الفصل الأول

حدوث الخط في الحجاز وانتشاره فيه

والخط الذي كُتِب به القرآن
أول حلقة من سلسلة الخط العربي هي الخط المصري «ديموطيق» Demotic١ وهو خط الشعب.
وثاني حلقة من سلسلته: الخط الفينيقي نسبة إلى فينيقيا بقرب أرض كنعان على ساحل البحر الأبيض، وتُسَمَّى اليوم جبل لبنان، والفينيقيون من الأمم السامية، كانوا أكْثَر الناس مخالَطةً للمصريين للتجارة ولدواعٍ أخرى، فتعَلَّمُوا حروف كتابتهم، ثم وضعوا لأنفسهم حروفًا بسيطة خالية عن التعقيد للكتابات التجارية، وقد أخذوا من حروف المصريين خمسة عشر حرفًا مع تعديل قليل — كما قال الأَثَرِيُّ «ماسبرو» Maspero٢ في كتابه تاريخ المشرق — وأضافوا إليها باقيَ الحروف، ثم اشتهرَتْ حروفهم لسهولتها في آسيا وأوروبا.
وثالث حلقة من سلسلته: الآرامي٣ أو المُسْنَد، على خلافٍ بيْن مؤرخي أوروبا والعرب.

رأي مؤرخي أوروبا

خلاصة رأي مؤرخي أوروبا هي أن الخط الفينيقي تولَّد منه أربعة خطوط، وهي:
  • (١)

    اليوناني القديم: أصل خطوط أوروبا كلها والخط القبطي.

  • (٢)

    العبري القديم: ومنه الخط السامري نسبة إلى سامرة نابلس.

  • (٣)
    المُسْنَد٤ الحميري: ومنه توَلَّد الخط الحبشي.
  • (٤)
    الخط الآرامي، وهو أصل ستة خطوط:
    • (أ)

      الهندي بأنواعه.

    • (ب)

      الفارسي القديم: الفهلوي.

    • (جـ)

      العبري المربع.

    • (د)

      التدمري.

    • (هـ)

      السرياني.

    • (و)
      النِّبْطي.٥
وعلى رأي الإفرنج: الخط العربي قسمان: أحدهما كوفيٌّ، وهو مأخوذ من نوع من السرياني يُقال له أسطرنجيلي،٦ ونَسْخِيٌّ: وهو مأخوذ من النبطي. فعلى هذا الرأي لا يقع الخط المُسْنَد في سلسلة الخط العربي، ووضعوا السرياني مع النبطي في آخر حلقةٍ منها.

رأي مؤرخي العرب

ملخص رأي مؤرخي العرب قبل الإسلام وبَعْده أن خطهم الحجازي مأخوذ من أهل الحِيرة٧ وأهل الأنبار،٨ ووصل الخط إلى أهل هذين البلدين من عرب كندة،٩ ومن النِّبْط الناقلين عن المسند. أجْمَعَ مؤرخو العرب أن الخط دَخَلَ إلى مكة بواسطة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان قد تَعَلَّمَه في أسفاره من عدة أشخاص، منهم: بِشْر بن عبد الملك أخو أُكَيْدر صاحب دومة الجندل، وقد حَضَرَ بِشْر إلى مكة مع حرب بن أمية وتزوج الصهباء ابنته، وعلَّم جماعة من أهل مكة ثم ارتحل، وفيه يقول شاعر من كندة يَمُنُّ على قريش:
ولا تَجْحَدوا نعماء بِشْرٍ عليكمو
فقد كان مَيمُونَ النقيبة أَزْهَرَا
أتاكم بِخَطِّ الجزم حتى حفظتمو
من المال ما قد كان شَتَّى مُبَعْثَرَا
وأُغْنِيتُمو عن مُسْنَد القوم حِمْيَرٍ
وما زَبَرَتْ في الكُتْب أقْيَالُ حِمْيَرَا
وفي رواية عن ابن عباس — رضي الله عنه — أن أهل الأنبار تَعَلَّمُوا الخط من أهل الحيرة.١٠ فالخط المسند على رأي مؤرخي العرب من حَلَقات سلسلة الخط العربي، ومن أصوله.
وقد رجَّح بعض الباحثين من علماء العرب في كتابه: «حياة اللغة العربية» رأيَ مؤرخي العرب لوجوه:
  • الأول: أن الخط المُسْنَد عُرِفَ له أربعة أنواع، وأقرب تلك الأنواع إلى الفينيقي هو الصفوي، فيدل ذلك على أن الخط المسند هو خط واحد في الأصل، قريب من أصله الفينيقي وغير بعيدِ الشَّبَه عن الآرامي، وقد وَصَلَ الخط من اليمن والآراميين إلى الحيرة والأنبار بواسطة كندة والنبط، ومن الحيرة والأنبار وَصَلَ لأهل الحجاز، وفيه أنَّ هذا احتمال ضعيف، مؤَدَّاه أن قرب الصفوي من الخط الفينيقي يؤيِّد كَوْن المُسْنَد مأخوذًا من الفينيقي، وانتشر في اليمن ووصل إلى الحيرة والأنبار، مع أن الاعتراف بوصول الخط بواسطة الآراميين يقوِّي كَوْن الآرامي من أصول الخط الحجازي؛ لأنَّ نَشْرَ هؤلاء الآراميِّين غَيْرَ خَطِّهم الخاصِّ بعيدٌ جدًّا.
  • الثاني: اختلاط النِّبْط باليمانيين ومجاورتُهُم لهم — كاختلاطهم ببعض طوائف الآرام — يقتضي أَخْذ النبط خَطَّهُم المسند منهم، وفيه أن المخالَطة إنْ دَلَّتْ على أَخْذِ النبط خَطَّهُم من اليمانيين كذلك تَدُلُّ على أَخْذِهم من الآراميين لنفس الدليل.
  • الثالث: إجماع مؤرخي العرب وتضافُر رواياتهم، واتفاق كلِمَتِهم، بأنَّ الخط وَصَلَ إلى الحجاز من اليمن، وفيه أن وصول الخط من طريق اليمن لا ينافي كَوْن أصله آراميًّا؛ لإمكان أخْذ اليمانيين عن الآراميين لِمخالَطَتِهِم — كما سَبَق.
  • الرابع: وجود حروف الروادف؛ وهي (ثخذ، ضظغ) في الخط المُسْنَد الحِمْيَرِيِّ دون الآرامي، وفيه أن المسند لو كان من أصول الخط الحجازي؛ لكان لتلك الحروف صور خاصة فيه، متسلسلة عن أصلها كسائر الحروف، ففقْدُ الخط الحجازي صورةً خاصة لتلك الحروف يَدُلُّ على أن الخط الآرامي الفاقد لها من أصوله، ولكن أصوات حروف الروادف الموجودة في لسان العرب، دعاهم إلى وَضْع الحروف الروادف بالإعجام لتلك الأصوات — ويؤيده قول مؤلف كتاب حياة اللغة العربية ص٨٨ — فلا بد أن يكون واضع الحروف العربية قد أخذ لها صُوَر الباء والجيم والدال والصاد والطاء والعين، ووَضَعَ لها النقط للتمييز، ويَدُلُّ أيضًا على أن الآرامي من أصول الخط العربي أن الحافظ شمس الدين الذهبي١١ ذَكَرَ في تَذْكِرة الحُفَّاظ في ذَيْل رواية خارجة بن زيد١٢ عن أبيه، أن زيد بن ثابت — رضي الله عنه — بأَمْر النبي تَعَلَّمَ كتابة اليهود وحَذَقَهَا في نصف شهر، فتَعَلُّمُه في مُدَّة نصف شهر يَدُلُّ على أنه تَعَلَّمَ نفس الخط الكوفي — أصْل الخط السطرنجيلي وأحد نَوْعَي الخط السرياني — خط اليهود؛ ولذلك ذُكِرَ في ترجمة زيد بن ثابت — رضي الله عنه — أنه تَعَلَّمَ السرياني ومنه حدث الكوفي.

ثم إن الخط الكوفي أَشْبَه الخطوط للخط الحِيرِيِّ، والحيري قريبُ الشَّبَه من النبطي، وهو من الآرامي، وهو من الفينيقي، وهو من ديموطيق — خط الشعب المصري — فذلك يدل على تسلسُل تلك الخطوط حسب الترتيب المذكور.

الخط في المدينة (يثرب)

أمَّا الخط في المدينة (يثرب) فقد قَرَّرَ أهل السير أن النبي دَخَلَهَا، وكان فيها يهودي يُعلِّم الصبيان الكتابة، وكان فيها بضعة عشر من الرجال يَعْرِفون الكتابة، منهم سعيد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبَيُّ بن وَهْب، وزيد بن ثابت، ورافع بن مالك، وأَوْس بن خولي، والظاهر أنهم كانوا يعرفون الخط الحجازي المأخوذ من الحيري، فلا ينافي هذا تَعَلُّمُ زيدٍ كتابة اليهود بأمْر النبي بعد دخوله المدينة.

وأوَّل مَنْ نَشَرَ الكتابة بطريقة عامة هو الرسول الأكرم محمد بعد مُهَاجَرِهِ إلى المدينة، فقد أَسَرَ في غزوة بدر سبعين رجلًا من قريش وغيرهم، وفيهم كثير من الكُتَّاب، فقَبِلَ من الأميين الافتداء بالمال، وجَعَلَ فدية الكاتبين منهم أن يُعلِّم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة، ففعلوا ذلك، وانتشر الخط بالتدريج من هذا الحين في المدينة والأمصارِ التي دَخَلَتْ في حوزة الإسلام، وبقيت الأمية الصرفة في البوادي.

للخط الحجازي نوعان: أحدهما: النسخي المستعمَل في المكاتَبات، والثاني: الكوفي نسبة إلى الكوفة بعد بنائها؛ لأن الخط الحجازي هُذِّبت قواعده وصُوِّرَ حروفه فيها ولذلك نُسِب إليها.

فقد عَثَرَ الباحثون على نفس الكتابَيْن المُرْسَلَيْنِ من النبي الأكرم إلى المقوقس والمنذر بن ساوى، وأخذوا صورتهما بالتصوير الشمسي (فتوغراف) وطبعوهما، والكتاب المرسل إلى المقوقس محفوظ في دار الآثار النبوية في الآستانة، وقد عَثَرَ عليه عالم فرنسي في دير بمصر قرب أخميم، وسمع بحديثه السلطان عبد المجيد، فاستقدم ذلك العالِمَ وعَرَضَ النسخة على العلماء، فقَرَّرُوا أنها هي بعينها كتاب النبي إلى المقوقس، فاشتراها بمالٍ عظيم، والكتاب الثاني محفوظ في مكتبة فيينا عاصمة النمسا.

١  للمصريين ثلاثة خطوط، أولها: هروغليف، وهو الخط الخاص برجال الدين. ثانيها: هراطيق، خط عُمَّال الدواوين وكُتَّاب الدولة. ثالثها: ديموطيق، خط الشعب وهو أبسط الأصناف.
٢  عالم أثري، وُلِد سنة ١٨٤٦ وتوفي سنة ١٩١٦.
٣  الآرام أُمَّة سامية قديمة سَكَنَتْ بلاد العرب في فلسطين والشام، نِسْبَتُهُم إلى آرام بن سام المعروف عند العرب بأرم، وهو من أسلاف العرب.
٤  للخط المسند أربعة أنواع: (١) الصفوي: نسبة إلى جبل الصفا من جبال حوران. (٢) الثمودي: نسبة إلى ثمود سكان مدائن صالح. (٣) اللحياني: نسبة إلى بني لحيان من سكان شمالي جزيرة العرب. (٤) السبئي أو الحميري: نسبة إلى سكان جنوبي الجزيرة.
٥  مملكة الأنباط: امتدت من دمشق الشام إلى وادي القرى قُرْب المدينة شمالًا وجنوبًا من بادية الشام إلى خليج السويس شرقًا وغربًا، فشَمِلَت شمال غرب جزيرة العرب وجزيرة سينا، ووُجِدَتْ آثارهم في الحِجْر (مدائن صالح) للثموديين، وحوران ودمشق الشام وجزيرة سينا، ومَلَكُوا فلسطين ومدْين وخليج العقبة والحِجْر وحوران.
٦  للسريانيين ثلاثة أقلام، منها المفتوح ويسمى أسطرنجالا وهو أجلها (فهرست).
٧  الحِيرة: بالكسر ثم السكون والراء، مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يُقال له النجف، والخط الحيري هو بعينه الخط الذي يُسَمَّى بالكوفي نسبة إلى الكوفة بعد بنائها.
٨  الأنبار: مدينة على الفرات في غربيِّ بغداد على بُعْد ٣٠ مِيلًا منها.
٩  كندة: بطن من كهلان في جنوبي جزيرة العرب.
١٠  في رواية عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبيه، قال: قلت لابن عباس: مِنْ أين أخذْتُم — معاشر قريش — هذا الكتاب العربي قبل أن يُبْعَثَ محمد ، تَجْمَعون منه ما اجتمع وتفرِّقون منه ما افترق؟ قال: أَخَذْنَاه عن حرب بن أمية، قال: فمِمَّنْ أَخَذَهُ حرب؟ قال: عن عبد الله بن جدعان. قال: فممن أخذه ابن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار، قال: فممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من أهل الحيرة، قال: فممن أخذه أهل الحيرة؟ قال: مِنْ طارئ طَرَأَ عليهم من اليمن من كندة، فقال: فممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الحقلجان كاتب الوحي لهُودٍ — عليه السلام — وقال المسعودي: إن بني المحصن بن جَنْدل بن يعصب بن مَدْين هم الذين نشروا الكتابة، يعني النِّبْط ملوك مَدْين وسينا وحوران وفلسطين.
١١  هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز أبو عبد الله شمس الدين الذهبي التركماني الفارقي الإمام الحافظ، وُلِد سنة ٦٧٣ في دمشق، وطَلَبَ الحديث مِنْ صِغَرِه، وكان إمام وَقْته، وله مؤلَّفَات منها تذكرة الحفاظ، وتُوُفِّيَ سنة ٧٤٨ﻫ.
١٢  خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، أحد الفقهاء من كبار العلماء، إلَّا أنه قليل الحديث، ولذلك لم يَذْكُرْه الذهبي من الحُفَّاظ، توفي سنة ٩٩ﻫ في المدينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤