وانسحبت وتبعتها باترا، وعاد خالد إلى مضجعه، وما لبث أن أطبق الكرى أجفانه من جديد.

وذهبت الفتاتان إلى بعض أزهار غرسها حمزة فجمعتا منها باقة نسَّقَتَاها. فلما انقضى ضحى النهار رجعتا إلى الدار جذلتين، ثم دلفتا إلى مخدع الشيخ فإذا هو قد استوى على سريره واتخذ من وسادته مُتَّكَأً، وتلقاهما بابتسامة مطمئنة. فلما قدَّمَتَا له باقة الزهر قال: أعجز عن شكركما على ما صنعتما. لقد أبدعتما طبًّا لشيخ أجهده الزمان. والآن أبسم معكما ومع هذا النرجس الضاحك والورد البهيج. ألا ما أحلى الزهر يبعث النسيم شذاه فيعطر ما حوله من الأرجاء. وإن طيب الزهر ليضاعف في النفس الحياة ويهزُّ بالسرور القلب والفؤاد.

قالت عائشة: لعل ما نلته من سنة قد عوض عليك أرق ليلك يا أبي.

قال خالد: ما أرقت يا ابنتي طول ليلي. وهل يأرق من يصحبه أحبة أهل شبابه؟ على أني كنت بهذه السنة أسعد حظًّا. والآن فإليك مفتاح صندوق الكتب. اصنعي بها ما شئت. لم يبقَ لي بها من حاجة. مثل الذين يبتغون الإيمان طي الكتب كالذين يبتغون السعادة عند الناس. إيماننا كسعادتنا في أنفسنا. هما في هذا الماضي الذي يزعمون أنه لن يعود وهو عائد لا محالة. إن الذين يموتون قبلنا ينتظروننا. ولقد جلست طوال هذه السنة إلى أمك وإلى أم باترا. ما أحلاهما في ثياب الآخرة. خلع عليهما شباب ذلك العالم المنير جمالًا ليس يعدله جمال. وهل في الآخرة غير الشباب وجماله؟ وهل يفنى الشباب على هذه الأرض إلا ليتجدد هناك. هذا ما رأيته معهما رَأْيَ العين. فأما هذه الكتب وما فيها فأوهام من لا يعرف من الحقيقة شيئًا.

قال العجوز هذا القول ثم أضاء وجهه نور لألاء بهر الفتاتين. ذلك هو الإيمان الذي دخل إلى قلبه. ومن يومئذ برئ من الاضطراب ومن نوباته، وانتشر في أرجاء نفسه سرور راضٍ مطمئن، وظل ينتظر اليوم الذي يعود فيه إلى شباب الآخرة بعد أن ودع شباب الدنيا موقنًا أن قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.

وعكف على العبادة، وتوجه بكل قلبه لله ذي الجلال. وفيما هو يومًا في صلاته دخلت عليه عائشة فألفتْه خاشعًا تجود عيناه بالدمع. فلما سلم واستغفر التفت إليها فرآها دهشة فقال: لا عليك يا ابنتي. إنها دموع التوبة والمغفرة. وهي أشهى لذائذ الحياة. هي طهر الضمير ولين النفس القاسية. وهي ترياق آثامنا جميعًا. معها تسيل الذنوب التي كانت عالقة بنا تؤلمنا وتعذِّبنا، وتنجاب الظلمات التي كانت تغشِّي على بصائرنا فتحجب عنا نور الله وحياته، فافرحي يا فتاة لهذه الدموع ولا تحزني.

وسكت الرجل هنيهة وهو في مجلسه على مصلَّاه. ثم أشرق جبينه واستنار ما حوله، ورأت عائشة كأن ملائكة الرحمة ترفرف عليه بأجنحة من ضياء. ولم تَكُ إلا لحظة حتى مال إلى جنبه الأيمن. فأسرعت ابنته إليه وأعانته حتى استوى على ظهره. وبصرت به فإذا هو قد رفع سبابته اليمنى، وهمست شفاهه بكلمة التوحيد وأغمض عينيه.

•••

وبكت عائشة وباترا، ثم أعانهم حمزة على غسله وتكفينه ودفنه. وهو لا يزال إلى اليوم في واحته يزوره الصالحون. فأما الفتاتان فعادتا بعد ذلك إلى القاهرة وإلى الإسكندرية تضحكان وتطربان، وإذا جَنَّ الليل تهيمان. وطلقتا الكتب على أمل أن تلهما الإيمان ساعة الموت، فيضيء النور وجههما وتموتان قديستين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤