الأفندي

لا أحسب أن كلمة صارت من أعز العز إلى أهون الهوان كما صارت هذه الكلمة في مصطلح الزمان!

وقبل كل شيء لعلك تعرف أن كلمة «أفندي» معناها السيد، وهي من ألفاظ التشريف التي انحدرت إلينا عن سادتنا القدماء أعني الأتراك، وعلى الرغم من أننا خلعنا عنا، أو خلعت عنا السيادة التركية، وعلى الرغم من أننا قد ظفرنا باستقلالنا، فإن أكثر ألقاب التشريف في بلادنا ما برحت تركية، «فأفندي» تركية، و«بك» تركية، و«باشا» تركية أيضًا!

وكل ما صنعنا في هذا الباب، عندما اختلعنا من سيادة تركيا أننا أصرنا في توجيه الخطاب، هذه الألقاب إلى النهج العربي، أما جوهرها فباقٍ كما هو تركي وابن تركي، فبدلًا من أنه كان يقال مثلًا: «عزتلو أفندي»، أصبح يقال: «صاحب العزة» وبدلًا من أنه كان يقال: «سعادتلو أفندي حظر تلري» أصبح يقال: «حضرة صاحب السعادة»، على أن تلحق الأولى بلقب «بك»، والثانية بلقب «باشا».

أما «أفندي» فلقد علمت أن معناها السيد، وأما الميم التي توصل بها أحيانًا فهي أداة الإضافة للمتكلم، «فأفندم» معناها «سيدي»، ولهذا كان ولي الأمر إذا وجه الخطاب إلى رئيس «النظار»، أو إلى من يقوم مقامه في المناسبات المختلفة لا يكتب مطلقًا: «دولتلو أفندم»، أو «عطوفتلو أفندم» بل يكتب: «دولتلو باشا»، أو «عطوفتلو باشا»، لما تعلم من أنه أجل محلًّا من أن يدخل في سيادة أحد على أي وجه من الوجوه.

ونعود إلى كلمة «أفندي»، فنقول: إن أصحابها الترك كانوا يضنون بها أعظم الضن، ويغلون قدرها أيما إغلاء، وذلك على العكس من كلمة «بك» فإن كل رجل … هناك يكاد يكون «بك»، وأرجو أن تنطق بالكاف باء، فذلك هو المنطق الصحيح، أما «أفندي» فكانت لقب ولي عهد المملكة العثمانية ووارث منصب الخلافة الإسلامية، كما كانت لقب أعضاء البيت المالك هناك، كذلك كانت لقب شيخ الإسلام.

ولما كان منصب قاضي القضاة في مصر لا يتولاه إلا تركي بحكم السيادة العثمانية إلى سنة ١٩١٤، كان يقال له أو عنه: «قاضي أفندي»، وقد نضح العرف هذا اللقب على القضاة المصريين أيضًا، وأعني بالضرورة القضاة الشرعيين، على أن هذا اللقب ظل محصورًا في دائرة هذا القضاء، ولا أدري أبقيت منه بقية إلى الآن، أم عُفي عليه فيما عُفي هذا الزمان؟

نعم؛ لقد كان يدعى المخاطب في درج الحديث «بك أفندي»، ولكن «أفندي» مطلقة لا تكون كما أسلفنا، إلا لأمثال من ذكرنا من سادة السادات وأعظم العظماء.

أما في مصر، وأعني في العصر الذي شهدنا أطرافه، فإن لقب «أفندي» وإن لم يكن له هذا الخطر ولا بعضه، فلقد كان له حظ من الإجلال غير يسير، فهو في الغالب الكثير لقب الموظف في الحكومة، وناهيك بالموظف الحكومي في تلك الأيام! لقد كان هذا «الأفندي» موضع إجلال أهل الحي وإعجابهم، وكان أكثرهم يعود من «الديوان» وقد رشق قلمه البسط رشقًا أفقيًّا في أعلى أذنه اليمنى إيذانًا للناس بما صرف من الأمر، وما قضى في حقوق الرعايا وأرزاقهم؛ إذن فإنه يقضي في دمائهم وأعناقهم، ولهذا كنت تراه يمشي متمهلًا متتايهًا، يتلقى نظرات الاحترام والإعجاب.

ولم يكن حي من أحياء القاهرة تخلو رقاعه الكبيرة من بيت «ست أم الأفندي»، وبيت «ست أم الأفندي» هذا كان شرعة الرائدات ومثابة القاصدات، إليه يحج نساء الحي، وله يطلبن لا يرحل الناس إلا نحو حجرته، كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل وكان لسائر البيوت الصوى والمنار، فإذا استخبرت سيدة عن أحد المنازل، دلتها صاحبتها عليه ببيت «ست أم الأفندي»، فتقول لها مثلًا: اجعلي بيت «ست أم الأفندي» على يمينك، ثم انعطفِي في أول زقاق على يسارك وعدي من اليسار بيتين، الثالث هو البيت الذي تطلبين.

ولقد كان هناك أيضًا بيت «ست أم البك» على أن هذه البيوت كانت نادرة جدًّا، بحيث لا يقع في الحي كله إلا اثنان منها أو ثلاثة على الأكثر.

وكيفما كان الأمر فإنني أرجو ألا يميل بك الظن إلى أن «ست أم البك» كنيت بذلك؛ لأن ابنها «البك» موظف في الحكومة كشأن «ست أم الأفندي»، العفو! العفو! وهل كان يبلغ الموظف مرتبة «البكوية» في الحكومة وأمه لا تزال على ظهر هذه الأرض؟ بحسبه أن يسعى سعادته سعي الأحياء، وإن ضربته السنون بمائتي داء! «فست أم البك» إذن لم تكن أم موظف، ولكن كانت في الغالب مرضعًا لولد من أولاد الذوات! ولكي تزداد علمًا بموضع كلمة «أفندي» من جمهرة الشعب، أذكر لك ما روي لي من أنه من نحو خمسين سنة، أراد بعضهم أن ينشئ في حي الحسين — رضي الله عنه — «قهوة» فخمة عصرية «مودرن»، تليق بمجالس الخاصة والمترفين من الناس، فلم يجد أكرم ولا أعظم ولا أفخم من أن يدعوها ويكتب على جبينها بالخط الطويل العريض الجميل «قهوة أفندية!»

وبعد، فذلك بعض العز الذي ناله لقب «أفندي» في الزمان الطويل، أما الآن فكفاك الله شر الهوان، وعصمك من الاستكانة بعد السلطان، وحفظ مجدك من غدر الزمان!

أفندي! وهل أصبح يطيقها موظف أو طالب أو فتى يعيش بفضل إرث أو شاب تجري عليه وظيفة من وقف؟ فإذا دعوت أحدهم «بالأفندي» تجهم لك، وانعقد ما بين عينيه ألمًا وغضبًا، وربما ابتدرك من القول أو الإشارة بما يسوءك، فإذا هو قبلها منك لشأنك ولموضعك، فهو إنما يتجرع ولا يكاد يسيغ!

ولقد أضحى الجميع يتداعون بلقب «البك»، صغارهم وكبارهم في هذا بدرجة سواء! ولا بأس بهذا وليكن شأننا فيه شأن إخواننا الأتراك.

بقيت «الأفندي» التي ذلت في هذا العصر وهانت ولم يبقَ لها من أمل تعيش عليه إلا في جماعات الحجاب والسعادة في الدواوين، فهم الذين يرضونها ويطمئنون بها، ويستريحون إليها دون سائر المطربشين.

أستغفر الله! فلقد نسيت عسكري الدورية، وهل يستطيع حوذي من أي صنف، أو بائع من هؤلاء المترفقين بأبدانهم، أو نحو هذين ممن يرهبون سطوة جندي النوبة أو يدعوه بيا عسكري، أو يا جاويش، إنهم جميعًا ليدعونه «بيا أفندي» وكثيرًا ما تكون هذه الدعوة المحببة سببًا في الإغضاء، أو التلطف في القضاء!

أرأيت كيف صحت العبارة العامية في هذه الكلمة: «يقطع من هنا ويوصل من هنا!»

ولا أرى قبل أن أختم هذه الكلمة بدًّا من الإشارة إلى كلمة أخرى، بعثها السعد من الأرض وعلا بها على السحاب، فأضحت لأجل أصحاب المناصب أجل الألقاب.

لا أدري إن كنت تدري أو لا تدري أن ألقاب التشريف كانت تجري صعدًا على النحو الآتي: حميتلو «بتشديد الياء»، وهذه لأصغر طبقات الموظفين. فرفعتلو، فعزتلو، فسعادتلو، فعطوفتلو، فدولتلو. وترجمتها على التوالي: صاحب الحمية، صاحب الرفعة، صاحب العزة … إلخ.

فترى أن هذه الرقعة قد طارت من هذا المكان، وحلقت حتى أمست أعظم تشريف لرئيس الحكومة ولرئيس الديوان!

آمنت أن من الألقاب ما يهبط ومنها ما يصعد، ومنها ما يشقي ومنها ما يسعد، «وكذلك الدهر حالًا بعد حال» ولله الأمر من قبل ومن بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤