الفصل الخامس

مظاهر الحياة العقلية

سنتكلم كلمة عن كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية، وهي اللغة والشعر والمثل والقصص، لا من حيث جماله الفني وأسلوبه البلاغي، فهذا لا علاقة له بموضوعنا، ولكن من حيث دلالته على العقل.

وقبل ذلك يجب أن نقف قليلًا لنبين رأينا في حجية هذه الأمور؛ ذلك لأن الشك قد يُطَوِّح بكل هذه المظاهر، أليس الشعر الجاهلي قد ظل غير مكتوب نحو قرنين، وظلت تتناقله الرواة شفاها، ونحن نعلم ما في هذا من تعرض للخطأ والتغيير، ثم أليس هناك دواعٍ تحمل رواة الشعر وغيرهم على الانتحال؛ من دينية وسياسية وجنسية، وقد بين النقاد الثقات أن كثيرًا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق، فكيف يصح بعد أن يعتمد عليه في تعرف الحياة العقلية؛ وقل مثل ذلك في سائر المظاهر.

فنقول: إن أحدًا لم ينكر الشعر الجاهلي كله جملة، بل الباحثون فيه منهم مَن يُبالغ في الشك، ومنهم من يبالغ في اليقين، ومنهم من يقتصد، ومذهبنا نحن أن نسلك في الشعر الجاهلي مسلكنا في سائر ما يُروى من الحوادث التاريخية، وما يُروى من أحاديث، ففي هذه الأشياء نمتحنها من ناحيتين: من ناحية السَّنَد — أعني الرواة الذين رووا الحادثة أو الحديث — ومن ناحية المَتْن — أعني القول المنقول نفسه — فإذا كانت الناحيتان صحيحتين، وجب علينا أن نصدق ما قيل حتى يظهر وجه للنقد جديد، فلنفعل كذلك في الشعر، فإذا كان الراوي كاذبًا أو ليس بثقة لم نعتمد على ما روى، وكذلك إذا قام برهان على ضعف المتن: كأن يتشبب الشاعر بموضع ثبت تاريخيًّا أنه لم يذهب إليه، ولم يكن له به علاقة أو نحو ذلك؛ فإذا لم يكن شيء من هذين صح الاستدلال بالشعر المروي، فالثقات مثلًا ضعَّفوا ما يروي ابن إسحاق من الشعر، وطعنوا في حَمَّاد الراوية وخَلَفٍ الأحمر، فلندَع ما يرويه هؤلاء ما لم يشاركهم غيرهم من الثقات في روايته، ولكنهم وثَّقوا أبا عمرو بن العَلاء والأَصْمَعي وأمثالهما، فلنأخذ بما رووا ما لم يقم دليل من ضعف المتن على كذبه، ولعله يسلم لنا — بعد ذلك — جملة صالحة نستطيع أن نتبين منها الحياة العقلية.

على أن هناك وجهًا آخر للنظر، وهو أن الشعر المزيف يصح أن يكون مثلًا للحياة العقلية الجاهلية متى كان المزيِّفُ عالمًا بفنون الشعر خبيرًا بأسالبيه، فمثلًا يقول ابن سلام في خلف الأحمر: «أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقه لسانًا»، ويعني بالفراسة في الشعر العلم به والبصر فيه، فإذا وضَعَ خلف قصيدة فقد كان يُلَبِّس فيها على الناس، وينحو نحو الجاهليين ويُقلدهم في مهارة وحذق، حتى ليصعب على الناقد أن يُفرِّق بين قوله وقول الجاهلي، فلا علينا بعدُ إذا استفدنا من علم خلف بأمور الجاهلية، أليس إذا حدثك خلف عن شئون الجاهلية — وهو الخبير بها — كان لقوله قيمة كبرى؟ فهو كذلك إذا وضع شعرًا يُمثل الحياة الجاهلية.

(١) اللغة

تدل اللغة على الحياة العقلية من ناحية أن لغة كل أمة في كل عصر مظهر من مظاهر عقلها، فلم تخلق اللغة دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، إنما يَخْلق الناس في أول أمرهم ألفاظًا على قدر حاجتهم، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلقوا لها ألفاظًا جديدة، وإذا اندثرت أشياء قد تندثر ألفاظها، وهكذا اللغة في حياة وموت مستمرين، وكذلك الاشتقاقات والتعبيرات فهي أيضًا تنمو وترتقي تبعًا لرقي الأمة، هذا ما ليس فيه مجال للشك، وإذا كان هذا أمكننا — إذا حصرنا معجم اللغة الذي تستعمله الأمة في عصر من العصور — أن نعرف الأشياء المادية التي كانت تعرفها والتي لا تعرفها، والكلمات المعنوية التي تعرفها والتي لا تعرفها، اللهم إلا إذا كانت المعاجم أثرية، كمعاجم اللغة العربية التي نستعملها نحن اليوم، فإنها لا تدل علينا؛ لأنها ليست معاجمنا، ولم تسر معنا ولم تُمثل عصرنا، ولذلك يخرج عليهم كُتَّابنا وشعراؤنا، وإنما كانت معاجم صحيحة للعصر العباسي أو نحوه؛ أما معاجم كل أمة حية الآن فهي دليل عليها، فإذا أمسكت معجمًا منذ مائة عام للأمة الفرنسية ولم تجد كلمة للتغراف والتليفون فمعنى ذلك أن الأمة لا تعرفهما، وإذا لم تجد كلمة تدل على معنى من المعاني دلك ذلك على أنهم لم ينتبهوا إلى هذا المعنى؛ وهكذا.

فنستطيع إذًا إذا حصرنا الكلمات العربية المستعملة في الجاهلية أن نعرف ماذا كانوا يعرفون عن الماديات، وماذا كانوا يجهلون، وماذا كانوا يعرفون من المعاني والعواطف والملكات النفسية، وماذا كانوا يجهلون، فإذا لم تجد — مثلًا — كلمة مَلَكة أو عاطفة أو شعور في اللغة الجاهلية دل ذلك على أنهم لم ينتبهوا إلى تلك المعاني، فلم يضعوا لها ألفاظًا، وهذا وأمثاله يحدد لنا مقدار رقيهم العقلي، ولكن مع الأسف لم يُوضع معجم كهذا، وهل نستطيع ذلك؟ إنه يقف في سبيلنا جملة عقبات.
  • (الأولى): أن أكثر الشعر والنثر الجاهليين قد ضاع، قال أبو عمرو بن العَلاء: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقَله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير»، فمن أجل هذا نستطيع أن نثبت ولا نستطيع أن ننفي، نستطيع إذا صح عندنا بيت من الشعر الجاهلي أن نقول: إن ألفاظه ومعانيه تعرفها العرب، ولكن لا نستطيع إذا لم نجد أن نقول: إن العرب لا تعرف هذا اللفظ ولا هذا المعنى، وبذلك ينهدم جزء كبير من مظهر الحياة العقلية.
  • (الثانية): أن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون قبائل، وهذه القبائل تختلف فيما بينها — كثرة وقلة — في اللغة وفي اللهجة، فقد تستعمل قبيلة كلمة ولا تستعملها القبيلة الأخرى، أو تستعمل غيرها، فقد روي «أن أبا هريرة لما قدم من دَوْسٍ عام خَيْبرَ لقي النبي — وقد وقعت من يده السكين — فقال له: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يَمْنَة ويَسْرة، ولم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر به القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تُريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أوتسمى عندكم السكين؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ»، وهذه اللغات بدأ توحيدها قبل الإسلام واستمر هذا العمل في الإسلام، فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصًا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تُخالف ما للقبيلة الأخرى؛ فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في سهل وهكذا، فإذًا لا يصح لنا إذا عثرنا على كلمة في شعر شاعر أن نستدل بها على الحياة العقلية للعرب أجمعين.
  • (الثالثة): أن كثيرًا من الألفاظ العربية خُلق في العصر الإسلامي، قال ابن جنِّي في الخصائص: «إن العربي إذا قويت فصاحته، وسمت طبيعته، تصرف وارتجل ما لم يُسبَق إليه، فقد حُكي عن رؤبة وأبية أنهما كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعاها ولا سُبقا إليها»، وهناك ألفاظ تغيرت معانيها في الإسلام كأن يكون المعنى عامًّا في الجاهلية وخُصص في الإسلام، كالصلاة والزكاة والحج والبيع والمزارَعة ونحو ذلك، بل إن اللفظ الواحد قد يتغير مدلوله في عقل السامع بانتقاله من طور إلى طور في الحضارة، فلفظ الكرسي والمائدة والخوان والمطبخ والكانون والملهى له مدلول في ذهن البدوي غير مدلوله في ذهن الحضري؛ فالكرسي في ذهن البدوي أبسط شكل يطلق عليه اسم كرسي، وفي ذهن الحضري أشكال مختلفة من الكراسي لم يكن يتخيلها البدوي، إن شئت فانظر إلى ما نفهمه نحن الآن من مؤتمر وصحافة وجريدة ومطبعة وما كان يفهمه البدوي في الجاهلية من هذه الألفاظ، بل وما يفهمه العربي في العصر العباسي منها.

فما معجم الألفاظ للجاهليين قبل الإسلام؟ وهَبْ أنك عثرت عليها، فما مدلولها بالدقة عندهم؟ ذلك مطلب عسير المنال.

قد تقول: إن في القرآن غَنَاءَ عن ذلك، فقد نزل بلغة العرب وفهمه العرب وقت نزوله، ونصُّه لا يحتمل الشك، فنستطيع أن نتعرف منه لغة الجاهليين، فنقول: صحيح أن القرآن نزل بلغة العرب، ونصه لا يحتمل الشك، وهو يُفيدنا في تعرف كثير من حياة الجاهلية العقلية فيما يَحْكِي من أقوال المعاندين، وفيما يصور من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ولكن ألفاظه وتعبيراته ومعانيه لا تمثل لغة الجاهليين بأكملها؛ لأن القرآن استعمل ألفاظًا لم يكن يستعملها الجاهليون، وخصص ألفاظًا لمعانٍ لم يكن يخصصها الجاهليون، واستعمل استعارات ومجازات خارجة عن الدائرة التي كان يستعملها الجاهليون، وله أسلوب أخَّاذ كان بعيدًا عن أسلوب الجاهليين، وله معانٍ كذلك؛ قال السيوطي في المزْهِر: «قال ابن خَالوَيه: إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة، والمنافق اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهلية، وقال ابن الأعرابي: لم يُسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق … إلخ»، فلا تستطيع بعد ذلك أن تقول: إن معجم القرآن ومعانيه وأمثاله تمثل الحياة العقلية من الناحية اللغوية.

وبعدُ؛ فمع كل هذه العقبات نرى أن ما يسلم من شعر ومَثَل صحيحين يدلنا — نوعًا ما — على حياتهم العقلية، كما يدلنا كُم ثوب عُثر عليه على طول الثوب نفسه وسعته، على اختلاف في الصعوبة بين الماديات والمعنويات.

وهذا الباقي يدلنا على غنى معجم اللغة قبل الإسلام، وخاصة فيما يتصل بنوع معيشتهم، وقد عبر عن ذلك الأستاذ «نُولدكِه» خير تعبير إذ يقول: «إنا ليتملَّكنا الإعجاب بغنى معجم اللغة العربية القديم، إذا ذكرنا مقدار بساطة الحياة العربية وشئونها، وتوحد مناظر بلادهم واطرادها اطرادًا يدعو إلى السآمة والمَلَل، وهذا يستتبع حتمًا ضيق دائرة التفكير، ولكنهم في داخل هذه الدائرة الضيقة وضعوا لكل تغير — وإن قل — كلمة تدل عليه؛ ويجب أن نقر بأن معاجم اللغة العربية قد تضخمت كثيرًا بكلمات استعملها الشعراء وصفًا لأشياء فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، فمثلًا إذا أطلق شاعر كلمة «الهَيْصَم» على الأسد من الهَصْم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر «الهَرَّاس» من الهَرْس وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد، وقد أدخل باب الهجاء — على الأخص — في اللغة وفي الأدب العربي — وهو باب ذهب أكثر ما قيل فيه — تعبيرات كثيرة صاغها قائلوها في صور مبتكرة وأحيانًا غريبة، وقد انتقص اللغويون — على ما يظهر — كلمات وردت في بعض الأشعار على قلة، ولم تكن مستعملة إلا في قبائل معينة، ولكن رغمًا عن هذا كله يجب أن نعترف بأن معجم اللغة العربية غَنيٌّ غِنًى رائعًا، وسيبقى دائمًا مرجعًا هامًّا لتوضيح ما غمض من التعبيرات في جميع اللغات السامية الأخرى.

وليست اللغة العربية غنية بكلماتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضًا، فجموع التكسير وأحيانًا أسماء الأفعال كثيرة زائدة عن الحاجة» ا.هـ باختصار.

ونحن نوافقه في غنى اللغة العربية غنى مفرطًا في الحدود التي ذكرناها من قبل، وهي الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل وما إليه، والصحراء وما فيها، وألفاظ العواطف المحدودة التي تجيش في صدورهم؛ ولكن ليست غنية فيما خرج عن هذه الحدود كالبحر وعالَمه، ولا بأنواع الترف التي يَنْعم بها المنغمسون في الحضارة، يعرفون القبيلة وما تفرع منها، ويضعون لكلٍّ اسمًا؛ لأن نظام القبيلة نظامهم؛ ولكن لا يعرفون نظام الحكومات ولا أنواع الدواوين، فلم يضعوا لها بالضرورة اسمًا فلما عرفوا معنى الديوان أخذوا اسمه عمن يعرفه؛ وهكذا، ولم يكن يتطلب منهم في الجاهلية أن يضعوا كلمات لما لم يمس حياتهم، فذلك محال، وحسب الأمة فضلًا أن تسمي ما تشعر به الاسم والأسماء، ولكن حسبها مذلة أن تتحضر وتتسع حياتها من جميع نواحيها، ثم لا تريد إلا أن تبقى — من حيث اللغة — في حدود الدائرة الضيقة التي رسمها لهم آباؤهم الأولون.

كذلك مما لا شك فيه أن اللغة العربية غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها؛ فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يُشعرنا شعورًا تامًّا بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء.

وللغة دلالة أخرى على الحياة العقلية من حيث ما تستخدم فيه اللغة من شِعر ومُثل وقَصَص … وسيتجلى ذلك في الفصول التالية.

(٢) الشعر

يذهب بعض الباحثين١ إلى أن الشعراء في الجاهلية كانوا «هم أهل المعرفة»، يعنون بذلك أن طبقة الشعراء في الجاهلية كانوا أعلم أهل زمانهم، وليسوا يعنون بالضرورة أي نوع من أنواع العلم المنظم، إنما يعنون أنهم أعلم بما يتطلبه نوع معيشتهم، كمعرفة الأنساب ومثالب القبيلة ومناقبها؛ وقد يُساعد على هذا الرأي اشتقاق المادة، فشعَر في الأصل معناه عَلِمَ، تقول شَعَرت به: علمتُ؛ وليت شعري ما صنع فلان: أي ليت علمي محيط بما صنع؛ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ: ما يدريكم، وشعَر بكذا: فطِن كما في اللسان، فالمادة كلها معناها العلم أو المعرفة، وعليه فيكون الشاعر معناه العالِمُ، والشعراء: العلماء، ثم خصصوا الشعر بهذا الضرب من القول، قال في اللسان: «والشعر منظوم القوم، غَلَبَ عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرًا من حيث غلب الفقه على علم الشرع» اهـ. وربما ساعد على هذا أيضًا ما جاء فيه: قال الأزْهَري: «الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر؛ لأنه يَشْعُر ما لا يشعر غيره؛ أي: يعلم» اهـ. ولكن يرى بعض المستشرقين أن كلمة شعر مأخوذة من اللغة العبرية ففيها «شير» بمعنى الترتيلة أو التَّسبيحة القدسية، ويُرجحون ذلك بأنه لم يرد في اللغة العربية شَعَرَ بمعنى ألَّف البيت أو القصيدة، وكل ما فيها شعر بمعنى قال الشعر، وفرقٌ بينهما.

وبعدُ؛ فهل حق أن الشعراء أعلم الطبقات في الجاهلية؟ نحن نشك في هذا كثيرًا؛ لأنا نرى أنه كان في الجاهلية طبقة أخرى هي طبقة الحُكام، وهؤلاء كانوا يحكمون بين الناس إذا تشاجروا في الفضل والنسب، وغير ذلك، وكان لكل قبيلة حاكم أو أكثر، واشتهر منهم كثيرون كأكْثَمَ بن صَيْفِي، وحاجب بن زُرارة، والأقْرَع بن حابس، وعامر بن الظَّرب؛ وما رُوي عنهم في كتب الأدب من أقوالهم وأحكامهم يدلنا على أنهم أرقى عقلية، وأصدق رأيًّا من الشعراء، وإن كان الشعراء أوسع خيالًا وأكثر في القول افتنانًا.

نعم، إن الشعراء كانوا من أرقى الطبقات عقلًا، بدليل ما صدر عنهم من شعر، وبدليل أحاديث مبعثرة تراها تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، كالذي جاء في سيرة ابن هشام «أنَّ الطُّفَيْلَ الدوْسِيَّ قدم مكة ورسول الله بها، فَحَذَّرَهُ رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله، قال الطفَيْل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ثم قلت في نفسي: واثكْلَ أمي! والله إني رجل لبيت شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته».

أضف إلى ذلك أنا نجد أكثر الشعراء في الجاهلية من أكرم الناس على قومهم؛ لأن موقف الشاعر في قبيلته كان التغني بمناقبها، ورثاء موتاها، وهجاء أعدائها، وقلَّ أن تجد في أول أمرهم من كان صعلوكًا يتخذ الشعر حرفة كما فعل الحُطَيْئَةُ بعدُ.

ومع هذا فإنا نرى أن الشعراء كانوا من أرقى طبقاتهم عقلًا، ولكن ليسوا أرقاهم.

دلالة الشعر على الحياة العقلية: قديمًا قالوا: «إن الشعر ديوان العرب»، يعنون بذلك سِجِل سُجِّلت فيه أخلاقهم وعاداتهم، وديانتهم وعقليتهم، وإن شئت فقل: إنهم سجلوا فيه أنفسهم؛ وقديمًا انتفع الأدباء بشعر العرب في الجاهلية، فاستنتجوا منه بعض أيامهم وحروبهم، وعرفوا منه أخلاقهم التي يمدحونها والتي يهجونها، واستدلوا به على جزيرة العرب وما فيها من بلاد وجبال وسهول ووديان ونبات وحيوان، وما كانوا يعتقدون في الجن، وما كانوا يعتقدون في الأصنام والخرافات، وألفوا في ذلك جميعه الكتب المختلفة.

وكانت الطريقة المثلى للانتفاع بهذا «الديوان» أن يُعنَى العلماء بجمع ما صح عندهم من الشعر الجاهلي، مع نقد السَّنَدِ والْمَتن، وإبعاد ما لم يصح، كما فعل المحدِّثون في الحديث، فليس لدينا مجموعة من الشعر الجاهلي ذُكِرَ سَنَدُها، وعُني ببيان رجالها عناية تامة، كالذي عندنا من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، وكان يجب أن يُعنَى بالشعر الجاهلي هذه العناية متى عددناه «ديوانًا» نسجل فيه الحوادث والعادات ونظرنا إليه كأنه وثائق تاريخية، ولكن يظهر أن هذا النظر إلى الشعر الجاهلي لم يكن سائدًا عند الرواة والأدباء، إنما كان السائد عندهم أو عند أكثرهم النظر إليه كمادة لتعليم اللغة، أو كأنه طرْفة ومَلْهى ومادة لحسن المحاضرة؛ فلم يكن يُعنَى به هذه العناية التي بُذلت في الحديث، ولم يُر مَن يتعمد الكذبَ فيه أن يتبوأ مقعده من النار.

نعم، إن بعض الأدباء سار في الأدب سيره في الحديث، فكان يروي الخبر مُعَنْعَنًا، ووضع بعضهم مصطلحات لرواية الأدب على نمط مصطلح الحديث، ولكن يظهر لنا أنها كلها محاولات أولية لم تنضج، ولم يسيروا فيها إلى النهاية.

كذلك أكثر ما رُوي لنا قد عُني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون نظرة الأديب لا نظرة المؤرخ، فالقصيدة التي لم يُحْكَم نَسْجُها، ولم تُهذب ألفاظها ولم يصح وَزْنها، قد يُعجب بها المؤرخ أكثر من إعجابه بالقصيدة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على الحياة العقلية أكثر من قصيدة راقية، ولعل هذا هو السبب في أنا مع اعتقادنا أن الشعر كان خاضعًا للنشوء والارتقاء، قَلَّ أن نرى فيما يُروى لنا منه المحاولات الأولية التي بدأ بها الشعراء شعرهم، ثم تدرجوا منها إلى ما وصل إلينا من الرقي، ذلك أن الأديب لم يكن يروقه ذلك فيهمله، أو يستضعف وزنه فيصلحه، وبذلك يضيع كثير من معالم التاريخ.

•••

لو كان عندنا هذه المجموعة التي لا يقصد فيها إلى الاختيار، ولكن يقصد فيها إلى الصحة، لكان لنا مادة صادقة للدلالة على أشياء كثيرة، منها الحياة العقلية.

ومع هذا فما لدينا يُمثل بعض الشيء — وإن لم يكن وافيًا كما ذكرنا من قبل — وأشهر المجموعات التي لدينا مما نُسب إلى الجاهليين — عدا دواوين الشعراء — هي:
  • (١)

    المعلقات السبع، ويغلب على الظن أن جامعها حَمَّاد الراوية.

  • (٢)

    المُفَضَّلِيَّات، وجامعها المُفَضَّل الضَّبِّي، وتشتمل على نحو ١٢٨ قصيدة.

  • (٣)

    ديوان الحماسة لأبي تمام، وفيه مقطعات كثيرة صغيرة من الشعر الجاهلي.

  • (٤)

    ومثله حماسة البحتري.

  • (٥)

    وفي كتاب الأغاني، والشعر والشعراء لابن قتيبة أشعار ومقطعات كثيرة للجاهليين.

  • (٦)

    مختارات ابن الشجري.

  • (٧)

    جمهرة أشعار العرب لمن يُسمى أبا زيد القرشي.

والشعر الذي وصل إلينا عن الجاهلية لم يعدُ تاريخ أقدمِه ١٥٠ سنة قبل البعثة؛ ونظرة عامة إليه تدلنا على أنه ليس متنوع الموضوعات كثيرًا، ولا غزير المعاني، فما رُوي لنا من القصائد موسيقاه واحدة، يوقع على نغمة واحدة، والتشابيه والاستعارات تُكرر غالبًا في أكثر القصائد: قلة في الابتكار، وقلة في التنوع، ولنستعرض كثيرًا منها، فماذا نرى؟

يتخيل الشاعر أنه راحل عَلَى جمل ومعه صاحب أو أكثر، وقد يعرض له في طريقه أثر أحبة رحلوا فيستوقف صحبه ويبكي معهم على رسم دارهم، ويذكر أيامًا هنيئة قضاها معهم، وأن العيش بعدهم لا يُحْتَمَل، ثم يصف محبوبته إجمالًا وتفصيلًا، ويخرج من هذا إلى وصف ناقته أو فرسه ويُقارنها بالوعل أو النعامة أو الغزال، وقد يطفر من ذلك إلى وصف الصيد ومنظره ومنازلته؛ وبعد هذا كله يتعرض للموضوع الذي من أجله أنشأ القصيدة، فيتمدح بشجاعته أو يتغنى بفعال قبيلته، أو يُعدد محاسن ممدوحه ويصف كرمه، أو يفتخر بموقعة انتصر فيها قومه، أو يهجو قبيلة عدَت على قبيلته، أو يحمل قومه على الأخذ بالثأر أو يرثي راحلًا؛ وهذه — تقريبًا — كل الموضوعات التي قيل فيها الشعر الجاهلي، وهي موضوعات كما ترى محدودة ضيقة، هي ظل حياة الصحراء، وصورة صادقة لعيشة البداوة، والحق أنهم في البيان واللعب بالألفاظ كانوا أقدر منهم على الابتكار وغزارة المعنى، فترى المعنى الواحد قد توارد عليه الشعراء فصاغوه في قوالب متعددة تستدعي الإعجاب، ولكن لا يستدعي إعجابنا خلْقُهم للمعاني، وابتكارهم للموضوعات، وقد عبَّر عنترة عن ذلك بقوله:

هل غادَرَ الشعَرَاء مِنْ مُتَرَدَّمِ
أمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّار بَعْدَ توَهُّمِ

وزهير إذ يقول:

ما أرانَا نَقُولُ إلا مُعَارا
أو مُعَادًا مِنْ لَفْظِنَا مكرُورا

ولكن ما أنصفوا، فقد غادر الشعراء كثيرًا، والناس من قديم يشعرون ولا يزال مجال القول ذا سعة، ولا يزال الخيال الخصب ينتج ويجدد، ويخلق موضوعات لم تكن ومعاني لم يسبق بها؛ ولكن ضيقوا على أنفسهم، أو قل ضيقت عليهم بيئتهم فلم يجدوا إلا أن يقول معادًا أو معارًا.

اللهم إلا أبياتًا قليلة مبعثرة تشعر فيها بمعنى جديد، وترى فيها أثر الابتكار واضحًا، وإلا شعراء نادرين كانت لهم مناح خاصة وشخصية واضحة، وتسمع لقولهم نغمة جديدة، كالذي تراه في زُهير، فقد عُني بأخلاقية قومه، وعبر عنها تعبيرًا صادقًا.

وكذلك تشعر حين تقرأ الشعر الجاهلي — غالبًا — أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص؛ وإنك لتتبين هذا بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم؛ وقل أن تعثر على شعر ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، وأظهر فيه أنه يحسن لنفسه بوجود مستقل عن قبيلته.

ولما انتشرت اليهودية والنصرانية بين العرب ظهرت نغمة دينية جديدة، تراها في مثل شعر عدي بن زيد في الحيرة، ثم في أمية بن أبي الصَّلت في الطائف.

وخلاصة القول أن الشعر الجاهلي لا يدلنا على خيال واسع متنوع، ولا على غزارة في وصف الشاعر والوجدان بقدر ما يدلنا على مهارة في التعبير وحسن بيان في القول.

(٣) الأمثال

يقول علماء اللغة العربية: إن كلمة المَثَل مأخوذة من قولك هذا مَثَلُ الشيء ومِثْله كما تقول: شَبَهُهُ وشِبْهُهُ؛ لأن الأصل فيه التشبيه، ثم جعلت كل حكمة سائرة مثلًا، ويرى غيرهم أن الكلمة مأخوذة من العبرية، ففيها كلمة «مَشَل» تدل على هذا المعنى أوسع منه، فهم يطلقونها على الحكمة السائرة، وعلى الحكاية القصيرة ذات المغزى، وعلى الأساطير.

وعلى كل حال فسنبحث في الأمثال — فقط — من ناحية دلالتها العقلية، فمن أمثال الأمة نستطيع أن نتفهم الدرجة التي وصلت إليها، ونستطيع أن نعرف كثيرًا من أخلاقها وعاداتها.

وللأمثال من هذه الناحية مِيزةٌ على الشعر، ذلك أن الشعر تعبير طبقة من الناس يُعَدُّون في مستوى أرقى من مستوى العامة، فالشعراء يُعبرون عن شئون القبيلة التي ارتَسمت في أذهانهم الراقية — نوعًا من الرقي — وهم يعبرون بألفاظ مصقولة صقلًا يستوجبه الشعر، أما الأمثال فكثيرًا ما تنبع من أفراد الشعب نفسه، وتُعبر عن عقلية العامة، ولذلك تجد كثيرًا منها غير مصقول، أعني أنه لم يتخير لها ألفاظ الأدباء ولا العقلاء الراقين، مثل قولهم: «أوَّلُ ما أطْلَعَ ضبٌّ ذَنَبَه»، وقولهم: «أم قُبَيْسٍ وأبو قبيس، كِلاهُمَا يخلِط خَلْطَ الحَيْس»، وربما كان هذا هو السبب في أن بعض الأمثال العربية يُفهم معناها إجمالًا لا تفصيلًا، قال أبو هلال العسكري في كتابه جمهرة الأمثال في شرح «بِعَيْنٍ ما أرَيَنَّكَ»: «إن معناه (أعْجِلْ)، وهو من الكلام الذي قد عُرف معناه سماعًا من غير أن يدل عليه لفظه، وهذا يدل على أن لغة العرب لم ترد علينا بكمالها، وأن فيها أشياء لم تعرفها العلماء» اهـ.

وأنا أرى أنه يدلنا أيضًا على أن ما وصل إلينا من الشعر والخطابة ونحو ذلك هو لغة الأدباء المصقولة، لا لغة الشعب والعامة، ولم يصل إلينا من لغة العامة إلا بعض الأمثال.

ولست أعني أن كل الأمثال ساقطة التعبير غير مصقولة الألفاظ، ولكن أعني أنها تُمثل الشعب بأجمعه، فقد ينبع المثل من طبقة راقية فيكون راقيًا مصقولًا، وقد ينبع من العامة فلا يكون كذلك، أما الشعر فلا ينبع إلا من طبقة الشعراء، وهم عادة أرقى من الشعب، وهم إن فات بعضهم رقي المعنى فلن يفوته صقل اللفظ، ومن أجل هذا عبر بعضهم عن المثل بأنه «صوت الشعب»، ومن أجل هذا أيضًا كانت دلالة الأمثال على لغة الشعب أصدق من دلالة الشعر.

رأى الباحثون في الأمثال أن هناك نوعًا منها يكاد يكون شائعًا بين الشعوب كلها، ونوعًا آخر تختلف فيه الأمة عن الأخرى، فالنوع الأول موضوع البحث: كيف اتفقت الأمم في هذه الأمثال، وخصوصًا في اللغات ذات الأصل الواحد كاللغات السامية ففيها أمثلة متقاربة، وفي بعض الأمثال العربية مشابَهَةٌ قريبة لأمثال سليمان، لا تختلف عنها إلا في صوغها في القالب العربي، وتحويرها تحويرًا طفيفًا لتتفق والذوق العربي، والنوع الثاني موضع البحث: لِمَ كان كذلك في هذه الأمة وكان غير ذلك في الأمة الأخرى؟ فالأمة الزراعية لها أمثال مشتقة من زراعتها، والتجارية لها أمثال مشتقة من تجارتها؛ وهكذا، وإنك لتستطيع أن تطبق ذلك على العرب باستعراضك أمثالهم، فقد أكثروا من الأمثال المتعلقة بالإبل وشئونها، فقالوا: «استَنْوقَ الْجَمَلُ»، و«إنما يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَل»، و«أغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِير؟»، وهكذا أمثالهم في اللبن والْجَزور، وإن أنت استعرضت أمثال قريش رأيت فيها ما يدل على أنهم قبيلة تجارية، كقولهم: «لا في العير ولا في النَّفير» ونحو ذلك.

وقد عاق عن الاستفادة من الأمثال العربية من هذه الناحية أمران:
  • (الأول): اختلاط الأمثال الجاهلية بأمثال الإسلام اختلاطًا كبيرًا، حتى ليصعب التفريق بينهما، وهذه أول خطوة يجب التحقق منها قبل الاستدلال بالأمثال على الحياة العقلية؛ وقد رووا أن «عِلاقة الكلابي» جمع الأمثال في عهد يزيد بن معاوية، وقد كان هذا يفيدنا كثيرًا لو وصل إلينا؛ إذ لا يكون قد ذكر فيه إلا أمثال الجاهلية وصدر الإسلام، ولكنه لم يصل.
    نعم، إن هناك دلائل تدلنا أحيانًا على مصدر المثل من طرق عدة:
    • (١) إن هناك عدة أمثال قيلت في حوادث تاريخية كجزاء سِنِمَّار، ومواعيد عرقوب، ولا في العير ولا في النفير، وتسمع بالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه، وهذه دلالة صحيحة متى ثبت صحة الحادثة التاريخية التي قيل فيها المثل.
    • (٢) الاستدلال من حياة الجاهلية الاجتماعية على أن المثل جاهلي، كالذي قالوا: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فإن ذلك هو الخُلق الجاهلي لا الإسلامي.
    • (٣) إن كثيرًا من الأمثال قد نص المؤلفون على قائليها عند ذكر مضرب المثل، فهم في كثير من الأحيان يذكرون القصة التي قيل فيها المثل، فنستدل بذلك — ولو على وجه التقريب — على زمنه، ولكنا نشك في كثير من هذا؛ لأن القصة في كثير من الأحيان يبدو عليها أثر الصنعة، وأنها عملت فَرْشًا ينطبق عليه المثل، بدليل أن المؤلفين كثيرًا ما يذكرون قصصًا مختلفة متباينة لمضرب المثل الواحد؛ أضف إلى ذلك أن أكثر الأمثال في الأمم يصعب تعيين قائليها، حتى الأمثال قريبة العهد؛ لأن الأمثال ليست إلا جُمَلًا قصيرة نتيجة تجارب طويلة، وهي عندما تُقال لا تكون مثلًا، وإنما يجعلها مثلًا شيوعها بعدُ لموافقتها لذوق الجمهور، ويغلب عندئذ أن يكون قد نُسي قائلوها.
  • (الأمر الثاني): من وجوه الصعوبة: أن أكثر جامعي الأمثال رتبوها على حسب حروف الهجاء، فجعلوا ما أوله ألِف، ثم ما أوله باء وهكذا، ولم نر فيما نعلم أحدًا رتبها على حسب أصولها الاجتماعية كأن يجمع الأمثال التي تتعلق بالغنى والفقر، وبالعُمر وأطواره، وبالزواج والأسرة، وبالعمل والتجارة، وبالحظ وما إليه، وبالأصدقاء والجيران، وبالمرأة وأخلاقها، وبالصحة والمرض؛ إلى نحو ذلك، ولو فعلوا ذلك — كما فعل بعض مؤلفي الفرنج في أمثالهم — لأفادونا فائدة كبرى من ناحية موضوعنا.

•••

وقد شاع بين العرب في الجاهلية ذكر لقمان، واتخذوه شخصية هي مثال الحكمة، ينسبون إليه من الأمثال كثيرًا مما لم يُعرف قائله، وسمعت في القرآن سورة باسمه، وزعم بعض العلماء أن هناك لقمانين: لقمان الحكيم، ولقمان عاد، وأن لكلٍّ وردت أمثالًا.

فقالوا عن الثاني، ورد: «إحْدَى حُظَيَّاتِ لقمان»، و«آكَلُ من لقمان»، ورووا للأول حِكَمًا كثيرة، ويظهر أن حكَمَه كانت متداولة بين العرب لدرجة كبيرة، ذكر ابن هشام في السيرة: «أن سُوَيْد بن صامت قَدِم مكة حاجًّا أو مُعْتَمرًا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجَلَدِه وشرفه ونسبه … فتصدَّى له رسول الله حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله ، وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان، فقال رسول الله : اعرضها عليَّ، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليَّ، هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبْعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن» … إلخ٢.

ولكن من لقمان هذا؟ ما هُوِيَّتُهُ؟ وما قومه؟ وأية مدنية تمثلها حكمته؟ وفي أي عصر كان؟ لم يصل العلم إلى تحقيق ذلك بعد، وقد اضطربت الأقوال فيه اضطرابًا كبيرًا، فقيل: كان نوبيًّا من أهل أيْلَة، وقيل: كان حَبَشيًّا، وقيل: كان أسود من سودان مصر، وزعم وَهب بن منبِّه أنه يهودي، وأنه ابن أخت داود؛، وقيل: ابن خالته وكان في زمنه، وفي تفسير البيضاوي: «إنه لقمان بن باعورا من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته، وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم»، ويقول ياقوت في معجمه في مادة طبرية: «وفي شرق بحيرة طبرية قبر لقمان الحكيم وابنه، وله في اليمن قبر، والله أعلم بالصحيح منهما» اهـ.

ويروي بعضهم حديثًا عن النبي أنه قال: «سادة السودان أربعة: لقمان، والنجاشي، وبلال، ومَهْجَع»، وظاهر أن كلمة السودان لا يُراد بها السودان بالمعنى الذي نصطلح عليه الآن، إنما يُراد بها الجنس الأسود.

وعلى كل حال، فالذي نستنتجه من هذا أنهم مجمعون على أنه ليس عربيًّا، وأنه أدخل على العرب حكمة أمة أخرى، ويُرجح بعضهم أنها العبرية، ويزعمون أن كلمة لقمان تعريب من العرب لكلمة بَلْعَمْ، وبَلْعَمُ بنُ باعورا يهودي معروف، وقد ذكر الإمام مالك في موطئه كثيرًا من حكمه؛ وجُمعت له جملة أمثال قصصية في كتاب اسمه: «أمثال لقمان» ويدل ضعف أسلوبه، ونزول عبارته، وكثرة الخطأ النحوي والصرفي فيه، على أنه موضوع من عهد قريب، ولم يرد ذكر هذا الكتاب في كتب العرب القديمة فيما نعلم، ورأى بعض الباحثين وجوه شبه بين بعض الأمثال المنسوبة للقمان، وقصص «إيزُوب» اليونانية، وأخذوا يفترضون الفروض في منشأ ذلك مما ليس هذا محله.

وبعد؛ فإن نحن نظرنا إلى أمثال العرب التي نُسبت إلى الجاهليين وجدنا بعضها سخيفًا يستخرج منك ابتسامة الاستهزاء، كالذي ذكرنا من قبل من أقوال ساقطة التعبير، وبعضها قبيح اللفظ في فحش، وبعضها نظرات للحياة متناقضة، مثل: «سَمِّنْ كلبك يأكلك»، «وأَجِعْ كلبك يتْبعك»؛ وكثير منها نتيجة تجربة صادقة ونظر هادئ حكيم، مثل: «أخو الظَّلْماءِ أَعْشى بِلَيل»، و«إنَّ من الحُسْن لشِقْوَة»، و«أم الصقر مِقْلاتٌ نَزُورُ»، و«تجوع الحرة ولا تأكل بثديَيْهَا»، و«التمرة إلى التمرة تمر»، و«الثكلى تحب الثكلى»، و«الحرب مأيمة»، و«بئس العِوَضُ من جَمَلٍ قيْدُه»، و«بينهم داء الضَّرَائر»، و«ترى الفتيان كالنَّخل، وما يدريك ما الدخْل» … إلخ.

والعرب حقًّا أجادوا في هذا النوع من الأدب، وخلفوا لنا ما يدل على عقليتهم أكثر مما يدلنا الشعر والقَصص، ويظهر أن سبب ذلك أنه يوافق مزاجهم العقلي، وهو النظر الجزئي الموضعي لا الكلي الشامل؛ لأن المثل لا يستدعي إحاطة بالعالم وشئونه، ولا يتطلب خيالًا واسعًا، ولا بحثًا عميقًا، إنما يتطلب تجربة محلية في شأن من شئون الحياة.

تدلنا الأمثال على حياة الغرب الاجتماعية التي أجملناها من قبل، فنظرة إلى مجموعة الأمثال التي قيلت في المرأة، تدل على انحطاط منزلتها في نظرهم؛ والتي قيلت في الحياة الاقتصادية، تدل على فقر البلاد وإجدابها، ويطول بنا القول لو عرضنا لك كل الأمثال التي قيلت في كل باب وما يُستنتج منها، ولكنا نحيلك في ذلك على أمثال المَيدَاني، وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، وأمثال المفضل الضبي، بعد أن أبنَّا لك وجهة نظرنا في كيفية بحثها.

وهناك نوعان آخران يلحقان بالأمثال، ولها قيمة كبيرة في الدلالة على الحياة العقلية؛ ولكن يظهر أن المؤلفين لم يُعْنوا بهما العناية الكافية فلم يجمعوهما ويرتبوهما كما فعلوا في الأمثال، إنما تراهما منثورين مبعثرين في الكتب، وهما:
  • (الأول): الأحاجي أو الألغاز، كالذي زعموا أنه اجتمع يومًا عَبِيدُ بنُ الأبرص وامرؤ القيس، فقال له عبيد: كيف مَعْرِفُتك بالأوَابدِ؟ فقال: قل ما شئت تجدني كما أحببت، قال عَبيد:
    ما حيَّةٌ ميتة قامت بميتتها
    دَرْدَاء ما أنبتت نابًا وأضراسا؟

    فقال امرؤ القيس:

    تلك الشَّعِيرة تُسْقَى في سنابلها
    قد أخرجت بعد طول المكث أكداسا

    فقال عبيد:

    ما السود والبيض والأسماء واحدة
    لا يستطيع لهن الناس تمساسا؟

    فقال امرؤ القيس:

    تلك السحاب إذا الرحمن أنشأها
    روَّى بها من نحو الأرض أيباسا

    إلى آخر القصة، وهي طويلة.

    وكالذي زعموا أن امرأ القيس آلى على نفسه ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن له: أربعة عشر، فبينما هو يسير إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تِمِّه، فأعجبته، فقال لها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنان؟ فقالت: أما ثمانية فأَطْبَاء الكلبة، وأما أربعة فأخلافُ الناقة، وأما اثنان فثَديا المرأة، فخطبها من أبيها … إلخ.

    ولم نسق هذين المثلين لاعتقادنا بصحتهما، فإن أثر الصنعة الإسلامية واضح في قوله: تلك السحاب إذا الرحمن أنشأها، وفي قوله بعد:

    تلك الموازين والرحمن أرسلها
    رب البرية بين الناس مقياسا

    هذا فضلًا عن ضَعْفِِ الشعر وإسفافه، وإنما سقناهما للدلالة على ما نُريد من الألغاز والأحاجي؛ وترى كثيرًا منها قد نثر في كتب الأدب كأمالي القالي، والحيوان للجاحظ، والمثل السائر لابن الأثير، وأمثال الميداني، لو جمع وامتحن لدلنا على ناحية خاصة من نواحي الخيال.

  • (الثاني): قصص الحيوانات، كالذي زعموا أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فرجعت بلا أذنين، وفي ذلك يقول بشار:
    طالبَها قلبي فَرَاغَتْ به
    وأمْسَكَتْ قلْبي مَعَ الدَّيْنِ
    فكُنْتُ كالهِقْل٣ غدا يبتغي
    قَرْنًا فَلَمْ يَرْجِع بأُذْنَيْنِ!

    وزعموا أنه لذلك يُسمى بالظليم، وكالذي زعموا أن الغراب ذهب يتعلم مِشية القطاة فلم يتعلمها، ونسي مشيته، فلذلك صار يحجل؛ وأن الضفدع كان بلا ذنَب؛ لأن الضب سلبه إياه.

    وكانوا يقولون: إن الهدهد لما ماتت أمه أراد أن يبرها، فجعلها على رأسه يطلب موضعًا، فبقيت في رأسه، فالقنْزُعة التي في رأسه هي قبرها؛ وإنما أنتنت ريحها لذلك٤، وزعموا أن الهدِيل فرخ كان على عهد نوح؛ فصاده جارح، فما من حمامة إلا وهي تبكيه وتدعوه فلا يجيبها؛ قال بعضهم:
    وما مَنْ تَهْتفين به لنصرٍ
    بأسرع جابَة لك من هَدِيل

    وقولنا في هذا النوع كقولنا في سابقه.

(٤) القصص

كان للعرب قَصَصٌ، وهو باب كبير من أبواب أدبهم، وفيه دلالة كبيرة على عقليتهم، وهذا القصص في الجاهلية أنواع، منها:
  • أيام العرب: وهي تدور حول الوقائع الحربية التي وقعت في الجاهلية بين القبائل، كيوم داحِسٍ والغَبْرَاء، ويوم الفِجار، ويوم الكُلاب؛ أو بين بعض العرب وأمم أخرى كيوم ذي قار، وكان بين شيبان والفرس، وانتصر فيه العرب، وكانت هذه القصص موضوع العرب في سَمرهم في جاهليتهم وفي إسلامهم، «قيل لبعض أصحاب رسول الله : ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا»، وترى هذه الأيام وأخبارها مجموعة في العقد الفريد، وأمثال الميداني؛ وقد زاد القصاص في بعضها وشوَّهوا بعض حقائقها، كالذي تراه في أخبارهم التي حكوها في موت الزَّبَّاء، إذا قارنت بين ما قصوه وما ذكره ثقات المؤرخين عن زنوبيا Zenobia فخبر الزَّبَّاء المروي في الكتب العربية عن هشام بن محمد الكلبي، رواية خيالية موضوعة لا تتفق والتاريخ، ولسنا ندري هل أفسدها العرب في جاهليتهم، أو أفسدها رواة الأدب في الإسلام.
  • أحاديث الهوى: وهذا كثير في كتب الأدب، كالذي رووا من قصة المُنَخَّل الْيَشكرِي المُتَجَرِّدَة زوج النعمان، وما كان بينهما من علاقة، وما قيل في ذلك من قصص، وما روي من أشعار٥.
وهناك نوع من قصص العرب، أخذوه من أمم أخرى، وصاغوه في قالب يتفق وذوقهم، كقصة شَريك مع المنذر، وأنه أتاه في يوم بؤسه رجل يُقال له حنظلة فأراد قتله فطلب منه أن يؤجله سنة، فقال: ومن يكفلك؟ فكفله شريك بن عمرو؛ فلما كان من القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة فلم يأت، فأمر بشريك فقرِّب ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليه فتأملوه فإذا هو حنظلة، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما؛ وأبطل تلك السُّنَة٦ … إلخ، فإن لهذه القصة أصلًا يونانيًّا معروفًا، وكقصة أنه كان لرجل من بني ضَبَّة في الجاهلية بنون سبعة فخرجوا بأكْلُب لهم يقتنصون، فأووا إلى غار فهوت عليهم صخرة فأتت عليهم جميعًا، فلما استراث أبوهم أخبارهم اقتفى آثارهم حتى انتهى إلى الغار، فانقطع عنه الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشد شعرًا٧، فإن لها شبهًا بقصة من قصص المسيحية الأولى.
وقد عرفت العرب في الجاهلية قصصًا كثيرة عن الفرس؛ وكانوا يروونها ويتسامرون بها، جاء في سيرة ابن هشام أن النَّضْرَ بن الحارث كان من شياطين قريش، وممن كان يُؤذي رسول الله ويَنْصِبُ له العداوة، وكان قد قدم الْحِيَرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رُستَم وَاسْفَنْديار؛ فكان إذا جلس رسول الله مجلسًا فذكَّر بالله وحذَّر قومَه ما أصاب مَن قبلهم من الأمم من نقمة الله، خَلَفَهُ في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه! ثم يُحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟ قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: «سأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ»٨.

•••

ولعله بعد الذي ذكرنا؛ من علاقات العرب بمن حولهم من الفرس والروم تجاريًّا! وسياسيًّا ودينيًّا، وما ذكرناه عن لقمان من أنه حبشي أو يهودي أو مصري، ومن إجماعهم على أنه ليس بعربي، وما كان من شبه بين أمثال سليمان والأمثال العربية، وما أشرنا إليه من وجوه الشبه بين بعض قصصهم وقصص الأمم الأخرى، وما كانوا يتحدثون به من أقاصيص الفرس؛ يتضح لك أن العرب لم يكونوا — كما يفهم كثير من الناس — مستقلين عن غيرهم من الأمم استقلالًا تامًّا، لا في وسائلهم الاقتصادية، ولا السياسية ولا الأدبية؛ فلما جاء الإسلام كان الاتصال أتم، وأثر الامتزاج أكبر، كما سيتضح إن شاء الله.

١  كالأستاذ برور في كتابه: «تاريخ الفلسفة في الإسلام».
٢  سيرة ابن هشام جـ ١، ص ٢٦٥ من شرح الروض الأنف. والمجلة معناها الصحيفة.
٣  الهقل: الفتى من النعام.
٤  الشعر والشعراء لابن قتيبة ص ٢٨٠ طبع أوروبا.
٥  انظر: الأغاني جزء ١٨، ص ١٥٤.
٦  الأغاني جزء ١٩، ص ٨٧.
٧  أمالي القالي جزء ١، ص ٦١.
٨  ابن هشام جزء ١، ص ١٩٠ من الروض الأنف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤