الفصل الثاني عشر

النبوة

عثر الباحثون في آثار بابل وآشور على كلمات كثيرة في الألواح المسمارية من مصطلحات علم الفلك القديم، ومنها أسماء المنازل والبروج ومجاميع الكواكب والنجوم.

وأكثر الباحثين في الآثار البابلية والآشورية معنيون بمباحث التوراة وتواريخ الأنبياء، لعلاقتها بأرض بابل أيام الخليل، ثم أيام السبي بعد عصر الخليل بأكثر من ألف سنة، فهي علاقة تمتد من أقدم العصور الأثرية إلى أحدثها؛ أي من قبل عصر الخليل إلى ما بعد عصر الميلاد.

فعاد الباحثون إلى كتب العهد القديم يعارضون عباراتها على الكلمات المسمارية، ولا سيما الكلمات التي تُطلق على الشئون السماوية، فتوقفوا عند كلمات مختلفة كانوا يمرون بها ولا يلتفتون لمعنًى فيها غير ظاهر معناها، وعنَّ لبعضهم أن بعض الأنبياء من العبرانيين كانوا على علم بالفلك، وأن النصوص التي كُتبت بها نبوءاتهم تثبت علمهم به على نحو قاطع، أو على ترجيح يقرب من اليقين.

وليس لإبراهيم كما هو معلوم نصوص محفوظة منسوبة إليه، ووجدت نبوءات يعقوب فعارضوها على معلوماتهم من اللغة المسمارية، واختاروا منها ما كان من قبيل الطوالع الفلكية، وهي الطوالع التي احتواها الإصحاح التاسع والأربعون من سفر التكوين، وفيها ينبئ يعقوب أبناءه بما يصيبهم في آخر الأيام، فتراءى لهم أن التوافق بين ألفاظها ومنازل السماء أوضح من أن يُعزى إلى المصادفة، وهذا هو الإصحاح الذي وجهوا إليه معظم البحث في كلام يعقوب:

ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام، اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب واصغوا إلى إسرائيل أبيكم.

رءوبين أنت بكري، قوتي وأول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز، فائرًا كالماء لا تتفضل.

شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلم سيوفهما، في مجلسهما لا تدخل نفسي، بمجتمعها لا تتحد كرامتي؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنسانًا، وفي رضاهما عرقبا ثورًا.

يهوذا إياك يحمد إخوتك، يهوذا جرو أسد، جثا وربض كأسد وكلبوة، من ينهضه، لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب، رابطًا بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه.

زبولون عند ساحل البحر يسكن.

يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر.

دان يدين شعبه كأحد أسباط إسرائيل، يكون دان حية على الطريق، يلسع عقبي الفرس فيسقط راكبه إلى الوراء.

جاد يزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخره.

أشير خبزه سمين، وهو يعطي لذات ملوك.

نفتالي ايله مسبية يعطي أقوالًا حسنة.

يوسف غصن شجرة مثمرة على عين، فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتت بمتانة قوسه، وتشددت سواعد يديه.

بنيامين ذئب يفترس، في الصباح يأكل غنيمة، وعند المساء يقسم نهبًا.

هذه الطوالع درست باستفاضة وتدقيق، وكتب خلاصة درسها الأستاذ إيرك بروز في كتابه «طوالع يعقوب وبلعام»،١ فانتهى منها إلى وحدة بين كل اسم من أسماء الأسباط وبين برج من أبراج السماء.

فرُءوبين الفائر كالماء يقابل برج الدلو، وقد جاء في مدراش التكوين أن أباه قال له: جعلت نفسك دلوًا، وبرج الدلو في منطقة البروج على صورة إنسان قائم باسط يديه، وآخذ بإحداهما كوزًا مقلوبًا ليسكب منه الماء، وفي الكلمة جناس بين كلمة رأب، بمعنى نام، واسم رُءوبين.

و«شمعون ولاوي أخوان» طالع يشير إلى برج التوءمين، وهو برج إله الحرب زجال عند البابليين، ويصورون أحدهما وفي يديه خنجر، والآخر في يديه سلاح شبيه بالمنجل، وإلى هذا تشير كلمة «آلات الظلم التي في سيوفهما»، وتشير عرقبة الثور إلى برج الثور الذي يتعقبه التوءمان في السماء كأنهما يطاردانه ويعرقبان رجليه.

و«يهوذا ربض كأسد وكلبوة» إشارة إلى برج الأسد، وقد كان عند البابليين برجان؛ أحدهما: برج الأسد أرجولا، والثاني: أرماح، وهو أحد نجوم الدب الأكبر، وأمام الأسد في البروج علامة الملك Seonis Rogulus، وإلى هذا يشار بالقضيب الذي تخضع له ملوك، و«زبولون عند ساحل البحر يسكن» إشارة إلى برج الحوت، وكان عند البابليين على صورة أصبعين منفصلتين؛ إحداهما ترمز إلى الدجلة Diglat، والأخرى إلى الفرات Purattu.

ويساكر إشارة إلى برج اليحمور «حمار جسيم رابض بين الحظائر». ويلفت الباحثون النظر إلى التشابه بين اللون الأشقر وبين يشاكر أو يساكر، وإلى ورود اليحمور بمعنى حمار الوحش ومعنى الظبي في اللغة العربية.

و«دان حية على الطريق يلسع عقبي الفرس» والمراد صورة الحية الشمالية أو عنق الحية، وموقعه إلى شمال برج العقرب.

أما قوله: «يلسع عقبي الفرس» فالإشارة فيه إلى النعائم الصادرة Saguittaru، وصورتهما كالسنتاؤر الذي له جسم فرس ورأس إنسان، ويضعون السلاح على مقدمه وعلى مؤخره، وقد يكون في هذا تفسير طالع «جاد» الذي يأتي بعد «دان» ويزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخره، وأشير طعامه سمين، والكلمة العبرية «لحم»، وتنصرف إلى برج السرطان، وإلى جانبه علامة الملك، ومن ثم يعطي لذات ملوك.

وعلى هذا النمط يمضي علماء الأحافير في تفسير هذه الطوالع، ومن تفسيراتهم ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد معتسف؛ لارتباط الجناس اللفظي تارة بمدلول الفلك، وتارة بمدلول النسب والتاريخ.

وقد صنعوا مثل ذلك في دراسة طوالع بلعام كما جاءت في الإصحاح الثالث والعشرين وما بعده من سفر العدد، وقد اشتملت على تكرير عدد السبعة، وعلى اسم الثور والحمل والظبي والأسد، وعلى طوالع الأمم التي ليست من إسرائيل، وعارضوا المصطلحات الفلكية على أقوال الأنبياء الآخرين، وثبت على الأقل من هذه المعارضات أن معرفة الفلك كانت شائعة عند كتاب هذه الطوالع، سواء كتبت على أيام الأنبياء الذين نُسبت إليهم، أو كُتبت بعد أيامهم عندما تحقق بعض الطوالع، أو بدا أنه متحقق عما قريب.

فإذا صحت هذه التخريجات — كلها أو بعضها — فهذا موضوع من الموضوعات التي تطابقت فيها الأحافير وأخبار التواريخ الأثرية والتواريخ القديمة؛ إذ كانت هذه التواريخ مجمعة على معرفة الأنبياء الأوائل بالنجوم، وإن اختلفوا في المقصود بعلم النجوم.

وندع المبالغات من قبيل مفاخر يوسيفوس ودعواه أن إبراهيم هو الذي علم أحبار المصريين أسرار الكواكب وحساب الفلك، فليس الخبر كله في هذه المسألة خبر تواريخ وروايات؛ لأن العقل يفرض بغير حاجة إلى التواريخ والروايات أن يكون رؤساء القبائل المترحلة على علم بمواقع النجم، ومطالع الأفق، ومهاب الأنواء، وقد كان الأنبياء الأوائل رؤساء لقبائلهم لا تبرم هذه القبائل أمرًا من الرحلة والإقامة إلا بمشورتهم وتوجيههم، ومقام الأنبياء في بابل حيث يرقب الناس الكواكب؛ لأنهم يعبدونها، ولأنهم يربطون بها مواسم الزرع والري خليق أن يشغلهم بها للمحاجة في شئون العبادة، وللنظر في شئون المعاش.

وقد جاء في القرآن الكريم أن إبراهيم كان ينظر في النجوم، وأن يوسف كان يعبر الرؤيا، وأن موسى كان يطَّلع على سحر الكهان، فمن موافقات الأحافير أنها تأتي بالسند المكتوب الذي يشرح لنا تفصيلات هذه الأخبار، ويكاد أن يعين لنا الوقت الذي كتبت فيه طوالع الأنبياء؛ لأن تقسيم بروج الفلك قد مر في أدوار متلاحقة من تاريخ بابل، بعضها محدود على وجه التقريب.

والحد الفاصل بين النبوة والكهانة في السلالة العبرية مرسوم أو كأنه مرسوم، فكان الأنبياء هم أول من تولى أمر الدين في أمم السلالة العربية، وكانوا يسوسون أمر الدنيا فيما تتطلبه الرئاسة، ومنه علم النجوم.

ثم افترق عمل النبي وعمل الكاهن، ووقع بينهما العداء أحيانًا كما رأينا في غير هذا الفصل، فأصبحت الكهانة وظيفة تُعارض النبوة في كثير من الأوقات، وهنا الفارق الأعظم بين النبوة والكهانة.

فالكهانة وظيفة، ولكن النبوة ليست بوظيفة، ولم يحدث قط أن أحدًا عين نبيًّا لعمل النبوة كما حدث كثيرًا تعيين الكهان لعمل الكهانة.

إن النبوة التي تنفصل من الكهانة خاصة لم تتكرر في غير السلالة العربية، فما من ديانة كبرى أو صغرى في أنحاء العالم إلا يستطيع المؤرخ أن يحيلها كلها من مبدأ التاريخ إلى عمل الكهان، وما من كهانة إلا وهي وظيفة قابلة للتعيين.

أما ديانات الأنبياء فلا وجود لها في غير السلالة العربية، والاختلاف بينها وبين الديانات الأخرى أن النبي لا يعنيه أحد، ولا ينبعث بأمر أحد، ولكنه ينبعث بباعث واحد من وحي ضميره ووحي خالقه، وقد يأتي ليصدم العبادات التي يقوم الكهان على شعائرها ومراسمها، وهم أنفسهم مرسومون معينون.

والفرق بين النبي وبين الكاهن في جوهر العمل أوسع جدًّا من الفرق بينهما في التعيين والاختيار، فالكاهن موكل بالشعائر والمراسم والأشكال، يحرص عليها ويأبى أن يُشاركه أحد فيها.

ولكن النبي تعنيه روح الدين وحقيقته في الضمير قبل هذه الشعائر والمراسم والأشكال.

سريرة الإنسان هي وجهة النبي وغايته من التبشير والإنذار، وأما الكاهن فوجهته نظام المجتمع وتقاليد الدولة وما إليها من الظواهر أو الواجبات العامة.

ولم تخلُ الديانات الكبرى من أحبار معينين يوجبون على الناس الاستقامة، ويحذرونهم غضب الإله على الذين ينحرفون عن سبيلها.

ولكن الإله هنا أشبه برئيس الديوان الذي يجري الأحكام وفقًا للمأثور من نظام الدولة، والكاهن أشبه بمندوبه وأمين سره في المحاسبة على الشريعة: كلها مسألة نظام ومجتمع، وكلها مراسم وتقاليد.

أما النبي فالعالم الذي يصوره لنا أسرة حية، والإله قائم على ذلك العالم لأنه على صلة قريبة بكل من فيه من خلقه، وكل كائن من تلك الخلائق رهين٢ برضاه وغضبه، وذو شأن في دعوة الدين مقدم على شأن المجتمع والدولة، وأهمه وأصدقه ما كان في الضمائر والنيات.

والنبي ذو شأن حي في دعوته يلعج نفسه ولا يريحه دون أن يبرئ منه ذمته، وليس كذلك جماعة الكهان الذين لهم محل مستقر، وعمل راتب، وعلاقة بالناس كعلاقة المصالح والأشغال.

وهنا أيضًا نرجع إلى «القبيلة»، ولا سيما القبيلة في حالة الشعور بالخطر كائنًا ما كان، فضلًا عن الخطر الأبدي الذي يحيق بالحياة وما بعد الحياة.

فلا ينتظر من المصلح أو المعلم أو الكاهن في بلاد الحضارة والعمران أن تُخامره نخوة اللحم والدم كما تُخامر النفس التي تعودتها في كل شعور، وفي كل علاقة، ولم تعرف حالة غيرها فيما بينها وبين الناس.

إذا كان هذا الطابع ملازمًا لبعثات الرسالة حول مدن القوافل جميعًا، فقد عرفنا ما نفتقده إذا افتقدنا سرًّا من أسرارها، وعرفنا كيف نتتبع آثارها إذا انقطعت الصلة بين سوابقها ولواحقها، فلا نخبط على ضلال، ولا نضيع البحث في شكوك محيرة للسالك، لا موجب لها على هذا المهيع المسلوك.

١  The Oracles of Jacob and Balaam: by Eric Burrows.
٢  رهين: مرتبط ومعلق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤