أناتول فرانس (٢)

لمناسبة وفاته في ١٢ أكتوبر سنة ١٩٢٤

ارتضى أناتول فرانس أن يموت أمس. ولسنا ندري مبلغ ما كان لرضاه من حظ في فاجعة موته. لكنه عودنا أن نقرأ عمن نقلتهم ريشته من عالم الحياة أنهم ارتضوا الموت، وأنهم كانوا بالموت أكثر رضًا كلما كانوا من الحكمة أوفر حظًّا. فإذا صح هذا كان أناتول فرانس قد مات؛ لأنه أراد أن يموت، وكان قد طال احتضاره؛ لأنه لذ له أن يتذوق على مهل درجات الحياة ودركات الموت. وكذلك كان من فضل حكمته أن اتفق كتاب أجله مع ما أراد لنفسه.

ارتضى أناتول أن يموت في منتصف الحادية والثمانين من عمره، وأن يودع العالم ولما لم يمض نصف عام على احتفال العالم بثمانينه. فكأنه استنفد في ستة أشهر تاجًا من المجد كان يكفي ليقيم حياة متهدمة سنين طوالًا. أو كأن الاعتراف بفضله طمأنه إلى أداء واجبه للحياة فرأى من حق نفسه عليه أن يستريح من الحياة. أو ليس من حق من جهد نهاره أن ينام مطمئنًّا؟ فمن حق من جهد حياته أن يموت راضيًا.

ولقد قضى أناتول فرانس حياة جد وعمل لم يفتر يومًا ولم يخمد نشاطه؛ ولم يلهه المجد ولا الجاه ولا المال عن العمل. بل كان كلما علا نجمه زاد سعيه، وكان سعيه في دائرة العلم والفن. وتلك دائرة أزلية خالدة من زادها سعة أجلسته في عالم الخلد على أكثر عروشه سموًّا. ولعل العرش الذي قدر لأناتول فرانس أن يجلس عليه هو بين أسمى تلك العروش السامية.

•••

ولد أناتول فرانس بباريس في ١٦ أبريل سنة ١٨٤٤م. وكان اسمه جاك أناتول فرانسوا تيبو، وكان أبوه صاحب مكتبة؛ فشب بين الكتب والنقوش والصور فهويها جميعًا. لكنه أحب القديم منها وتعشقه. فجعل يديم في هذا القديم النظر والفكر. فقرأ كتب اليونان والرومان ودرس كتب المسيحية أول نشأتها. لكن غرامه بهذه الصور لم يثنه عن درس عصره وعصور السابقين له. وكان أكثر دراسة للشعراء؛ لأنه كان مولعًا بالشعر وبقوله. فكانت أولى رسائله رسالة عن ألفرد دفيني Alfred de Vigny، نشرها في سنة ١٨٨٦م. ثم انقطع للقريض ينشره في مجلات الشباب حتى إذا كانت سنة ١٨٨٣م نشر مجموعة من الشعر عنوانها Peèmes Dorès قابلها النقادون جميعًا بالاستحسان، وأعجب الناس منها بسمو الفكرة ورشاقة الأسلوب وبروز ذاتية الشاعر.

ثم نشر بعد ذلك عدة كتب تناول فيها بدء المسيحية في انتشارها، ونالت هذه الكتب من الإعجاب ما نالته مجموعة شعره الأولى، حتى لقد قال عنه ناقد: «إن لأشعار فرانس صفاء سماء الشرق وبساطة فرجيل وسلاسة الأقدمين. ولكأنها حديث اللاتين سرى بين أبحاثنا في اللغة وفي الإلهام. وشعره ضاحك ضحك دافنيه، ويشتمله ما يشتملها من أردية الأقدمين التي تمتاز — وإن ألقيت على أكتاف شابة — بدقة في الثنايا وبرشاقة التماثيل.»

ولم يقف أناتول فرانس عند قرض الشعر، بل ظل بحكم نشأته بين الكتب في مكتبة أبيه مغرمًا بالكتب عظيم الشغف بها والمحبة لها. وكما يود المحب أن يقدم لمحبوبه أجمل الهدايا، كان هو يود أن يهدي الكتب ما يعجبها ويلذها. فشارك في وضع فهرس نشر تحت اسم Bibliophil illustrè. ثم نشر لمحبي الكتب مؤلفات راسين وكتاب العفريت الأعرج للساج ومؤلفات موليير وغيرها من الكتب، بعد إذ علق عليها جميعًا بشروح جليلة الفائدة.

وفي سنة ١٨٨٧م تولى قسم النقد الأدبي في جريدة الطان. فلم يقف نقده عند ما كان يظهر من الكتب. بل كثيرًا ما كان يتناول كتبًا قديمة، وكثيرًا ما رجع إلى شعراء الرومان واليونان وكتابهم يتحدث عنهم إلى قارئيه، ويتحدث وإياهم عن زمانهم ويشرك قارئيه معهم في الحديث. وكان حديثه يخلق من مقالاته في النقد «صالون» أدب، يأوي إليه الكتاب والفلاسفة قدماء ومحدثين.

ومن ذلك التاريخ بدأ أناتول فرانس يهجر الشعر ويظهر في ثوب جديد. وكان ثوبه هذا أكثر جمالًا وبهاءً من شعره، ومن ذلك التاريخ قيل عنه: «مهما يكن من فضله كشاعر فقد عقد له لواء المجد عن حق كمتحدث ذي ظرف وكياسة.» لبس ثوب المحدث في كتبه وفي قصصه وفي رواياته، وظل مرتديًا إياه لم يخلعه إلا أمس حين عقل الموت قلمه ولسانه.

•••

كان فرانس إذن باريسي المولد والنشأة. وكان في مكتبة أبيه يقلب ما يشاء من كتب ونقوش وصور. وباريس عالم يموج بكل صور الحياة؛ ماضيها وحاضرها. اجتمع فيها جلال القديم وبهاء الحديث؛ تتحدث إليك مدارسها ومتاحفها؛ تناجيك طرقها وبساتينها بكل ما قد يجول بنفسك من حديث أو نجوى. كل سؤال لك فيها له جواب. أتريد أن ترى الملك وعظمته؟ إذن فاقصد إلى فرساي فناج هذه التماثيل المنتشرة في كل مكان محدثة عن جلال الملك وسلطانه. أتحب الديمقراطية والجمهورية؟ هذه الحياة هناك فيها كل مظاهر الديمقراطية من حرية ونشاط. وكل مظهر للملك وكل أثر للحرية تجد منه ما تحب في هذه المدينة. والكتب عالم أوسع من باريس وأطول من الحياة. أليس قد اجتمع في صحفها ميراث الماضي جميعًا! هذا الماضي الذي لا نعرف أوله وكلما كشفنا منه عن جديد أودعناه بطون الكتب. فكيف يكون حال رجل نشأ في هذين العالمين — باريس والكتب — إذا كان القدر قد وهبه نفسًا تتسع لهما وتفيض عنهما، ووهبه قلبًا شاعرًا يحبهما ويشغف بكل ما فيهما.

تلك كانت حال فرانس. أحب ما في باريس وما في الكتب من حياة الماضي والحاضر؛ وكان حبه لهذه الحياة أول شبابه قويًّا ينبض به قلبه. لكن قلبه كان رفيقًا وإن نبض؛ لأن قلبه كان في حكم عقله وتحت سلطانه. فلما آن للشاعر أن يضع قيثارته ليترك المكان للمحدث الكيس الظريف كان حب فرانس قد شمل الحياة جميعًا. والحب إذا اتسعت دائرته كان لطيفًا رقيقًا؛ كان حبًّا يزنه العقل ولا تلهبه الشهوة؛ كان حب الأب لأبنائه الكثيرين لا حب الأم لطفلها الوحيد: هذا الأب الذي يبتسم مغتبطًا لابنه المجد، ويبتسم مسرورًا لابنه الثاني حاضر البديهة، ويبتسم فرحًا بالطفل الصغير يتعثر حين يجري يريد أن يمسك فراشة أمامه. لا تلك الأم التي تخاف على صحة ابنها إن جد، وتخاف عليه الحسد إن بدا ذكاؤه، وتخشى عليه الخطر إذا تعثر. وهل كان لفرانس أن يرى في الحياة خيرًا أو شرًّا؟! وما حكمة الحكيم إذا ظل يخضع للشهوة خضوع الجاهل لها؟!

كانت حكمة فرانس إذن باسمة؛ لأنها كانت محيطة بحياة العالم بل بحياة العوالم؛ وكانت ترى في كل شيء عذره؛ وكانت لا تعرف شيئين متناقضين: أليس الخير والشر جميعهما أعمالًا لبني الإنسان؟ وهل بينها من فرق إلا ما بين الزيتون الأخضر والزيتون الأسود من فرق في اللون على تقاربهما في الطعم؟ لكن الخير يجب أن يكون، والشر يجب أن يكون، كما يكون الوجود والعدم والماضي والمستقبل. ويجب أن لا يعرف الناس أن الوجود والعدم لا فرق بينهما؛ وأن الماضي والمستقبل لا وجود لهما. بل فليعرفوا فلن تغني عنهم معرفتهم شيئًا.

على أن هذه الحكمة الباسمة إلى حد السخر بما في الحياة لم تدفع صاحبها يومًا إلى التخلي عن الحياة والزهد في الناس. بل لقد كان فرانس يحب الإنسانية حبًّا جمًّا. وكانت قاعدة الحياة عنده العبث بالناس والإشفاق عليهم. لكن عبثه بهم كان بريئًا وإشفاقه عليهم كان عظيمًا. نكبت روسيا بالمجاعة بعد قيام الحكومة البلشفية فيها، وأعطي فرانس جائزة نوبل وقدرها اثنا عشر ألف جنيه فوهبها لمنكوبي المجاعة من الروس. وكثيرًا ما دعاه إشفاقه على طبقات العمال والبؤساء إلى أن يحتمل من أجلهم مشقة وعنتًا.

لم يتخل فرانس عن الحياة ولم يزهد العمل، ولقد يدهشك أن تعرف أنه كتب أكثر من خمسين كتابًا كلها حكمة بالغة. وقد يزيدك دهشة أن تعرف أنه لم يخط في هذه الكتب سطرًا من غير أن يزنه أحكم الوزن ومن غير أن يختار له أسلس اللفظ وأفصحه وأمتنه. ذلك بأنه كان يرى النبوغ نتيجة جد وسعي متواصل لتنمية هبة تخلعها الطبيعة على مختاريها. فأما الذين يكتفون مما تهبهم الطبيعة ببريقه فأولئك لا ينبغون ولا يعرف الناس لهم قدرًا.

•••

واليوم ارتضى أناتول فرانس أن يموت بعد إذ خلف للإنسانية ميراثًا يبقى جديدًا على كل زمان جديد. واليوم ينتقل فرانس من بين ذويه وأهله ليبقى خالدًا بين الناس جميعًا. واليوم تتبادل عوالم العلم والفن والأدب والحكمة التعازي فيعزيها: إن فرانس خلدت حكمته، ومن خلدت حكمته لا يموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤