خان الخليلي

١

انتصفت الساعة الثانية من مساء يوم من سبتمبر سنة ١٩٤١ موعد انصراف الدواوين، حين تنطلق جماعات الموظفين من أبواب الوزارات كالفيضان العارم، وقد نهكها الجوع والملل‏ ثم تنتشر في الأرض تطاردها أشعة الشمس الموقدة. انطلق أحمد عاكف — الموظف بالأشغال — مع المنطلقين، وكان من عادته أن يتخذ سبيله في مثل تلك الساعة كل يوم إلى السكاكيني، أمَّا اليوم فوجهته تتغير فتصير الأزهر لأول مرة، حدث هذا التغير بعد إقامة في السكاكيني طويلة، امتدت أعوامًا مديدة، واستغرقت عقودًا من العمر كاملة، وادَّخرت ما شاءت من ذكريات الصبا والشباب والكهولة، وأعجب شيء أنه لم يفصل بين التفكير في الانتقال وحدوثه إلا أيام معدودات؛ كانوا مطمئنين إلى مسكنهم القديم، يخال إليهم أنهم لن يفارقوه مد العمر، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى صرخت الحناجر: «تبًّا لهذا الحي المخيف» وغلب الخوف والجزع، ولم تعد ثمة فائدة ترجى من مراجعة الأنفس المذعورة، وإذا بالبيت القديم يضحى ذكرى الأمس الدابر، وإذا بالبيت الجديد في خان الخليلي حقيقة اليوم والغد، فحُقَّ لأحمد عاكف أن يقول متعجبًا: ‏«سبحان الذي يغير ولا يتغير!» كان الرجل من أمر هذا الانتقال المفاجئ في حيرة، كان قلبه ينازعه إلى المقام القديم الحبيب؛ ويمتلئ حسرة كلما ذكر أنه قذف به إلى حي بلدي عتيق، إلا أنه لم ينسَ ما خامره من شعور الارتياح حين علم أنه ابتعد عن جحيم ينذر بالهلاك المبين، ولعله أن ينعم الليلة بأول رقاد آمن بعد تلك الليلة الشيطانية التي زلزلت أفئدة القاهرة زلزالًا شديدًا، وبين الحزن والتعزي، والأسى والتأسِّي، مضى يذرع الطَّوَار في انتظار ترام يوصله إلى ميدان الملكة فريدة، وقد ابتلَّ جبينه عرقًا، وكانت الحال لا تخلو من لذة طريفة، ذلك أنه مقبل على استجلاء جديد، واستقبال تغيير: مرقد جديد ومنظر جديد وجو جديد وجيران جدد، فلعل الطالع أن يتبدل، ولعل الحظ أن يتجدَّد، ولعل مشاعر خامدة أن تنفض عن صفحتها غبار الجمود وتبعث فيها الحياة واليقظة من جديد، هذه لذة الاستطلاع ولذة المقامرة ولذة الجري وراء الأمل، بل هذه لذة استعلاء خَفِيَّة ناشئة من انتقاله إلى حي دون حيه القديم منزلة وعلمًا، ولم يكن رأى المسكن الجديد بعد، إذ بوشر نقل الأثاث منذ الصباح الباكر وهو في وزارته، وها هو ذا يقصد إليه كما وصف له، وجعل يقول لنفسه: إنه مسكن مؤقَّت وأنه ينبغي أن يحتملوه مدة الحرب وبعدها يأتي الفرج، وهل كان في الإمكان خير مما كان؟ وهل كان من الحكمة أن يلبثوا في الحي القديم على مرأى ومسمع من الموت المخيف؟ مضى يذرع الطَّوار لأنه لم يكن يحتمل الجمود طويلًا، وكأنما سويت أعصابه من قلق، وكان يدخن سيجارة بعجلة دلت على انشغاله، فبدا في اضطراب حركته وقلق مظهره وشذوذ هندامه كهلًا متعبًا ضيِّق الصدر تلوح في عينيه نظرة شاردة تغيب بصاحبها عمَّا حوله، كان يدنو من ختام الأربعين، عَسِيًّا أن يسترعي الانتباه بنحافة قامته وطولها واضطراب ملابسه اضطرابًا يستدر الرثاء، والواقع أن تكسُّر بنطلونه وانحسار ذراعي الجاكتة عن رسغيه، وتلبد العرق والغبار على حرف طربوشه، وتقبُّض القميص ورثاثة رباط الرقبة، وصلعته البيضاوية، وسعي المشيب إلى قذاله وفوديه، كل أولئك أوهم بتكبير سنه، وفيما عدا ذلك فوجهه نحيل مستطيل، شاحب اللون، ذو رأس صغير مستطيل ينحدر خفيفًا إلى جبهة تميل إلى الضيق، يحدها حاجبان مستقيمان خفيفان متباعدان، يظلان عينين بالغتين في امتدادهما وضيقهما، فهما تكادان أن تملآ صفحة الوجه الضيقة، فإذا ضيقهما ليحد بصره أو ليتقي شعاع الشمس بدتا مغمضتين واختفى لونهما العسلي العميق، وقد تساقطت أهدابهما واحمرَّت أشفارهما احمرارًا خفيفًا؛ يتوسطهما أنف دقيق وفم رقيق الشفتين وذقن صغير مدبب، ومن عجب أنه عُدَّ يومًا ممن يُعنون بحسن هندامهم وأناقتهم، وبدا إذ ذاك في صورة مقبولة، ولكن اليأس والحرص وما اعتراه بعد ذلك داء التشبُّه بالمفكرين نزع به عن أية عناية بنفسه أو بلباسه.

استقل الترام رقم «١٥» وقد افترَّت شفتاه عن ابتسامة ساخرة كشفت عن أسنان مصفرة من فعل التدخين، ومن ميدان الملكة فريدة أخذ الترام رقم «١٩»، وقد ارتكب خطأً سهوًا، فرمى بحكم العادة بالتذكرة التي قطعها في الترام الأول وكانت توصله إلى الأزهر، واضطر أن يقطع تذكرة جديدة ضاحكًا من نفسه في غيظ، وآلمه حرصه على تفاهة الغرم، والحق أنه تعوَّد منذ زمن بعيد أن يكون رب أسرة، وإن بقي لحد الآن أعزب، بيد أنه لا ينفق مليمًا بغير تململ، فحرصه ليس من العنف بحيث يغله عن الإنفاق، ولكنه لا يعفيه أبدًا من التألم كلما وجب الإنفاق.

وانتهى إلى ميدان الأزهر، واتجه إلى خان الخليلي يَتسمَّتُ هدفه الجديد، فعبَر عطفةً ضيِّقة إلى الحي المنشود؛ حيث رأى عن كثَبٍ العماراتِ الجديدةَ تمتدُّ ذات اليمين وذات الشِّمال، تفصل بينها طرقاتٌ وممرات لا تُحصى، فكأنها ثُكناتٌ هائلة يضلُّ فيها البصر، وشاهَد فيما حوله مقاهيَ عامرة ودكاكينَ متباينة — ما بين دكانِ طعمية ودكانِ تُحَف وجواهر — ورأى تيارات من الخَلق لا تنقطع، ما بين معمَّم ومطربش ومقبَّع، وملأت أذنيه أصوات وهتافات ونداءات حقيقة بأن تثير أعصابًا قلقة كأعصابه، فتولاه الارتباك واضطربت حواسه، ولم يدرِ أيان يسير، فدنا من بواب نوبي اقتعد كرسيًّا على كثب من أحد الأبواب وحياه ثم سأله قائلًا: من أين الطريق إلى العمارة رقم «٧» من فضلك؟

فنهض البواب بأدب وقال مستعينًا بالإشارة: لعلك تسأل عن الشقة رقم ١٢ التي سكنت اليوم؟ انظر إلى هذا الممر، سر به إلى ثاني عطفة إلى يمينك فتصير في شارع إبراهيم باشا، ثم إلى ثالث باب إلى يسارك فتجد العمارة رقم «٧».

فشكره وانطلق إلى الممر مغمغمًا «ثاني عطفة إلى اليمين» .. حسنًا ها هي ذي .. وها هو ذا ثالث باب إلى اليسار، العمارة رقم «٧»، وتريَّث قليلًا ليُلقي نظرة على ما حوله. كان الشارع طويلًا في ضيق، تقوم على جانبيه عمارات مربعة القوائم تصل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصلي، وتزحم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت؛ فحانوت ساعاتي وخطَّاط وآخر للشاي ورابع للسجاد وخامس رفاء وسادس للتحف وسابع وثامن … إلخ إلخ، وتقع هنا وهناك مقاهٍ لا يزيد حجم الواحدة على حجم حانوت، وقد لزم البوابون أبواب العمارات بوجوه كالقطران وعمائم كالحليب وأعين حالمة كأنما خدَّرتها الروائح العطرية وذرات البخور الهائمة في الفضاء، والجو متلفع بغلالة سمراء كأن الحي في مكان لا تشرق عليه الشمس، وذلك أن سماءه في نواحٍ كثيرة منها محجوبة بشرفات توصل ما بين العمارات، وقد جلس الصناع أمام الحوانيت يكبون على فنونهم في صبر وأناة ويبدعون آيات بيِّنات من أفانين الصناعة، فالحي العتيق ما يزال يحتفظ لليد البشرية بقديم سمعتها في المهارة والإبداع، وقد صمد للحضارة الحديثة يلقى سرعتها الجنونية بحكمته الهادئة، وآليتها المعقدة بفنه البسيط، وواقعيتها الصارمة بخياله الحالم، ونورها الوهَّاج بسمرته الناعسة. قلَّب فيما حوله طرفًا حائرًا وتساءل ترى هل يستطيع أن يحفظ هذا الحي الجديد كما كان يحفظ حيه القديم؟! وهل يمكن أن يشق سبيله يومًا وسط هذا التيه تقوده قدماه وقد انشغل فكره بما ينشغل به من أمور دنياه؟ ثم اقتحم الباب مغمغمًا: «بسم الله الرحمن الرحيم» وارتقى درجات سلم حلزوني إلى الطابق الثاني حيث عثر بالشقة رقم «١٢»، وابتسمت أساريره لرؤية الرقم كأنه قديم عهد به وآنس إليه في وحشته، ودق الجرس، فانفتح الباب، وظهرت أمه على عتبته تلوح في ثغرها ابتسامة ترحيب، وأوسعت له مستضحكة وهي تقول: «أرأيت إلى هذه الدنيا العجيبة!» فجاز الباب وهو يقول مبتسمًا: «مبارك عليك البيت الجديد!» فضحكت عن أسنان مصفرة لأنها كانت مولعة بالتدخين كابنها وقالت بلهجة المعتذر: قصارى ما وسعنا اليوم أن نفرش حجرتك وحجرتنا … وكان يومًا مُتعبًا حقًّا، ولقد كسرت قائمة أحد الكراسي على ما بذلنا من حرص، وتقشَّر مسند سريرك في بعض المواضع.

ووجد أحمد نفسه في صالة صغيرة مزدحمة بأحزمة المتاع والمقاعد وقطع الأثاث، وضعت السفرة في وسطها وحمِّلت بالآنية ولفَّات الأبسطة، وكان بها بابان على يمين الداخل وفي مواجهته، فنظر فيما حوله في صمت، أما الأم فراحت تقول: الله يعلم أني لم أذُقْ للراحة طعمًا في يومي هذا، فيا لشقاء الأم التي لم تنجب أنثى تستعين بها عند الحاجة، ولقد هربت أنت إلى وزارتك وقبع أبوك في حجرته كعادته، ولم يتورَّع — غفر الله له — أن سألني منذ هنيهة عمَّا هيَّأت لكم من طعام؟ كأنما يسأل ساحرة تقدر على كل شيء! ولكن من حسن الحظ أن حيَّنا الجديد غني بمأكولاته السوقية، ولقد أرسلت الخادم لتبتاع لنا طعمية وسلطة وباذنجانًا …

فتحلَّب ريق أحمد لسماع اسم الطعمية ولاح الرضا في بريق عينيه، ثم سأل أمه: وهل ارتاح أبي واطمأن؟

فابتسمت المرأة ابتسامة لطيفة دلت على أن بلوغها الخامسة والخمسين لم يفقدها كل ما كان لها من دلال أنثوي، وقالت: ارتاح واطمأن والحمد الله، وعسى أن يصدق رأيه، ولكن الشقة صغيرة والحجرات ضيقات، فحشرنا الأثاث فيها حشرًا، و«اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين»!

وجعل يصغى إلى أمه ويتفحَّص ما حوله، فرأى ردهة تمتد على يسار القادم، وعلى يمينها تقع حجرتان، وفي الناحية المقابلة المطبخ والحمام، وقد أشارت أمه إلى الحجرة التي تواجه باب الشقة الخارجي وقالت له: «حجرتك». أما حجرتا الردهة فقد أعدت أولاهما لنوم والديه، وقالت أمه عن الأخرى: «سنحتفظ فيها بأثاث أخيك ونتركها خالية على ذمته».

ومضى الرجل إلى حجرة والده فرأى الشيخ مقتعدًا سريره تلوح في عينيه نظرة هدوء واستسلام، وكان عاكف أفندي كابنه طويلًا نحيفًا، ذا لحية كثة بيضاء، وقد وضع على عينيه عوينات غليظة بعثت في نظرته الذابلة بريقًا خدَّاعًا، وقد حدج ابنه بحذر وريبة وتوثب لرد العدوان إذا حدثت الرجل نفسه بالتهكم به بسبب النقل إلى البيت الجديد، وحيَّاه أحمد وقال له: مبارك يا أبتي!

فقال الشيخ بهدوء: الله يبارك فيك. كل شيء بأمره!

فهزَّ أحمد رأسه وقال: ولكننا بالغنا في خوفنا مبالغة تنكَّبت بنا عن جادة الصواب، ألا ترى يا أبتي أن ما بين السكاكيني وخان الخليلي أدق من أن يدركه الطيار المحلق في السماء؟!

فقال الأب بحزم: هذا الحي في حمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين!

فابتسم أحمد وقال: وإذا ضُرب خطأً كما ضُرب السكاكيني خطأً من قبل؟!

فقال الرجل وقد ضاق صدره: لا تجادل في الحق، إني متفائل بهذا المكان خيرًا، وأمك به راضية، وإن كانت ثرثارة لا تعرف الحمد والشكر، وأنت نفسك مطمئن راضٍ، ولكنك تدَّعي حكمة زائفة، وتتظاهر بشجاعة كاذبة، هلم فاخلع ثيابك ودعنا نتناول غداءنا!

فابتسم أحمد، وتراجع إلى حجرته وهو يقول لنفسه: «صدق أبي.» وألقى على حجرته نظرة فاحصة، فوجدها قد وسعت أثاثه تحت ضغط محا ما كان لها من تناسق؛ فعلى الشمال الفراش، وعلى اليمين صوان الملابس، تليه المكتبة كدست على كثب منها الكتب، وكان بها نافذتان فرغب أن يلقي نظرة عجلى من كل منهما، فدلف من اليمنى وفتحها، وكانت تطل على الطريق الذي جاء منه، ومنها استطاع أن يتبين معالم الحي من عَلُ، فرأى أن العمارات شيدت على أضلاع مربع كبير المساحة، وأقيمت في مساحة المربع التي تحيط بها العمارات مربعات صغيرة من الحوانيت تلتف بها الممرات الضيقة، فكانت نوافذ العمارات وشرفاتها الأمامية تطل على أسطح الحوانيت، وتأخذ نصيبها من الهواء والشمس، ولا يحجب عنها بقية العمارات حجاب، فكان الناظر من إحدى النوافذ الأمامية يرى مربعًا كبيرًا من العمارات ينظر هو من نقطة في أحد أضلاعه، ويرى في أسفله مربعات كثيرة من أسطح الحوانيت، تخترقها شبكة معقدة من الممرات والطرقات، ورأى فيما وراء ذلك مئذنة الحسين في علوها السامق تُبارِك ما حولها، فارتاح الرجل لانطلاق الفضاء أمامه لأن أخوف ما كان يخافه أن ينظر فلا يرى إلا جدرانًا صماء، ثم تحول إلى النافذة الأخرى التي تواجه باب الحجرة وفتحها فرأى منظرًا مختلفًا، ففي أسفل طريق ضيق يوصل إلى خان الخليلي القديم مغلقة حوانيته فبدا مهجورًا، وعلى الجانب الآخر من الطريق جانب من عمارة تواجهه نوافذها وشرفاتها عن قرب، ثم تبيَّن له أن سطحي العمارتين متصلان في أكثر من نقطة، وأن أطباقهما المتقابلة متصلة كذلك بالشرفة مما جعله يحسب أنهما عمارة واحدة ذات جناحين، وفي الطرف الأيسر من الطريق يبدأ خان الخليلي القديم، وقد رآه الرجل من نافذته أسطحًا بالية، ونوافذ متداعية، وأسقفًا من القماش والأخشاب تُظلُّ الطريق المتشابكة، وفيما وراء ذلك تملأ الفضاء المآذن والقباب وقمم الجوامع وأسوارها، تعرض جميعًا صورة من الجو للقاهرة المُعِزِّية، وكان يرى ذاك المنظر لأول مرة، فأكبره على نفوره من الحي الجديد، ومضى يسرِّح الطرْف في مشاهده الغريبة المترامية، وهي مشاهد حقيقة بأن تدهش عينين لم تألفا غير الورق، ولا عهد لهما بآيات الطبيعة أو الآثار، على أنه لم يجد من الوقت متسعًا، فما لبث أن سمع نقرًا على الباب وصوت أمه يدعوه قائلًا: الطعمية جاهزة يا سعادة البيك.

فأغلق النافذتين وخلع بذلته، ثم ارتدى جلبابه وطاقيته، وهو يدعو ربه قائلًا: «اللهم اجعله سكنًا مباركًا.» إلا أنه — في نفس اللحظة — وقبل أن يفارق الحجرة جاءه صوت أجش من الطريق يصيح غاضبًا: «الله يخرب بيتك ويحرق قلبك يابن …» فرد صوت آخر بأقبح مما قذف به، مما دل على أن اثنين يتقاذفان بالسباب كعادة أهل البلد، فامتعض الكهل ولعنهما ساخطًا وغمغم قائلًا: «أعوذ بالله من الشؤم والتشاؤم!» ثم غادر الحجرة.

٢

وأكل ألذ طعمية ذاقها في حياته، وأطراها بغير تحفُّظ، فسر أبوه وعد ذاك الإطراء إطراءً للحي الجديد، فقال بحماس كبير: أنت لا تدري عن حي الحسين شيئًا، فها هنا ألذ طعمية وأشهى فول مدمس، وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة رأس، هنا الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال، هنا نهار دائم وحياة متصلة ليلًا ونهارًا … هنا ابن بنت رسول الله وكفى به جارًا ومجيرًا.

ورجع بعد الغداء إلى حجرته، واستلقى على الفراش ينشد قسطًا من الراحة، وقد أقر فيما بينه وبين نفسه بأن دواعي سروره بالحي الجديد لا تقل عن بواعث ضيقه به، وقلَّب عينيه في أنحاء الحجرة حتى استقرتا على أكداس الكتب المتراصة على كثب من المكتبة لم يهيأ لها التنظيم بعد، فثبَّت عليها بصره في ارتياح وسخرية، هذه كتبه المحبوبة، وجميعها باللغة العربية؛ لأنه — على عهد الدراسة — لم يصب تفوقًا في الإنجليزية فأهملها مضطرًّا بعد ذلك وأُنْسيها أو كاد، وأكثر من ثلثها كتب مدرسية في الجغرافيا والتاريخ والرياضة والعلوم، وبها عدد لا بأس به من مراجع القانون ومثله من كتب المنفلوطي والمويلحي وشوقي وحافظ ومطران، ومجموعة الكتب الأزهرية الصفراء في الدين والمنطق تاه بصفرتها عجبًا واعتبرها آية العلم العسير الذي لا ينفذ إلى حقائقه إلا الأقلون، وهي لا تخلو كذلك من بعض مؤلفات المعاصرين التي يعد اقتناءها تفضُّلًا منه، هذه هي مكتبته المحبوبة أو هي جُل حياته جميعًا، كان قارئًا نهمًا لا تروى له غلة، وقد أدمن على القراءة إدمانًا قاتلًا، وأكب عليها عشرين عامًا كاملة من عام ١٩٢١ — تاريخ حصوله على البكالوريا إلى — عام ١٩٤١، فاستغرقت حياته الباطنة والظاهرة، وتركَّزت فيها مشاعره ونوازعه وآماله جميعًا، بيد أنها امتازت منذ البدء بخصائص لم تفارقها مدى العشرين عامًا، وهي أنها قراءة عامة لا تعرف التخصُّص ولا العمق، نزاعة إلى المعارف القديمة، سريعة مضطربة، ولعل السبب في عدم تركيزها ما كان من اضطراره إلى الانقطاع عن الدراسة بعد البكالوريا، مما لم يهيئ له فرصة منظمة للتخصص.

وكان لذلك الانقطاع آثار بالغة في حياته الاجتماعية والنفسية، لم ينجُ من شرها مدى الحياة، أمَّا سببه؛ فهو أن أباه أحيل على المعاش في ذاك الوقت — وكان يشارف الأربعين — لإضاعته عهدة مصلحية بإهماله، وتطاوله على المحققين الإداريين. فأجبر أحمد عاكف على قطع حياته الدراسية والالتحاق بوظيفة صغيرة لينفق على أسرته المحطمة ويربي أخويه الصغيرين اللذين مات أحدهما، وصار الثاني موظفًا ببنك مصر وكان أحمد طالبًا مُجِدًّا طموحًا واسع الآمال، رغب من أول الأمر في دراسة القانون، وطمع في أن تنتهي به دراسته إلى مثل ما انتهت بسعد زغلول نفسه؛ وطوَّحت به الأحلام والأماني، فلما أُجبر على الانقطاع عن الدراسة أصابت آماله طعنة قتالة دامية، ترنَّح من هولها، واجتاحته ثورة عنيفة جنونية حطَّمت كيانه، فامتلأت نفسه مرارة وكمدًا، ووقر في أعماقه أنه شهيد مضطهد، وعبقرية مقبورة، وضحية مظلومة للحظ العاثر وما انفك من بعد ذلك يرثي عبقريته الشهيدة ويحتفل بذكرها لمناسبة وغير مناسبة، ويشكو حظه العاثر ويعدِّد آثامه، انقلبت شكواه فصارت هَوْسًا مرضيًّا، واعتاد زملاؤه أن يسمعوه وهو يقول بصوته المتهدج: «لو أتممت دراستي — وكان نجاحي مضمونًا — لكنت الآن كيتًا وكيتًا!» أو يقول متحسِّرًا: «إني أدنو من الأربعين، فتصور يا صاح لو أن الحياة سارت كما ينبغي، فلم يعترض مجراها الحظ العاثر، أما كنت أكون محاميًّا قديمًا يعتز بخدمة في القضاء تناهز العشرين عامًا؟! وماذا كان ينتظر من رجل في مثل جدي في غضون عشرين عامًا؟!» وربما قال متأسِّفًا: «فاتتنا ظلمًا أخصب فترة في تاريخ مصر، تلك الفترة التي تستهين باعتبارات السن والجاه الموروث، ويقفز فيها الشبان إلى كراسي الوزارة.» ولم يكن يفوته تتبع خطى المتفوِّقين من أقران المدرسة الذين واصلوا دراستهم، وليس نادرًا أن يرفع رأسه عن جريدة بين يديه، ويقول بإنكار: «أتعرفون فلانًا الذي يقولون عنه ويعيدون؟ .. زامَلني عهد الدراسة فصلًا فصلًا، وكان تلميذًا خاملًا لا يطمع أن يدركني يومًا ما!» أو يهتف متهكمًا «يا ألطاف الله! .. وكيل وزارة! .. ذاك الغلام القذر الذي لم يكن يعي مما يلقى عليه شيئًا؟! هي الدنيا!» ثمَّ يروح محدثًا إخوانه بأي نبوغه المدرسي، وما تنبأ له به المدرسون، هكذا تلوَّثت عواطفه بتمرُّد ثائر وسخط خبيث وكبرياء حنق، واعتداد كاذب بمواهبه، مما جعل حياته عذابًا متصلًا وشقاء مقيمًا، ثم وجدت هذه العبقرية المزعومة نفسها مهملة في الدرجة الثامنة بمحفوظات وزارة الأشغال، ولكنها لم تسكن، ولم تستسلم، ولم تيأس، ومضت تلتمس السبيل إلى تحطيم الأغلال، وشق الطريق إلى الحرية، والمجد والسلطان، وكابدت التجارب، وتوثَّبت للمحاولة تلو المحاولة، وقد فكَّر أوَّل ما فكَّر في التحضير — من بيته — لشهادة القانون، فهو العلم الذي انجذبت إليه آماله من بادئ الأمر، ولم يكن عن الشهادة من محيد، لأنَّ المحاماة لم تعد اجتهادًا كما كانت على عهد سعد والهلباوي، فراح يقتنى الكتب القانونية، ويستعير المذكرات، وأكب على الدارسة عامًا مدرسيًّا كاملًا تقدم في نهايته إلى الامتحان، ولكنه سقط في مادتين! وطعن كبرياؤه طعنة نجلاء، وأخرج أمام الذين تتبعوا أنباء عبقريته باهتمام، وجعل يعتذر عن إخفاقه بوظيفته، وبادعاء مرض وهمي أقعده عن مواصلة الدرس، ولم ينثنِ عن ادِّعاء المرض بعد ذلك على سبيل الاحتياط والحذر، وخاف أن يجرب الامتحان مرة أخرى، وأشفق من تعريض عبقريته للتجارب الظاهرة التي يطَّلع الناس على نتائجها فمال إلى العمل الحر، وبادر بإعلان احتقاره للامتحانات والشهادات، ثم أقنع نفسه بأن إخفاقه في امتحان القانون جاء نتيجة لعدم استعداده له — لا لتقصير أو قلة كفاية — وعدل عند ذاك عن دراسته ليجد المجال الطبيعي الذي خُلقت له عبقريته الشهيدة، وهكذا خسر عامًا وربحت مكتبته عددًا لا يستهان به من كتب القانون، ثم فكر في تكريس حياته للعلم، وتحير بين الأبحاث النظرية والاختراعات العلمية أيها يختار! ثم أقلع عن فكرة الاختراع بحجة أن البلد خالٍ من المصانع والمعامل، وهي ميادين التجارب، ومهبط الوحي الإبداعي، وركز آماله في العلم النظري، وطمع في أن يكتشف نظرية يومًا ما يغير بها آفاق العلم الحديث، ويقفز إلى سماء الخلود بين نيوتن وأينشتين، وتوثَّبت به الهمة، فراح يبتاع ما وقعت عليه يداه من ملخصات الطبيعة والكيمياء، ويطالعها باهتمام وشغف، وبعد دراسة عام طويل وجد نفسه حيث بدأ لم يتقدم خطوة نحو هدفه البعيد، ثم اقتنع بأنَّ التعمُّق في العلم يتطلَّب دراسة تحضيرية لم تُتَحْ له.

وغلبه الجزع وكثيرًا ما يغلبه، فيئس من الدراسة العلمية النظرية، وسوَّغ يأسه نفسه بأن البحث النظري ليس دون الاختراع حاجة إلى المعامل ومعاهد الأبحاث، وأن جو مصر بصفة عامة لم يتهيأ بعد للعلم، ولم يجد ضرورة للاعتذار هذه المرة عن إخفاقه للغير، لأنه كان تعلَّم أن يخفى أهدافه عن الناس جميعًا، بيد أن ذلك لم يمنعه من أن يذيع بين الزملاء والصحاب أنه يكرس وقت فراغه للمعرفة والاطلاع … المعرفة الحرة التي تسمو على الدراسة المدرسية والشهادات الحكومية، والاطلاع العميق الذي يجعل من صاحبه عالمًا بعيد الغَوْر، وضاع عام ثانٍ زادت فيه المكتبة صنفًا جديدًا من كتب العلم، ثم تساءل متعبًا متحيرًا: تُرى لأي شيء خلقت مواهبه على وجه التحقيق ..؟ لا شك أنه لم يعرف نفسه بعد. ولو عرف نفسه لحفظ وقتًا — أحق به أن يحفظ — من الضياع هدرًا بغير ثمرة، فما حقيقة ميوله؟! لقد انتهى من القانون والعلم ولكن ليس القانون والعلم بكل شيء، هنالك ما يضارعهما جلالًا وجمالًا فما سر ولعه بشوقي والمنفلوطي؟ ما طربه للبيان الساحر؟ ألا يجوز أن يكون استعداده الحق للأدب؟ وأجمل به من فن لا يستوجب التمرُّس به شهادة ولا دراسة مدرسية، فما عليه إلا أن يقرأ كما قرأ شوقي وحافظ ومطران من قبل. وما عتم أن استقبلت مكتبته ضيوفًا جددًا من أزاهر الشعر والنثر أكب عليها بشغف وحماس بلغ حد الغضب، ووقع في رحلاته على قول ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي عليٍّ القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها.» فتنهد ارتياحًا كأنما وقع على كنز واقتنى الأركان الأربعة، وقرأها جميعًا بما طبع عليه من حماس وسرعة، فلما أن فرغ منها تساءل مسرورًا: «هل صرت الآن أديبًا؟» وأمسك بالقلم وصدقت عزيمته على أن يكتب، وكتب موضوعًا سمَّاه: «على شاطئ النيل» أفرغ فيه فنه وإلهامه، وأرسله بالبريد إلى إحدى المجلات، ومضى يتخيَّل ما عسى أن يستقبله به القراء من الإكبار والإعجاب، وكيف أنَّه قد يكون أول درجات الشهرة والمجد، وحسبه هذا فما يطمع في أجر غير المجد الأدبي، وظهرت المجلة وفتش عن مقاله فما وجد له أثرًا، ففتر حماسه وتعثرت أمانيه في الخجل، ولكنه لم ييأس فناجى نفسه يستنظرها أسبوعًا آخر، ومضت أسابيع دون أن تتاح للمقال فرصة الظهور، لقد قرأ أركان الأدب الأربعة التي يعد ما سواها تبعًا لها وفروعًا منها، فهو أديب بحكم ابن خلدون، وما أدراك ما ابن خلدون! فكيف لم ينشر مقاله! هل أهمل القوم نشره لأن كاتبه غير معروف؟ أو لأنه لم يستشفع إليهم بشفيع؟ أو تراهم عجزوا عن فهمه؟! وفكَّر في أن يذهب إلى المجلة بنفسه ليقف على حقيقة الأمر، ولكنه لم يستطع لأن خجله كان يقف له بالمرصاد دائمًا، ثم تناسى آثار الصدمة الأولى وكتب مقالًا ثانيًا عن العدالة، فلم يكن حظه أحسن من الأول، فكتب ثالثًا عن «جناية الفقر على النبوغ» فلم يكن خيرًا من سابقيه. وتوثَّب للكتابة بعناد وإصرار من ناط بها أمله الأخير فحطمت محاولاته جميعًا على صخرة الإهمال الباردة، وأعاد كتابة أكثرها وأرسلها إلى مجلات مختلفة، فلم يجد بينها من ترحم أمله المعذب، وتنقذه من هاوية القنوط، وكان آخر مقال كتبه عن «تفاهة الأدب» فضاع كما ضاع إخوته، وانكسر عن محاولاته محطم النفس مطعون الفؤاد، لقد تآمر عليه سوء الحظ — عدوه القديم — وخبث طوايا النفوس ولؤم الطباع، فلم يساوره شك في قيمة مقالاته الأدبية، بل ظنها خيرًا مما بدأ به المنفلوطي نفسه وما يتيه به كثير من المعاصرين، ولكنه سوء النية وفساد الطوية! .. وتبدَّدت الأحلام جميعًا، ألا ما أضيق العيش وما أظلمه! ورمى بالقلم، وتضاعف ما به من حقد وتمرد وألم، ويئس أخيرًا من المجد والسلطان، وامتلأت نفسه سخطًا وغضبًا على الدنيا والناس، والعظمة والعظماء خاصة! وما العظمة؟ .. أو ما العظمة كما تعرفها مصر؟ .. أجاب على ذلك بكلمة واحدة: «الظروف المواتية»، بل قال عن سعد نفسه على حبه: «لقد مهد له صهره سبل النجاح، ولولا صهره ما كان سعدًا الذي نعرفه.» وكان يردد كثيرًا: «إن الوظائف الكبرى في مصر وراثية.» أو يقول: «إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالقحة والكذب والرياء، ولا تنسَ نصيبك من الغباء والجهل.» أو يقول ساخرًا: «ما هؤلاء الأدباء الذين يمثلون الصحف والمجلات؟ أمن الأدب الحق أن تستعين على البروز فيه بالسياسة والحزبية؟ وهل يعجز عن بلوغ ما بلغوا من مجد كاذب إلا كريم؟» أو يقول محتدًّا غاضبًا: «والله لو أردت أن أكون عظيمًا في مصر ما عجزت .. ولكن قاتل الله الكرامة!» وحرق الغضب نفسه حتى تركها شعلة من لهب غير مقدس وحطامًا من رماد، ولكن الحياة لا تحتمل الغضب في كل حين، فما من مَعْدًى عن سويعات راحة وإن تكن راحة القنوط، فكان يستريح إلى اليأس كلما لج به الغضب أو الحقد. وفي تلك السويعات كان يقول لنفسه: ألا ما جدوى العناد في هذه الدنيا؟ .. إذا كنا نموت كالسوائم وننتن فلماذا نفكِّر كالملائكة؟ هَبْني ملأت الدنيا مؤلفات ومخترعات فهل تحترمني ديدان القبر أو تلتهمني كما التهمت جثتي ريا وسكينة؟ .. الدنيا أكاذيب وأباطيل وما المجد إلا رأس الأكاذيب والأباطيل، وسلَّم نفسه إلى عزلة عقلية وقلبية مريرة، يئس من الحياة فهرب منها، ولكنه خالَ وهو يدبر عنها يائسًا عاجزًا، أنه يزهد فيها متعاليًا متكبرًا، ولذلك لم يهجر عادة القراءة، لأن الكتب تهيئ للإنسان الحياة التي يهواها، فتعالى بحياة الكتب على حياة الدنيا، وظفر منها ببلسم لآلام كبريائه، واستعار ما بها من قوة، فخالها قوة ذاتية، وكأن أفكارها أفكاره وسيطرتها سيطرته وخلودها خلوده، وقد عدل — بعد إخفاقه المتواصل — عن القراءة المنظمة المحددة الهدف، واندفع يقرأ ما تقع عليه يداه، وعُني عناية خاصة بالكتب الصفراء لأنها في نظره عسيرة وعزيزة المنال، وانكبَّ على القراءة بسرعة وشراهة وأعصاب متوترة فلم يتمتع بقراءة مجدية ولا نافعة، وأصابه سوء هضم عقلي، فكان يعرف أشياء وأشياء، ولكنه لم يتقن شيئًا أبدًا، ولم يتعوَّد عقله التفكير مطلقًا ولكن كانت الكتب تفكر له وتتأمل بدلًا منه، ولم يكن يعنيه التفكير ولا التأمل وإنما كان همه الحقيقي أن يُحدِّث الغد بما قرأ بالأمس، وأن يحاضر الزملاء من الموظفين والصحاب — بلهجة الفيلسوف المعلم — فيما وعته الذاكرة وحفظته، ولذلك سماه موظفو المحفوظات بالأشغال «الفيلسوف» فسُر بالتسمية وإن كان ما بها من التوقير يعادل ما بها من التحقير، ولم يكن للفيلسوف رأي يثبت عليه لأنه كان يقرأ ولا يفكر، وعسى أن ينسى اليوم ما قال بالأمس القريب، وعسى أن يقول غدًا ما يناقض قوليه جميعًا، وهو سبَّاق إلى أي رأي ما دام فيه رضاء لكبريائه وغروره وولعه بالظهور، فلهج بالمعارضة واللجاج، فإذا قال محدِّثه يمين قال شمال، وإن قال أبيض قال أسود، ثم يندفع في النقاش بعنف واحتداد وضيق صدر حتى ليوشك أن يأخذ بتلابيب مناظِره! وليس يعني هذا حتمًا أنه غبي، والحقيقة أنه كان عادي الذكاء.

فلم يهبط عقله إلى البلادة والغباء ولم يَعْلُ للنبوغ فضلًا عن العبقرية، ولكن خدعه عن حقيقة نفسه طموحه للمجد وهيامه بالعبقرية، فضلَّ ضلالًا بعيدًا، وزاد من أسباب تعاسته ما فطر عليه من حساسية مرهفة مضطربة، فقتلت فيه روح الصبر والمثابرة، والتأمل والتفكير، فصار دماغه وعاءً لخليط من معارف شتى بدل من أن يكون رأسًا مفكِّرًا، ولا شك أن الأرق الذي مرض به نصف عام من حياته كان من جملة الأسباب التي عقم به عقله، وقد أشفى به على الجنون والموت، وسهر الليالي ذاهلًا أو هاذيًا، ثم أدركته رحمة الله فتعافى بعد يأس، ويرجع السبب المباشر لمرضه إلى تجربة خطيرة خاض غمارها غير حافل بعواقبها، ذلك أنه كان يؤمن بالسحر ولا يشك فيما يلقى على سمعه من أساطير، وعثر يومًا بموظف قديم راسخ الاعتقاد في السحر والشياطين فأقبل عليه بشغف واهتمام، وبعد أن توطدت الصداقة بين الاثنين أعاره الرجل بعض كتب قديمة عن السحر وتحضير الشياطين ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادي. وطار بها الشاب سرورًا وعدَّها أجل ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماس ويقين يحل رموزها ويفقه أسرارها، ويتحرَّق شوقًا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان! أوشك أن يُجنَّ لهفةً وأن يذوب هيامًا، متى يدين له عرش النفوذ اللانهائي فيأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء، فيرفع ويخفض ويغني ويفقر ويحيي ويميت؟ ولكن لم تحتمل أعصابه الجهاد طويلًا ولا قدر على قضاء الليالي الطوال مختليًا بأرواح الشياطين، فاضطرب حبل أمنه وأرهقت أعصابه وصرعه الخوف والوهم، فتلقَّفه المرض وأوشك أن يسلمه للجنون أو الموت! ولم ير بُدًّا من العدول عن سعيه والنزول عن أطماعه، فأعاد الكتب إلى صاحبها، ويئس من المجد للمرة الأخيرة بعد أن جرَّب جميع السبل والمسالك المفضية إليه، وجعل يتساءل في حزن بالغ: ماذا بي؟ هل حلَّ فيَّ روح نجس؟ لماذا أصرع دائمًا إذ لا يفصل بيني وبين ما أريد سوى ذراع؟! وسقط تحت أنقاض المحاولات الفاشلة والآمال الخائبة والأوهام الضائعة! واطَّرد مجرى الأيام وتقدم به العمر وشعوره العميق بالظلم لا يسكن ولا يهدأ، بل جعل يجد لألمه لذة غامضة، وكان يتوهم حدوث الظلم بداعٍ وبغير داعٍ ويتلقَّى ما يقضي به عليه من ألم ممتزج بتلك اللذة الخفية، وعسى أن يتساءل متحديًا ساخرًا: أليس جليلًا أن ينهض العالم جميعه لمقاتلة إنسان فرد؟! .. أليس مما يطيب به الغرور أن يتوفَّر له ذلك التوفر الذي إن دل على شيء فعلى الحسد والخوف؟! بلى فقد قضى لحكمة سلفت أن يكون الشقاء نصيب العقول الفذَّة في هذه الدنيا!

وقد كان لالتذاذه بالألم هذا أثر في توجيه ميوله السياسية المتقلبة، فمال دائمًا إلى الحزب المغلوب على أمره بصرف النظر عن مبادئه السياسية، وسرعان ما يتمثَّل نفسه في موقف زعيمه يتلقى ما يتلقى من ضروب الاضطهاد والاعتداء وينوء بما ينوء به من ألوان التبعات والواجبات، يجد في هذا وذاك ألمًا لا حصر له ولذة لا شبهة فيها.

والواقع أن خُلقه هذا لم يكن اتفاقًا ولا تحت تأثير الإخفاق فحسب، ولكن له أصول بعيدة ترجع إلى عهد نشأته الأولى، حين كان الطفل الأول لوالديه، فدرج على الرعاية والحب والتدليل، ولكنه كان — كذلك — الطفل الذي ادخره حظه لكي ينهض بأعباء أسرة محطمة وهو دون العشرين، فلم تتلطَّف معه الدنيا فضلًا عن أن تُدَلِّلَه .. ساعة واحدة!

•••

لبث مستلقيًا في الفراش دون أن يغمض له جفن، وجعل يقلب عينيه في سقف الحجرة وجدرانها وأرضها، وتساءل قلقًا ترى هل تطيب له الحياة في هذا الحي العجيب؟! ونازعه الحنين إلى شارع قمر وحي السكاكيني والبيت القديم، وعلى أنه لم يفارقه كذلك، ذاك الشعور المشرق بالأمل الوضاء بالتطلع، ثم ملأت البيت حركة متصلة وأتاه صوتا أمه والخادم فأدرك أنهما يستأنفان نشاطهما لفرش الشقة وإعداد الحجرات، وتصاعدت إليه من الطريق ضجة مزعجة وضوضاء فظيعة، فأنكرها وأصغى إليها بانتباه فتبين له أنها أصوات أطفال يلعبون ويغنون، وكأنه ضاق برقاده ذرعًا فنهض إلى النافذة المطلة على العمارات وفتحها وراح ينظر منها إلى الطريق، فرأى جماعات من الصبيان والبنات يملئون الطريق متصايحين متضاحكين وقد انقسموا فرقًا، أكب كل فريق على رياضة، فبدا الطريق وكأنه نادٍ رياضي ساذج فهذه جماعة تلعب بالجديد وتلهب الأكف بالطرة، وهذه جماعة تلعب بالبلي، وتلك عصبة تحجل وتلك أخرى تتصارع، واقتعد الصغار الطوار يرقصون ويغنون ويصفقون. اضطربت الأرض وضج الجو وثار الغبار فأيقن أن لا قيلولة منذ اليوم! وسمع أناشيد عجيبة «يا عم يا جمَّال …» و«يا أولاد حارتنا توت توت» و«الجبل ده عالي يا عمي» … إلخ إلخ، فحار بين الدهشة والحنق والسرور! ثم تصاعد صوت جهوري أجش غليظ السرات يصيح كالرعد القاصف «ملعون أبو الدنيا!» وكرر صياحه بصوت منغوم على إيقاع كفين شديدتين! .. وكان الصوت صاعدًا على الأرجح من دكان تحت النافذة مباشرة ولكن من داخلها فلم يستطع رؤية ذلك الذي يتغنَّى بسب الدنيا، ولكنه لم يتمالك نفسه فأغرق في الضحك حتى تورَّد وجهه الشاحب، واشرأب بعنقه النافذة فاستطاع أن يرى لافتة الدكان وقد نقش عليها بخط جميل «نونو الخطاط» .. ترى هل يكتب الرجل لوحات في سب الدنيا ويبيعها للمتذمرين والساخطين؟ .. ألا ما أجدر أن يبتاع منها ما يشفي غليله!

٣

واختفى شعاع الشمس المنعكس على زجاج النافذة العليا من العمارات التي تواجه نافذته، فأدرك أن الشمس تغيب وراء قباب القاهرة المُعِزِّية بالجهة الخلفية، وصَعَّد بصره إلى مئذنة الحسين السامقة تنطلق بجلال في غلالة من ظلال المغيب فهزَّت مشاعره وأيقظت قلبه، ثم ارتفق حافة النافذة يردد ناظريه ما بين أسطح الدكاكين التي تتوسط العمارات، والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني، والممرات المتقاطعة، رأى نوافذ مغلقة وأخرى شبه مفتوحة وشرفات تسعى فيها ربات البيوت يجمعن الغسيل أو يملأن القلل، وقد أوشك الطريق أن يخلو من الصبية كأنما أفزعها دنو الليل، وكان يرغب أن ينطلق إلى الخارج ليرى عن كثب مشاهد الحي الجديد، ويكتشف طرقاته ومسالكه، ولكن غلبه التعب على رغبته لما بذل من جهد في تنظيم مكتبته، هذا إلى تعوُّده لزوم البيت حتى ندر أن يفارقه بعد عودته من الوزارة، فأجَّل تنفيذ رغبته، وترك النافذة فتربع على شلتة — وهي جلسته المختارة إذا تهيأ للقراءة — واستخرج من المكتبة كتابًا يقرأ فيه حتى يأزف ميعاد النوم.

وكان والده في تلك الأثناء يتربَّع على سجادة الصلاة والمصحف بين يديه يتلو ما تيسَّر منه في صوت مسموع، غير منتبه إلى أخطاء القراءة العديدة التي يتتابع عثوره بها، كان عاكف أفندي أحمد في الستين من عمره، وقد أرسل لحية بيضاء أكسبت وجهه النحيل وقارًا، وفرض على نفسه عزلة قاسية عقب إحالته على المعاش وهو في أواسط العمر ومشرق الآمال وبدا كأنه كرَّس حياته للعبادة وتلاوة القرآن، ولم يكن يفارق البيت إلَّا فترات متباعدة للتريُّض المنفرد أو زيادة الأضرحة، وربما كان لعسره المالي — إذ لم يجاوز معاشه ستة جنيهات — الأثر الأول فيما اتخذ في حياته من نظام، ولكنه رضي أخيرًا عن طيب خاطر بحياته وألفها، بل وأحبها أيضًا شاكرًا حامدًا، وكانت أقسى أيام حياته وآلمها تلك التي أعقبت إحالته على المعاش، فقد انقطع مورد رزقه أو كاد، وتهدَّدت الفاقة أسرته البائسة، وأُجبر على اعتزال العمل والنشاط، وأُقصِي عن الوظيفة وجاهها، وهب كالمجنون للذود عن كيانه، فسعى واستشفع بكل شفيع، ولكن ذهبت مساعيه أدراج الرياح، قدَّم العريضة تلو العريضة، والالتماس وراء الالتماس دون جدوى أو رجاء، حتى علم أخيرًا بالحقيقة المحزنة وهي أن باب الحكومة قد أغلق دونه إلى الأبد، وكان في الحقيقة طاهر اليد، إلا أنه ثبت إهماله وجاء تطاوله على المحققين فزاد الطين بلة، ثم لم يسكت بعد ذلك عن شكوى الظلم والظالمين، واستنزال اللعنات عليهم أجمعين، وراح تحت تأثير الغضب والحنق واليأس يتهكَّم بالحكومة والموظفين، ويقول إنه أحيل على المعاش لأنه أبى أن تمس كرامته، وأن الوظيفة أضيق من أن تتسع لإنسان يحترم نفسه، وبعد أن كان ينكر تطاوله على هيئة المحققين، جعل يفاخر به ويبالغ فيه، ولم يعد له حديث سواه، فصار ضحكة المتغامزين، وفقد عطف الصحاب والأقارب، وحافظ بادئ الأمر على صلته بالناس، فتردد على قهوة فيتا بغمرة يلاعب بعض الصحاب النرد، ولكن خلقه ساء بعد فاجعته، فأصبح ضيق الصدر سريع الغضب، فاحتدَّ يومًا على لاعب فانفجر الآخر هائجًا وصاح به: «يا طريد الحكومة!» فلم تطأ قدمه قهوة بعد ذلك، وانزوى بعيدًا عن الناس والدنيا، واختار العبادة ملاذًا وسكنًا، ولم يعد للماضي أثر في نفسه، وسارع بالشفاء إليه نهوض ابنه أحمد بأعباء الأسرة، وكان الابن قد ورث عن أبيه تبعته ومرضه!

على أنه لا ينبغي أن نهمل عاملًا هامًّا في شفاء الأب، وهو الأم. حوت منذ البدء مزايا لا يستهان بها في حساب السعادة العائلية، فتمتعت بنصيب موفور من الحسن الذي رمقته القاهرة على أيام شبابها بعين الإكبار والإعجاب، وما زالت — وقد شارفت الخامسة والخمسين — على وسامة وقسامة، وولع بالصبغ والألوان، وذوق في الأزياء، وما زالت لحيمة جسمية، وإن اعتورها الاسترخاء، خبيرة بوصفات السمن والتجميل، مشهورة بخفة الروح والدعابة اللطيفة والنادرة الحلوة، لا تضاهيها امرأة في قدرتها على أن تألف وتؤلف، فكثرت صويحباتها، وتعدَّدت البيوت التي تزورها وتستزيرها، واستقبلها النسوة والأوانس بالسرور والغبطة شأن أعضاء الأسرة، ولذلك لم تتأثر بالضائقة التي نزلت ببيتها، فلما انقبضت يد بعلها عنها انبسطت لها أيادي الصديقات الحبيبات بالهدايا، فحافظت على مستواها المعهود من الأناقة والتجميل، وكانت لها على زوجها دالَّة، فمسحت عن صدره الحزن بلطفها ودعابتها وتفاؤلها، وكانت تقول له ضاحكة: «لقد انتهيت يا عاكف أفندي من الحكومة، فافرغ لي!» أو تداعب لحيته قائلة: «من أجل الورد ينسقي العليق!» ولكن كان صدرها يضيق إذا رأت بعلها مكبًّا على القرآن، وبكرها عاكفًا على مكتبه، فتصيح بهما: «هلا علمتماني القراءة لأجاور معكما؟!» ولشد ما أحنقها أحمد بإهماله نفسه، فكانت تروِّح على خديها كأنها تلطمهما وتهتف مؤنبة: «كبَّرت أمك وجعلت سمعتها كالطين! هاك الكواء فما لبذلتك مسترخية متقبِّضة؟! .. وهاك الحلَّاق فما لذقنك مخضرًّا؟! .. والدنيا بالأفراح حافلة، فما انزواؤك بين الكتب الصفراء؟! كيف تركت رأسك يصلع وقذالك يشيب؟! .. كبَّرتني .. كبرَّتني .. كبرتني! ..» فكان أحمد يبتسم إليها ساخرًا ويغيظها قائلًا: «الْطمي كيف شئت ألسْتُ في الأربعين؟!» فيهولها التصريح بالحقيقة الفظيعة، وتنهره قائلة: «اخرس قطع لسانك الطويل .. هل رأت الدنيا قبل اليوم ابنًا يدَّعى عمر أمه؟!»

ومع ذلك فلم تخلُ حياتها من الحزن، كانت مريضة، أو هكذا توهَّمت، ولكن لم يَأْسَ على مرضها أحد ممن حولها، وقد اقتنعت على مر السنين بأن عليها أسيادًا، وبأن لا شفاء لها إلا بالزار، وطالما توسلت إلى بعلها ليسمح لها بإقامة حفلة زار، ولكن الرجل لم يصغِ إلى توسلاتها، واستقبح أحمد الفكرة وإن لم يساوره شك في وجود العفاريت، وكان قريب عهد — وقتذاك — بالتجربة التي أوشكت أن تنتهي بجنونه، فيئست المرأة من استمالتهما، وقنعت بشهود حفلات الزار إذا اتفقت في بيوت الصديقات، حتى قال أحمد يومًا متعجِّبًا: «حقًّا إن أسرتنا ضحية الشيطان .. ألم يُغْرِ والدي بتحدٍّ لكلب حقير من الموظفين ففقد وظيفته؟! .. وألم يحضني على تعلُّم السحر فأشفيت على الجنون؟! وها هو ذا يركب أمي ويهيئ لها خرابنا!»

ولكن الله سلم فقد غلب مرح الست دَوْلت — أم أحمد — على حزنها، كما غلبت الحنَّاء على ومضات المشيب بمفرقها.

•••

لم يستطع أحمد أن يركز انتباهه في القراءة لما أحدثه تغيُّر المكان في نفسه من اليقظة والقلق، فمضى في مطالعة فاترة متقطعة ومضى من الليل ساعة فسكنت ضوضاء النهار، ولكن لتحلَّ محلها ضوضاء أشد وأفظع سرعان ما جعلت الحي جميعه كمسرح من مسارح روض الفرج الشعبية، أما مصدرها فالقهاوي العديدة المنتشرة في جوانب الحي، فالراديو يذيع أناشيده وأحاديثه بقوة وعنف فكأنه يذيع في كل شقة، والنُّدُل لا يكفُّون عن النداء والطلب في أصوات ممطوطة ملحنة «واحد سادة … شاي أحضر … تعميرة على الجوزة … وشيشة حِمِّي …» ودق قطع النرد والدمينو وأصوات اللاعبين! فخال نفسه في طريق مزدحم بالمارة لا في شقة، وعجب كيف يحتمل أهل الحي ضوضاءه أو كيف يغمض لهم جفن؟!

ولم يزل ملازمًا الشلتة حتى بلغت الساعة التاسعة فقام لينام، وأطفأ المصباح ورقد على الفراش بعد أن أحكم غلق النافذتين، ولكن الضوضاء لم تزل تملأ حجرته وتُدوِّي في أذنه، فذكر سكون السكاكيني في مثل هذه الساعة من اليوم وتأسف من الأعماق، ثم لعن الغارات التي أجبرتهم على هجر مسكنهم القديم الهادئ، فاستثار ذكرى تلك الليلة الجهنمية التي زلزلت القاهرة زلزالًا مخيفًا، وملأت الذكرى شعوره وضاعف من تأثيرها جثوم الليل حتى لم يعد يحس من ضوضاء الطريق رِكزًا ولا همسًا.

كانت الدنيا نائمة — تلك الليلة المفزعة — يستقبل ليلها هزيعه الأخير وكما تعوَّدت القاهرة في مثل تلك الساعة من الليل أطلقت صفَّارات الإنذار نعيرها المتقطِّع الذميم، فاستيقظت الأسرة ونهض أحمد لإطفاء المصباح الساهر في الصالة الخارجية ثم عاد إلى رقاده ليغط في النوم مرة أخرى شأنه كل ليلة، إذ لم تعرف القاهرة قبل تلك الليلة إلا الغارات الاستكشافية ولم تسمع سوى طلقات المدافع المضادة للطائرات. ولكنه لم يسكن إلى النوم وراح يرهف أذنيه رافعًا رأسه عن الوسادة في دهشة وانزعاج، فقد سمع بوضوح أزيز طيارات ما في ذلك من شك، اتصل وقعه لا يغيب ولا يهن، بل جعل يزيد وضوحًا ويعلو شدة، فضاق به صدرًا وامتلأ منه رعبًا، ولكن خاطرًا طمأنه بعض الاطمئنان، فلم يفصل بين سكوت الصفارة وسماع الأزيز إلا دقيقة أو بعض دقيقة، وهي مدة غير كافية بطبيعة الحال لوصول الطيارات المعادية، حيث يسبق الإنذار وصول الطيارات بربع ساعة على الأقل، فبات مرجَّحًا أن تكون الطيارات إنجليزية حلقت للمطاردة، وانتظر أن ينقطع الأزيز ولكنه اتصل اتصالًا مرهقًا للأعصاب وكأن الطيارات اختارت بيتهم مركزًا تدور من حوله، ونهض ثانية وغادر الحجرة يتلمَّس طريقه في الظلام إلى حجرة والديه وقال عند الباب بصوت مسموع: «هل أنتما مستيقظان؟» فجاءه صوت أمه قائلًا: «لم ننم بعد، أما تسمع شيئًا؟» فأجاب أحمد: «بلى أزيز طيارات .. وقد سمعته عقب الإنذار مباشرة!» فقال والده: «الأغلب أن تكون إنجليزية.» فقال أحمد: «لعلَّها!» وطمأنه اتفاق الظن بينه وبين أبيه فعاد إلى حجرته، وقبل أن يمس جنبه الفراش أضاءت الحجرة المظلمة بنور عجيب آتٍ من الفضاء أعقبه صفير مبحوح انتهى بانفجار شديد دوَّى في سماء القاهرة دويًّا شديدًا مزعجًا، فانتفض رعبًا وتولَّاه فزع جنوني وقفز نحو الباب لا يلوي على شيء، وضاعف من رعبه أن الحجرة لم تزل مضاءة بذاك النور الوهَّاج الذي اخترق نوافذها من الخارج داعيًا القذائف إلى أهدافها وتتابعت الانفجارات الشديدة واختلط تفجُّرها بذاك الصفير المبحوح الممقوت، فارتجَّت الأرض ارتجاجًا وزلزل البيت زلزالًا، ولم ينقطع الضرب لحظة واحدة وبدا كأن السماء ستظل تقذف الأرض بهاتيك الرجوم الشيطانية في ذاك العناد الشيطاني الجبار، ووجد والديه في الصالة، الأب معتمدًا ذراع الأم يوشك أن يسقط صريع الفزع والإرهاق، فهرع إليهما وتأبَّط ذراع والده وصاح بهما «هلما إلى مخبأ العمارة» ومضوا مسرعين تتقدمهم الخادم، وتساءل بصوت متهدج مضطرب «ما هذا النور؟ هل شب حريق في الخارج؟» فقال أحمد وهو يعالج أنفاسه المضطربة ويتبين مواقع قدميه من السلم: «هي مصابيح المغنسيوم التي قرأنا عنها في الجرائد.» فقال الرجل: «ربنا يلطف بنا.» وكان السلم مكتظًّا بالهابطين الداعين الله من قلوبهم الواجفة، وكلما حدث انفجار ارتجَّت الجدران وتعالى صراخ يصم الآذان وصَوَّتَ النسوة وأعول الأطفال، وانطفأ نور المغنسيوم فجأة والضرب في عنفوانه والموت في حومانه فساد الظلام، وحدث هرج ومرج، فزلت أقدام وعثر أناس وزاد الفزع والارتباك، ثم بلغوا مخبأ العمارة — البدروم — بعد جهد جهيد. وكان مضاءً بمصباح خافت، مغطَّاة نوافذه بستائر كثيفة سوداء، واعتمد سقفه على عُمُد أفقيَّة قامت على عمد حديدية رأسية، ووُضِعت حول جدرانه أكياس من الرمل. وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت وجوه تعلوها صفرة الموت، جاحظة عيونها مرتجفة أوصالها، هاذية ألسنتها، ووقفوا ثلاثتهم متقاربين يذوبون لهفة أن يكف الضرب لحظة واحدة فيأخذوا أنفسهم ويبلوا ريقهم، ولكن الضرب اشتد وبدا من اشتدد الانفجارات أنه أخذ يقترب منهم! وهنا حرَّك ساقيه في الفراش فزعًا من هول الذكرى وهو يغمغم: «تبًّا لها من ليلة!» وتنهَّد من أعماق صدره وفتح جفنَيه، فعادت ضوضاء الحي إلى وعيه، وذكر أنه رقد لينام لا ليستذكر آلام أفظع ليلة في حياته، ولكن هيهات … لقد هجمت عليه الذكرى بقوة لا تقاوم … أجل، أخذ الضرب يقترب، بل انفجرت قذيفة خالَ القوم الفزعون أنها انفجرت في صدورهم ورءوسهم، فرفعوا أيديهم كأنما ليتَّقوا بها السقف إذا انهار واشتد الصراخ والدعاء وجرى اسم الله على كل لسان، وقوي شعور مفزع بأن القذيفة الثانية ستسقط على رءوسهم! وهوت القذيفة التالية! .. ربَّاه هل يمكن أن ينسى ذاك الصفير المبحوح — صفير الموت — وهو يهبط عليهم لا مهرب منه ولا مفر؟ .. وكيف تقلقلت العمارة وطقطقت النوافذ قبل أن تبلغ القذيفة الأرض! .. ثم كيف دوى الانفجار فصك الأسماع وصم الآذان ورج الأمخاخ ومزَّق الأعصاب وخنق الأنفاس! .. لقد تقوَّست الظهور في انتظار المقدور .. وقبض اليأس القلوب .. وتعجَّلت النفوس النهاية مختارة الموت على انتظاره .. أجل لم يعد بينهم وبين الموت إلا قذيفة لعلها تغادر في تلك اللحظة مكمنها من الطيارة … ولكن القذيفة — وهنا ابتسم ابتسامة حزينة — لم تسقط! .. أو سقطت بعيدًا، فقد ابتعد الضرب سريعًا كما جاء سريعًا، لم يجئهم الموت كما أوهمهم .. أراهم وجهه ولكن لم يذقهم طعمه .. أو أجَّل ذلك لليلة أخرى، فباعد الضرب، ثم خف عن ذي قبل، وبات متقطِّعًا ثم انقطع فلم يعد يسمع إلا طلقات المدافع، ثم ساد السكوت! .. واسترد التعساء أنفاسهم، وتبادلوا نظرات الشك والرجاء، وانفكت عقد ألسنتهم فهذَوْا كالمجانين، ومضت ربع ساعة رهيبة ثم انطلقت صفارات الأمان! .. يا رحمة الله! .. هل ذهب الموت حقًّا؟ .. هل يدركهم نور الصباح؟ ودبَّت الحركة وأضيئت الأنوار وانطلق أناس إلى الخارج وجاء آخرون من الجهات القريبة، وانتقلت روايات، قالوا العباسية خراب .. أما مصر الجديدة فقل عليها السلام، وقصر النيل أمست أثرًا بعد عين، ومخازن الترام دُمِّرت وجُثَث العمَّال أكوام!

وصعدوا إلى شقتهم يغمر صدورهم سرور عصبي، سرور مَن نجا من الموت وعقابيل الخوف لم تزل ناشبة في صدره؛ ومضوا بقية الليل أيقاظًا يتكلمون، وفي نهار اليوم الثاني بدأ الحي وكأنه قد أزمع الهجرة، وتتابعت عربات النقل تحمل المتاع الضروري إلى الأحياء التي حسب الناس أنها آمنة أو إلى القرى المتاخمة للعاصمة حتى خلت عمارات من ساكنيها، وضاعفت مناظر الهجرة من خوف الأسرة، خصوصًا الأب الذي تضعضع قلبه الضعيف من عنف الغارة، فنشأت في رأسه فكرة الهجرة مع المهاجرين، وإذا كان من المتأثرين بدعاية المحور الإسلامية فقد اعتقد اعتقاد راسخًا في أن حيًّا دينيًّا كحي الحسين لا يمكن أن يقصده المغيرون بسوء، فجد في البحث عن مسكن فيه، فاهتدى إلى هذه الشقة، وكان النقل .. وإن يَنْسَ لا يَنْسَ اليوم الذي أعقب ليلة الغارة، فلم يكن للقاهرة حديث إلا حديث الليلة الماضية واستفاض الناس في الكلام بأعصاب متوترة ونفوس قلقة، وضحكوا جميعًا ضحكًا فيه سرور النجاة وتوتُّر الخوف، وشعر أحمد بدنو الموت دنوًّا جعله يحس تردد أنفاسه على وجهه، بل هنالك ما هو أفظع من الموت نفسه، كأن يُلقى به إلى قارعة الطريق مقطع الأوصال أو مشطور الرأس، وربما أُلحِق بعد ذلك بذوي العاهات المستديمة، أو كأن ينجو من الموت ويدكُّ البيت بما فيه فيجد نفسه وأسرته بلا مأوًى وبلا أثاث وبلا لباس! وجعل يدعو ربه ويستشفع بنبيه، فالحياة محبوبة ولو كانت خائبة بائسة، وأعجب من هذا أنه مال إلى الترفيه عن نفسه وتهيئة السرور لها ما أمكن، فغلب حرصه الطبيعي وابتاع لدى عودته إلى البيت صندوق بسكوت بالشوكولاتة وهو طالما اشتهته نفسه وحرمها إياه حرصًا على القليل من النقود التي تعوَّد أن يودعها صندوق التوفير كل شهر، ولكن عندما أتى المساء غشي القلوب هم وكآبة، وبات الكل في ذعر عظيم، ولم يغمض لإنسان جفن، وتيقظت ذكريات الليلة المفترسة، واختلت الحواس، فصار كل نفير صفارة إنذار، وكل صفقة بابٍ انفجار قنبلة، وكل خشخشةٍ أزيز طيارة! .. وها هم أولاء قد انتقلوا فهل تطمئن قلوبهم حقًّا؟! العمارات حديثة البناء متينة، ولها مخبأ يُضرَب بقوته المثل وهذا جوار الحسين .. ولكن ألم تدك حصون وتخرب جوامع؟! آه لَكَمْ يعذِّبنا حب الحياة، وَلَكَمْ يقتلنا الخوف، ومع ذلك فالموت لا يرحم، وبالتفكير فيه يبدو أي جليل تافهًا. كم حمَّل نفسه ما لا طاقة لها به من الحزن والغضب .. ففيمَ كان ذاك؟ وسمع عند ذاك الراديو يذيع السلام الملكي، فأدرك أن ساعتين مضتا في أرق وقلق، فجزع وراح ينشد النوم بمطاردة الأفكار، ولكنه لم يظفر بأفكاره، وبالعكس ظفرت هي به، فغمره سيل الذكريات الزاخر، فذكر كيف اقترح على والديه أن يسافرا إلى أخيه الأصغر في أسيوط — مقر عمله — فيبتعدا عن الخطر حقًّا، وكيف قالت له أمه: «بل نبقى إلى جوارك فإما أن نعيش معًا وإما …» ثم استضحكت مستعيذة بالله! .. ماذا كان يفعل لو وافقها على السفر؟ .. كان أسهل الحلول أن ينزل في بنسيون، والحق أنه رحَّب بالفكرة في أعماقه لأنه يروم التغيير وهو لا يدري، وكيف يروم التغيير أعزب قضى أربعين عامًا في بيت واحد يكابد حياة رتيبة لا فرق بين يوم منها وبين عام ترهقها عزلة وحشية؟! .. فمهما ألِف هذه الحياة وتعوَّدها لا بد أن تنزع به النفس ولو في خفاء إلى التغيير .. والتغيير الكامل! .. إلا أنه لم يستسلم هذه المرة طويلًا إلى أفكاره، فقد طرقت أنفه رائحة غريبة أوقفت تيار أحلامه! .. ذابت في خيشومه فجأة كأنما حملتها إليه هبَّة نسيم كان من قبلُ راكدًا، ونبَّهه إليها أنه كان يشمها لأول مرة في حياته، وتحيَّر كيف يصفها، فما كانت رديئة ولا كانت زكيَّة ولكن تطيب بها النفس، وفيها هدوء، وعمق، وإلا فما نفاذها إلى قرارة الإحساس؟! وما كانت تنقطع إلَّا لتعود .. فهل بخور يحترق في هذه الساعة من الليل؟! أم يكون لهذا الحي الغريب أنفاس تتردَّد في أعماق السكون؟!

وغاب به التفكير في الرائحة الغريبة عن أفكاره فتهيَّأ للنوم وهو لا يدري … وما لبث أن استرق الكرى خطاه إلى جفنيه فأخذ بمعاقدهما.

٤

وعند الساعة السابعة من صباح اليوم الثاني كان جالسًا إلى السفرة يتناول فطوره الذي يتكون عادة من فنجان قهوة وسيجارة ولقمات من الجبن أو قليل من الزيتون، وغادر الشقة فصار في الردهة الخارجية التي تفصل بين الشقق، وقبل أن يبلغ السلَّم سمع وقع قدمين خفيفتين وراءه فنظر خلفه فرأى فتاة في أولى سني الشباب مرتدية مريلة مدرسية زرقاء ومتأبطة حقيبة الكتب، وقد التقت عيناهما لحظة خاطفة ثم أعاد رأسه وقد تولَّاه ارتباك، والارتباك طبيعته إذا التقت عيناه بعيني أنثى! ولم يَدْرِ هل الألْيَق أن يسبقها إلى الطريق أو أن يتنحَّى لها جانبًا فزاد ارتباكه وتورَّد وجهه الشاحب وبدا فيلسوف إدارة المحفوظات بوزارة الأشغال كالطفل الغرير يتعثَّر حياءً وخجلًا! .. وتوقَّفت الفتاة كالداهشة، وانتقلت إليها عدوى ارتباكه، فلم يجد بُدًّا من أن يتنحى جانبًا وهو يهمس بصوت لا يكاد يسمع: «تفضلي!» فمضت الفتاة إلى حال سبيلها وتبعها متثاقلًا متسائلًا أأصاب يا تُرى أم أخطأ؟ .. وبمَ حدَّثت نفسها عن تردده وارتباكه؟! .. وعند باب العمارة أيقظه صوت جَهْوري من أفكاره يصيح: «ملعون أبو الدنيا!» فالتفت إلى يسراه فرأى نونو — كما ظن — يفتح دكانه، فسُرِّي عنه وابتسمت أساريره وغمغم: «يا فتَّاح يا عليم!» ثم سار في طريقه والفتاة على بُعْد منه غير بعيد حتى بلغت السكة الجديدة، فانعطفت إلى يسارها ومضت نحو الدراسة، وواصل هو مسيره إلى محطة الترام. ولم يكن رأى من وجهها سوى عينيها، استقرت عليهما عيناه لحظة حين التفاتته إليها. عينان نجلاوان، ذواتا مقلتين صافيتين وحدقتين عسليتين، بدتا لغزارة أهدابهما مُكَحَّلَتين، تقطران خفة وجاذبية، فحرَّكتا مشاعره، وكانت الفتاة تتخطى عتبة الشباب اليافع، فلا يمكن أن يجاوز عمرها السادسة عشرة، بينما هو في الأربعين، فأكثر من عشرين عامًا تفصل بينهما! ولو أنه تزوَّج في الرابعة والعشرين — وهي سن زواج معقول — لكان من المحتمل أن يكون أبًا لفتاة في مثل عمرها ونضارتها! وأخذ مجلسه من الترام وهو ما زال يتصوَّر تلك الأبوة التي لم تتحقق.

وسرعان ما خمدت نشوة التأثير بالعينين، وفتر حماس الحنين إلى الأبوة، واجتاح صدره انفعال عنيف قاتم شأنه إذا اقترب من أنثى أو اقتربت أنثى منه، ذلك أنه يحب النساء حب كهل محروم، ويخافهن خوف غرير خجول، ويمقتهن مقت عاجز يائس. فأية أنثى جميلة تترك في وجدانه انفعالًا شديدًا، يضرب في أعماقه الحب والخوف والمقت. وقد كان لنشأته الأولى أكبر الأثر في تكييف طبيعته الشاذة، فخضعت طفولته لصرامة أبيه وتدليل أمه، صرامة ترى القهر عنوان الحنان، وتدليل محبَّة ومُغْرَم لو ترك الأمر له ما علَّمه المشي خوفًا عليه، فنشأ على الخوف والدلال، يخاف أباه والناس والدنيا، ويأوي من خوفه إلى ظل أمه الحنون، فتنهض بما كان ينبغي أن ينهض به وحده، فبلغ الأربعين ولم يزل طفلًا، يخاف الدنيا وييأس لأقل إخفاق، وينكص لدى أول صدمة، وما له من سلاح سوي سلاحه القديم البكاء أو تعذيب النفس، ولكن لم يعد يجدي هذا السلاح؛ لأن الدنيا ليست أمه الحنون فلن ترق له إذا امتنع عن الطعام، ولن ترحمه إذا بكى، بل أعرضت عنه بغير مبالاة، وتركته يمعن في العزلة ويجتر العذاب، فهل يصدِّق الوالدان أن ذلك الكهل الأصلع الخائب قد ذهب ضحيتهما؟!

ومع ذلك كله سجل قلبه تاريخًا في حياة القلوب.

سطَّر أولى كلماته وهو في السنة الأولى من المدرسة الثانوية، وما يعنينا من سرده إلا دلالته على طبعه، كان غلامًا ناضرًا متأنقًا. ولعله ورث الأناقة من والدته، فجذب إليه يهودية صغيرة حسناء من بنات الجيران! فأحمد عاكف — كما ترى — كان يومًا ما جذَّابًا! كانت تلعب في طريقه وترقب مرجعه من المدرسة في نافذتها، ولا تضنُّ على عينيه بملاحتها ودلال أنوثتها فأصلت وجدانه نيرانًا، ولكنها لم تستطع أن تبعث في قلبه الجسارة أو الشجاعة، ألهبت قلبه وجدًا ولكن قصارى ما كانت تدفعه إليه شجاعته أن يرمقها بلحاظ مغرم وجِل سرعان ما يرتد أمام نظرتها وهو كليل، ولكنه على رغم خجله طارحها الغرام صراحة بفضل جسارتها هي. كانت جسورًا لعوبًا لا يردعها عن هواها رادع، فاستطاعت أن تعالج حياءه بجسارتها، وتبعته ذات أصيل حتى أدركته، ثم نادته فالتفت إليها بوجه كالجمان، فابتسمت إليه ابتسامة لطيفة فأجابها بابتسامة مقتضبة في حياء وخفر فقالت له: «هلم نتمشَّى في شارع عبَّاس!» فأطاع دون أن ينبس بكلمة وسارا جنبًا إلى جنب والشمس تتقدَّمهما نحو المغيب، وتعمَّدت أن تدنو منه وأن تلامسه في رفق، فجعل يبتعد كأنما يخاف أن تحسب أنه المتعمد وهو يذوب شوقًا إلى اللمس الذي بجانبه، ثم تأبطت يمناه وهي تضحك ضحكة لم تخلُ من الارتباك، فطرفت عيناه ونظر فيما حوله بخوف فسألته في دعابة: «أتخاف؟!» فقال بصوت رقيق: «أخاف أن يرانا أحد من بيتك!» فهزَّت كتفها استهانة وقالت: «لا تبالِ هذا!» فلاحت في عينيه نظرة عجب فاستدركت متسائلة: «أما تزال خائفًا؟!» فقال بعد تردد: «أخاف أن يرانا أحد من بيتنا!» فأغرقت في الضحك وعاجت به إلى بستان وهي تغمغم: «نحن الآن في أمن من الرقباء!» وتمشَّيا في سكون كالشمس تذوب في الشفق، وظلال المغيب تمتد في الأفق فتجعل منه سرادقًا قائمًا لاستقبال الليل الزاحف، ثم قالت الفتاة الجريئة لتحتال على حيائه: «حلمت حلمًا يا له من حلم!» فقال وقد أخذ يأنس بها: «خيرًا إن شاء الله.» فقالت: «حلمت أنك قابلتني وقلت لي أريد … ثم ذكرْتَ كلمة لن أعطيها لك حتى تقولها بنفسك، فحزِّر ما هي؟!» فاشتد عليه الارتباك وقال بلسان ملعثم: «لا أدري!» فقالت بصوت عذب: «بل تدري وتداري .. قل!» فحلف لها بسذاجة أنه لا يدري، فقالت: «لا فائدة من الكذب عليَّ .. أولى بك أن تتذكر .. كلمة أول حروفها ق!» فصمت وقد خفق قلبه واضطربت أنفاسه فقالت: «والحرف الثاني ب!» فلزم صمته وغض بصره فاستطردت تقول: «والثالث ل … قل ما الحرف الأخير!» فابتسم مرتبكًا ولكنه لم يدرِ كيف يتكلم، فقرصته في ذراعه وهمست في أذنه: «إذا لم تخرج عن صمتك فلن أكلمك أبدًا!» وفعل التهديد فعله فرسمه بأصبعه في الهواء تاء مربوطة! فضحكت بسرور وقالت: «الآن اعترفت بما تريد ولن أضنَّ به عليك!» ثم أدنت منه وجهها وقد أيأسها خجله الشديد من الانتظار، فأخذ قبلة مضت عقود من العمر كاملة وهو يحترق توقًا إلى مثلهاز وهكذا كان دائمًا: إحساسًا عنيفًا وخجلًا موئسًا، وكان يحلو لتلك اليهودية الحسناء أن تداعبه بالسخرية من قسمات وجهه، فآمن بسخريتها، واستقبح وجهه أكثر مما ينبغي، ووجد سببًا جديدًا يقوِّي به خجله الطبيعي فتضاعف، ولو أمكن رجلًا أن يسدل على وجهه نقابًا لكان ذاك الرجل، وكان ذلك من بواعث المبالغة في تأنقه حينًا التي انقلبت فصارت إهمالًا زريًّا حين أدركه اليأس.

واختفت اليهودية الحسناء من حياته فجأة، فما هو إلا أن خطبها شاب من بني جنسها حتى هجرت لعبتها لتستقبل حياة الجد، غير عابئة بالجرح الدامي الذي أحدثته في قلب غض، بيد أن القلوب الغضَّة سريعًا ما تندمل جروحها، وفي الفترة النهائية من المرحلة الثانوية دانت أسباب الجوار أيضًا بينه وبين صبية حسناء هي صغرى بنات أرملة من صديقات والدته، فألَّفت بينهما المودة وتشجيع الأُمَّيْن اللتين ما برحتا تدعوانهما بالعروسين، ولم يكن ذاك الحب الثاني كالأول الذي كان أول يقظة لقلب مفطور على الإحساس، ولكن حوت الصبية مزايا نادرة من رجاحة العقل ومتانة الخلق مما جعل ضياعها من بين يديه خسارة كبيرة أسف عليها أكبر الأسف. وكثيرًا ما كان يحدث نفسه قائلًا: إنه لو تزوج من فتاته كما أرادت أمه وأمها لتمتع بحياة زوجية سعيدة قليلة الأشباه، ولكن عقب حصوله على البكالوريا حلت الكارثة بأسرته، فأحيل أبوه إلى المعاش ودُفع به هو إلى مواجهة الشدة، فانتزُع من نعيم الآمال ورُمي به إلى جحيم اليأس، وأصبح حتمًا على الفتاة إذا أرادت أن تُبقي عليه أن تنتظر عشرة أعوام ريثما ينتهي من تربية أخيه. والظاهر أن أمها لم تشجِّع التضحية المطلوبة لما فيها من انتظار طويل، وغلبت حكمة الفتاة — نفسها — على عاطفتها فانقطعت الأسباب وتبدَّدت الأحلام، وكفر أحمد بالحب وبالمرأة كما كفر بالدنيا جميعًا، فالحب الذي ثمل به قلبه بين يدي اليهودية وَهْمٌ ضال، أو مرض ملازم للمراهقة كتوعك التسنين للطفل، وقد قضت مرارة الحقيقة بالعقاب الصارم على من يركن لعهد امرأة .. سواء أكانت كخطيبته عقلًا وفضلًا أو كاليهودية التي علَّقته ما شاء لها الهوى ثم هجرته كما يهجر الإنسان حجرته في فندق بميدان المحطة!

وانقضت بعد ذلك عشرون عامًا من حياته وقلبه من الحياة خواء بكايد مرارة عيشة فقيرة مترعة بالهموم مثقلة بالتبعات ضيقة بالأمل، ولو سكنت ثائرته لأمكنه أن يجد في حياته من لذات التضحية والقيام بالواجب ما يعزِّيه عن خيبة آماله جميعًا، ولكن غضبه لم يسكت، وحدَّته لم تَلِنْ، فلم يزل ساخطًا متبرِّمًا حاقدًا، لأن إنسانًا ألف أن يكون المعبود الذي يُقدَّم على مذبحه القربان لا يحتمل أن يصير كبش التضحية، وشُغل بأحزانه وتبعاته وعزلته عن الحياة فكأنما رمى بقلبه — الذي لبث طوال أربعة أعوام كقيثارة دائمة الترنيم — إلى بئر آسنة فاختنق وعاش بلا أمل، بلا حبيب، وبلا قلب، لا يأنس بالحياة ولا يدرك معنى أفراحها، فدفعه القنوط من النجاح إلى العزلة ودفعه القنوط من الحب إلى البغاء، وكأنه لم يكفه ما اعتنق من سوء ظن بالمرأة فألقى به سوء حظه بين يدي الأنوثة التعسة المشوهة ليزداد إيمانًا بعقيدته المريضة، فأقنع نفسه — بسوء نية — بأن المرأة الحقيقية هي البغي! .. فهي المرأة الحقيقية وقد جلت عن وجهها قناع الرياء، فلم تعد تشعر بضرورة ادعاء الحب والوفاء والطهر. على أن البغي قد نالت من نفسه أكثر من ذلك فقد أودت بالبقية الباقية من ثقته بجدارته كرجل؛ إذ إنه اعتقد أن البغي إذا أحبت رجلًا فإنما تحبه لما يجذبها فيه من فحولته وجاذبيته الطبيعية بصرف النظر عن اعتبار القيم الاجتماعية وظروف التربي والجوار، فعسى أن تكون اليهودية أحبته لأنها لم تظفر بسواه، أو أن خطيبته أحبته لدواعي الجوار وإيحاء الأمهات. أما البغي فلا تختار حبيبًا من بين عشرات الرجال الذين يترددون عليها لداعٍ من هذه الدواعي؛ فإذا كان لم يستطع أن يجذب إليه بغيًّا طوال هذا الدهر فما ذلك إلا لأنه عاطل من جاذبية الجنس .. وهكذا عانى، وَهْم نقيصة الجنس كما عانى نقيصة الدمامة من قبل.

ولما أتم أخوه رشدي دراسته وحصل على بكالوريوس كلية التجارة وتوظف ببنك مصر منذ عامين — وكان أخوه الآخر توفي منذ أمد بعيد — شعر بحق بأن مهمته قد انتهت بل وكُلِّلت بالنجاح، وساوره أمل — وهل ينعدم من الحياة الأمل؟ — أن يراود السعادة، فقد يظفر بالسعادة وإن يئس يأسًا نهائيًّا من الجاه والسلطان، ويسعى إلى أن يخطب كريمة أحد التجار المقيمين في غمرة، ولكن والدها رده ردًّا جميلًا، وعلم الكهل أن أمها قالت عنه: «إن مرتبه صغير وعمره كبير!» وترنَّح من هول الضربة التي هوت على كبريائه، وثار ثورة عنيفة، وكبر عليه — وهو العبقري الذي حشد الكون ما به من سوء حظ لمكافحة عبقريته — كبر عليه أن ترفضه أنثى من بنات حواء، بل أن ترفضه خاصة لأنه حقير! .. أيقال عنه حقير؟! فمن العظيم إذن؟! .. وكوَّر قبضته متوعِّدًا الدنيا بالويل والثبور والشرر يتطاير من عينيه، بالأمس هجرته حبيبته لأنه صغير لا ترجى منه فائدة، واليوم ترفضه فتاة لأنه كبير لا ترجى منه فائدة، فمتى كان ذا فائدة ترجى؟! أذهب العمر هباءً؟! أضاع المجد وعَزَّت السعادة وانتهى كل شيء؟! .. وصار دأبه بعد ذلك ذم النساء ورميهن بكل نقيصة، فهن حيوانات ماكرة ومكرهن سيئ قوامه الطمع والكذب والتفاهة، إنهن أجساد بلا روح، إنهن مصدر آلام الإنسان وويلات البشرية، وما أخْذهن بظاهر العلم والفن إلا خدعة يختفين وراءها ريثما يوقعن في شباكهن الضحايا، ولولا شهوة خبيثة أُلقيت في غرائزنا ما ظفرن برجاء ولا مودة .. وهن .. وهن .. وكثيرًا ما يقول لزملائه: «شرَّعت لنفسي — والحمد الله — ألا أتزوج على كثرة ما واتتني الفرص، لأني آبى أن ينتهبني حيوان قذر لا روح له ولا عقل!» لقد جعل منه عجزه عن النجاح عدوًّا للدنيا، فجعل منه عجزه عن المرأة عدوًّا للمرأة! .. ولكن أعماقه اضطربت بالرغبة والعاطفة المنهومة المحرومة.

إن انفعاله لامرأة عابرة — كما حدث اليوم — حقيق بإهاجة أعماقه وسرعان ما يذكر تاريخه القديم الحديث مع المرأة فيثور، ويساوره ذاك الشعور العميق الطافح بالحب والخوف والمقت!

٥

وعاد ظهرًا إلى الحي الجديد، وغمغم مبتسمًا وهو يدنو منه: «ثاني عطفه على اليمين ثم ثالث باب على اليسار!» وذكر وهو يرتقي السلم الحلزوني فتاة الصباح ذات الوجه الأسمر والعينين العسليتين النجلاوين، تُرى هل يراها مرة أخرى؟ وفي أية شقة وفي أي طابق من هذه العمارة تقيم؟! ولبث في البيت — وقد أكملت أمه فرشه وتنظيفه — حتى العصر، ثم بدا له أن يجول في طرقات الحي الجديد مستطلعًا ومستكشفًا، فارتدى ملابسه وانطلق إلى الخارج، وتريَّث قليلًا أمام باب العمارة، وجعل ينظر فيما حوله كأنما ليختار ناحية يبدأ منها استكشافه، ولكنه قبل أن يجمع على رأي شعر بشخص يدنو منه فالتفت إليه فرأى الرجل الذي حسب صباح اليوم أنه المعلم نونو، وقد أقبل بخطوات ثقيلة مبتسمًا ابتسامة ترحاب وسرور، ومد له راحة غليظة كخف الجمل وقال: أهلًا وسهلًا بالجار الجديد! .. ويا ألف نهار أبيض!

وسلَّم الجار الجديد، ولم يكن يتوقَّع تلك المفاجأة من صاحب «ملعون أبو الدنيا!» وقال وقد ابتسمت أساريره: أهلًا وسهلًا بك يا معلم!

فأشار المعلم إلى كرسي موضوع أمام دكانه وقال والابتسامة لا تفارق شفتيه الغليظتين: شرفنا بالجلوس دقيقة .. دا يوم سعيد!

وتردد أحمد — لا لأن قبول دعوة المعلم يناقض الغرض الذي خرج من أجله — ولكن لأن طبعه النافر لا يستسيغ مثل هذه الدعوة الكريمة بغير تردد، وقرأ الآخر تردده في وجهه، فقال بصوته الجهوري الخشن: حلفت بالحسين — إن لم تكن قاصدًا غاية تستوجب العجلة — إلا ما شرفتنا .. يا ولد يا جابر هات شايًا .. وهات نارجيلة!

وقبل أحمد — بسرور يعادل تردده — الدعوة شاكرًا ومضى إلى الكرسيِّ بينا غاب المعلم لحظة ثم عاد بكرسي آخر وجلسا متقابلين. كانت دكان الخطاط مثل بقية الدكاكين حجمًا وأناقة، وقد غصت باللافتات الجميلة، وتوسطتها طاولة رُصَّت عليها قنينات الألوان والأقلام والمساطر، وأسندت إلى إحدى قوائمها لافتة كبيرة كتب في أعلاها بالألوان الزاهية «محل بقالة خان جعفر» وتحت ذاك العنوان لاح اسم صاحب البقالة مرسومًا بالرصاص لم يلوَّن بعد، وكان الرجل يرتدي جلبابًا ومعطفًا أبيض وطاقية، في الخمسين أو نحو ذلك، رَبْع القامة، متين البنيان، كبير الوجه والرأس واضح القسمات، يمتاز وجهه بصدغين وفم واسع، وشفتين ممتلئتين، ولون قمحي مشرب بحمرة. وقد جلس وهو يقول: محسوبك نونو الخطاط.

فرفع أحمد يده إلى رأسه وقال: تشرفنا يا معلم، محسوبك أحمد عاكف بوزارة الأشغال!

وكان لا يحب ذكر وظيفته إرضاءً لكبريائه، فكانت لحظات التعارف لحظات تعذيب، بيد أنه لم يتألم هذه المرة كعادته لإيقانه بما يكنه أمثال المعلم نونو للموظفين من احترام، وقد رفع الرجل يديه إلى رأسه احترامًا ثم ابتسم ابتسامة لطيفة، وقال بما طبع عليه من صراحة: أنتم شرفتم حينا يا سادة، ولكن هل جئتم حقًّا إلى هنا خوفًا من الغارات؟!

وعجب أحمد عاكف كيف عرف سبب هجرتهم ولما يمضِ عليهم في الحي الجديد سوى ليلة واحدة! فحدج الرجل بنظرة إنكار وتساءل: من قال لك ذلك؟!

فقال المعلم ببساطة: الحوذي الذي نقل أثاثكم، الناس جميعًا تهاجر هذه الأيام!

فقال أحمد عاكف يدافع عن «شجاعة» أسرته: الواقع أن أحياءنا المعرضة للخطر كادت تخلو، وقد حملنا مرض والدي بالقلب وخوفنا عليه على هجر بيتنا القديم آسفين!

وعند ذاك جاء غلام المعلم بالشاي والنارجيلة. فوضع النارجيلة أمام المعلم، ثم أتى بكرسي من الدكان وضعه أمام الضيف ووضع الإبريق عليه، وعزم المعلم على ضيفه أن يحسو الشاي وأقبل على النارجيلة بلذة وشهوة، وأخذ نفسًا طويلًا روى به غلة خيشومه ثم استدرك قائلًا: حسن أن يلتمس الإنسان سبيل الطمأنينة وإن كان العمر واحدًا والرب واحدًا، والمكتوب حتمًا تشوفه العين. إني يا عاكف أفندي من المتوكلين على الله، وما عرفت حتى الآن طريق المخبأ. أي مخبأ يا سعادة البيك؟! .. هل يستطيع نونو أن يراوغ القدر أو يؤجل قضاء الله؟! .. ألم تسمع صالح عبد الحي وهو يغني: «نصيبك في الحياة لازم يصيبك»؟! بيد أني أدعو الله أن يكفينا شر الأيام، وأعود فأقول إن حظنا حلو، فلولا حكمة بعض الناس ما فزنا بهذا الجوار السعيد!

ولاحظ أحمد أن كلام الرجل حوى أوله سخرية به — وإن كانت سخرية غير مقصودة — بينما حوى آخره ما يستوجب الشكر! فابتسم قائلًا: شكرًا يا معلم، فلطالما قال لنا الحكماء إن حي الحسين آمن!

فأخذ الرجل نفَسًا عميقًا ثم زفره سحابة من الدخان كثيفة وقال: صدقوا ثم صدقوا، إنه حي مبارك محبوب، مُكَرَّم من أجل صاحبه، وسوف ترى فيما يقبل من الأيام أنك لن تستطيع السلو عنه أو الزهد فيه، وسوف يدعوك شيء من الأعماق إليه .. تفضل خذ نفَسًا من النارجيلة.

فشكره أحمد معتذرًا، وكان يحتسي الشاي بلذة مصغيًا لصاحبه، وكأنما أراد أن يجاريه في التدخين، ولكن على طريقته هو، فاستخرج سيجارة من علبته وأشعلها مبتسمًا، وقد أحس نحو محدثه بارتياح لما وجده فيه من غرابة لم يعهدها في أحد من الناس قبله، وأعجبته بساطته وصراحته وقوته، وأهم من هذا جميعه أنه شعر نحوه باستعلاء تملق غروره المعذب فمال إليه. أما المعلم نونو فاستدرك قائلًا: لماذا ترغب عن النارجيلة؟! إن هي إلا سيجارة بماء، أو دخان مكرَّر مطهَّر، وفوق ذلك فلحضرتها سلطنة، وقرقرتها موسيقى، وفي شكلها «سكس أبيِّل».

فلم يملك عاكف نفسه الضحك فأرسل ضحكة رفيعة ضاعت في جلجلة ضحكة المعلم التي تصاعدت كخوار عالٍ متصل انتهى بسعال متقطع استمر حتى انقطع نفسه، ثم قال وأساريره ما تزال ضاحكة: أتحسب أن البلدي جاهل؟ ألم تعلم أن زوَّار هذا الحي من الإنجليز أضعاف أضعاف أمثالهم من أولاد العرب؟! .. ودين الحسين ورب الحسين لَتُسَرَّنَّ بحينا سرورًا لا مزيد عليه، وليكن جوارًا سعيدًا وأيامًا سعيدة رغم هتلر وموسوليني!

– بإذن الله .. إن شاء الله!

وقال المعلم بلغة الإغراء: وفينا أفندية محترمون كحضرتك!

فقال أحمد بسرعة: أستغفر الله يا معلم، أستغفر الله.

– والحسين وجده .. بل إن جُلَّ أصدقائي أفندية من خيرة هذا الحي، فالعمارات الجديدة جذبت أسرًا طيبة كثيرة، يوجد هنا كل ما تريد .. القهوة والراديو واللطف والنارجيلة، بل هنا متسع لمرضية الله ومعصيته على السواء!

فضحك أحمد قائلًا: أعوذ بالله من معصية الله!

فحملق المعلم في وجهه، ثم قال مستدركًا بصراحته الغريبة كأنه يعرفه منذ سنين طويلة لا منذ دقائق: المرضية والمعصية كالنهار والليل لا ينفصلان، وفوقهما مغفرة الله ورحمته .. أَحَنْبَلِيٌّ أنت؟!

– كلا .. كلا!

– تعجبني!

– ولكن كيف يتسع هذا الحي لمعصية الله؟

– أوه .. يا ما تحت الساهي دواهي .. فصبرًا حتى يأتيك اليقين، ومع ذلك فليس الذنب بذنب حينا، الذنب ذنب الأحياء الأخرى، لقد ضاقت بالفساد، فصدَّرت ما يزيد عن حاجتها إلينا، على حد قول الراديو عن التجارة العالمية. هنا نحن نصدِّر المواد الأولية والأحياء الأخرى توردها مصنوعة، فمن بعض أطراف هذا الحي تصدر الخادمات فتحولها الأحياء الأخرى إلى غانيات، في هذه الحرب قُلبت الدنيا رأسًا على عقب، تصور يا إنسان أني سمعت بالأمس بنت بائعة فجل تدعو أختها تقول: «تعالي يا دارلنج»!

وضحك أحمد بسرور، وانبسط وانشرح صدره، وقال وغرضه الأول أن يستدرج محدثه إلى الكلام: حيكم طاهر يا معلم رغم هذا كله، فالفساد هناك فوق ما يتصوره العقل!

– اللهم احفظنا، إلا أنه من الحكمة ألا نُركب الهم أنفسنا، دع الهموم واضحك واعبد الله، الدنيا دنيا الله، والفعل فعله، والأمر أمره، والنهاية له. فعلامَ التفكير والحزن؟! .. ملعون أبو الدنيا!

– هذا شعارك المحبوب يا معلم طالما صعد إلى حجرتي ترديدك له.

– أجل ملعون أبو الدنيا، هذا شعار الاستهانة لا اللعن أو السب، ولكن هل تستطيع أن تلعنها بالفعل كما تلعنها باللسان؟ هل تستطيع أن تستهين بها وتضحك منها إذا أفقرتك؟ وإذا أعرتك؟ وإذا كربتك؟ وإذا أجاعتك؟ صدقني إن الدنيا كالمرأة تدبر عمن يجثو بين يديها، وتقبل على مَن يضربها ويلعنها، فسياستي مع الدنيا ومع النساء واحدة، واتكالي من قبل ومن بعد على الله سبحانه، ورب يوم يستدبر ولما يفتح الله علينا بمليم، ولا يدري أحد ماذا يأكل العيال وما أملك ثمن النارجيلة، فما أزال آخذًا في الغناء واللعن والتنكيت، وكأن العيال عيال جاري والفقر راكب عدوي، ثم تُفرج، فيطلب منا عمل وأقبض مقدَّم الأتعاب، افرح يا نونو، اشكر الله يا نونو، خذي يا زينب اشترى لحمة وأنت يا حسن هات فجلًا، اجري يا عائشة ابتاعي بطيخة، املأ بطنك يا نونو، كلوا يا أبناء نونو، واشكرن يا زوجات نونو.

ولفت سمع أحمد قوله «زوجات نونو» فتساءل: تُري كم زوجة يضم حريم نونو؟! .. وهل يحدثه بأسراره الداخلية بمثل صراحته هذه عن فلسفته العامة؟! .. ولم يجد سبيلًا إلى غرضه إلا بالحيلة، فسأله: كان الله في العون، الظاهر أن أسرتك كبيرة.

فقال الرجل ببساطة: أحد عشر كوكبًا، وأربع شموس.

ثم أشار إلى نفسه وكمَّل قائلًا: وقمر واحد!

فتردد عاكف لحظات، ثم قال: أزواج أربع!

– كما شاء الله.

– وإن خفتم ألا تعدلوا؟

– ومن قال عني أنى ظالم؟!

– وهل تستأجر تبعًا لذلك بيوتًا أربعة؟

– بل شقة واحدة كشقة حضرتك، مكوَّنة من حجرات أربع في كل حجرة أم وأبناؤها!

فلاحت الدهشة في وجه الرجل ونظر إلى محدثه بإنكار، فضحك المعلم ضحكته العظيمة بفخار، وقال: ما الداعي للدهشة يا أحمد أفندي؟

فآتت أحمد جراءة ليست من طبعه، وسأله: لماذا لم تقنع بواحدة؟

– واحدة؟! .. أنا خطَّاط، والنساء كالخط أنواع، لا يغني نوع عن نوع، فهذه نسخ، وتلك رقعة، وثالثة ثلث، ورابعة فارسي. أنا لا أوحد إلا الله.

– ولكن أليس الأربع بأكثر مما ينبغي!

– ليتهن كفينني، أنا والحمد الله أكفي مدينة من النساء، أنا المعلم نونو والأجر على الله!

– وكيف تجمعهن في شقة واحدة؟ ألم تعلم بما يقال عن غيرة النساء؟!

فهزَّ المعلم منكبيه العريضين استهانة وبصق على الأرض، ثم قال: هل تصدق ما يقال عن النساء وغيرتهن ومكرهن؟! .. كل أولئك سجايا خلقها ضعف الرجل، المرأة في الأصل عجينة طرية، وعليك أن تشكلها كما تشاء، واعلم أنها حيوان ناقص العقل والدين فكمِّلها بأمرين، بالسياسة والعصا! فما واحدة من نسائي إلا مطمئنة إلى أنها الأثيرة المفضلة، وما من واحدة استوجبت أكثر من علقة واحدة، ولن تجد مثل بيتي سعادة وهدوءًا، ولا مثل زوجاتي حشمة وتنافسًا في إرضائي، ولذلك لم يجرؤن على مغاضبتي حين علمن بأن لي خليلة!

فصاح أحمد عاكف: خليلة!

– سبحان الله ربي! ما لك تدهش لأتفه الأشياء؟! أقول: إن طعمية البيت لذيذة، ولكن ما رأيك في طعمية السوق؟

– وهل ترضى زوجاتك عن خليلتك؟

– الرضا يساوي التعوُّد على الرضا، وأنت برجولتك تستطيع أن تحمل المرأة على ما تريد فتعمل ما تشاء، وتؤمن بما تشاء، والرجل القوي لا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا وافق هواه.

فابتسم أحمد وقال: عوفيت يا معلم!

وأخذ المعلم أنفاسًا متتابعة ثم سأل ضيفه: هل أنت متزوج يا أحمد أفندي؟

فأجاب باقتضاب وقد امتعضت نفسه: كلا.

– ولا واحدة؟!

– ولا نصف واحدة.

فضحك الرجل وقال بصراحته المعهودة: أنت بغير شك نطاط كبير!

فابتسم أحمد ابتسامة غامضة، ولم يعرض لقوله بنفي أو إثبات، فقال نونو ضاحكًا: عوفيت .. عوفيت!

وبلغ المعلم نونو من نفسه ما لم يبلغه سواه، فأحدث فيها يقظة عنيفة، كأن شيئًا يناقضه قوة وصحة وابتسامًا، وإقبالًا على الحياة، وفوزًا وسعادة، فأُعجب به إعجابًا استمده من عجزه عن مجاراته، وحقد عليه لتفوقه وسعادته، إلا أنه كان حقدًا خفيفًا لا يقاس بما أحدثه في نفسه من شعور باستعلاء، فغلب ميلُه إليه حقدَه عليه، واستثار فيه رغبة جديدة للاختلاط به وبحيه العجيب.

وعندما استأذن في الانصراف قال له المعلم: عليك بقهوة الزهرة هي قهوة صغيرة، ولكنها تجمع أفندية هذا الحي المحترمين، وستعرف فيها الصفوة من جيرانك، هلا حضرت هذا المساء؟!

فقال أحمد وهو يودعه: إن لم يكن هذا المساء، فمساء الغد إن شاء الله.

وسلَّم عليه شاكرًا، ثم مضى إلى ما كان بسبيله من اكتشاف أنحاء الحي الجديد.

٦

وعند مساء اليوم الثاني غادر العمارة ووجهته قهوة الزهرة، فوجدها عند مدخل شارع محمد علي الكبير، وهو السابق لشارع إبراهيم باشا، وكانت في حجم الدكان ذات مدخلين أحدهما على شارع محمد علي والثاني على الممر الطويل الذي يؤدي إلى السكة الجديدة، وقد وجد في الحي من أمثال هذه القهوة عشرات حتى قدَّر قهوات الحي بمعدل قهوة لكل عشرة من السكان، وأقبل على القهوة متمهلًا مترددًا لأنه لم يتعود ارتياد المقاهي ولا ألف جوَّها، وما كاد يعبر بابها حتى رأى المعلم نونو يتوسط جماعة من الأفندية بينهم واحد من أهل البلد، ورآه المعلم فنهض قائمًا مبتسمًا وقال بصوته الجهوري الخشن: أهلًا وسهلًا تفضَّل يا أحمد أفندي.

فاقترب منه بقامته الطويلة النحيفة تلوح على شفتيه ابتسامة ارتباك وحياء، مادًّا يده بالسلام، فتلقاها براحته الغليظة، ثم التفت إلى الجماعة قائلًا: جارنا الجديد أحمد أفندي عاكف الموظف بوزارة الأشغال.

فنهض الرجال نهضة واحدة في لطف واحترام زادا من ارتباكه وحيائه، ومضى يسلم عليهم واحدًا فواحدًا والمعلم يقدمهم قائلًا: سليمان بك عتَّة مفتش بالتعليم الأولي، سيد أفندي عارف بالمساحة، كمال أفندي خليل بالمساحة أيضًا، الأستاذ أحمد راشد المحامي، المعلم عباس شفة من الأعيان.

وأوسعوا له مكانًا بينهم ورحبوا به أيما ترحيب، فأخذ يأنس بهم وينفض عن نفسه الارتباك والحياء، وما لبث أن ساوره شعور سعيد بالعزة والاستعلاء أحسن إخفاءه. بابتسامة حلوة ونظرة حيية.

لم يخامره شك قط في تفوُّقه على هؤلاء الناس من جميع الاعتبارات والوجوه، فهو من أهل السكاكيني وهم من أبناء الدَّراسة أو الجمالية! وهو المفكر والعقل الكامل وهم لا شيء من هذا جميعه، بل خال أن وجوده بينهم تعطُّف جميل وتواضع محبوب، بيد أنه تساءل متحيرًا تُرى كيف السبيل إلى تفهيم هذه الجماعة حقيقة قدره وإطلاعهم على مزاياه العقلية والثقافية؟ .. كيف يقنعهم بعظمته ويدعوهم إلى احترامه؟ .. لا شك أن ذلك آتٍ لا ريب فيه إذا اتصلت المودة وتكرر اللقاء، فلا عليه من تأخيره جلسة أو اثنتين! وتقلب بصره بين الوجوه الجديدة يعاينها باهتمام، فهذا سليمان عتة المفتش رجل في الخمسين أو يزيد، قبيح الوجه لحد الازدراء، قميء ذو احديداب، يذكرك وجهه بالقرد في انحدار جبهته وبروز وجنتَيه واستدارة عينيه وصغرهما وكبر فكَّيه وفطس أنفه، إلَّا أنَّه حرم من خفة القرد ونشاطه، فبدا وجهه ثقيلًا جامدًا متجهمًا كأنه سيؤخذ بجريرة قبحه، أما أجمل ما فيه فمسبحة قهرمانية لعبت أنامل يمناه بحباتها، ومن عجب أن صورته على قبحها لم تُهِجْ مقته، ولكنها استثارت هزءَه وسخريته، والمدعو سيد عارف كهل في مثل سنه على وجه التقريب، صغير الحجم رقيق الأعضاء، لبشرة وجهه نعومة وفي نظرة عينيه براءة، أما كمال خليل فرجل تلوح في عينيه الرزانة، كبير العناية بهندامه وأناقته معتدل القامة يميل للبدانة، وكان أحفل القوم استقبالًا للجار الجديد، ثم تحوَّل إلى أحمد راشد باهتمام خاص، فوجده شابًّا في ريعان الشباب، مستدير الوجه ممتلئه كبير الرأس تكاد تخفى صفحة وجهه نظارة سوداء عميقة السواد، أثار هذا الشاب اهتمامه لأنه محامٍ، والمحامي رجل متعلم، والمحاماة مهنة طمع فيها أول عهده بالآمال وعجز عنها وإن لم يقر بعجزه قط، فما يزال يحقد على المحامي حقده على الأديب والعالم، وقد اعتاد أن يشعر نحو الواحد منهم كما يشعر الرجل نحو آخر تزوج من فتاة يحبها، فوجد فيه عدوًّا وتوثَّب للانقضاض عليه، ولم يَبْقَ من الجماعة إلا المعلم عباس شفة، وهو شاب ذو سحنة زنجية توحي ملامحه الغليظة الدميمة بالدناءة والوضاعة، وقد ارتدى جلبابًا فضفاضًا وشبشبًا وترك رأسه بلا غطاء فانتفش شعره المفلفل وزاده دمامة وقبحًا وبدا شيئًا حقيرًا لا ينقصه سوى لباس السجن! واحتلت الجماعة على صغرها أكثر من ثلث القهوة، وجلس القهوجي إلى صندوق الماركات على كثب منها وكأنه — لاشتراكه في أحاديثها — واحد منها! وبينما أقبل المعلم نونو وكمال خليل أفندي على أحمد عاكف أيما إقبال ثابر سليمان عتة على جموده وتجهمه كأنما نسيه نسيانًا تامًّا، أما الأستاذ أحمد راشد فجعل ينصت إلى حديث يذيعه الراديو …

ووجَّه كمال خليل الخطاب إلى عاكف قائلًا: علمنا إن حضرتك آتٍ من السكاكيني؟

فحنى أحمد رأسه قائلًا: أجل يا أستاذ.

فسأله الرجل باهتمام: أحقًّا لم ينجُ من بيوت الحي إلا عدد قليل؟

فضحك أحمد قائلًا: الحقيقة أنه لم يهدم سوى بيت واحد.

– يا للناس من الإشاعات! .. فماذا فعلت تلك الفرقعة الهائلة التي خلناها في بيوتنا؟

– كانت فرقعة في الهواء!

فتحول الأستاذ أحمد راشد عن الراديو — مما دل على أنه لم يستغرق كل انتباهه — وسأل الجار الجديد: وهل سقط طوربيد حقًّا ولم ينفجر؟

فقال أحمد وقد شعر بسرور لتحول الشاب إليه: وقيل طوربيدان ولكن أحيط بهما وعالجهما الخبراء.

فقال أحمد راشد: من لنا بذاك الخبير الكندي الذي قرأنا عنه في أنباء الحرب؟ يقال إنه أنقذ أحياء كاملة في لندن!

فتساءل سيد عارف كالمتهكم وكان من محبي الألمان: أما تزال توجد أحياء كاملة في لندن؟!

فابتسم أحمد راشد وقال لعاكف: صاحبنا من أنصار الألمان!

وضحك المعلم نونو قائلًا مكملًا قول المحامي: لأسباب طبية!

وتورد وجه سيد عارف، ولكن المعلم نونو لم يرحمه فأرسل ضحكته العظيمة مرة أخرى وقال: يحسب أن الطب الألماني يستطيع أن يعيد الشباب!

وقطب سيد عارف جبينه مستاءً، والظاهر أنه كبر عليه أن يصارح بمثل هذا الكلام أمام رجل ما زال جديدًا في جماعتهم، وأدرك أحمد عاكف أن وراء ملاحظة نونو ما وراءها، ولكنه لم يبدُ على وجهه أنه سمع شيئًا، وأراد نونو أن يستدرك هفوته فراح يحدث الضيف عن الحي الجديد مثنيًا عليه بما يعلم حتى علَّق أحمد راشد على كلامه قائلًا: هذا الحي هو القاهرة القديمة، فهو بقايا متداعية حقيقة بأن تهز الخيال وتوقظ الحنان وتستثير الرثاء، فإذا نظرت إليها بعين العقل لم ترَ إلا قذارة تقتضينا المحافظة عليها التضحية بالبشر، وما أجدر أن نمحوها لنتيح للناس فرصة التمتع بالحياة الصحية السعيدة!

وتنبَّه أحمد إلى ما في قول صاحبه من جدة عسى أن تنزله من القوم منزلة المحدث الماهر والمفكر الذكي، خاصة وأن لشهادته الحكومية — ليسانسيه القانون — مكانة يدين لها الجهلاء والسذج، فخاف أن يمتاز عليه، فتوثَّب للنضال، وأجمع على معارضته بأي ثمن؛ فقال: ليس القديم من البقاع مجرد قذارة، فهو ذكرى قد تكون أجل من حقائق الواقع، فتبعث في النفوس فضائل شتى! .. إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هي القاهرة المُعِزِّية ذات المجد المؤثَّل، أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبدة؟!

ووقع هذا الكلام من نفوس القوم موقعًا حسنًا قرأه في أعينهم، فَسُرَّ به، وأراد أن يهتبل الفرصة ليعلن عن علمه فقال: معذرة يا أستاذ أحمد فقد قرأت عن تاريخنا مجلدات جعلت تعلقي به أمرًا مقضيًّا!

فقال سيد عارف: الظاهر أن أحمد أفندي من عشَّاق التاريخ!

فسُرَّ أحمد بما هيَّأه كلام الرجل من فرصة أطيب للحديث عن معارفه، فقال مبتسمًا: الواقع أني لا أعشق التاريخ أكثر من غيره من فروع المعرفة، والحقيقة أني أنفقت أكثر من عشرين عامًا في تحصيل المعارف المختلفة!

فولَّاه القوم نظرات دلت على الاهتمام، وفسَّر هو ذاك الاهتمام بأنه إكبار فرقص قلبه طربًا، ولكم ود لو يستطيع أن ينفذ إلى عيني أحمد راشد خلال عويناته السود ليقرأهما. وقد سأله كمال خليل: ولماذا تدرس هذه المعارف يا «أستاذ»؟ أتحضِّر لشهادة ما؟!

وعلى قدر سروره بلقب أستاذ غص ببقية السؤل فقال باستكبار: أية شهادة تستوجب هذه الدراسة الطويلة الشاملة؟! … ما الشهادة إلا لعبة يستبق إليها الشبان، أما دراستي فلا غاية لها إلا العلم الحق، وربما مهَّدت بها يومًا إلى التأليف المنتج!

فسأله أحمد راشد وعلى ثغره ابتسامة أحنقته: ما معنى أن الشهادة لعبة؟!

فقال أحمد كاظمًا حنقه: الشهادة ليست دليل العلم!

– أهي دليل الجهل؟!

فأخذ غيظه يفور حتى أجهده أن يكتمه، ثم استدرك قائلًا: أعني أن الشهادة هي الدليل على أن شابًّا حفظ بعض المواد بضع سنين، والعلم الحق غير هذا البتة!

فابتسم أحمد راشد ابتسامة غامضة وأمسك عن الجدل، وكان يعطف على رأى محدِّثه في الشهادات، بل إنه لم يغب عنه الحدة التي يسوق بها رأيه، مما جعله يميل إلى فرض احتمال وجود أسباب أخرى لذاك الرأي غير التي أعلنها، ورحَّب أحمد عاكف بصمته لأنه يرجِّح كفته عليه أمام «العوام» الذين يجالسونهما! وساد الصمت برهة، وجعل المعلم نونو يفرغ الشاي في أكواب الجلوس ودار عاكف ببصره في المكان، فلاحظ لأول مرة أن غلامًا يجلس على كرسي جنب كمال خليل أفندي، ولم يدرِ أكان موجودًا قبل مجيئه أم أنه جاء في أثناء اشتغاله بالحديث، ولكنه أيقن من أول وهلة أنه ابنه، لمَشابِه لا تخفى عن النظر العابر، وتركه بصره إلى غيره ولكنه عاد إليه سريعًا، فقد استوقف انتباهه «شيء» في وجه الغلام لم يدرِ ما هو على وجه التحقيق، ولم يستطع أن يرمي إليه بطرفه طويلًا، فجعل يختلس من وجهه نظرات حائرة من وراء كوب الشاي وهو يحتسي منه رشفة بعد أخرى، ما الذي جذب انتباهه إلى ذاك الوجه فكاد أن ينسى آثار المعركة التي خاض غمارها؟! لعله شعور غامض بأنه رآه من قبل، بأنه رأى هاتين العينين الواسعتين ونظراتهما الحلوة الساذجة، ومثل هذا الشعور لا يريح صاحبه حتى يتضح الغامض من الذكريات على ضوء التذكُّر والعرفان، وإن كان في الغالب لا يفيد شيئًا ذا بال، ولذلك ألح عليه هذا السؤال «أين رأيت هذا الوجه؟ ومتى كان ذلك؟ في السكاكيني؟ .. في الترام؟ .. في الوزارة؟» وردت ذاكرته على عناده وإلحاحه بعبث ساخر معذب، فجعلت تدني إلى وعيه الصورة وترميه بأطياف الزمان والمكان حتى خال أنه ظفر بها أو كاد، ثم لا تلبث أن تبتلع الأطياف في ظلمة عميقة، وتتراجع بالصورة عن الوعي المشوق، فيعود الغموض والإبهام والحيرة إلى ما كانت عليه، ورغب أخيرًا أن يعرض عن تذكُّر شيء ليست معرفته بالمطلب الهام، ولكن الحقيقة أن ذاكرته لم تَعُد الشيء الوحيد الذي يحيره ويلح عليه! الحقيقة أن رغبة صادقة أو شعورًا عميقًا راح ينزع بقلبه إلى العينين النجلاوين ونظرتهما الحلوة الساذجة! فكلما اختلس نظرة استثار في أعماقه حنانًا وودادًا وانجذابًا! وتملكته الحيرة، وتولاه الحياء، وحذر أعين الجلوس حذر مريب مذنب! فأطرق ممسكًا بعروة الكوب وقلبه شديد الخفقان وأبى خياله أن يفارق الغلام، فعلق وجهه وتمثل نظرة عينيه، ودار قلبه عطفًا ودادًا وهيامًا، وهمَّت عيناه أن تخونا إرادته ولكنه شد عليهما بخوف وغضب، وتساءل متحيرًا عمَّا دهاه؟! بيد أن المعلم نونو انتشله من خلوته النفسية المحيرة فسأله: ألا تحب أن تتسلى بلعب شيء؟

فنظر إليه كمن يتنبه من سبات بغتة وقال ببساطة: لا أدرى عن الألعاب شيئًا!

فضحك كمال خليل قائلًا: إليك الأستاذ أحمد راشد قرينًا وشبيهًا في ذلك، فتسامرا معًا ريثما نلعب ساعة.

ثم التفت الرجل إلى ابنه، وقال له: هلم إلى البيت يا محمد!

فخفق قلب عاكف، وأرسل نحوه ناظريه، فتبعاه وهو يسير بخطًى لطيفة حتى غيَّبه الباب، فعاد يقول لنفسه متحسِّرًا: «هلا ذكرت متى عرفت هذا العلام؟» وكانت الجماعة قد انقسمت فريقين، فلعب المعلم نونو وكمال خليل الدومينو، ولعب سليمان عتة وسيد عارف النرد، أما عباس شفة فتزحزح بكرسيه إلى مجلس المعلم «القهوجي»، وتنحَّى أحمد راشد ليوسع للاعبين، فصار جنب أحمد عاكف، وشعر الرجل باقترابه فتغير شعوره العجيب وتوثب مرة أخرى للنضال والعراك، ذهب الهيام وجاء الغضب والحقد! … والتفت الشاب نحوه قائلًا برقة: كيف حالك يا أستاذ؟! لا تحسبن أني قديم عهد بخان الخليلي، لقد سبقتك إلى هنا بشهرين!

فابتسم عاكف مسرورًا بتودُّد الآخر إليه، وقال كالمتسائل: الغارات أيضًا؟!

– تقريبًا! .. الواقع أن مسكننا القديم في حلوان أُخلي لأغراض عسكرية فرأيت أن أنتقل إلى القاهرة قريبًا من مكان عملي، ووجدت مشقة في البحث عن شقة خالية حتى أرشدني صديق إلى هنا!

فقال أحمد عاكف وقد أخفض صوته: يا له من حي مزعج!

– أجل! ولكنه مسلٍّ وغريب وحافل بالفنون والنماذج البشرية المدهشة، انظر إلى القهوجي الذي يحدثه عباس شفة، انظر إلى عينيه الذاهلتين! إنه يزدرد نصف درهم من الأفيون كل أربع ساعات، ويمضي في عمله كالحالم لا يفيق أو بالأحرى لا يرغب أن يفيق.

– وهل تطيب الحياة على هذا النحو؟!

– لا أدري! المؤكَّد فقط أن اليقظة التي نحبها ونستزيد منها بالقهوة والشاي يمقتها هذا الرجل وكثيرون أمثاله: وتراه إذا أُجبر بسبب ما، على البقاء فيها مدة، متثائبًا دامع العينين، شرس الخلق، ولا تسكن ثائرته، ويصفو مزاجه حتى يغيب عن الوجود، ويهيم في عوالم الذهول: أهي لذة عصبية تكتسب بالعادة؟! … أم سعادة وهمية تهرب إليها النفس من شقاء الواقع! علم هذا عند المعلم نفسه!

إنه يخاف شقاء الواقع، كواحد من هؤلاء المدمنين، ويهرب منه أيضًا لائذًا بعزلته وبكتبه، فهل هو أسعد حالًا منهم؟! ورغب عن الاسترسال في ذاك الموضوع، فسأل محدثة وقد غيَّر لهجته: هل أستطيع أن أكب على دراستي في مثل هذه الضوضاء؟

– ولمَ لا؟ .. الضوضاء قوية حقًّا، ولكن العادة أقوى، وسوف تألف الضوضاء حتى ليزعجك سكونها، وقد كنت بادئ الأمر ألقاها متجهمًا متكدرًا يائسًا، أما الآن فتراني أكتب مرافعاتي وأراجع مواد القانون هادئًا مطمئنًا وسط هذا الدوي الذي لا ينقطع، ألا ترى أن العادة أمضى سلاح نواجه به غِيَر الدهر!

فهز الرجل رأسه موافقًا، وقال وكأنه يستكثر أن ينفرد الآخر ولو بهذا القول المبتذل: ولذلك قال ابن المعتز:

إن للمكروه لذعة هَمٍّ
فإذا دام على المرء هانا

فابتسم أحمد راشد ابتسامته الغامضة، وكأن لا يحفظ الشعر ويحتقر الاستشهاد به فتساءل في رفق: أأنت يا أستاذ عاكف من الذين يستشهدون بالشعر؟

فتساءل عاكف بإنكار: وماذا ترى في ذلك؟!

– لا شيء البتة إلا أنني أعلم أن الناس عادة لا يعدلون بالشعر القديم شعرًا حديثًا، مما يوجب أن يكثر استشهادهم — إذا أرادوا أن يستشهدوا بشعر — بالقديم، وأنا أكره النظر إلى الماضي!

– لا أكاد أفهم.

– أريد أن أقول إنني أكره الاستشهاد بالشعر لأنني أكره الرجوع إلى الماضي، أريد أن أعيش في الحال وللمستقبل وحسبي ما في عصرنا من حكماء هم أهل للإرشاد والتوجيه!

وكان أحمد عاكف على عكس صاحبه يحسب أن الماضي انطوى على العظمة الحقيقية، أو أنه لم يعرف غير بعض نماذج العظمة الماضية ولا يدري شيئًا عن عظماء «عصرنا» فثارت ثائرته وقال منكرًا: وفيمَ إنكار عظمة الغابرين وفيهم الأنبياء والرسل!

– لعصرنا رسله كذلك!

وأوشك الرجل أن يعلن دهشته ولكنه كان أحرص من أن يبدي — في حديث — دهشته إلا إذا أوجب ذلك جهل محدثه — لا علمه طبعًا — فتساءل في هدوء: ومَن رسل العصر الحاضر؟!

– أضرب مثلًا بهذين العبقريين: فرويد وكارل ماركس!

وشعر بيد تضغط على عنقه فتكتم أنفاسه! بل شعر بجرح عميق في كرامته، لأنه لم يسمع قبل الآن بهذين الاسمين! وأضمر لصاحبه غضبًا جنونيًّا، ولكن لم يسعه إظهار جهله فهزَّ رأسه هزَّة العارف العالم وتساءل: أتراهما يضارعان العباقرة الأولين؟!

وكان سرور المحامي الشاب بعثوره على إنسان مثقف لا يعادله سرور فرغب في المناظرة رغبة قوية، وأدنى كرسيه إلى كرسي صاحبه حتى لم يعد يفصل بينهما شيء وقال بصوت لا يسمعه سواه: لقد هيأت فلسفة فرويد للفرد فرص النجاة من أمراض الحياة الجنسية التي تلعب في حياتنا الدور الجوهري. ونهج له كارل ماركس سبل التحرر من الشقاء الاجتماعي، أليس كذلك؟

وخفق فؤاد الكهل الحاقد الغاضب، ولم يَدْرِ هذه المرة كيف يعارض فضلًا عن أن ينتصر، فراغ عن مواجهته إلى التحايل عليه فقال بهدوء وصدره يغلي: مهلًا .. مهلًا يا أستاذ، لقد كنا مثلك متحمسين، ولكن تقدُّم العمر ومداومة الفكر حقيقان بإلزام الإنسان حدًّا من الاعتدال.

فقال أحمد راشد بلهجة لم تخلُ من حدة: ولكني أُحسن التفكير فيما أطلع عليه؟

– بغير شك إلا أنك شاب وستكتسب بالعمر حكمة حقيقية، ألم تسمعهم يقولون: «أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة»؟

– مثل قديم أيضًا!

– وحكيم!

– لا حكمة في الماضي!

– ربَّاه!

– لو وجدت في الماضي حكمة حقيقية لما صار ماضيًا قط!

– وديننا؟

فرفع الشاب حاجبيه دهشة، ولو استطاع عاكف أن يستشف ما وراء النظارة السوداء لرأى نظرة احتقار تورث الجنون. وغمغم الشاب: يا للسذاجة!

وكان عاكف قرأ فلسفة إخوان الصفاء الدينية فرغب أن يلخِّصها في كلمات لمحدثه البغيض ليدفع عن نفسه تهمة الأخذ برأي العوام في الدين من ناحية، وليغمض على صاحبه كما غمض عليه، فقال: إن في الدين ظاهرًا حسيًّا للعوام وجوهرًا عقليًّا للمفكرين، فهناك حقائق لا يضيق المثقف بالإيمان بها مثل الله والناموس الإلهي والعقل الفعال!

فهز الشاب منكبيه استهانة وقال: إن العلماء المعاصرين يعلمون بما في الذرة من عناصر، وبما وراء عالمنا الشمسي من ملايين العوالم، فأين الله؟ وما أساطير الديانات؟! وما جدوى التفكير في مسائل لا يمكن أن تحل، وبين أيدينا مسائل لا حصر لها يمكن أن تحل وينبغي أن نجد لها حلًّا؟!

ثم ابتسم الشاب ابتسامة سريعة وقال وقد غير لهجته المتدفقة: لا يجوز أن نُشرك ثالثًا من جماعتنا في هذا الحديث!

– طبعًا .. طبعًا يا أستاذ. ولكن لا تنسَ أن أول العلم كفر دائمًا!

وقطع عليهما الحديث ارتفاع صوت سليمان عتة بالغضب، والظاهر أن ملاعبه سيد عارف أغاظه بهذره فتهيَّج القرد وصاح به: إن الله الذي سلبك قواك عادل حكيم!

وذكر أحمد عاكف ما قيل عن سيد عارف منذ ساعة فنظر إلى أحمد راشد مبتسمًا، فرد الشاب على ابتسامته بابتسامة ذات معنًى وقال: صاحبنا يجرب الأقراص ويعقد بها رجاءً صادقًا!

ولفت انتباههما جماعة من لابسي الجلابيب أحاطوا بمائدة عند مدخل القهوة ومضى كل منهم يعد رزمة ضخمة من الأوراق المالية، وكان منظرًا يستدعي الدهشة لما فيه من أوجه التناقض، فقال أحمد عاكف: لعلهم من أغنياء الحرب!

فقال الآخر موافقًا: سيهجرون طبقة ويلحقون بطبقة أخرى!

– إن الحرب ترفع كثيرين من السفلة!

– السفلة! .. هذا صحيح ولكن لا يوجد حد فاصل بين السفلة والطبقة العالية، فأرستقراطيو اليوم كانوا سفلة الأمس، ألا تعلم أن رعاع الغزاة انتهبوا في الماضي أراضينا بحكم الغزو؟ .. وها هم أولاء يكوِّنون طبقة عالية ممتَّعة بالجاه والسؤدد والامتيازات التي لا حصر لها.

ولأول مرة يميل إلى موافقته دون نزوع إلى المعارضة، فقال: هذا رأيي!

فاستدرك الشاب قائلًا: ويري كارل ماركس أن العمَّال سيظفرون بالنصر النهائي، فيصير العالم طبقة واحدة ممتعة بالضرورات الحيوية والكمالات الإنسانية، وهذه هي الاشتراكية!

ولزما الصمت كأنما أجهدهما التعب، فجعل عاكف يفكر متألمًا: يا لها من آراء! .. فرويد وماركس، الذرات وملايين العوالم، الاشتراكية! واختلس منه نظرات ملتهبة بالحقد والكراهية والحنق، فما كان يظن قط أنه سيعثر في خان الخليلي على من يتحدى ثقافته، ويجبره على التسليم بأن فوق كل ذي علم عليمًا! أفلا يظفر بالراحة في هذه الدنيا؟!

وعند ذاك خلع الشاب نظارته ليمسح عينيه بمنديله فاكتشف أن عينه اليسرى زجاجية! ودهش أول وهلة، ثم غمره شعور بالارتياح خبيث؛ لأنه وجد في عوره وجهًا للاستعلاء عليه أيًّا كان هذا الوجه!

ولبث فترة قصيرة، ثم غادر القهوة عائدًا إلى البيت هائج النفس، ثائر الكرامة، ولحسن حظه ذكر فجأة الغلام! .. وسرعان ما تغيَّرت حاله ورفَّت على حواسه الملتهبة بسمة رطيبة أذهبت رياح الحقد والغضب، وتمثلت لخياله العينان النجلاوان، والنظرة الفاتنة، فتنهد متحيرًا، وهمس لفؤاده «سأراه حتمًا مرة أخرى!»

٧

ونهض في الصباح المبكر نشيطًا، ففتح النافذة وأطل منها على الحي العجيب فوجد الحي يتمطَّى مستيقظًا، فالدكاكين ترفع أبوابها ونوافذ الشقق تفتح على مصاريعها وباعة اللبن والصحف ينطلقون إلى الطرق المتشابكة منادين بغير انقطاع، وجذب انتباهه قدوم جماعات من «مشايخ» المعاهد الأولية الغلمان يسيرون زرافات نحو معهدهم في جبب سوداء وعمم بيضاء فذكَّروه ﺑ «الفشار» في المقلى وأنصت إليهم مستلذًّا وهم يرتلون معًا هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا وجعل رأسه يروح معهم ويجيء حتى ختموها يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فذكر لتوه أحمد راشد المحامي، فهو من الذين أعد لهم العذاب الأليم! .. وإنه به لحقيق!

وعند عصر ذاك اليوم وقد جلس وأمه في الصالة يشربان القهوة، قالت له المرأة بسرور: زارني اليوم نساء الحي من الجيران للترحيب بي والتعرف إليَّ كما جرت العادة.

فابتسم أحمد الذي يقدر سرور أمه بمعرفة الناس وولعها بالزيارة وقال لها: هنيئًا لك!

فضحكت وهي تتناول منه سيجارة، ثم أشعلتها وهي تقول: فيهن نساء لطيفات سيملأن غربتنا حرارة وحبورًا!

– لعلكِ أن تنسي بهن الصديقات القديمات من نساء السكاكيني والظاهر والعباسية!

فكبر عليها قوله وصاحت به: أينسى الكريم أحبابه؟! .. هن روحي وحياتي، ولن يفرق بيننا البعد مهما امتد وطال.

– ونساء الحي من أي نوع هن؟!

فقالت المرأة باهتمام وبلهجة من ينبري للدفاع: لَسْنَ من السفلة ولا من الفجر كما ظننت، وبعض الظن إثم، وكان بين اللائي زرنني زوج موظف بالمساحة يدعى كمال خليل، وزوج آخر بالمساحة أيضًا يُدعَى سيد عارف، وجاءتني أيضًا زوج صاحب مقهى الزهرة وشقيقته، والزوجة امرأة طيبة القلب، أما شقيقة زوجها فينطق في عينيها المكر والشر، وإن سترت ذلك كله بغلالة شفافة من الرقة والابتسام!

– داريها هي وأمثالها باللطف، فإنه إن يبلغها شيء عنك من وراء وراء كشفت وجهها علينا!

– لا سمح الله يا بني، أما أعجب ما صادفت اليوم فهو أن الست توحيدة حرم كمال أفندي خليل — وهي جسيمة كالمحمل أو كأمك أيام شبابها — صديقة قديمة .. عرفتها في دكان بهلة العطار بالتربيعة.

– وأنتما تسعيان معًا إلى وصفات السمن!

– هو ذلك .. وتبادلنا التحية هناك مرات، ولكننا لم نتقدم وراء ذلك في سبيل التعارف!

– ها هي ذي الأيام تعارف بينكما!

ثم ذكر أن هذه السيدة أم الغلام محمد! .. ولم يكن ذكره في نهاره إلا حين جاء ذكر أمه، فعجب كيف نسيه طوال ذلك الزمن، وقد كان قبل عشرين ساعة ملء القلب والخيال! ولكن أمه لم تدعه لأفكاره فضحكت ضحكة عالية وقالت: وأخذنا في كذب النساء طويلًا وكذب النساء لذيذ، فهذه أبوها فقيه كبير يتبارك الناس بتقبيل يديه، وتلك كريمة تاجر واسع الثروة، والثالثة قريبة مدير حسابات الداخلية، والرابعة مرضت مرضًا أنفقت على علاجه عشرات الجنيهات!

وضحكا معًا، ثم سألها الكهل وما زال ضاحكًا: وكيف كان كذبك؟!

فقالت وهي تحدجه بنظرة ضاحكة: يسيرًا لا تثريب عليه يوم الحساب، فأبوك أحيل على المعاش منذ زمن يسير، وكان مفتشًا بالأوقاف، وأما أبي — جدك — فكان تاجرًا، وأنت يا نور عيني رئيس قلم بوزارة الأشغال، ولك من العمر اثنان وثلاثون عامًا لا غير، فتذكر!

– يا خبر!

– لا فائدة من الاعتراض، وإياك وتكذيب الكذب! وأنا أكبرك بثلاثة عشر عامًا، فأنا في الخامسة والأربعين.

– هل ولدتني وأنت طفلة؟!

– الأنثى تلد في الثانية عشرة من عمرها؟

– هذه أخت وليست بأم.

– صدقت فالولد الأكبر أخو والديه، أما أخوك فوكيل بنك مصر بأسيوط!

فهزَّ الرجل رأسه عجبًا وقال: كيف تؤاتيكن الجرأة على تزييف حقائق لن تخفى طويلًا عن أعين الجار، ولا بد أن تنكشف حقيقتها يومًا ما؟!

فقالت ببساطة: غدًا تؤلف العشرة بين قلوبنا ونعرف الحقيقة رويدًا رويدًا بلا سخرية ولا تعيير، ولو أنني قلت الحقيقة بغير زيادة، لما صدَّقنني كما لا يصدقنني الآن، ولانتقصن من رأس المال بدلًا من أن ينتقصن من الفائدة!

– يا لَكُنَّ من كاذبات لا يشق لهن غبار!

– وماذا عليك من هذا؟! طوبى لكذب غايته الرفعة والفخر. إن كذب النساء بلسم لجراح دامية، متعك الله بعروس تعاطيك أجمل الكذب وأشهاه!

فضحك الكهل على امتعاضه لذكر العروس وكرر قوله السابق قائلًا: يا لَكُنَّ من كاذبات لا يشق لهن غبار!

ولحظته غامزة بعينيها وسألته: وأنتم يا بني ألا تكذبون؟

وصمت قليلًا، لا لأن الجواب غائب، ولكن لأنه تفكر قليلًا فيما تنوء به حياته من ألوان الكذب، ثم قال: نكذب، ولكن في أمور أجل!

– عسى أن يكون تافهًا عندنا ما هو جليل عندكم، ولكن هل تعد العمر والفخر بالجاه والسؤدد أمورًا تافهة؟!

– كذب الرجال جليل كالرجولة نفسها! فأين أنتن من كذب التجار والساسة ورجال الدين؟! كذب الرجال محور هذه الحياة الجليلة التي تشاهدين آثارها في معترك الحكومة والبرلمان والمصانع والمعاهد، بل هو محور هذه الحرب الهائلة التي رمت بنا إلى هذا الحي الغريب.

وعلم أنها لم تفهم من قوله إلا أقله، فسُرَّ لذلك سرورًا مضاعفًا، ثم ذكر أمرًا فسألها: ألم تزرك زوجة من حريم المعلم نونو؟

– ملعون أبو الدنيا؟! لقد حدثتني بسيرته طويلًا، ولكن الرجل يحرِّم على أزواجه الخروج أو النظر من النوافذ، وربما انقضى العام في أثر العام وهن قابعات في دارهن راضيات قانعات!

– حقيق بمن يتغنَّى بلعن الدنيا ألا يأمن إليها!

– والله يا بنى المرأة مظلومة كالدنيا، ولكن ما علينا من هذا فهل سمعت بشخص يدعى سليمان عتة؟

– المفتش؟

– تدعوه توحيدة هانم بالقرد!

ولعل قولها هذا أول صدق تقع فيه!

وقالت عنه ضاحكة: إنه يفكر في الزواج!

– وأية فتاة ترضى بهذا القرد العجوز بعلًا؟!

– كثيرات لا حصر لهن، فالمال نصف الجمال على الأقل، فالفتاة هي التي تتصيَّده وتجِدُّ في طلبه حتى لا يفوتها الزواج منه قبل الخامسة والخمسين.

فسألها ضاحكًا: وهل ينتهي الرجل عند هذه السن؟

– لا قدَّر الله، ولكنها لا تستحق في معاشه إذا تزوجت منه بعدها.

– فهي ترغب في الزواج منه وتراهن على موته! فمن عسى أن تكون هذه العروسة الحكيمة؟

– قالت الست توحيدة هانم إنها كريمة يوسف بهلة العطار، وإنها الجمال عينه، فقد جمعت الحسن من طرفيه: الطبيعي والصناعي!

فتمثَّل أحمد عاكف صورة القرد العجوز باشمئزاز، وعجب كيف يحظى بما لا يطمع هو فيه من إقبال الحسان! ألم تنبذ يده امرأة — ليست بحال الجمال عينه — قائلة: إن عمره كبير؟! وأراد أن يتخيل صورة كريمة العطار، فذكر فجأة وهو لا يدري السمراء الحسناء ذات العينين النجلاوين التي التقى بها في الردهة الخارجية! فانقبض صدره وسأل أمه: هل يقيم العطار في عمارتنا؟

فقالت: كلا بل يسكن في بيت القاضي!

فتنهَّد ارتياحًا! ثم تساءل ترى لأي أسرة تنتمي الفتاة؟ وما لبث أن كتم صيحة كادت تفلت من بين شفتيه! .. فقد ذكر في تلك اللحظة عيني الغلام محمد، وذكر أين رآهما أول مرة في وجه السمراء الحسناء في الردهة الخارجية! .. وهذا ما حاول تذكره فعز عليه ساعتئذٍ وأضناه، فالغلام شقيق الفتاة بغير شك! وخفق فؤاده، ولكنه شعر بارتياح عميق وسرور لذيذ وانجابت وساوسه وحيرته وخجله! وكان سروره باكتشافه من القوة بحيث لم يعد يلقي بالًا إلى حديث أمه! فما زالت تتكلم وما زال يتيه في أحلامه.

٨

وعندما أتى المساء مضى إلى الزهرة، ولم يمضِ دون تردد، فإن ارتياد المقاهي حدث جديد عليه لم يتعوَّده ولم يألفه، وكان حرصه على عزلته الثقافية يعادل تباهيه بها، فلولا ما يدعوه إلى هناك مصاولة أحمد راشد والظهور على الآخرين ما وجد خروجه على عزلته أمرًا ميسورًا، ولم يلْتَقِ في الزهرة بأحمد راشد، وسأل عنه فقيل له إنه كثيرًا ما يمنعه العمل عن الحضور إلى القهوة. على أن الجلسة لم تصر — رغم ذلك — فاترة، وأحياها المعلم نونو والمعلم زفتة «القهوجي» بظرفهما الجميل، وتكلم أحمد عاكف كثيرًا وضحك طويلًا وقد أخذ يستهويه الاجتماع بالناس أو بالظرفاء من الناس خاصة، ويجد في الأنس بهم ما يجد التَّعِب المنهوك أسلم جنبه للرقاد، وعاد إلى البيت في العاشرة، فعكف على المطالعة زهاء الساعتين وأطياف الحياة الجديدة تتراقص أمام عينيه بين السطور — وما عهد قط الاستغراق في القراءة — ثم نهض إلى فراشه وراح في النوم، ولم يدرِ أطال به النوم أم قصر، ولكنه استيقظ على صوت منكر، لم يتنبه إلى حقيقته في الثانية الأولى من استيقاظه، ثم أدرك كنهه فخفق قلبه خفقة فزعة، وقفز إلى أرض الحجرة بسرعة جنونية، وتحسس شبشبه بقدميه فوضعهما فيه ثم اندفع إلى الصالة الخارجية فالتقى بشبحي والديه تتقدمهما الخادم الصغيرة. وسأله أبوه بصوت متهدج: هل تعرف الطريق إلى المخبأ؟

فأجابت الخادم عنه بسرعة: أنا أعرفه يا سيدي.

وسبقت الأسرة إلى الباب في ظلمة حالكة، وخرجوا جميعًا إلى الردهة الخارجية متحسسين الحائط إلى السلم الحلزوني، وهناك بلغت آذانهم جلبة اليقظة التي شملت الدور جميعًا، ومزق السكون صفقات الأبواب وهي تغلق، ووقع أقدام المهرولين على السلم، وتصاعد أصواتهم بالكلام والضحكات العصبية، وهبطت القافلة مهتدية إلى الدرابزين تخوض بحار الظلمات، ويسوقها الخوف والفزع، وفي الطريق أرشدتهم أشباح السكان وأصواتهم إلى الطريق فلم يحتاجوا إلى الاستدلال بخادمهم، وكانت الطرقات المسقوفة تبدو كداخل البيوت مظلمة، أما الآخر فيخفف شعاع النجوم الشاحب من شدة ظلمتها، وعاد بهم الخوف إلى ذكريات تلك الليلة الجهنمية فانقبضت صدورهم وجعلوا يقلِّبون وجوههم في السماء كلما لاحت لهم، ثم بلغوا مدخل المخبأ في تيار من القوم غير منقطع، وهبطوا مع سلمه في باطن الأرض حتى وجدوا أنفسهم في مكان متسع بهر أعينهم — المخدرة بالظلام — بمصابيحه الكهربية القوية، وكان سقفه وجدرانه تترك في نفس المشاهد أثرًا عميقًا بصلابتها وشدة مراسها، وقد التصقت بجوانبه مقاعد خشبية مستطيلة، وبعثرت في وسطه كثبان من الرمل، ومضت الأسرة إلى أحد الأركان واتخذت مجالسها وتفرق القاعدون إلى الأركان والمقاعد، ووقف خلق كثيرون وسط المخبأ ممن ضاقت عنهم المقاعد، وشاع الخوف أول الأمر فلم ينفع الاجتماع ولا النور ولا صلابة الجدران في تلطيف حدته، ومضت فترة انتظار مؤلمة نطقت فيها الأعين بعذاب الصدور. ونظر أبوه في ساعته ثم غمغم قائلًا: الساعة الثانية صباحًا! .. نفس ميعاد الليلة الفظيعة.

وكان أحمد يعاني ما يعانيه أبوه وأكثر، ولكنه قال بلهجة هادئة ما استطاع: كان الضرب خطأً فلن يتكرر إن شاء الله!

ومضت الدقائق متتابعة والسكون مطبق، وطالت فترة السكون فأخذ الأمن يتسرب إلى الجوانب الخافقة، وشاع الهمس والكلام، وعلا ضحك كثير، ثم طمأن القوم بعضهم بعضًا، ونظر أحمد في الوجوه القريبة منه فوجدها غريبة وقد استبقوا إلى الحديث في جلبة، وقال رجل منهم: لن يبلغ الأذى مهبط رأس الحسين.

فقال له آخر: قل إن شاء الله!

– كل شيء بمشيئة الله.

– وهتلر ينطوي على احترام عميق للبقاع الإسلامية!

– بل يقال إنه يبطن الإيمان بالإسلام!

– ليس هذا عليه ببعيد، ألم يقل الشيخ لبيب التقي النقي أنه رأى فيما يرى النائم علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — يقلده سيف الإسلام!

– فكيف ضربت القاهرة في منتصف هذا الشهر؟!

– ضربت السكاكيني وهو حي غالبية سكانه من اليهود!

– ترى ماذا ينتظر الأمم الإسلامية على يديه؟!

– سوف يعيد — بعد فروغه من الحرب — إلى الإسلام مجده الأول، وينشئ من الأمم الإسلامية اتحادًا كبيرًا، ثم يوثق بينه وبين ألمانيا بعهود الصداقة والتحالف!

– لذلك يؤيده الله في حروبه.

– وما كان الله لينصره لولا جميل طويته، وإنما لكل امرئ ما نوى!

استمع الكهل إلى المتحاورين بلذة وإنكار، وكانت غالبيتهم من أهل البلد ولكنه لم يكن يتصوَّر أن تبلغ بهم سذاجة التفكير هذا الحد من الأوهام، أو أن تؤثر فيهم الدعاية — إن كان هناك دعاية — هذا التأثير المضحك، ولكنه لم ينكر على حوارهم لذته وفكاهته غير المقصودة، وما كان ليحرم نفسه من متعته لولا أن وقع بصره اتفاقًا على غريمه الأستاذ أحمد راشد متمشِّيًا على كثب منه، فنهض إليه فورًا فتصافحا ثم قال له عاكف: لم نَرَكَ اليوم.

فقال الشاب ذو المنظار الأسود: شغلت بدراسة قضية.

واستثار القول غيرته فلم ينبس بكلمة وراح المحامي يقول ملقيًا نظرة شاملة على ما حوله: رأيت جميع الإخوان هنا معنا إلا المعلم نونو طبعًا.

فابتسم عاكف قائلًا: أَعْجِبْ به من رجل غريب الأطوار!

– يتلخص في الكلمات الآتية «ملعون أبو الدنيا».

– هذا شعاره أو قل إنه نشيده.

– ما كان أجدره أن يُعْيي الموت لولا قضاء الهرم.

– هو الإيمان!

– إنه يشعر بالله شعورًا عميقًا، ويحسبه في كل مكان يحله ويتوكَّل عليه بكل قلبه، ويطمئن كل الاطمئنان إلى أنه لن يتخلى عنه، وتراه يلم بالمعصية دون أدنى شك في غفرانه ورحمته.

فتنهَّد عاكف وقال: هذا رجل سعيد كما علمت!

فهز الشباب رأسه بما يشبه الاحتقار وقال: سعادة عجماوات، سعادة الجهل والإيمان الأعمى، السعادة التي يعيش الطغاة بفضل تملكها رقاب البلهاء، ومن المضحك أن تجد هذه السعادة الحمقاء مَن يأسى عليها بين الحكماء! فتش عن السعادة الحقة على ضوء العلم والعرفان، فإذا وجدت مكانها قلقًا وسخطًا وشقاءً فتلك آيات الحياة الإنسانية الفاضلة الحقيقة بتطهير المجتمع من نقائصه والنفس من أوهامها، الحقيقة ببلوغ السعادة الحقة، إن سعادة نونو لا تفضُل شقاءنا — نحن دعاة العلم والإصلاح — إلا كما يمكن أن يفضل الموت براحته المزعومة نعمة الحياة بمتاعبها وكفاحها!

ولم يجد عاكف من نفسه لتوتر أعصابه بجو المخبأ قوة يتوثَّب بها للنضال والمعارضة فقال مبتسمًا: ألا ترى أنه ينعم الآن بفضل سعادته العمياء برقاد لذيذ بينما نشقى نحن جميعًا برطوبة الليل!

فضحك الشاب وكان أملك لجنانه من الآخر وقال: لا شك أنه ينعم الآن برقاد لذيذ لا شريك له فيه إلا معشوقة الأزواج!

فبدا على وجه عاكف ما يشهد بأنه لم يفهم شيئًا، فابتسم المحامي واستدرك قائلًا: ألم تسمع عنها بعد؟! .. إنها امرأة هائلة، وظيفتها الرسمية «زوج عباس شفة»، أما تذكره؟ .. أما بيتها فيستقبل كل مساء جمهرة أرباب البيوت بهذا الحي، فسماها المعلم زفتة القهوجي «معشوقة الأزواج»!

فَلَاحَ في وجه عاكف الاهتمام الذي يثيره هذا الحديث، وتساءل: أتعني …؟!

– نعم.

– وعباس شفة؟!

– زوج رسمي، زوج وجد في الزوجية مهنة ومرتزقًا!

– ألذلك تحتفون به على حقارته وقبحه؟

– إنه عزيز ذو مقام عظيم!

وتمثل عاكف وجه الرجل الدنيء وشعره المنفوش باحتقار شديد، وتحرك في تلك اللحظة الشاب فتحرك معه، يسيران في بُطْءٍ شديد مستعرضين الجلوس والواقفين، حتى رأيا سيد عارف جالسًا إلى جوار حسناء نصف واضعة على حجرها طفلًا، فغمغم الشاب: صاحبنا سيد عارف وحرمه!

فسأله عاكف باهتمام واستحياء: حرمه؟! .. وكيف تزوج؟!

– كما يتزوَّج الناس، وهو رجل عادي لولا حالة طارئة غير ميئوس منها، ورجاؤه كبير في الأقراص الألمانية، ولن …

ولم يتم أحمد راشد كلامه فقد قطعه دوي طلقة شديدة، تابعتها طلقات متقاربة، وارتجف قلب عاكف وخال أن جسمه كله ارتجف فخاف أن يكون غريمه اطلع على رجفته، وساد سكون عميق وحارت في العيون نظرة قلق وخوف، وقال أناس: «هذه طلقات مدافع مضادة» يطمئنون أنفسهم ويطمئنون الآخرين، ولكن الكلام — أيًّا كانت مقاصده — أحدث في النفوس القلقة المنصتة جزعًا وحنقًا، وجاء رجل من الخارج مهرولًا وقال وهو يلهث: «السماء ملأى بالأنوار الكاشفة!» فاشتد الخوف بالأفئدة، ثم سمعت طلقات أخرى بعيدة استمرت فترة وجيزة قبل أن يطبق السكون مرة أخرى، وطالت فترة السكون وامتدت فعادت الطمأنينة إلى النفوس، وتعالى الهمس ثم ضج المكان بالكلام: لن تعاد مأساة الضرب الأعمى.

– لقد اعتذر راديو برلين عن غارة منتصف سبتمبر!

– كانت غارة إيطالية فالألمان لا يخطئون.

فابتسم أحمد راشد — استطاع أن يبتسم ثانيًا — وقال لصاحبه: أرأيت إلى هؤلاء المتعصبين للألمان؟! .. وأنت؟! .. هل أنت كهؤلاء؟

وكان عاكف يتلذَّذ — كعادته — بمشاركته المغلوبين عواطفهم، ولما كانت الغلبة للألمان في ذات الوقت فقد قال بغير تردد: كلا .. إني مع الحلفاء قلبًا وقالبًا، وأنت؟!

فسوى المنظار الأسود على عينيه وقال: لي أمل واحد: أن ينتصر الروس ويحرروا الدنيا من الأغلال والأوهام!

وابتعدا قليلًا عن جماعة المتحدثين فرأيا في نهاية الجناح الآخر من المخبأ على يمين الداخل صاحبهما كمال خليل وأسرته! ورمى عاكف نحوه بناظريه باهتمام شديد فرأى سيدة مفرطة في السمن، والغلام محمد في بيجامة، والفتاة السمراء ذات العينين النجلاوين الساذجتين، رأى جهرة ما جعله الشوق يلتمسه خطأً في غير موضعه، وجاءت الحقيقة مطابقة لما سر باكتشافه منذ ساعات معدودات، ولم يسعه إدامة النظر فرد الطرف متملِّيًا ممتلئًا، ثم سمع أحمد راشد يقول بصوت خافت: كمال خليل وأسرته!

فسأله: أهذه الفتاة كريمته؟

– نعم، له محمد ونوال وفتاة كبرى متزوجة!

واختلس منها نظرات ليملأ عينيه من النظرة الساذجة تقطر خفة، وكانت ملتفة في معطف شتوي وقد أرسلت شعرها الأسود في ضفيرة غليظة، ومضت تتثاءب مرسلة نظرة ناعسة، ورآهما كمال خليل فأقبل نحوهما مبتسمًا ووقفوا معًا يتحدثون، وأدرك عاكف أن إقبال الرجل عليهم لا بد ملفت أعين أسرته إليهم وأنه لا يبعد أن تتفحَّصه العينان النجلاوان — إن لم تكونا تفحصتاه بالفعل — في جلبابه الفضفاض، وطاقيته البيضاء، فتورَّد وجهه حياءً وقلقًا وتساءل ترى هل تذكره؟ .. ولم يطل المطال بوقوفهم معًا فانطلقت صفارة الأمان ودبت في المخبأ حركة عامة شاملة، فحيا عاكف صاحبيه ومضى إلى والديه، وانتهره أبوه قائلًا بحدَّة: أتتخلى عنا ساعة الضرب وتهرع نحونا عند الأمان!

فقالت أمه ضاحكة: الله معنا في جميع الأوقات.

واندسوا في التيار المتجه نحو الباب يسيرون في بطء شديد حتى ارتقوا السلم إلى الطريق، وعادوا إلى عماراتهم وقد أضاء الطرقات ما انبعث إليها من نور النوافذ. وصعدوا إلى شقتهم في جمع من السكان، عرف أحمد صوت كمال خليل بين أصواتهم، وسارع الرجل إلى فراشه يراود النوم كرَّة أخرى، ولكن فرَّقت بينهما طويلًا صورة ذات العينين النجلاوين والنظرة الحلوة.

٩

واقترب رمضان فلم يعد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل، ولكن رمضان لا يأتي على غرة أبدًا، وتسبقه عادة أهبة تليق بمكانته المقدسة، ولم تغفل أم أحمد عن ذلك — وكانت في الواقع المسئولة الأولى عن جلال الشهر وجماله — فجعلت منه يومًا حديث الأسرة قائلة: إنه شهر له حقوقه كما له واجباته، وكان قولها موجَّهًا لأحمد فأدرك مغزاه وقال مدافعًا عن نفسه: رمضان له حقوقه ما في ذلك من شك، ولكن الحرب ضرورة قاسية جارت على جميع الحقوق!

فقالت الأم بلهجة دلت على عدم الارتياح: لا قطع الله لنا من عادة!

فاستيقظ بُخْله وقال بشيء من الحدَّة: لِيَمْضِ رمضان كما مضى غيره من الشهور، وسنعوِّض ما فاتنا منه فيما يقبل من أيام السلم!

– والنقل والكنافة والقطايف؟!

ووقعت هذه الأسماء من نفسه موقعًا ساحرًا — على استيائه — لا لاشتهائها فحسب، ولكن لما دعته من ذكريات الشهر المحبوب وعهود الصبا خاصة، بيد أن الذكريات الحنونة لم تغنِ عن حقيقة الغلاء الواقعة ولم تلطف من حدة حرصه. فقال بلهجة حازمة رغم تحرك الحنان في قلبه: لندع الكماليات في ظروفنا الحاضرة القاسية ولندع الله الكريم أن يعيننا على ضروريات الحياة.

وأصغى الوالد باهتمام إلى أقوال ابنه وإن تظاهر بعدم الاكتراث، ومال إلى تأييد الأم فيما تقول ولكن شجاعته لم تواتِه، فلما صاغ الابن رأيه في تلك اللهجة الحازمة، قال الوالد بصوت هادئ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ.

وأدرك أحمد أن أباه من حزب أمه، ولم يسعه أن يواجهه بمثل صراحته في مخاطبة أمه، لتعوُّده مهابته منذ نعومة أظافره، وأشفق — كما أشفق دائمًا — من أن يُعرِض عن يده إذا امتدت له بطلب بعد أن صار أكبر اعتماده عليه، فسكت مرتبكًا متحيِّرًا حتى قال عاكف أفندي أحمد الأب: حسبنا قليل من الصنوبر والزبيب لضرورتهما في الحشو، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق، ولنقنع من الكنافة بمرة واحدة، ومن القطائف — وهذه لا تقلى في السمن — بمرتين، وليس هذا عليك بكثير.

فهاله الأمر، وأيقن أنه سينفق في هذا الشهر ما اعتاد توفيره كل شهر من النقود القلائل، وربما أُجْبِر على سحب مبلغ آخر من صندوق التوفير، الأمر الذي ينغص عليه صفوه، ثم ذكر شيئًا آخر لا يقل خطورة عن الكنافة والنقل فقال: واللحوم؟!

فقالت أمه بما لها عليه من دالة: سمحت الحكومة ببيع اللحوم طوال الشهر الكريم، وما ذلك إلا لأن قطعة اللحم حقيقة بأن تسند قلب الصائم المتهالك!

فقال أحمد معترضًا: ولكن ميزانيتنا أصغر من أن تقوم بابتياع رطل لحم كل يوم مع الحاجيات الأخرى!

فقال الوالد مستعينًا بقليل من الدهاء: صدقت والأفضل أن نمتنع عن اللحوم مرة كل ثلاثة أيام؟

وانشغلت الأم في الأيام الباقية بتهيئة المطبخ، وتبييض الأواني وتخزين ما تيسَّر من النقل والسكر والبصل والتوابل، وكان لمقدم رمضان في نفسها فرحة وسرور، ولو أنها لم تؤدِّ فريضة الصيام إلا منذ سنوات قلائل؛ إذ إنه شهر المطبخ كما أنه شهر الصيام — أو لأنه شهر الصيام — وأجمل من هذا أنه شهر الليالي الساهرة والزيارات الممتعة، حيث تدار الأحاديث على قزقزة اللب والجوز والفستق. ومن حسن الحظ أن رمضان وافق ذلك العام شهر أكتوبر، وهو شهر معتدل وغالبًا ما يصفو جوه ويطيب فيلذ فيه السهر حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

وجاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة الحسين إيذانًا بشهود الرؤية — وقد اجتزءُوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ — وازيَّنت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحي وما حوله جماعات مطبلة هاتفة: «صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام»، فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري، فلم يملك أحمد عاكف أن يقول: أين من رمضان شارع قمر هذا الرمضان البهيج!

فابتسم والده وقال: وماذا رأيت مما رأيت يا غلام؟ .. أشهدت رمضان في حينا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب؟ .. إنه النور والسرور: إنه الليل المنير اليقظان، إنه الليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء، وفي أيام الفتوة والصحة كنت أسري قبيل السحور بساعة في جمع من الإخوان من السكاكيني إلى حينا هذا نتسحر كوارع ولحم الرأس وندخن البوري في مقهى الحسين، ونستمع إلى أذان الشيخ علي محمود ثم نعود مع الصباح الباكر.

فسأله أحمد: متى كان ذلك؟

فقال الرجل بلا جهد: وأنت في العاشرة!

آه .. تلك الأيام العذاب، أيام السرور والمرح والتدليل، لقد اتفق له ولوالده عهد واحد يبكيانه معًا، ومضى أحمد ذاك المساء — كعادته الجديدة — إلى مقهى الزهرة، وقد استسلم لهذه العادة الجديدة التي استأثرت بنصف الوقت المخصص للمطالعة، ووجد في المعاشرة لذة ليست دون لذة القراءة والعزلة.

واجتمع بالصحاب الذين أخذ يألفهم ويألفون، ودار الحديث عن سهرات رمضان وكيف يقضونها، فقال عباس شفة — زوج معشوقة الأزواج — بصوته المبحوح: لا تتعبوا أنفسكم في التفكير فلنا في سهرات رمضان الماضية أسوة: نجيء إلى قهوتنا بعد الفطار ونسمر بها حتى منتصف الليل ثم ننتقل إلى «هناك» لنصل سهرتنا بالسحور.

وتنبَّه أحمد إلى «هناك» هذه وتساءل تُرى هل يستبيحون المنكر في شهر التوبة! على أن سبيله كان واضحًا فسيلبث بينهم ما لبثوا في المقهى ثم يعود إلى بيته فيطالع حتى السحور وهكذا حتى يختم الشهر.

١٠

وفي اليوم الأول من أيام الصيام كابد أحمد عاكف تَعِبًا مرهقًا، فشق عليه ألَّا يشرب قهوته ويدخن سيجارته على الريق، ومضى إلى الوزارة متوجع الرأس متثائبًا، وغالب تعبه مغالبة بائسة حتى دمعت عيناه من التثاؤب واسترخت جفونه، وذكر أن أحمد راشد وأمثاله لا يعانون تعبًا ولا حرمانًا، فسره أن يحتقره ويتعالى عليه، وعاد إلى البيت ظهرًا وقد نهكه التعب، فاستلقى على فراشه وراح في نوم عميق صحا منه قبل الفطار بساعة واحدة، وذهب إلى الحمَّام فرطب وجهه وأطرافه وفي طريق عودته رأى والده في حجرته متربعًا على سجادة الصلاة يقرأ في الكتاب، فمر به ساكنًا، وعطف رأسه إلى المطبخ فرأى أمه مشمرة عن ساعدَيها، ودعاه المطبخ إلى الوقوف بعض الوقت عند عتبته، فأجال بصره فيه متشممًا فطاف بطبق كبير حفل بمواد السلطة من بقدونس وجرجير وجزر وبصل وطماطم، خضرة يانعة وحمرة فاقعة، فانشرح صدره وتحلب ريقه، وانتقل إلى سلطانية الفول قلم يستطع صبرًا، وزايل مكانه، وفي الصالة مر بالسفرة وقد هُيِّئت فوضع على ركن منها العيش وفرَّقت أمام كراسيها أكواب الماء وتوسطها طبق ملآن بالفجل، فهرع إلى حجرته وأغلق الباب، وكان أبقى الأهرام بغير قراءة ليتسلى بمطالعته في الساعة الأخيرة المعروفة بشدتها وثقلها فأكب عليه حتى فرغ منه، ونظر في الساعة فعلم أنه لا يزال عليه أن ينتظر نصف ساعة أخرى! .. وتجهَّم وجهه، ثم لم يرَ بُدًّا من فتح النافذة المشرفة على العمارات ليقطع الوقت بالنظر، ورأى المعلم نونو يغلق دكَّانه وأطفاله ينتظرونه يكادون يسدون الطريق سدًّا، ثم مضى يحفون به ويتعلق الصغار بساقيه ويصيحون جميعًا في جلبة تحسده عليها محطة الإذاعة، وقد أوشك الطريق أن يخلو إلا من باعة الزبادي، وشاهد شعاع الشمس الأخير يتقلص عن أسوار العمارات التي تواجهه من وراء مربع الحوانيت العظيم، والنوافذ المفتوحة تعلن عن السُّفَر الحافلة، وعلى الشرفات انتصبت القلل لتبرد وانتثرت أطباق الخشاف المكللة بغلالات بيض، وأتى الهواء بروائح التقلية ونشيش المقليات فتاه في دنيا الطعام الساحرة … ثم تحول عن هذه النافدة إلى النافذة الأخرى المطلة من جنب على خان الخليلي القديم ففتحها وارتفق حافتها، ورمى بطرفه إلى الحي القديم فوجده صامتًا ساكنًا تلوح قبابه المعزية كأنها تسجد تحية للشمس المولية، وكان يواجه نافذته عن قريب جناح العمارة الأيسر بنوافذ مغلقة، ولكنه سمع حركة خفيفة هفَّت من علٍ، فرفع بصره فرأى شرفة الجيران — التي تواجه نافذته ولكن في الطابق الأعلى من العمارة — ورأى في الشرفة فتاة مكبة على تطريز شال انسحب ذيله على حجرها وهي جالسة على كرسي ملتفة الساقين، وعرفها من أول نظرة — حتى قبل أن ترفع إليه عينيها — فاهتز صدره، فما كان يحسب أن شقة كمال خليل في هذا الجناح الذي يواجهه، ولا أن فتاته دانية إليه لهذا الحد، فشعر بارتياح وسرور، ورفعت الفتاة عينيها إليه ثم ردتهما بسرعة إلى إبرتها فنظر في العينين العسليتين النجلاوين لثالث مرة، وفي تلك اللحظة الخاطفة من التقاء العيون اضطرب قلبه وغلبه الارتباك وتولاه الحياء فتورد وجهه الشاحب واختلج جفناه ولم يدرِ ماذا يصنع ولا كيف يتخلص من موقفه، ونكس رأسه الأصلع وهو يود لو يختفي عن النافذة ريثما يأخذ أنفاسه، ترى هل عادت إلى النظر إليه؟ .. هل ترنو الآن إلى صلعته؟ .. وشعر بأن موضع نظرها من رأسه يشتعل كما تشتعل الورقة تحت أشعة الشمس المتجمعة في بؤرة، ومضى وقت طويل أو قصير حتى تنبَّه على طقطقة الكرسي فرفع رأسه فرآها قد نهضت لتذهب إلى الداخل، وخال أنه لمح على وجهها بشير ابتسامة وهي تتحوَّل لتدخل، وعاد إلى النافذة الأخرى متسائلًا ما معنى هذه الابتسامة؟ .. لماذا ابتسمت الصبية؟ هل تسخر من صلعته؟ .. أو تضحك من نظرته الوجلة الخجول؟ .. أم تعجب لما حسبته غزل كهل في سن أبيها؟ إي والله في سن أبيها! … فلو تيسر له الزواج في إبانه لأنجب فتاة في مثل سنها، ولما أمكن أن تبعث مثل تلك النظرة في أطرافه ما بعثت من ارتباك واضطراب وحياء، ولكن قُضي أن يفقد جنانه لدى أية صبية، وأن تستثير جوعه وحياءه أبرأ النظرات! وابتسم ابتسامة يأس وخجل فافترت شفتاه عن أسنان صفر! ودوي المدفع، وتصايح الأطفال، فعجب كيف انقضت نصف الساعة بغير تفكير في الجوع أو العطش، وهتف المؤذن بصوته الجميل «الله أكبر … الله أكبر» فأجاب أحمد بصوت مسموع «لا إله إلا الله»، ثم تحول عن النافذة ذاهبًا إلى الصالة، والتأم جمع ثلاثتهم حول السفرة، ثم غيروا ريقهم على عصير قمر الدين حتى رووا ظمأهم، وأتت الأم بطبق الفول المدمس فأقبلوا عليه بِنَهَمٍ شديد وتركوه أبيض من غير سوء، فقال الأب وهو يعتصر بقليل من الماء: أظن الأوفق أن نؤخر الفول حتى نصيب من أنواع الطعام الأخرى وإلا امتلأنا به وحده.

فقالت الأم ضاحكة: هذا ما تقوله كل عام ولكنك لا تذكره إلا عقب الفراغ من الفول!

ولكن لم يزل في البطون متسع فجيء باللوبيا والفلفل المحشو واللحم المحمر وتعاونت الأيدي والأعين والأسنان في عزم وسكون. ولم يكن الطعام الشيء الوحيد الذي يلذ أحمد، فهناك خواطر سارة زحمت رأسه الصغير الأصلع، حدَّت من شهوة الطعام نفسها، من هذه الخواطر: أن الفتاة جارته، وأن شقتها تشرف على شقته، فاللقاء منتظر، والتقاء العينين مرتقب، والتفاعل محتمل، والانفعال مؤكَّد. ومن يدري بعد ذلك ماذا يحدث؟ سيرمي بالقلب في بحرٍ لجيٍّ يعلو به أمل ويسفل به قنوط، ويذهب به رجاء ويجيء به يأس، ويخيفه أفق مظلم ويطمئنه شاطئ آمن، فما يدري أين المستقر ولا أيان المنتهى، وحسبه من السرور يقظة دبت في قلب موات. وليقظة القلوب فرحة وإن أدى الإنسان ثمنها من دمه وراحة باله، وهل ينكر أن قلبه جمد من البرد وبرم بالنوم وضاق بالراحة؟ فها هي ذي يقظة تدب، وتبشر الشرفة بدوامها، ما عُقباها؟ ما غايتها؟ لا يبالي في سروره الراهن ما ينطوي عليه غده، فليشرق الأفق أو فليغرب، وليبتسم الحظ أو فليتجهم، فبحسبه أن قلبه صحا، وأنه منذ أيام ينتفض في اضطراب، ويضطرب في سرور، ويسير في حيرة، ويتحير في رجاء، ويرجو في خوف، ويخاف في لذة، هذه هي الحياة، والحياة أجمل من الموت، مهما كابد الحي من تعب ووجد الميت من راحة.

١١

وغادر البيت قبل العشاء إلى «الزهرة» فاجتمع بالصحاب، وراحوا يتسامرون ويحتسون الشاي ودار الحديث حول الصيام. وكيف أن كثيرين — من أهل القاهرة خاصة — لا يؤدون حق فريضته لأَوْهى الأسباب.

وشهَّر سيد عارف بالمعلم زفتة وعباس شفة فقال ضاحكًا: قد يستطيعان أن يمتنعا عن الطعام والشراب، أما «الكيف» فأمر يهون دونه الدين!

فقال عباس شفة متهكِّمًا: ألا تفضل أن تصير «رجلًا» مثلنا، ولو قارفت المعاصي؟!

فاصطنع سيد عارف لهجته قائلًا: دائي له دواء أما داؤك يا سيد الأزواج فلا دواء له!

فهزَّ عباس شفة منكبيه وقال دون أن يتلعثم أو يتورَّد وجهه: لا تعيرني ولا أعيرك!

– بل نحتكم إلى المعلم نونو، يا معلم نونو أيهما تفضل أن تكون: عباس شفة أم سيد عارف؟!

فضحك نونو ضحكته العظيمة وقال: لا خُيِّرْتُ بين أن أكون أحدكما قط!

فقال سيد عارف بإيمان: سبحان من يُحيي العظام وهي رميم، وغدًا ترد الأقراص كيد الحاسدين إلى نحرهم!

فضحك عباس شفة ضحكة داعرة وقال: وقتذاك نهنئ أنفسنا!

ونهاهم سليمان عتة عن الإلمام بمثل ذاك الهذر علانية في شهر رمضان، ولم يكن صادقًا في نهيه لهم ولا غاضبًا حقًّا للشهر المكرم، ولكن «قافية» الأقراص أمست مملولة منذ دهر طويل، فيئس من أن يأتي قائل بجديد، ثم راح كمال خليل يُحدِّث عن ليالي رمضان منذ أقل من ربع قرن، قبل أن تغمر موجة الاستهتار التقاليد الدينية المؤثَّلة، وكيف كانت بيوت السراة تظل مفتوحة طوال الليل تستقبل القاصدين، وتستقرئ مشاهير المقرئين حتى مطلع الفجر، وقال إن بيتهم القديم — بيت أبيه — كان ضمن تلك البيوت العامرة، وتساءل أحمد عاكف: تُرى هل يصدق الرجل فيما يقول أم يقتص أثر زوجه اللحيمة؟! وتسامروا ساعة طويلة حتى تعبت ألسنتهم فأمسكوا عن السمر وأخذوا في اللعب، ووجد أحمد عاكف نفسه منفردًا بالمحامي الشاب، فأدرك أن جاءت نوبة النضال والتحدي، ولحظه بطرف لم يعلن عما يضطرم في باطنه من الموجدة والمقت، وقبل أن ينبس أحدهم بكلمة مر بالمقهى جماعة من الصبيان والبنات ملوحين بالمصابيح هاتفين بأناشيد رمضان سائلين «العادة» من النكل والملاليم، فأتبعهم المحامي ناظريه حتى اختفوا، وابتعدت أصواتهم الرفيعة، ثم التفت إلى صاحبه قائلًا بلهجة مرة: نحن شعب من الشحاذين.

فأدار عاكف رأسه إليه كالمبتسم، وقد بات يوجس خيفة من الاشتباك معه في الحديث، وإن تظاهر بالاستهانة، وتوثَّب للانقضاض والتحدي، واستطرد أحمد راشد قائلًا بنفس اللهجة: شعب من الشحاذين وحفنة من أصحاب الملايين، فليس يتاح للشعب غير العمل الوضيع أو امتهان الشحاذة، والعمل الوضيع لا يغني عن الشحاذة!

فهزَّ أحمد عاكف رأسه ونظر لمحدثه نظرة لا معنى لها ولاذ بالصمت، والصمت في مثل حاله مأمون العواقب. فهو يغنيه عن خوض ما ليس له به علم، ويهيئ له جوًّا آمنًا لاهتبال الفرص السانحة، أما صاحبه فاستدرك يقول: ليس يوجد شر من نظام يقضي على أناس بالانحدار إلى مستوى الحيوان الأعجم.

ولست أدري كيف تطيب الحياة لقوم عقلاء وهم يعلمون أن غالبية قومهم جياع لا يدخل بطونهم ما يقيم أودهم، جهلاء لا ترتفع عقولهم عن أدمغة الدواب، مرضى تستوطن الجراثيم أجسادهم الهزيلة، ألم يخطر لهم أن ينادوا بمبدأ المساواة بين الفلاحين والحيوانات مثلًا؟ فإن للحيوان على سادة الريف حقًّا في الغذاء والمأوى والصحة لا مراء فيه، ولم يقر بمثله للفلاح!

ولم يعد يستطيع كبح شهوة المعارضة، وكبر عليه أن يستمر الشاب في محاضرته وأن يقنع هو بالإنصات كالتلاميذ فقال: إذا كان للفلاح حق فلماذا لا يطالب به؟

فقال المحامي بحدَّة: الفلاح مضغوط تحت المستوى الأدنى للإنسانية، فلا يمكن أن يطالب بشيء ولكن خليق بكل إنسان أهل لشرف الإنسانية أن يمد يده ليرفع عن كاهله المتهالك هذا الضغط، وقديمًا حارب الرق الأحرار لا العبيد!

وتنازعت الكهل عواطف جد متناقضة، فجانب من نفسه ارتاح لما يقول الشاب، فلو اعتدل ميزان العدالة في هذا الوطن ما عاقه عن إتمام تعليمه عائق، ولبلغ ما يشتهي من الشرف في الحياة، واحتقر جانب آخر اهتمامه الحماسي بالمشكلات الاجتماعية، ورأى أنها دون ما ينبغي أن يفكر فيه «المثقف» من أمور العقل كالمنطق والتصوف والأدب! ثم ذكر عنف الشاب في حديثه وثقته برأيه فثارت كبرياؤه، وغلبته على أمره، فقال بحدَّة: لو أن الفلاح يستحق أكثر مما هو متاح له لناله، والحق لمن يقدر عليه، وما عدا ذلك فهراء في هراء!

وثبَّت الشاب نظارته على عينيه بحركة عصبية، وقال بلهجة غربية: أأنت من أتباع نيتشه يا أستاذ؟!

رباه من نيتشه هذا؟ .. ألا يمكن أن يوجد رأي — ولو كان من وحي الغضب والحنق — من غير قائل سابق من الحكماء الذين يجهلهم كل الجهل؟ .. وكيف يجيب الشيطان البغيض؟! .. هداه عقله إلى سبيل واحد رأى أنه يخلصه من الفخاخ التي ينصبها له عدوه، فقال وقد غيَّر لهجته، وخفف من شدته: إنك يا أستاذ راشد تدفعني إلى أحاديث ليست بذي بال!

– حياتك ليست بذي بال؟!

– دع الفلاح إلى نفسه أو إلى من يعنيه أمره، ألم تقرأ شيئًا عن أرسطو؟ .. ألم تلم بفلسفة إخوان الصفا الدينية؟ .. ألم تثقف شتى المعارف الروحية؟

فلَاح الانزعاج في وجه الشاب وقال: إن مثلنا مثل ربان سفينة تمخر عباب مضيق ثائر تهب عليه ريح زعزع عاصفة، فيفور زخاره ويصطخب ركامه، فتعلو السفينة وتسفل، وتميل ذات اليمين وتميل ذات الشمال، مضطربة البنيان مزلزلة الأركان، فهل يجوز للربان — وتلك حال السفينة — أن يولي آلة القيادة ظهره ليرمي بطرفه إلى الأفق متأملًا ومنشدًا؟! نحن نجتاز الآن مضيق الموت تكتنفنا الآلام من كل جانب، فلنأخذ من الآلام ذخيرة لتأملاتنا، حقًّا إن للأبراج العاجية لذتها، ولكن ينبغي أن نقاوم أنانيتنا إلى حين.

– فأنت في سبيل أن تنقذ البائسين من وهدة الحيوانية، تضحِّي بإنسانية المثقفين وتقتل أرواحهم!

– قلت إلى حين .. ألم ترَ إلى فترة الحرب وكيف تحول العلماء — وهم أشرف الخلق — إلى نوع من المجرمين!

– ومع ذلك فلك نصيبك من التأملات البعيدة كالفلك والذرة!

فضحك أحمد راشد — لأول مرة — بصوت مرتفع فلفت إليه جماعة اللاعبين وجعل المعلم نونو يقول له: إن ضحكتم فأعلمونا!

فسكت المتحاوران حتى شغل عنهم اللاعبون ثم قال المحامي: لا غنى عن التسلُّح بالعلم للمكافح الحق، لا للاستغراق في تأملاته، ولكن لتحرير النفس من أصفاد الأوهام والترهات، فكما أنقذتنا الديانات من الوثنية ينبغي أن ينقذنا العلم من الديانات!

وهنا احتدَّ سليمان بك عتة كعادته إذا خسر «عشرة» واشتبك معه سيد عارف في مصاولة لاذعة لم تلبث أن انتظمت جميع المتوثبين من أهل المجون فانقطع حديث رمضان الأول!

•••

وعند منتصف الثانية عشرة نهض أحمد عاكف يريد الانصراف فقام معه نونو وهو يقول: سأذهب إلى البيت لأحضر معطفي لأن الجو تشتد برودته عند الفجر.

ومضيا معًا، وفي الطريق سأل المعلم صاحبه: لماذا لا تمد السهرة حتى السحور؟

فقال الكهل بلهجة فاترة: إني أمضي الوقت ما بين الساعة الثانية عشرة وما بين السحور في القراءة.

– أتقرأ كتبًا!

– أجل، وما يقرأ غير الكتب؟!

– وفيمَ هذا التعب؟

فابتسم أحمد عاكف وقال: هواية يا معلم نونو!

– ولكن الهواية ينبغي أن تكون ذات فائدة ما، فهل تطيل الكتب العمر؟! تدفع المرض؟! تمنع المقدور؟! تُجنِّب الشقاء؟! تملأ الجيب؟!

فقال أحمد وما يزال يبتسم وقد عاوده شعور الاستعلاء والسرور: بل أريد أن أكتب كتابًا أيضًا؟

– هذا أنكى وأمر، هل أنت صحفي!

– هَبْني أجبت بالإيجاب؟

– مستحيل!

– ولمَه؟

– أنت ابن ناس طيبين!

فضحك أحمد ضحكة قذفت بحنق الليلة خارج صدره وقال: ولكني سأكتب كتابًا.

– الكتب في الدنيا أكثر من بني آدم، ألم تَرَ إلى مكتبة الحلبي تحت الكلوب المصري؟! .. فيها كتب — يا دين محمد — لو صُفَّت جنبًا إلى جنب لكاثرت طلبة الأزهر، فهل تبذل ما تبذل من جهد لتضيف إليها كتابًا جديدًا؟!

– نعم .. نعم .. فلكل كتاب فائدته.

– إليك هواية لطيفة لن تقتضيك جهدًا.

– ما عسى أن تكون؟

– أما تعرفها؟ حزر!

– لا علم لي يا معلم.

– يدعونها تسلية رمضان وفرحة الزمان.

– فما اسمها؟

– في الأصل من التراب ولكن مرعاها فوق السحاب.

– عجبًا!

– واردها إما في الليمان أو على كرسي السلطان!

– ليس في الدنيا شيء كهذا.

– يهواها الفقير والوزير!

– لحد هذا؟!

– عزاء الحزنان وشرب الفرحان!

– ما أشوقني إلى معرفتها!

– قد النبقة وتنفع في كل زنقة.

– هذا سحر.

– أحضروها من بلاد الفيل تحفة لأهل النيل!

– هل تجدُّ فيما تقول؟

– ألم تسمع عن الحشيش؟!

وارتاع الكهل لوقع الكلمة، فضحك المعلم وقال يغويه: تعالَ طاوعني. الحياة ملأى بما هو ألذ من الكتب.

وأغراه حب الاستطلاع بأن يسأله: أين؟

– المكان تحت أمرك إذا وافقت وشرَّفتنا.

– ألا تخاف الشرطة؟

– أعرف كيف أتقى شرها! .. فماذا قلت؟

فابتسم أحمد وقال له: لا شأن لي بهذه الهواية الساحرة، شكرًا لك يا معلم.

•••

ولما خلا إلى نفسه في حجرته تناسى حديث نونو وظرفه. ولاحت لعينيه صورة أحمد راشد بكآبتها وحماسها وعنف حركاتها، فاستثارت حنقه وغروره ومقته، وتساءل محزونًا كيف غابت عنه دنيا المعرفة الحديثة؟! وكيف يستكمل ما فاته منها؟! ومتى يحاضر في فرويد وماركس كما يستطيع أن يحاضر في إخوان الصفا وابن ميمون؟! وفكَّر في هذه الأمور طويلًا فلم يستطع أن يصفو للمطالعة ولا أن يركز ذهنه فيها، ولكنه ظل عاكفًا على كتابه لا يحوِّل عنه رأسه لأن عكوفه على الكتاب — ولو في حال شروده — يقنعه بأن يومه لم يمضِ بغير ثقافة يتزود منها، الأمر الذي يحرص عليه كل الحرص، وانسل الوقت وما تزال كبرياؤه تتجرَّع غصص العذاب، ثم خطرت على قلبه فكرة، هفَّت على قلبه كنسمة رطيبة لطيفة فأثلجت صدره الفائر بالحنق والغضب، فصفا وطاب، وابتسمت أساريره. كم كانت تكون الحياة سعيدة محبوبة لو أن ما يلقاه من حظ ونصيب، ومصادفات واتفاقات، وأناس وأخلاق، كان في مثل هاتين العينين النجلاوين يقطران سذاجة وخفة؟! ثم ذكر — فيما يشبه الدهشة — أن شهر رمضان ذو صلة قديمة بقلبه، ففي شهر رمضان خفق قلبه خفقة الحب الأولى، وهي — كرؤية نور الدنيا لأول مرة — إحساس عجيب لا يتأتَّى الشعور بجدته مرة أخرى، وفيه رأى الفتاة التي رغب صادقًا أن يشاطرها حياته وأخفق، وها هو ذا رمضان من جديد، وها هو ذا قلبه ينفض عن صفحته الضباب البارد القاتم ليستقبل شعاعًا دافئًا منعشًا، وكان عقله من العقول التي ترى دائمًا وراء المصادفات حكمة تدق على الألباب، فإذا رأى غيره من المصادفة مجرد حادثة لا معنى لها، التمس هو فيها حكمة خفية، لذلك نظر أمامه حالمًا وقد غاب بصره، وارتفع حاجباه الخفيفان المتباعدان، وفغر فاه، وغمغم في حيرة وسرور «ماذا وراءك يا رمضان»؟!

١٢

وعند أصيل اليوم الثاني نهض نشيطًا إلى المرأة ليحلق ذقنه، وكان يحلقها عادة مرتين في الأسبوع، ولا يبالي أن يبدو للناس وذقنه نابتة، فعزم على الإقلاع عن عادته هذه، وأن يحلق ذقنه يومًا بعد يوم من الآن فصاعدًا.

ولما فرغ ارتدى جلبابًا نظيفًا وطاقية ناصعة البياض — مجبرًا ليخفي صلعته — ثم جلس على حافة الفراش يرمق النافذة بعينين مترددتين، ليست المسألة مجرد حلق ذقن أو لبس طاقية بيضاء، إنما ينبغي أن يسأل نفسه عن معنى هذه اللهفة ومغزى هذا التغيُّر، هل ينطلق بغير تفكير أو تروٍّ؟ ماذا يريد على وجه التحقيق؟ فعسى ما يكون اليوم لعبًا يكون غدًا جدًّا، وما ينبغي له أن ينسى حظه العاثر وتاريخه المحزن، أفلا يحسن به أن يترك النافذة مغلقة، وأن يتفادى ما ينذر به فتحها؟ على أن الحياة لا تنصت لمثل هذا المنطق، ولا تكاد تتأثر بحكمته ومخاوفه، فقد أحرقه الظمأ وألهبته اللهفة، ونهض مرة أخرى يلوح في وجهه العزم ودلف من النافذة ثم فتحها، وارتفق حافتها وعيناه إلى أسفل، ثم مضى يرفعهما ببطء وحذر حتى بلغتا أرض الشرفة، فرأى قوائم الكرسي وحاشية الشمال — الذي كانت تطرزه مساء الأمس — مدلاة بينها، ثم غلبه خجله فأطرق كالأطفال! ولبث مطرقًا وهو يشعر بعينيها تثقبان رأسه، وخاف أن تذهب الفرصة قبل أن يتملَّى برؤيتها، فرفع رأسه متغلبًا على حيائه، فرأى الكرسي خاليًا والشال موضوعًا عليه! تُرى أكانت موجودة حين فتح النافذة ودعاها إلى الذهاب داعٍ؟ أم غابت قبل ذلك؟ ومهما يكن من أمر فقد أحس امتعاضًا وفتر حماسه، وخاف أكثر من قبل أن يغيب اليوم دون أن يراها، ولم تكن احتمالات رؤيتها في الغد لتنسيه خسارة اليوم، فقد تهيَّأ بكل عناية لتراه في أحسن صورة ممكنة، ولن تكون ذقنه ولا طاقيته ولا جلبابه غدًا كما هي اليوم، وإذن فهذا رجاء خاب، وذاك تعب ضاع، وأطرق مرة أخرى كاليائس: إلا أنه سمع — في اللحظات الأخيرة قبل المدفع — حركة خفيفة في الشرفة، فرفع رأسه بسرعة فرأى الفتاة مقبلة، ثم رآها تنحني على الكرسي لتأخذ الشال فالتقت عيناهما لحظة، ثم استوت قائمة فولَّته ظهرها وجرت إلى الداخل، وما طمع في أكثر من ذلك، ولو أنها أدامت النظر إليه لأربكته وأوقعته في الحيرة والحياء، أما وقد خطفت بصرها بمثل السرعة التي خطفت بها روحه، فقد أولته الجميل دون عناء أو مشقة، ثم صارت بعد ذلك ساعة الغروب تلك معقد الرجاء وبسمة المنى، هي خلاصة اليوم وهدفه ومعناه، حسبه أن يملأ فيها عينيه من معاني السذاجة والخفة تسكبها عيناها النجلاوان، وأن يدخر منها لبقية يومه ما يشيع فيها السرور والأحلام، وتواترت أصيلًا بعد أصيل، والتقت العينان يومًا بعد يوم، فألف منظرها المحبوب ولعلها ألفت منظره، بيد أنه لبث على خجله وارتباكه، يطالعها — إذا جاءت اللحظة السعيدة — بنظرة تفيض بإحساس الجد والرزانة والوجل كأنما يتحفَّز صاحبها للفرار! ووضحت صورتها في مخيلته بعينيها النجلاوين ذواتي الصفاء والسذاجة والخفة، عينان تنطلق نظراتهما بالتساؤل والاستسلام، إلا أن خفتها تضفي عليها غلالة من الفطنة والحرارة.

وكان ذات مساء يغادر حجرته — بعد العشاء — إلى المقهى فدق جرس الباب الخارجي وهو يقترب منه، ففتح الباب بنفسه، فرأي أمامه الست توحيدة وكريمتها نوال! وجعل ينظر إليهما بدهشة وارتباك وقد خفق صدره بما بغته من سرور، ثم انتبه إلى نفسه فتنحى عن سبيلهما قائلًا متلعثمًا: تفضلا.

ودعا أمه لتلقى الزائرتين، وذهب لا يلوي على شيء، وأدركت أم نوال ارتباكه، ولم تكن تتصور أن رجلًا في سنه يرتبك ارتباكه، ويبدو عليه ما بدا من الحياء لمحض أنه قابل امرأتين، وهبط أحمد السلم نشوان لأنه يذكر جيدًا — كما أكد لشكوكه التي لا تنتهي — أن فتاته ابتسمت إليه وهو يستقبلهما ابتسامة خفيفة براقة، لعلها ابتسمت ابتسامة الضيف لمن يستقبله، أو ابتسامة الارتباك والحياء، أو لعلها جادت بالابتسامة للرجل، جزاء حرصه ومثابرته على التطلع إليها بعينيه كل غروب أسبوعًا كاملًا أو يزيد، فمهما كان الباعث فهي ابتسامة حلوة، تلهَّف قلبه على مثلها عشرين عامًا، ورغب عن الذهاب توًّا للمقهى ليتيح لنفسه فرصة للتأمل، وكان من الذين يستحبون المشي إذا شغلهم شاغل من الفكر، فحث خطاه إلى السكة الجديدة، وسار معها مبتهجًا مسرورًا، وتمتع ما شاء بالسرور في صفاء ورضا، وما كان غرًّا ولا حسن الحظ بالدنيا — وكيف يكون ذلك بعد ما لاقى من سوء الحظ وعثاره؟! — ولكنه أراد السرور ساعة ولو خدع نفسه وغالط رأيه، وأراد أيضًا أن يسير حظه بعين جديدة ليرى أين هو من أمانيه المكبوتة، وليرى إن كان في الإمكان أن يعاود التجربة من جديد، فقد بدا له أنه أصبح حرًّا بعد أن أدى واجبه كاملًا، ألم يتلقَّ عن والده العبء عند اندحاره؟ ألم ينهض بأسرته المهددة بالشقاء؟ ألم يكفل أخاه حتى صار رجلًا؟ فما عليه من حرج بعد ذلك إذا شُغل بسعادته مخلِّفًا أعباءه لشقيقه الأصغر، ولا يكره ذلك أحد من ذويه، فهل في العمر متسع؟! وتمادى في التأمل والتخيل يحثه شعور السرور والظفر الذي غمره منذ حين، فقال إنه يملك في صندوق توفير البريد مبلغًا لا بأس به في ذاته، وإن عُدَّ تافهًا إذا قيس إلى مدة خدمته الطويلة، وأما عن شكله فليس مما يعيب الرجل ألَّا يكون جميلًا! وإنه ليستطيع بالعناية — كما فعل اليوم — أن يبدو معقولًا على نحول وجهه وشحوبه وصلعته، ويا حبذا لو فصَّل بدلة جديدة، وابتاع طربوشًا غير طربوشه الباهت المتقبِّض، بيد أنه كهل! فهو في الأربعين والصبية دون العشرين! وفارق العمر حاجز لا تقتحمه إلا المعجزات، فمن أين له بالمعجزة؟! وانقبض صدره لأول مرة منذ فتح باب الشقة للزائرتين، وذكر شكَّه في جاذبيته الجنسية، فتجهم وجهه وأفاق من نشوة السرور، وتمثلت لعينيه — في ظلمة الطريق — صورة الفتاة الباسمة، فغمغم قائلًا: «يا لها من غرة جاهلة!» إلَّا أن شيئًا واحدًا لم يخطر له ببال، وهو أن يتطوَّع بمد يده إلى الحياة التي دبت في قلبه فيخنقها لواذًا بطمأنينة الموت، فليتركها تنبض وتترعرع ولينتظر المخبأ وراء حجاب الغيب، وهو لن يكون بحال أسوأ مما عركته به الأيام، وخطر له وهو راجع أن يتساءل هل الحب شيء غير ما يعاني؟ .. هل هو شيء غير هذا الشوق الغامض النابع من الحنايا؟ .. هل هو شيء غير هذا الحنين الذي تزفر أنفاسه عصير القلب والكبد؟ .. هل هو شيء غير هذا الفرح السماوي تطرب له النفس والدنيا جميعًا؟ .. هل هو شيء غير هذا الألم المشفق من الإخفاق والعودة إلى الوحدة والوحشة؟ .. هل هو شيء غير أن تسكن تلك الصورة الساذجة اللطيفة هذا الصدر فتصير زاد أحلامه ومبعث آماله وآلامه؟ .. بلى هو الحب، وإنه به لخبير!

وعاد إلى الزهرة فوجد الصحاب يتسامرون ويحتسون الشاي، ورأى الغلام محمد جالسًا جنب والده يقلب في المكان عينيه النجلاوين، فسُرَّ لمرآه — وهو سفير هواه — وانجذبت نحوه روحه، واتخذ مجلسه المعتاد جنب الأستاذ أحمد راشد، وراح ينصت لسيد عارف الذي كان يقول بحماس: وسينتهز الألمان فرصة ضباب الخريف الكثيف ويهبطون على شواطئ إنجلترا وينهون الحرب!

فتساءل كمال خليل ضاحكًا، وفي هدوء لا يهيج الأعصاب: كما هبط هيس؟!

فاستطرد سيد عارف غير ملقٍ بالًا إلى قوله: وستخر إنجلترا المتعجرفة صريعة قبل أن تفيق من هول الضربة.

فسأله أحمد راشد: كيف تغزو ألمانيا إنجلترا وجنودها مشتبكة في ذاك الصراع المخيف في روسيا؟

– أعد الفوهرر جيشًا خاصًّا لغزو إنجلترا، وأُرجِّح أن تسقط إنجلترا قبل روسيا إن لم تسقطا معًا!

فقال أحمد راشد: الظاهر أنك تجهل حقيقة روسيا، روسيا الاشتراكية غير روسيا القيصرية، الشعب الاشتراكي كتلة من الصلب والإيمان والعزيمة، وهو ربما تقهقر ريثما يأخذ أنفاسه، ولكنه لن يلقي السلاح أبدًا، ولن يسلم لدواعي الهزيمة.

– والمخزن رقم ١٣؟!

فقال المعلم نونو وهو يفرك كفيه: هذا مخزن الأقراص التي تريدها؟

وسأله أحمد عاكف: لماذا لا يستعمل هذا المخزن إن صح ما يقال عنه؟

– رحمة بالإنسانية، الفوهرر لن يلجأ إلى استعمال مخزنه المخيف إلا إذا يئس من النصر بالفن الحربي المعتاد لا قدر الله!

وهنا صفَّق المعلم نونو للنادل وأمره أن يحضر الدومينو وهو يقول كمن ضاق صدره بالحديث: ملعون أبو هؤلاء وهؤلاء، فلا الألمان أُمنا ولا الإنجليز أبونا، وليذهب بهم الشيطان جميعًا إلى الجحيم.

وفصل المعلم نونو بصيحته بين السمر واللعب، وما لبث أحمد عاكف أن وجد نفسه — كالعادة — منفردًا بالمحامي، ورغب عن الحديث، وحدثته نفسه بالرجوع إلى البيت حيث توجد الآن نوال وأمها .. ولكن ما عسى أن يفعل هناك إلا أن يحبس نفسه في حجرته؟ .. وإنه لفي حديثه مع نفسه؛ إذ سمع المحامي يقول للغلام محمد بلهجة الأمر: يا محمد آن لك أن ترجع إلى البيت لتذاكر!

ونهض الغلام قائمًا، وقد علت شفتَيه ابتسامة دلت على ارتباكه، وغادر المقهى وثبًا! وعجب أحمد عاكف للهجة الشاب الآمرة وإذعان الغلام لها، فلم تكن لهجة الناصح ولا المتودد إلى الأب.

وأحس الشاب بعجب الرجل فقال: البنات يتفوقن على الصبيان بدرجة تدعو للدهشة، فشقيقة الغلام مجتهدة مطيعة، أما هو فيتجرَّع دروسه كالعلقم ويعتل على التهرب منها بالعلل!

كيف يتكلم الأعور عن الفتاة بهذه الحرية؟! وخطر له خاطر انقبض له صدره فسأله: هل تعطيهما دروسًا خصوصية؟

فحني الشاب رأسه بالإيجاب! وامتعض الآخر امتعاضًا شديدًا جعله يتكلف الابتسام حتى لا يبدو على وجهه أثر من إحساسه، أيجلس هذا «الأعور» من فتاته مجلس الأستاذ المعلم؟ أيلقنها الدرس ويأمرها بحفظه وربما تصنَّع الجد فانتهرها؟ .. ألا ينفرد بها أحيانًا؟ .. ألم ينظر إليها مرة بغير عين الأستاذ؟ وكيف تراه هي؟ .. إنه شاب مثقف ذو مستقبل حسن، ولن يضره شكله المتجهم ولا عينه الزجاجية، بل لن يُعَدَّ — أي عاكف — خيرًا منه بحال إن لم يعد أسوأ درجات — على الأقل في نظر العوام والأميين — فهل يولي الأدبار ولما تبدأ المعركة؟! وما كان في مثل هذه المعركة ممن تتملكهم روح الأقدام والمنافسة، وعلى العكس من ذلك تراه ينكمش ويسلم ساقيه للريح حياءً واستكبارًا وجبنًا .. ولن يزال في كل شدة يلتمس التدلل الذي نشأ في أحضانه، فإذا أخطأه — ولا بد أن يخطئه — انطوى على نفسه دامي القلب مجترًّا آلامه مكيلًا التهم لسوء الحظ الذي يلاحقه! ولو كان دور الذكر في الغزل أن يطارد لا أن يُطارَد، وأن يَطلب لا أن يُطلَب لهان الأمر وطاب له الغرام، أما والأمر غير ذلك أو عكس ذلك، أما والأمر يستوجب رجولة ولباقة وجسارة فكيف يطمع في الظفر؟ ولو أن السجايا رهن مشيئة الإنسان لنزل عن ثقافته ومواهبه العقلية — المزعومة — لقاء أن يصير غزلًا ماهرًا ورجلًا جذَّابًا! ولكن هيهات أن يبلغ ما يشاء، وليس أمامه إلا أن يحتقر الغزل ويمقت المرأة ويستمرئ العزلة الوحشية!

وتجنَّب أن يشتبك في حديث مع الشاب البغيض، وتصنَّع الإنصات للراديو ليصرفه عن محادثته، فمضى الوقت وهما صامتان، والسكون قائم إلا أن يمزقه احتداد سليمان بك عتة إذا استشاره سيد عارف، وأوردته أفكاره المحمومة — في صمته — مناهل سامة استقى منها خياله المحزون، فاستسلم لأماني شيطانية مرعبة، تمنى في صمته غارة جنونية تقذف القاهرة بالحمم فتدك مبانيها وتهلك بنيها فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيان لا غير، هو وهي! هنالك تصفو له بلا خوف ولا يأس ولا غيرة ولا جهد! .. وتمثَّلت لعينيه المظلمتين القاهرة المهدمة المحطمة، والشخصان الشريدان، يفزع أحدهما إلى الآخر لائذًا بجناحه ساكنًا إلى ذراعيه، والآخر سعيد — على ما يكتنفه من الخراب — يصاحبه متلذذًا بانفراده به، انبعثت هذه الأمنية الغريبة من صدره وهو يفور بشعور طاغٍ بالاضطهاد والقهر والعذاب.

١٣

ولما خلا إلى نفسه في حجرته بعد منتصف الليل تساءل ممتعضًا ألا يحسن به أن يقلع عن عادة فتح النافذة، وأن يغلق قلبه دون العاطفة الجديدة التي يسير الألم بين يديها؟ أليس الموت مع السلامة خيرًا من حياة القلق والعذاب؟ بَيْد أنه تناسى مخاوفه في اليوم التالي وما بعده وصار بين النافدة والشرفة ميعاد يتجدَّد كل أصيل، ولم يعد شك في أن الفتاة أدركت أن جارها الجديد يتعمَّد الظهور في النافذة — أصيل كل يوم — ليبعث إليها بتلك النظرة الحييَّة الوجلة. تُرى كيف تحدثها نفسها عنه؟ أتهزأ بشكله؟ أتضحك من كهولته؟ أم باتت تضيق بخجله وجموده؟ فمن عجب أن تتواتر الأيام وما يزال حريصًا على ميعاده مترقبًا لساعته ثم لا يستطيع شيئًا إلا أن يرسل هذه النظرة الخائفة ما أن تلتقي بنظرتها حتى ترتد في خفر وقد اختلجت الأجفان، وما انفك شبح أحمد راشد يطارده ويزعجه، وما انفك يسأل نفسه الغيور أما ترشقه الفتاة أيضًا بمثل هذه النظرة الحلوة أم تدخر له ما هو أجمل وأفتن؟! بيد أن لحظات الأصيل السعيدة كانت تنتشله دائمًا من هاوية الشك والقنوط. وجعل يهدئ روعه ويقول لنفسه إنها لو كانت تهوى الشاب البغيض لما منحته نظرتها الحنون مساءً بعد مساء فعاوده الأمل وراجعه الرجاء، ولكن لم يكن طبيعيًّا أن يقنع بهذه النظرة، وأدرك أنه ينبغي أن يخطو خطوة جديدة، ولكن هل يستطيع؟ هل يستطيع أن يهجم على الحياة لحظة كما استطاع أن يهرب منها عشرين عامًا كاملة؟ هلا أدام إليها النظر حتى تطرق هي حياءً ولو مرة! .. هلَّا حيَّاها بابتسامة؟ وتخيَّل أنه يديم إليها نظره، ثم تخيَّل أنه يبتسم لها فتورد وجهه واضطرب اضطرابًا عنيفًا وغلبه الحياء والعجز على أمره! ربَّاه أتجفل الكهولة من الطفولة؟ .. أتفر الأربعون من السادسة عشرة؟ لكم حسب فيما مضى أن الخجل داء يزول مع تقادم العهد ولكنه تشبث بطبعه حتى أدركه داء جديد هو داء الكهولة، فلماذا يخلق الله قومًا مثله لا يقدرون على الحياة؟! .. والتمس في يأسه سبيلًا جديدًا فقال لنفسه إن الذين يخافون النظر والابتسام يستطيعون بلا شك أن يكتبوا، فلماذا لا يجرِّب وسيلة الكتابة إليها؟ وراقه هذا الخاطر وفكَّر فيه تفكيرًا جديًّا، فالأمر لا يقتضيه إلَّا أن يكتب كلمات في ورقة ثم يطويها بعناية ويرمي بها إلى الشرفة، هذا حسن. فكيف يبدأ خطابه؟ أيقول مثلًا حبيبتي نوال .. هذا تصوير وقح. عزيزتي نوال؟ .. ما يزال ذكر الاسم وقاحة. عزيزتي فحسب، فهذا ألْيَق بأدبه، ثم ماذا؟ .. إنَّ الرسائل تبدأ عادة بالتحيات، فليكتب لها تحية وسلامًا، ثم ماذا؟ .. هل يصارحها بحبه؟ .. كلا هذا ما ينبغي أن يختم به، وإذا بدأ فليبدأ بالإعجاب والثناء، ولكن كيف ينشئ عباراته؟ .. وكيف يتخيَّر ألفاظه؟ .. أي الأساليب يعجبها؟ وأي الألفاظ يحسن وقعها من نفسها؟ .. وهَبْه فرغ من حل هذه المشكلات جميعًا فماذا يسألها؟ .. أن تجيبه؟ .. أن تقابله؟ .. بل هناك ما هو أهم من كل ذلك، ما الذي يدعوه إلى الظن بأنها ستحسن استقبال رسالته؟ من يدريه أنها لا تمزقها وتقذف بها في وجهه .. أو يغلبها السخط فتفضح سره وتشهِّر بكرامته؟ .. وعقله التردد بعد أن كاد يمسك بالقلم فتراجع لائذًا بالسلامة. على أن النافذة لبثت على ولائها للشرفة، وأوفت كلتاهما بعهد لم يرتبطا به، فتلاقت العيون حتى تآلفت وتعارفت، وتجاذبت الأرواح دون أن يعوق تجاذبها الصمت أو الحياء، وبات يظن — لما يطالع في نظراتها من العطف والصفاء — أنه ظلم الأستاذ أحمد راشد بأفكاره وعواطفه، وأن الشاب — المشغول بالاشتراكية ومحو العقائد البالية — لا يفرغ للغزل والحب، فذاق رحيق الأمل صافيًا، ثم أدناه الحظ من الأمل والثقة بمصادفة: إذ شغله أبوه عصر يوم من أيام رمضان الأخيرة فمضى الأصيل دون أن يستطيع الظهور في موعده من النافذة، وانتظر الميعاد في اليوم التالي بصبر نافد، ولكنه وجد الشرفة مغلقة! .. وانتظر عبثًا أن تفتح وأن تبدو بها فتاته ولكن على غير جدوى! .. وظن أنه عاقها عن الظهور مثل الذي عاقه بالأمس، لولا أن عثر بشبحها وراء خصاص باب الشرفة! .. فلم يشك في أنها تعمَّدت إغلاق الشرفة دونه كما فعل هو بالنافذة في أمسه، ومعنى هذا — إن صدق حدثه — أنها أحست غيابه أمس، بل لعلها استاءت منه وأضمرت ساعتها عقابه، وها هي ذي تحقق إرادتها، ومال إلى تصديق ظنه، ولكنه لم يجد للعقاب ألمًا، وعلى العكس شعر له بلذة لا عهد له بها، فطرب طربًا استخفه وجعله يفرقع بأصابعه ويذهب ويجيء في الغرفة ذاهلًا عما حوله، وفي اليوم التالي أقبل على النافذة بروح جديد ممتلئًا ثقة وأملًا، فشعر بوجودها قبل أن يرفع إليها عينيه المستطيلتين، وكان عزم أن يرمقها بنظرة استفهام وعتاب كأنما يسألها «لماذا اختفيت أمس؟» فالآن جاء وقت التنفيذ! .. رفع رأسه الصغير فالتقت العينان! ونادى شجاعته ليرفع حاجبيه ويحرك رأسه مستفهمًا مفكرًا، أجمع عزيمته كمن يتوثب لإلقاء نفسه إلى حوض السباحة لأول مرة، ودفع نفسه للقفز، ولكنه جمد لحظة أكثر مما ينبغي فانتهز عقله الفرصة ورمى في طريقه بخاطر من خواطر الشك والخوف فخاف أن يعثر به فاستطردت إرادته وانتشر عزمه وجفل متراجعًا! وفي تلك الليلة أنَّب نفسه تأنيبًا قاسيًا، وطرق صلعته بشيء من الحدَّة وصاح غاضبًا: «أما من ذرة رجولة!» وهكذا أحبها، أحبها لعينيها النجلاوين ونظرتها اللطيفة الساذجة وخفة روحها، أحبها لأن أحلامه — والأحلام هي الفن الوحيد الذي أتقنه في دنياه — أبت أن تغيِّبها ساعة عنه، ولأنه جائع — جائع في الأربعين — والجوع من بواعث الأحلام!

١٤

ثم كانت ليلة القدر من الشهر المبارك فاحتفلت بها الأسرة احتفالًا بدا في الدجاجة المحمرة التي ازدانت بها سفرة الإفطار وصينية الكنافة، وعند العشاء راحت الست دولت، تدعو لبعلها بالصحة ولولديها بطول العمر والسعادة، أما عاكف أفندي — الأب — فذهب إلى مسجد سيدنا الحسين لشهود احتفال رابطة القراء بالليلة المفضلة، فكانت ليلة سعيدة؛ وقبل أن يأووا إلى أسرَّتهم قبيل الفجر أطلقت صفَّارات الإنذار فارتدوا معاطفهم وهرعوا بين جموع السكان إلى المخبأ الذي باتوا يعرفون طريقه بغير حاجة إلى إرشاد الخادم، وامتزج انزعاج أحمد بسرور خفي لأن المخبأ يدنيه من نوال ويمتِّع ناظريه باجتلاء محياها المحبوب. ورأى في المخبأ أحمد راشد وسيد عارف واقفين يتحدثان فانضم إليهما — وكان موقفهما قريبًا من الركن المرموق — وما إن رآه المحامي حتى قال له: أما سمعت ما يقول سيد أفندي؟ يقول إن خطوبة سليمان عتة لكريمة العطار تمت اليوم!

فقال سيد عارف مبتسمًا: نعم يا سيدي .. فرح «ميمون».

وعاد أحمد راشد يقول بحدَّة: انظر إلى المال كيف يستذل الحسن؟ إن أقبح ما في عالمنا هو خنوع الفضائل والقيم السامية للضرورات الحيوانية، فكيف سامت الحسناء نفسها قبول يد هذا القرد الدميم؟! ولن يكون اجتماعهما زواجًا، ولكنه جريمة مزدوجة تعد من ناحية سرقة ومن الأخرى اغتصابًا، ولن يزال جمالها فاضحًا لقبحه، وقبحه فاضحًا لجشعها.

ثم ابتسم الشاب ابتسامة خفيفة واستدرك قائلًا: لا يمكن أن تُقتَرف هذه الجريمة وأمثالها في ظل الاشتراكية!

وهنا علا صوت رجل يقول متذمرًا: ألم يقولوا إن الألمان لن يُغيِّروا على مصر في شهر الصيام؟

فتحوَّل إليه سيد عارف وقال: ولكن الإنجليز يغيرون على طرابلس وهي بلاد مسلمين كذلك!

ثم قال لصاحبه بلهجة اليقين: الإنجليز لا يضربون طرابلس لفائدة حربية، ولكن ليجبروا الألمان على ضرب القاهرة!

ولم يُعْنَ أحمد بالمناقشة لأنه كان يتلقى رنوة ساجية من بين الجموع الغافلة، ولكنه لم يهنأ بها طويلًا فإن صوتًا غليظًا صاح بقوة: «صه .. أزيز طيارة!» وساد على الأثر صمت شامل وأرهفت الآذان حتى صاح صوت آخر: «كلا .. هذه سيارة الشرطة.» فقال الأول: «بل أزيز طيارة .. اسمع!» وأنصتوا جميعًا فترامى إلى الآذان أزيز طيارة حقًّا يهبط من جو سحيق، فاضطرب قلب أحمد وتحوَّل بصره نحو والديه فرأى أمه مصوبة عينيها نحو سقف المخبأ وأباه مطرقًا، ثم سمعوا طلقة مدفع مضاد بعيدة تلتها طلقات كثيرة متقطعة، وسكت الضرب لحظة ثم عاد أشد مما كان، واتصلت الطلقات واختلطت، فانتشر الذعر وثرثرت الألسنة في هذيان وقال واحد من الخائفين الذين يستجدون الطمأنينة: «هذا الضرب في ألماظة مؤكد» .. فارتاح كثيرون إلى تأكيده وأمَّنُوا على قوله بغير وعي، وذهب إلى والديه وسأل أباه، وإن كان في مثل حاله من الذعر والاضطراب: «كيف الحال يا أبتي؟» فأجابه الرجل بصوت متهدج: «ربنا موجود.» واستمر إطلاق المدافع وتعددت مصادره؛ وجعل سيد عارف — على أثر كل طلقة مدفع — يذكر اسم الناحية التي أُطلق منها كأنه الخبير العليم فيقول: «مدفع العباسية .. ألماظة .. بولاق .. وهذا مدفع القلعة … إلخ إلخ.» ولما انطلق مدفع بعنف فاق ما سبقه شدة قال الرجل: «هذا مدفع ألماني ابتاعته الحكومة من ألمانيا قبل الحرب!» ولكن أخذ كثيرون يضيقون بالمتكلمين وينتهرونهم فاشتد اللغط، ثم جاءت لحظات أخرى عنف فيها إطلاق المدافع واتصل اتصالًا مخيفًا، فارتجت الأعصاب ووجبت القلوب، تلك لحظات قصار ولكن يقاس زمانها الثقيل بتردد الأنفاس وخفقان القلوب فكأن المرء يحمل الدهر على عاتقيه، ثم خف عنف الإطلاق رويدًا، ثم لم يعد يُسمَع إلا في ناحية واحدة، ثم سكت آخر مدفع وأخلف السكون، ولم يدرِ أحد هل يستأنف الإطلاق أو انتهت عقوبة الليلة، إلا أن الأنفس أخذت تسترد من الراحة ما تبل به جوانح احترقت أو كادت، ومضت فترة وجيزة في سكون ثم انطلقت صفارات الأمان، فنهض القوم متشهدين، وأرسل أحمد عاكف ناظريه إلى هدفه المنشود فالتقيا بنظرة جادت بها له فسر بها سرورًا مسح عن صدره الضيِّق آثار القلق والخوف، ورآها تسبق أسرتها نحو باب المخبأ حتى إذا بلغته عطفت رأسها نحوه ورمته بنظرة ذات معانٍ ثم ارتقت السلم على عجل، فشعر الرجل — بقلبه الجذلان — أنها تدعوه إلى اللحاق بها. وللأعين كما للغرائز لغة سرية صامتة، فتولَّاه التردد والحياء، إلا أن مروقها إلى الخارج بث فيه شجاعة وقتية تغلب بها على تردده وحيائه، فاتجه نحو الباب سابقًا والديه والخادم، وارتقى السلم متسائلًا: تُرى هل يجدها أمام الباب؟ وما عسى أن يقول أو يفعل؟ ولكنه رأى شبحها قد ابتعد عن مدخل المخبأ أذرعًا في طريق البيت، ولم يكن في الطريق غيرهما فهما أول اثنين غادرا المخبأ، فإذا أوسع خطاه أدركها في أقل من الثانية وأمكنه أن يسايرها شارع إبراهيم باشا، وأن يرتقيا معًا — منفردين — سلم العمارة. تخيل ذلك بسرعة ولكنه لم يكد يبدي حراكًا، أو تحرك بالأحرى خطوات معدودة فاتسع ما يفصل بينهما من مسافة حتى باتت قريبة من مدخل العمارة، وغلَّ الحياء والارتباك إرادته فجعل يتلفت خلفه كأنه يدعو والديه إلى اللحاق به لينقذاه من ورطته، وعبثًا حاول أن يقاوم حياءه أو ارتباكه أو أن يجمع إرادته على اللحاق بها، فأدركه القادمون وما يزال موزع الفؤاد بين الخوف والرغبة، ثم اختفت الفتاة داخل العمارة، وانتهى الخوف والتردد والرغبة والأمل! ثم سار مع والدَيه يعالج في صمت حسرة أليمة منتزعة من صميم الضلوع، وطفق ينظر إلى السلم — وهم يرتقونه — بأسف ذاكرًا أنه لو قهر خوفه لانفرد بها فيه — على أنه سأل نفسه «ماذا كنت أقول لها؟» .. هَبْهُ كان تشجَّع وحيَّاها وردت هي تحيته بابتسامة أو كلمة أو إيماءة — بصرف النظر عن أن التحية في ذاتها مشكلة فلم يكن يدري ما الأوفق أن يقول: صباح الخير .. سعيدة .. السلام عليك … إلخ؟! — هَبْهُ حيَّاها وردت تحيته فماذا كان يقول بعد ذلك؟! .. أيصمت حتى يفترقا عند شقته؟ أم ماذا يقول العاشقون في أمثال هذا الموقف؟ ألا ما أكثر العاشقين! ولشد ما يتهامسون ويتناجون في الطريق والمركبات فكيف فقد النطق بلغتهم المحبوبة؟ .. وعاد إلى حجرته ممتلئًا أسفًا، بيد أنه كان على هذا فرحًا مسرورًا، بل كان ثملًا بنشوة سرور لم تعهد القلوب ألذ منه، فمهما يكن من أمر نفسه فلا يمكن أن ينسى أنها رمته بنظرة نداء — وهي من معجزات السرور في شريعة العاطفة — وهي خليقة بأن يُسرَّ لها سرورًا خالصًا لا شأن له بحيائه ولا بحسرته! ولاحت منه نظرة إلى النافذة — وقد غدا يدعوها نافذة نوال — فحن قلبه المنتشي إلى أن يرسل بنظرة إلى الشرفة، ففتح النافذة ورفع رأسه فرأى لعجبه بابها مفتوحًا ومصباح الحجرة مضاءً، والفتاة واقفة على عتبة الباب! .. ما الذي دعاها إلى باب الشرفة في تلك الساعة من الفجر؟ .. وكان يرى شبحها من غير أن يميز معارف وجهها لوجود المصباح وراءها، وكذلك كان مصباح حجرته، فأيقن أنها لا ترى سوى شبحه — وشجَّعه ذلك على الثبات والتحديق فيها — ولم يمتد به الوقوف طويلًا حتى فجأته بأسعد مفاجأة جادت بها حياته: فأومأت له برأسها تحية! .. وغمره الذهول، ولكنه لم يغلب على أمره هذه المرة فحنى رأسه ردًّا على تحيتها! .. وتراجعت الفتاة مسرعة حياءً وأغلقت باب الشرفة — وهو ينظر — ثم أطفأ النور، ولبث الكهل بموقفه مدة من الزمن لا يدريها، ولا يدري بنفسه، ثم أغلق النافذة، وجثا على ركبتَيه واضعًا راحتَيه على صدره، وهمس بصوت منخفض: «اللهم حمدًا وشكرًا!»

١٥

واستيقظ في صباح اليوم الثاني متعبًا لأن لسرور — كالحزن — عدو للنوم قديم. بيد أنه استهان بتعبه لنشوة صدره وفرحة قلبه، وهل ظفر بمثل ذاك الصباح السعيد منذ عشرين عامًا؟ فغادر البيت منشرح الصدر، بسَّام الثغر، خفَّاق القلب خفقان الشباب النضير، بعد أن أصبح أخيرًا من الزمرة التي طالما رمقها الحسد والغيرة، زمرة المحبين المحبوبين! وصفا فؤاده ذاك الصباح فلم تنهشه آفة من آفات البغضاء، واستراح — ولو إلى حين — من أطياف إخفاقه الجاثمة في ظلمة ذكرياته كالخفافيش، فلم يتوثَّب لجدال ولا تحفَّز لمعارضة ولا تشاجر مع أحد الموظفين، وغمرت مستنقع المرارة الآسن المستقر في أعماقه موجة راقصة من الحبور.

وعند عودته ظهرًا وجد خطابًا في انتظاره، عرف خط صاحبه من أول نظرة ألقاها على الظرف، وهو جميل يشبه خطه من جميع الوجوه، فابتسمت أساريره، وفض الخطاب ثم قرأه حتى فرغ منه وقال: سيأتي رشدي أخي صباح نهار الوقفة.

فاستقبل الوالدان الخبر أجمل استقبال، وإن كانا يعلمان من قبل — بالبداهة — أن الشاب لا بد أن يمضي إجازة العيد في القاهرة، إلا أن الخطاب حوى أنباءً أجمل مما توقع الوالدان فاستدرك أحمد يقول: ويقول رشدي إنه صدر أمر بنقله من أسيوط إلى المركز الرئيسي بالقاهرة، وسيتسلم عمله الجديد بعد عطلة العيد مباشرة!

وسُرَّ الوالدان سرورًا كبيرًا، وقالت الست دولت: سنستقبل عيدين سعيدين، لهفي على الغلام العزيز، كيف قضى ذاك العام وحده في أسيوط!

فابتسم أحمد قائلًا: ادعي الله أن يكون تعوَّد حياة غير الحياة التي أدمن عليها في القاهرة من قبل!

ثم أوى الكهل إلى حجرته وخلع ملابسه واستلقى على الفراش كعادته ليقيل حتى الأصيل أو حتى ميعاد الحب — كما ينبغي أن يسمى منذ اليوم — فشغله الخطاب ردحًا من الزمن عن النوم وعن إحساسات اليوم السعيدة، وامتلأت نفسه بذكريات شقيقه الأصغر.

يندر أن يستثير إنسان من العواطف المتباينة ما استثاره رشدي عاكف في صدر أخيه الأكبر من علل السخط ودواعي الحب؛ فإنه طالما استوجب سخطه في الماضي منذ أجبره واجب كفالته على التضحية بمستقبله (وعبقريته!) ثم أسخطه في فتوته بتكالبه على الشهوات وإقامته على اللذات وإعراضه عن النصح. ولكنه من ناحية أخرى أحبه أكثر من أي شيء في الدنيا، أحبه لأن الشاب آثره بحب فاق ما يكنه لوالديه من الحب والإجلال، وذكر له دائمًا رعايته وكفالته أجمل الذكر، وأحبه لأنه صنعه بيديه، غذاه بروحه وربَّاه بماله فكان الشقيق الأكبر وكان الوالد الحنون؛ تمتع بطفولته؛ فحمله على يديه وعلمه النطق ودربه على المشي، ورعى صباه ووجه تعليمه ثم عد نجاحه بعد ذلك — بعد تعب ولأي وعثرات — ثمرة كفاحه، ومفخرة جهاده، ومذكِّرًا دائمًا بتضحياته. وفضلًا عن هذا جميعه، كان الشاب ذا شخصية خليقة بأن تحب، كان لطيفًا خفيفًا مرحًا، ورث عن أمه تلك المقدرة التي تفتح له القلوب بغير جهد ولا تكلُّف، لما طبع عليه — كلاهما — من الجمال والصفاء والوفاء وحب العشرة والألفة، ولكن واأسفاه أخطاه الاعتدال والرزانة والحكمة، وجرت الحياة في أعصابه زاخرة جامحة، فاستأدته غرائزه الجهد الجهيد، ودفعته قفزًا ووثبًا بغير رادعٍ، وقد كان منذ البدء جسورًا مقتحمًا متمرِّسًا بالحياة. ذلك أن الذي وكل رعايته — أخاه — ظل دائمًا مصفدًا بأغلال التدلل والخوف، فمال إلى الاعتماد على الطفل الذي يربيه — فيمن يعتمد عليه — في قضاء حاجاته، وابتياع لوازمه واستعارة كتبه، فاكتسب الصبي خبرة بالدنيا واعتمادًا على النفس وجسارة ورجولة، وصارت حاجة راعيه إليه لا تقل عن حاجته هو إلى راعيه، ولكنه عرف الدنيا وجال فيها بغير المبادئ الحقيقة بأن تعصمه من زلاتها، فمنذ أن أحيل عاكف أفندي على المعاش انطوى على نفسه تاركًا أمر الأسرة لابنه وزوجه، ولم يجد رشدي في هذين العزيزين الحزم الذي يرشده ويعصمه، فضلَّ السبيل وتخبط على غير هدًى، ولولا دماثة خلقه، ورقة طبعه، لربما جاوز مفاسد الشهوات إلى مهالك الجرائم.

ولكم بشَّرت حياته المدرسية — في عهديها الأول والثاني — بالنجاح، حتى قال أحمد عاكف إن أخاه ورث عنه بعض صفاته العقلية! ولكن الحال تغير بعد أن صار طالبًا بكلية التجارة، هنالك اعتوره الفساد، فانجذب نحو زمرة من الشبان ولهجوا جميعًا بمعاقرة الخمر ولعب القمار والتخبط في بؤرة التهتُّك، واندفع مع التيار في جنون، فاستدان مرات، وأهمل حياته الدراسية حتى أوشك أن يفسد ما بينه وبين شقيقه، ثم بلغ ذروة جنونه حين فكر جديًّا أن يقطع حياته الجامعية ليتوفر على تعلُّم الموسيقى والاشتغال بالغناء — لا لشيء — إلا لما بلغه من بوهيمية المغنين وحظهم من ولع النساء، وما عهده في نفسه من رخامة الصوت وحلاوته، ونفد صبر أحمد عاكف فأنذره بالكف عن الإنفاق عليه إذا لم يمسك عما هو آخذ فيه من المجون والاستهتار، وبلغ منه الغضب أحيانًا أن شعر بأنه يمقته مقتًا، بل حقد عليه أخذه بأسباب حياة يعجز هو عن الأخذ بأسبابها، ويتلهَّف حسرة على ألوان منها! ورغم ذلك كله لم تنقطع صلات المودة بين الشقيقين بفضل مواهب الأصغر، فكان إذا شد أخوه أرخى، وإذا قطب ابتسم، وإذا سب ولعن تضاحك وقبَّل يده أو لثم كتفه، وإذا كوَّر له قبضته مازحه في أدب ولين، ثم انتهت تلك الحياة بمعجزة، أجل انتهت بمعجزة والبكالوريوس، مما دعا أحمد على أن يقول متهكِّمًا: «هكذا يحصل الطالب على الشهادة التي تفضل الحكومة حامليها على أمثالي؟!» بيد أنه تنفس الصعداء، وأيقن أن مهمته قد انتهت، ولم يعد يشغل نفسه — أكثر مما ينبغي — باستهتار الفتى بعد أن صار المسئول الأول عن حياة نفسه، فصفا بينهما الجو، وعاد إلى الحب الذي لا تشوبه شائبة كما كانا من قبل — على عهد طفولة رشدي وصباه — بل رفعت الكلفة بينهما، فربما قص الفتى على شقيقه المحبوب ما يلقى من تجارب الهوى والحب، وكانت له في الهوى أهواء، وفي العشق فنون فعرف الحب الآثم والحب الطاهر! وتقلَّب في مظان السوء كما جرى وراء الحسان في السبل والميادين، وضم «ألبومه» صورًا لفتيات حسان وقَّعن عليها بخطوطهن القلقة اللطيفة تلك العبارة الغربية: «إلى خطيبي العزيز رشدي!» ولم يكن يقصد العذارى بسوء، ولا كان يسيغ الغدر بيسر وسهولة، وحقيقة الحال أنه كان يقع سريعًا فريسة لعواطفه المشبوبة، فليس أيسر من أن يصير عاشقًا، بل وعاشقًا بصدق وإخلاص، ولكن في الساعة التي هو فيها، فلم يحلف كذبًا قط، ولكنه حنث بأيمانه مرات!

فحدث كثيرًا — في هيجان العاطفة — أن بذل وعده صادقًا مخلصًا فكانت خطوبة! ثم لم يَدُمْ ذلك إلا ريثما تهدأ العاطفة أو يجدُّ النوى أو يحدث أمر ما، فلم تعرف حياته الهدوء، ولا السكينة ولا الراحة، وباتت مرعًى خصيبًا للشهوات والملاذ، فنالت منه حتى أعيته ونهكته، فنحف وهزل وصار — على حد تعبير والديه — كالعود، وكان أحمد — الذي يحبه ويشفق عليه — يرمقه بعينين قلقتين ويقول له: «ارحم نفسك!» فيجيبه بمرحه المألوف: «يرحمنا الله وإياكم!» ومنذ عام انتدبه البنك للعمل في فرع أسيوط فسُرَّ أهله — على أسفهم وحزنهم — وتعلقوا بأمل واحد أن يعتاد الفتى في المقام الجديد — مقام غربته — حياة معتدلة غير حياته الأولى ترد عليه بعض صحته، وتمسك عليه بعض نقوده؛ ولذلك تلقوا خبر نقله إلى القاهرة بسرور ورجاء، ينطويان على إشفاق.

١٦

ولم يبقَ من رمضان إلا ثلاثة أيام، وأسف أحمد على اقتراب نهاية الشهر المكرم، وهل ينسى فضله ورحمته؟ .. وهل ينسى موعد الأصيل منه حيث ولَّى عثار حظِّه ووحشة قلبه مع شمسه الغاربة وبات يسائل نفسه نري أين يكون الموعد غدًا وماذا تخبئ الأيام؟ أما الست دولت فنشطت هي والخادم ليعدا حجرة الشاب القادم من أسيوط، وكانت الحجرة تلي حجرة الوالدين، وتطل نافذتها الوحيدة على الطريق المؤدي إلى خان الخليلي القديم — كإحدى نافذتي أحمد — فكنست الحجرة وغسلت ثم فرشت وباتت تنتظر القادم في أجمل صورة، ثم أخدت المرأة أهبتها لخوض غمار معركة موسمية — لغزو ابنها أحمد كالمعتاد — لمناسبة حلول عيد الفطر أو عيد الكعك كما يحلو لها أن تسميه، فانتهزت فرصة انفرادها بالرجل بعد الإفطار وراحت تودع رمضان بكلام طيب مترحِّمة على عهده وختمت كلامها قائلة: لم يَبْقَ إلا يومان، وبات الإنسان يشم رائحة الكعك الطيبة في الجو!

وكان يتوقع مثل ذاك الكلام، ويعلم أن المعركة آتية لا ريب فيها، وأنه مغلوب على أمره مهما قال أو تشكَّى، ولكنه لم يتعوَّد أن يضحي بقرش قبل أن يريح ضميره بالدفاع عنه، فقال متذمرًا: في مثل هذا الزمان لا يتشمم الناس رائحة الكعك، ولكنهم يسألون الله الستر، وأن ييسر لهم ضرورات الحياة، أما أنت يا نينة فلن تزالي متلهفة على الكماليات التافهة غير راحمة جيبي، يا هوه ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء!

فحدجته بنظرة تأنيب وإغراء، ثم أرعشت حاجبيها المزججين في ابتسام وقالت: آه منك آه، لكم تغضب على أمك بغير سبب كأنها غير التي أحبتك ودللتك، أتدعي الفقر وأنت الخير والبركة؟ .. أتتناسى أنه جاءت نوبتك لتدلل أمك؟ ولن أشق عليك يا زين الرجال فنحن نرضى بالقليل إكرامًا لك!

وعلم أنها لن تيأس أبدًا، ولن تني حتى تظفر بسؤالها فتأوه قائلًا: أف … أف!

فقالت مبتسمة: أف لعيد بغير كعك. أنستقبل العيد بلا كعك وأنت رجلنا؟!

– الكعك فرحة الأطفال.

– والرجال والنساء، والعيد عيد الناس جميعًا. ألم ترَ إلى أبيك كيف جهَّز نفسه بعباءة جديدة يصلي بها العيد؟ .. وكيف ابتعت أنت بدلة وطربوشًا وحذاءً مباركة عليك بسم الرحمن؟ .. أما سروري أنا بالعيد ففي العجن والنقش ورش السكر والحشو بالعجمية.

•••

وفى الصباح الباكر من يوم الوقفة أخذ سمته إلى محطة مصر ليكون في انتظار الشاب القادم. وكان الجو رطبًا ولكنه محتمل البرودة، فجلس على أريكة على «رصيف الصعيد» ولم يَبْقَ على قدوم القطار سوى دقائق، وتولاه ما يتولاه عادة من القلق إذا وجد بمحضر القطر المردة فرآها تنفث الدخان وتطلق الصفير الحاد، ولم يكن استقبل قطارًا قط ولا غادر حدود القاهرة، ولا هزته رغبة في يوم ما إلى الارتحال والسفر، فتخيَّل السجن أخف على نفسه من الإقامة في بلد نازح. ولا شك أن جفوله من ملاقاة العالم الخارجي هو الذي بث في روحه كراهية الأسفار، ولكنه كان يفسر تلك الكراهية — كعادته في تفسير كل ما له شأن بسلوكه وطباعه — بأنها سجية المفكر الذي يحب المعنويات ويزهد في المحسوسات، ألم يعش أبو العلاء رهين المحبسين؟ وخفف من غلواء قلقه سروره بمقدم رشدي، شقيقه وابنه! وما ينتظر من معونته على النهوض بالتبعات الملقاة على عاتقه وحده، وما يحدثه محضره من ألوان التسلية والبهجة، وما لبث أن رأى الرءوس تتطلع نحو الجنوب، والنشاط والحركة يشملان المكان، فنظر مع الناظرين فرأى القطار قادمًا متمهلًا، وما عتَّم أن ذاع ضجيجه فاهتزت له جوانح الأرض، وملأ منظره الأعين، وأخذ يقترب رويدًا رويدًا وقد امتلأت نوافذ عرباته بالرءوس المتطلعة حتى وقف شاغلًا الرصيف الطويل وهرع نحوه المنتظرون، وجرت عينا الكهل على النوافذ وهو يزحم المتدافعين حوله حتى ظفر بضالته في مقدمة عربة من عربات الدرجة الثانية، وكان الشاب القادم يعطي حقيبته لأحد الحمَّالين، فهتف أحمد باسمه ولوَّح له بيده وهو يدنو من العربة، فالتفت الشاب إليه، ثم قفز إلى الأرض فصار تلقاء شقيقه، وسلم الأخوان بحرارة، وشدَّ أحمد على ذراع الشاب قائلًا: حمدًا لله على السلامة، كيف حالك يا رجل؟!

فقال الشاب بسرور وقد تورَّد وجهه المتعب من وعثاء السفر: الحمد لله يا أخي .. كيف أنت؟ .. كيف الوالدان؟

وسارا جنبًا لجنب نحو الخارج يعلوهما البِشر، كانا ذَوَيْ طول واحد ونحافة متشابهة ولا يخطئ الناظر إليهما أنهما شقيقان على ذبول الأكبر ونضارة الأصغر، فملامحهما متقاربة، إلا أنها بلغت في وجه رشدي مداها من الحسن، وحال بينها وبين ذلك في وجه الآخر إما انحراف أو تجهُّم أو إعياء، فلرشدي أيضًا ذاك الوجه الطويل النحيل ولكن ليس له خدا أحمد الذابلان، وسمرته — وإن اعتورها شحوب — صافية يجرى فيها ماء الشباب، وعيناه مستطيلتان متباعدتان إلَّا أنَّ حدقتيهما أوسع، ونظراتهما أنفذ، والتماعهما خاطف يدل على حدة المزاج وروح الفكاهة والجسارة. سارا متكاتفين، وسرعان ما شعرا بدبيب الرغبة في الكلام يتحرك في أعماقهما شأن المتقابلين بعد فراق طويل، فلم يدريا ماذا يتركان وماذا يأخذان، ثم اهتدى الشاب إلى حديث فسأل أخاه: قبل كل شيء كيف حال نينة؟

– كما تحب أن تكون، وما زالت تجري وراء رغبات الأطفال دون مبالاة بإرهاقي، فتقدم يا بطل وخذ نصيبك!

– لم أنسَ نصيبي وأنا في أسيوط فابتعت لها حليًّا عاجية وطباقًا فاخرة وبخورًا لطيفًا أرجو أن يوافق «أسيادها» (وضحك ضحكة عالية) … وأبي؟ .. كيف حاله؟

– كعهدك به .. عبادة في البيت، وزيارات لبيوت الله؛ وها قد أدنتنا الظروف من سيدنا الحسين فطوبى له!

فقال رشدي مبتسمًا: لكم أدهشني انتقالكم إلى الحسين!

وهنا بلغا فناء المحطة فأمسكا ريثما استقلا عربة، ونقد الشاب الحمَّال أجرته ثم سارت العربة سيرتها الثملة المريحة تخترق ميدان المحطة المترامي الأطراف، فأجال الشاب فيه عينيه العسليتين الجميلتين، فتخاطفت السيارات والعربات والترامات والمارة ناظريه، فنقر بإصبعه على جبهته وقال: يكاد رأسي يدور، وكأني أرى الترام والمترو لأول مرة. أتذكر نادرة الريفي الذي جاء مصر لأول مرة فلما أشرف على هذا الميدان ريع وفزع، ثم تراجع إلى القطار وهو يقول متأسِّفًا: «جئت متأخرًا فأهل البلد يرتحلون!»

فضحك أحمد الذي تلذُّه فكاهة الشاب ونوادره وبساطته، ومن حسن الحظ أن رشدي لم يكن «جامعيًّا» بالمعنى العميق — فلا يطرق موضوعات العلم ولا يذكر اصطلاحاته — وإلا لوجد فيه نوعًا من «أحمد راشد»، وأجمل من هذا أن الشاب كان من المخدوعين في ثقافة أخيه فظنه عالمًا متفقهًا وآمن بعقله كما يؤمن به الآخر، أما أحمد فسُرَّ بإيمان شقيقه به، ورأى فيه رمزًا حيًّا لإيمان الجامعة المصرية بعبقريته العصامية! قال الشاب بحماس: القاهرة نعمة من نعم الله، هي الدنيا والدين، الليل والنهار، الجحيم والجنة، الغرب والشرق، كان النقل معجزة!

– لا بد أنك ضقت ذرعًا بأسيوط!

– كما ينبغي أن أضيق ذرعًا بأي مكان غير القاهرة!

فتفحصه بنظرة ثاقبة وقال: السجن مفيد لأمثالك، ومع ذلك فإني لا أرى آي الراحة في وجهك!

فابتسم الشاب عن أسنان بيضاء منتظمة وقال كالساخر: إذا اجتمع موظفان في بلدة كانت مائدة القمار ثالثهما!

فتنهد أحمد قائلًا: أقُضِي أن تحرم من نعمة النوم أبدًا؟!

– نعمة النوم؟! .. النوم في الحقيقة نقمة! .. إنه اختلاس جزء طويل لا يُقَوَّم بمال من حياتنا القصيرة!

– أنت لا تدري مما تقول شيئًا!

– أنت يا أخي رجل حكيم، وأنا شاب مجنون، وهذه هي فلسفة المجانين.

– إذن ستعود إلى …

– بإذنه تعالى! … قابلت في أسيوط رجلًا مولعًا بالضحك كان يقول إن غذاء الصحة الحقيقي هو المرح، فإذا صح ذلك فالعربدة من أنفس الفيتامينات!

– وإذا لم يصح؟!

– فلندع الله أن يكون صحيحًا، ولكن قل لي متى كنت سمينًا؟!

– أنت تعلم أني لا أكف عن التفكير والدراسة!

– هذا حق، وربما كانت النحافة أيضًا طبيعة في أسرتنا!

– ووالدتك؟!

فضحك رشدي حتى بدت نواجذه، وخلع طربوشه عن شعر أسود لامع ينشق وسطه عن مفرق أبيض جميل، وقال وقد رقق الحنان نبرته: ولكنها صناعة العطار! كم شاقتني رؤيتها! أما تزال تذكر الزار؟

فقال أحمد بتأفف: كفت عن ذكره صراحة، ولكنها ربما شكت — عرضًا — قسوة من حالوا بينها وبينه!

– أُمُّنَا لطيفة كالملائكة لأنها لا تغضب، ولا أكاد أذكرها إلَّا راضية أو ضاحكة.

فابتسم أحمد، واستطرد رشدي: والعفاريت عقيدة وإن لم يتَّفق لي رؤية أحدها على طول عهدي بالطرقات المقفرة في الهزيع الأخير من الليل.

– الإنسان هو شر العفاريت، انظر إلى الحرب!

فضحك رشدي، وذكَّرته الحرب بأمر الانتقال من السكاكيني، فقال: هكذا أجبرنا الإنسان العفريت على هجر حينا القديم، يا عجبًا … ألا تعلم يا أخي بأنه لم يسبق لي أن رأيت خان الخليلي هذا!

فنبَّه ذكر «خان الخليلي» في قلب الكهل سرورًا عميقًا، وهز نفسه حنانًا فقال: ستراه صباح مساء!

– أكان الحال خطيرًا لحدٍّ أوجب الهجرة؟

– نعم كان، وحسب كثيرون الغارات ستستمر بوحشية تودي بالقاهرة، كما أودت بلندن وروتردام ووارسو، ولكن الله سلم، وكان الوالد في إعياء خطير فلذنا بالفرار!

فهزَّ الشاب رأسه أسفًا، ولاحت منه التفاتة إلى الطريق فرأى ميدان الملكة فريدة والعربة تعبر جناحه إلى شارع الأزهر! فدعا منظره ذكريات مواعيد غرام لا تنسى، هفت على قلبه، كما تنسمت ريح على جمرات ناعمة، فابتسمت أساريره وهزه الطرب. ثم استطرد متسائلًا: وكيف وجدتم المقام الجديد؟

لو طرح عليه هذا السؤال قبل لما وسعه الكلام ذمًّا وقدحًا، أما الآن!

– انتظر حتى تراه بنفسك يا رشدي، وستألفه ولو بعد حين.

– والجيران؟!

– أوه … غالبيتهم من أهل البلد ولكن كثيرين من سكان العمارات الجديدة من طبقتنا!

– وهل وجدت فيه مكانًا صالحًا للتفكير والدراسة؟

فسره السؤال، كما ينبغي أن يسره كل ما يذكره بأنه «مفكر»، وقال: يقول المثل «البس لكل حال لبوسها» ولذلك تجدني أفضل أن أمضي أول الليل في القهوة مع بعض الصحاب الجدد، حتى إذا كف الراديو أو سكتت الضوضاء عدت إلى حجرة الدراسة!

فضحك رشدي قائلًا: أعرفت أخيرًا الطريق إلى المقاهي؟

فقال الأخ مبتسمًا: تلك مقتضيات المقام الجديد!

ووقفت العربة عند مدخل خان الخليلي، فغادرها الرجلان وتبعهما الحوذي حاملًا الحقيبة، ولما ولجا التيه قال أحمد: انتبه جيدًا إلى ما يحيط بك، واحفظ المسارب عن ظهر قلب وإلا ضللت في معارجها!

واقتربا من العمارة، ورأى أحمد أمه تطل من نافذة حجرته فلكز شقيقه في ذراعه مشيرًا إلى النافذة، فرفع الشاب رأسه فوجد أمه وقد عصبت رأسها بمنديل بني وأخذت زينتها كأنما هي عروس تتصدى لعريسها، وما إن التقت عيناهما حتى فتحت له ذراعَيها تدعوه إلى حضنها، وقبل فوات دقيقة كان بين ذراعيها البضتين في عناق حار.

١٧

وجلسوا جميعًا حول المائدة — وقد جاء أبوه أيضًا ولثم الفتى ظاهر يده — وأخذوا بأسباب الحديث في شوق ولذة، فتكلم الشاب عن أسيوط وأهلها والغربة والحنين إلى الأهل والوطن، وتكلم الأب عن الغارة والمشاعل التي أسقطتها الطائرات، وحدثته أمه عن جارتها والمعلم نونو وأزواجه الأربع، ثم لاحظت المرأة أن وزنه لم يزد رطلًا واحدًا، وانتقلت إلى الكعك فبشرته بأنه سيأكل كعكًا لذيذًا لن يذوق مثله أحد في مصر جميعًا، ثم سارت أخيرًا بين يديه إلى حجرته. وعندما خلا الشاب إلى نفسه لم يعد يحاول إخفاء استيائه فلاحت أماراته في وجهه الجميل، وقد انقبض صدره منذ رسم الخطوة الأولى على عتبة خان الخليلي، فلما دخل الشقة هاله ضيقها، وأيقن أنه لن يطمئن له جانب في هذا المقام الجديد، وضاعف من سخطه أن أصحابه جميعًا في السكاكيني وما حوله وأنه سيرغم — بعد قضاء سهرته بينهم — على قطع طريق طويل إلى هذا الحي، ثم على التخبط في طرقاته الضيقة ليلًا وهو ثمل! ونفخ من الغيظ، ووطَّن نفسه على حمل آله على العودة إلى بيتهم القديم أو إلى آخر قريب منه مهما كلفه ذلك. ثم فتح حقيبته واستخرج ما فيها، ومضى يهيئ صوان ملابسه مترنمًا — كعادته — بإحدى أغنيات عبد الوهاب، وغيَّر ملابسه ثم غادر الحجرة إلى الحمَّام — وهو يواجه الحجرة على الناحية الأخرى من الردهة الطويلة الضيقة — فاستحم بالماء البارد ليزيل عن نفسه غبار السفر ونصَبه، وعاد إلى حجرته أجمل منظرًا وأطيب نفسًا، وأغلق الباب وراءه — ليعلو صوته بالغناء إذا أراد — وفتح النافذة، ودهن شعره بالفزلين وسرَّحه بعناية فائقة، وتعطَّر برائحة البنفسج الأثيرة لديه فصار في أحسن حال، وانجذب نحو النافذة فدلف منها ليرى على أي منظر تطل، فرأى الممر الضيق في الأسفل يؤدي إلى خان الخليلي القديم، واعترض مدى بصره فيما يواجه جناح العمارة الثاني، فضاق صدره وخال أنه رُمي به إلى أعماق سجن، أين من هذه النافذة نافذة حجرته بشارع قمر المشرفة على ميدان السكاكيني حيث لا تغيب عن عين الناظر أسراب ظباء اليهود، وتنهد محزونًا، ثم أجال بصره فيما حوله، فانجذب البصر نحو نافذة تقابل نافذته من علٍ — على جناح العمارة المواجهة له — انفتحت على مصراعيها، وظهر فيها وجه فتاة، وجه حسن تزيُّنه عينان تقطران خفة وسذاجة، فالتقت عيناهما، في نظرة إنكار من ناحيتها ونظرة تفحص — تفحَّص الصائد لصيد اعترضه — من ناحيته، ثم شق عليها تفحصه الثاقب فخفضت بصرها وتراجعت في استحياء، فابتسم ابتسامة رقيقة وانبسطت أسارير وجهه متأثرًا بملاحة محياها وتحير نظرتها العذبة، ولم يزايل مكانه ولا حول عينيه عن النافذة منتظرًا عودتها، لأنه من الطبيعي — في نظره — أن تحاول معاودة النظر إلى جارها الجديد ذي النظر العارم بغير تردد ولا حياء، ولبث على حاله من النظر والانتظار تحدوه رغبة وصبر وعناد، حتى ظهر رأس الفتاة مرة أخرى في حذر، فالتقت العينان خطفًا، ثم تراجعت الفتاة فيما يشبه الضجر، فضحك ضحكة خافتة وتحول عن النافذة مبتسمًا راضيًا، ثم جلس على كرسي مكتبه الصغير مغمغمًا: «هذا أول شيء حسن نصادفه في حينا البائس!» وتفكَّر قليلًا وهو ينقر بإصبعه على مكتبه وقال لنفسه: «هي جارتنا بغير شك … وحجرتها جارة لحجرتي!» واستدعى صورتها فأقر لها بالحسن والخفة، وسُرَّ بها سرور إنسان بشيء نفيس صارت ملكيته إليه، وكان في الحب ذا ثقة بنفسه لا حد لها، ثقة مرجعها السير من فوز إلى فوز، وبطانتها صبر طويل وإرادة لا تلين ولباقة في الطبع والصنعة، فربما صبر — دون أن يكف عن الإلحاح والسعي والمطاردة — يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر وعامًا — إن شئت — بعد عام حتى يظفر ببغيته. ومن أقواله المأثورة في الغزل: «لا يجوز لمن يتصدى للحب أن يعرقل «جهاده» بالحياء أو بالجزع أو بالخوف، انْسَ كرامتك إذا كنت في أثر امرأة، لا تغضب إذا عنَّفتك ولا تحزن إذا سبتك، فالتعنيف والسب من وقود الحب، وإذا ضربتك امرأة على خدك الأيسر فأَدِرْ لها خدك الأيمن، وأنت أنت السيد في النهاية!» وقد حمله الهوى يومًا على مغازلة فتاة شموس ذات صون وإباء فلما أن طال به المطال دون لين من جانبها أو ميل قال لها بهدوء: «أنا رذل سمج بارد لحوح، هيهات أن تقصيني نظرات التأديب أو كلمات التأنيب، كلا ولا الضرب ولا الشرطة، وسأرغمك على تكليمي اليوم أو غدًا أو بعد غد أو بعد عام أو بعد قرن، فاختصري الطريق ما دامت النهاية محتومة!» هكذا كان. وقد جلس متفكِّرًا يسائل نفسه: ترى أي نوع من الحسان هي؟ .. أجسورة مستهترة يشق على المغرم ترويضها؟ أم محنكة مجربة يستحيل اللعب بها؟ أم ساذجة حيية تجشَّم الصبر محبها؟ وما من شك في أن خان الخليلي يغدو محتملًا لطيفًا بفضل هذه الأنثى وشبيهاتها. ثم وضع راحتيه حول قذاله كمن ينوي الصلاة وتمتم قائلًا: «بسم الله الرحمن الرحيم، نويت الحب، والله المستعان!»

واعتزم الحب حقًّا، ولكنه لم يَدُرْ له بخلد أي طعنة وجهها — باعتزامه — إلى سعادة شقيقه الأكبر الذي يحبه ويجله.

١٨

وأسلم جسده للرقاد بعد ليلة شاقة — قضاها في القطار — فلم يطرق النوم فيها جفنيه إلا لمامًا، واستيقظ من نومه العميق عند منتصف الرابعة مساءً، فجلس في الفراش متثائبًا مفتحًا عينيه — لأول مرة منذ عام — على نور القاهرة الضاحك. تذكر أمر نقله من أسيوط فطاب نفسًا واستلذ الذكر، وكانت تغشى الحجرة سمرة قاتمة فنهض إلى النافذة وفتحها، وذكر لتوه الفتاة السمراء المليحة، فصعد بصره إلى نافذتها، ولكنه وجدها مغلقة، فغادر الحجرة إلى الخارج وكان أبوه نائمًا، وأمه تنظِّف السمك تهيئة لقليه، فوقف على عتبة المطبخ يحادثها قليلًا، ثم مضى إلى حجرة أخيه، وكان الكهل واقفًا وراء النافذة فلما شعر بمجيء أخيه تحول عنها بسرعة — ولم يدْرِ الآخر كم كلَّفه ذلك — وتلقَّاه بابتسامة حلوة، ثم جلسا معًا، أحمد على الشلتة ورشدي على الكرسي.

وتحادثا حديث أخوين متحابين جمع بينهما اللقاء بعد أن كانا شتيتَيْن. ذكر رشدي ما علم قديمًا من رغبة شقيقه في التأليف فسأله: ألم تشرع في التأليف يا أخي؟

فوخزه السؤال، ولكنه لم يَعْيَ بالجواب فقال: رأسي مترع بالمعارف، فأيها أختار وأيها أدع! والحقيقة أنني لو أردت التأليف ففي وسعي أن أملأ مكتبة كاملة! ولكن ما الداعي لمثل هذا الجهد؟ .. هل يستأهل هذا الشعب التأليف بمعناه الحق؟ .. هل يمكن أن يهضمه؟ إلا أنهم رعاع يقرءُون رعاعًا!

فقال رشدي وكان يؤمن بما يقول أخوه دائمًا: خسارة أن تضيع أفكارك القيمة!

فقال أحمد وكان يؤمن كذلك بما يقول، كأنه نسي ما يدور بينه وبين أحمد راشد من نقاش: أنا من السابقين لزمنهم، فلا يرجى لي أي تفاهم مع الناس، فلكل شيء في الدنيا عيوب حتى التعمق في العلم!

– ولكن هل ترضى يا أخي أن يضيع هذا الجهد العظيم بلا أثر ينتفع به الناس؟!

فسُرَّ الكهل بكلامه سرورًا عوضه عن ترك النافذة منذ حين، وقال: من يعلم يا رشدي؟ فعسى أن أعدل عن استهانتي يومًا ما!

ولبثا يتحدثان حتى انطلق آخر مدفع إفطار، ثم جمعتهم مائدة رمضان الأخيرة فقدمت صحاف السمك التقليدي وأكلوا مريئًا وشربوا هنيئًا. وبعد شرب القهوة مباشرةً ارتدى رشدي بدلته وغادر البيت لا يلوي على شيء، وقد أراد أن يصل إلى كازينو غمرة في الوقت المناسب، أو بمعنى آخر أن يبلغه قبل أن يتحلق أصحابه — وهم يجتمعون بالكازينو كل مساء للشراب ولعب الورق — المائدة الخضراء، وفي التعجيل حكمة لا تخفي على من كان مثله، فليس من شأنه أن يجد مكانًا حول المائدة فحسب، ولكن اللاعبين — كذلك — إذا انهمكوا في اللعب لم يحفلوا باستقبال قادم ولو كان قدومه بعد فراق عام كامل! وأجمل ما يجودون به تحية مقتضبة وعيونهم لا تفارق الورق، فإذا اضطروا إلى قطع اللعب لمجاملة قاسرة فويل للقادم من لعن ضمائرهم وسخط سرائرهم، وفضلًا عن هذا فالداخل على لاعبين — أثناء لعبهم — يعد يمنًا على الفائزين وشؤمًا على الخاسرين، فلن يخلو الحال قط من أن يجد فريقًا يرمقه شزرًا. وقد اكتسب بعض إخوانه — بسوء المصادفات — سمعة سيئة، منهم محامٍ شاب يقول عنه الصحاب إنه إذا وُجد بمقربة من لاعبين خسروا جميعًا ولم يربح أحد! والمقامرون شديدو الحساسية، كثيرو الوساوس، يؤمنون بالطِّيرة ويعبدون الحظ، وقد استقل ترام الأزهر والذكرى ترجع به إلى زمان تلقينه مبادئ المقامرة، كان ذلك وهو في أولى سِني دراسته بكلية التجارة، فدُعي إلى اللعب على أنه تسلية بريئة للفراغ، ثم رأى أن يراهنوا على ملاليم، لا لمطمع في ربح؛ لأن المليم عملة تافهة، ولكن لتأريث الحماس وبعث الاهتمام، وسرعان ما صعدت الأرقام حتى أتت على ما في جيوبهم جميعًا، واستبدت بهم شهوة اللعب استبدادًا نسَّاهم الوقت والواجب والمستقبل، فالقمار تسلية مخيفة ولذة أليمة وشهوة مجنونة، هو معابثة الغيب، ومراودة الحظ، وطرق باب المجهول، ودغدغة غرائز الخوف والهجوم والتطلع والمجازفة والطمع، ثم إنه بعد ذلك صدًى لذاك الشعور — شعور كفاحنا اليومي — المستمد مما نبذله من قوة وتقدير في معالجة الحياة، وما نخاطب به الأقدار المسيطرة علينا، وما نرجوه من الحظ والظروف الملابسة لنا، وما يتعاقبنا من الظفر والخسران، ولَكَمْ تمنى في أحايين كثيرة لو لم يفارق المائدة طوال عمره! ومن عجب أنه ما من مرة فصل عن المائدة — في ختام ليلة متعبة مرهقة — إلا وتمنى لو يتوب الله عليه، فإذا أزف الميعاد في اليوم الثاني هرع إلى الكازينو لا يلوي على شيء، وهكذا تمكن الداء العضال منهم جميعًا وانقلب القاتلون للوقت ضحايا! وصار واحدًا من المقامرين في عبادة الحظ والخضوع للطيرة، فربما قال لنفسه وهو يهم بفتح النافذة في الصباح: «إذا لقيت عددًا زوجيًّا من السابلة فالحظ معي أما إذا كان فرديًّا فاليوم خسارة!» أو ربما حادث نفسه وهو ماضٍ إلى مائدة الإفطار: «إذا وجدت فولًا بسمن فاليوم رابح أو فولًا بزيت فاليوم خاسر!» وانقطع تيار الذكريات عندما غادر الترام، ثم استقل الترام رقم١٠، فجرى به في الطرق المؤدية إلى حيه القديم، فاستثار حنانه، ولما شارف السكاكيني شعر بألم نبيل ووجْد شريف يقرضان في شغاف قلبه، وغادر الترام واتجه إلى الكازينو، وفي المكان المعهود من الحديقة رأى الأصدقاء — أو رأى أشباحهم لأن الظلام كان تامًّا — فأدرك أنه وصل في الوقت المناسب — قبل أن يذهبوا إلى بهو اللعب — وأخذ يقترب منهم مبتسمًا حتى صار في وسطهم، فعرفوه وصاحوا معًا: رشدي عاكف! أهلًا بقلب الأسد!

وسُرَّ بسماع لقبه العزيز — وقد عُرف به بين اللاعبين لكثرة مجازفاته — وتعانقوا عناقًا حارًّا، وكانوا جميعًا — مثله — في منتصف العقد الثالث، منهم من زامله في المدرسة أو من نشأ معه في السكاكيني، وكانوا جميعًا في المجون والإباحية والاستهتار والعربدة شخصًا واحدًا. قال أحدهم: أهكذا لا نراك إلا مع العيد وقد كنا لا نفترق ليل نهار!

فقال رشدي ضاحكًا وهو يتخذ مجلسه: ستراني منذ الليلة كل يوم، أو منذ اليوم كل ليلة على الأصح!

فسأله آخر: وكيف كان ذلك؟

– صدر أمر بنقلي إلى القاهرة!

– ولن ترجع إلى أسيوط؟

– لا.

– الله لا يرجعك!

وسأله ثالث: وكيف سلوت عن المائدة عامًا طويلًا؟! .. لَكَمْ أوحشتنا نقودك!

– لأسيوط موائدها، أما عن الأخرى فالشوق متبادل!

ودار الحديث عن أسيوط، حتى سألهم بلهفة: كيف تسهرون هذه الليلة؟

– كالليالي التي سبقتها، سننتقل عما قريب إلى البهو الداخلي.

– هذا جميل، ولكن ماذا تقولون في كأسَيْ كونياك أو ثلاثة؟

– أو أربعة أو خمسة؟

– أو ستة أو سبعة؟

ولكن واحدًا منهم قال مقترحًا: العيد غدًا فلنؤجل السكر إلى غد!

– لا نؤجل عمل اليوم إلى غد!

وسأله سائل: وكيف الفسق في أسيوط؟

فقال رشدي: أما عن هذا فلا، هناك عفة بالإكراه!

– الحال هنا بات قريبًا من الريف، فجنود الحلفاء يلتهمون اللحوم والفاكهة والنساء!

وقال آخر: واليهوديات عرفن أخيرًا مزايا اللغة الإنجليزية!

– تراهن يرفلن في الحرير فإذا اعترضت سبيل إحداهن رمتك بنظرة شزراء وقالت لك بلهجة أسكتلندية صميمة:

Behave like a gentleman, please.

– الخادمات يا سيد رشدي، سقيًا لعهودهن، هجرن المطابخ إلى الكباريهات!

– كانت الحرب فرصة طيبة لاكتشاف مواهبهن الفنية!

قال رشدي — كالمتحير — مبتسمًا: والعمل؟! … هل نشرع في الزواج؟!

– إذا طالت الحرب، وازدادت الحال سوءًا على سوء، فلن يبقى أعزب غير أنا وأنت!

– يا إخواني لقد ظلمتم بعض اليهوديات وبعض الخوادم، والحقيقة أنهن هالهن ما رأين من عدم اشتراك الأمة في الحرب فساهمن في قضية الحلفاء بأعراضهن!

– وبذلك صارت المرأة أغلى من السماد!

– بل أعز من الفحم!

– وغدًا إذا وضعت الحرب أوزارها، فماذا يفعلن؟!

– تصير المرأة أرخص من اليابانية!

– ويصير العشق بالجملة، فيصيد الشاب في ليلة واحدة ثلاث نساء — مثلًا — واحدة للقبل وأخرى للنجوى وثالثة للمداعبة … إلخ.

– إلا إذا تدخلت الحكومة في سوقهن للمحافظة على الأسعار!

وضحك رشدي ضحك إنسان حُرم شهود هذا المجلس عامًا بغير نقصان، ولبثوا يشربون ويتسامرون حتى وافت التاسعة، فنهضوا إلى بهو اللعب المحبوب، وفي تلك الليلة ربح رشدي مبلغًا كبيرًا — أو هكذا يُعَدُّ بينهم — فبلغ ربحه قبيل منتصف الثانية عشرة، ثلاثة جنيهات، وأضاف إليها ثلاثين قرشًا حين شارفت الثانية عشرة — وهو موعد انتهاء السهرة — ثم انفضوا من حول المائدة، وبدا أثناء اللعب فرحًا مسرورًا، لأنه ممن تقرأ سرائرهم على صفحات وجوههم، وجعل يترنَّم بصوت حنون كالمناجاة، ولم يمسك عن الترنم حتى حين صاح به أحد الخاسرين: «اصمت يا أخي فصوتك يهيج أعصابي!» وعلى أثر انطلاقهم في الطريق اقترح أحدهم قائلًا: ما رأيكم في أن نكمل اللعب في بيتنا؟

فقالوا في صوت واحد: وهو كذلك!

فسأل المقترح رشدي قائلًا: وأنت؟

فقال الشاب ضاحكًا: أوافق تحت شرط أن تطلقوا لي حرية الغناء!

ومضوا إلى بيت الداعي في شارع أبو خوذة، وهيئوا المائدة، واستأنفوا اللعب بنهم لا يعرف الشبع، ودفئت الحجرة المغلقة النوافذ بأنفاسهم، والتهب الكحول بأفئدتهم، فتصببوا عرقًا، وعندما دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل قال بعضهم: حسبكم لعبًا وإلا قضينا نهار العيد الأول نائمين!

فكفوا عن اللعب، وقد خسر رشدي ربحه جميعًا وثلاثين قرشًا أخرى!

وقال له أحدهم متهكمًا: كيف لم تتمتَّع بما منحناك من حرية الغناء؟!

وضحكوا جميعًا، فدارى بكياسته غضبه وجاراهم في ضحكهم، وودَّعهم عند ذاك ومضى إلى العباسية، وقد انقطعت المواصلات جميعًا، مدلجًا من طريق الحسينية، ووجد الطريق خاليًا والسكون مطبقًا والظلام جاثمًا، وكان جسده ساخنًا مبتلًا بالعرق وحلقه يابسًا، فاصطدم برطوبة كثيفة يزفرها الخريف بغزارة — خاصة — في الهزيع الأخير من الليل، وما عتم أن سرت في أطرافه قشعريرة باردة، ولسعت البرودة صدره، وزكم منخره، وكانت ليلة السرار وقد احلولك غبشها، وضاعف من غلظه انتشار سحاب دثر النجوم الساهرة، فلاحت المنازل القديمة على جانبي الطريق كأشباح جالسة القرفصاء ذاهبة في سبات عميق، وجعل يحدث نفسه: أما كان الأجدر أن يعتذر عن عدم المضي معهم إلى البيت؟ ولكن هيهات أن يُلهَم الحكمة يومًا ما! بيد أن أسفه كان ضعيفًا كإرادته سواء بسواء، فالمقامر المدمن يلقى الخسارة عادةً بهدوء ولن يعدو الأمر في نظره التسليم في يومه وعقد الرجاء بغده، وتنبَّه إلى طول الطريق وقذارته فتأوَّه مغيظًا محنقًا، ولما بلغ مدخل خان الخليلي ذكر وصف شقيقه للطريق «ثاني ممر على اليمين وثالث باب على اليسار» وتلمَّس سبيله في الظلمة حتى انتهى إلى العمارة، ومضى إلى حجرته بأقدام خفيفة وأضاء المصباح، وما إن وقعت عيناه على النافذة المغلقة حتى تذكَّر النافذة التي تشرف عليها من علٍ، وجاد ثغره بأول ابتسامة صادقة منذ منتصف الليل، وطاف بمخيلته الوجه الأسمر المليح، فتأسَّى عن هموم الليلة جميعًا، وتمتم قائلًا: «إذا كان سوء الحظ مؤلمًا فحسنه غير منكور.» وغيَّر ملابسه، ودلف من مكتبه فاستخرج من أحد أدراجه كشكول مذكراته، وجلس ليدوِّن خاطرة، قبل النوم …

١٩

وكان الأب أول المستيقظين، فتوضَّأ، ثم غادر البيت حين الفجر ميمِّمًا المسجد لصلاة العيد، فاستقبل أول نسمة من نسمات اليوم الجديد، ورأى الفجر الجميل يضج بجموع القاصدين، يخوضون أمواجه البنفسجية الحالمة مسبحين بحمد الله العلي.

وكان أحمد ثاني المستيقظين، فنهض نشيطًا حبورًا، وحلق ذقنه بعناية، وارتدى جلبابًا جديدًا وطاقية جديدة، ثم وافته أمه إلى حجرته وقد مشَّطت شعرها وأخذت زينتها، فقبَّل يدها، وقبَّل خدها، وقبَّلت خديه، ودعت المرأة للأسرة بالعمر المديد والسعادة والرفاهية، ومضيا معًا إلى الصالة وجلسا جنبًا إلى جنب يتحدثان وينتظران بقية الأسرة، من انطلق يبتغي مرضاة الله، ومن يغط في نومه غطيطًا، وعاد الأب بعد مشرق الشمس بقليل، فدخل عليهما يرفل في عباءته الفضفاضة، وما يزال يبسمل ويحوقل، فمثلا بين يديه، ولثمت الزوجة يده، وفعل أحمد مثلها، فهنأهما الرجل بالعيد، وجلسوا جميعًا وهو يقول: كل عام وأنتم بخير، ربنا يجعله عيدًا سعيدًا لنا وللمسلمين كافة.

ورمى ببصره الذابل إلى آخر حجرة في الشقة وقال كالمتهكم: هل استيقظ الغلام أو أنه لم ينم بعد؟!

فبادرت المرأة للدفاع — كعادتها — قائلة: تأخر الغلام أمس لأنه لقي إخوانه بعد فراق عام، ولأنه عاد بطبيعة الحال ماشيًا على قدميه.

على أنه لم يطل بهم الانتظار، فانفتح باب الحجرة الأخيرة ومرق منه الشاب إلى الحمَّام الذي يقابله، وأقبل نحوهم — قبل مضي ربع ساعة — يخطر في بيجامته وقد سرَّح شعره الأسود، وتعطر بشذا البنفسج، وبدا وجهه مائلًا للشحوب إلا أنه يقطر منه حسن الشباب ورواؤه، وتألق ثغره بابتسامة حلوة لا يضيء بمثلها في الأسرة إلا ثغر والدته الطروب، وتجاهل الشاب ما ينطوي عليه والده من الانتقاد فاقترب منه، وانحنى على يده، وقبَّلها باحترام، وانثنى إلى والدته فقبَّل يدها وخدها، ثم لثم جبين شقيقه، وبسطت الأم راحتها وقالت ضاحكة: عيديتي يا سادة وكل عام وأنتم بخير!

وقد تعوَّد كل منهم أن يعطيها نصف جنيه عيدية، فكانت تفرح بعيديتها فرح الأطفال، بل تنفقها كما ينفقها الأطفال، فتبتاع ما تشتهيه نفسها من الشيكولاتة والملبس.

ثم أحضرت فطار العيد — كعكًا وحليبًا — فأقبلوا عليه في غبطة. والصائم يشعر عادة بغرابة وإنكار وحذر وهو يتناول أول لقمة صباح العيد، ثم يصيب من طعامه جذلًا مسرورًا، فليس أجمل وقعًا في النفس من لحظة سعيدة تفصل بين واجب قامت بحقه وتصبَّرت على أدائه وبين تمتعها بلذة الجزاء وراحة الضمير. وتناولوا الكعك بأناملهم، وقضموه بلذة حتى رسم دوائر من السكر حول أفواههم، ثم أساغوه بالحليب، وما زالوا حتى شبعوا، وقالت الأم بلهجة أسيفة، تكلَّفتها لتستوهبهم الثناء والإطراء: يا حسرتاه على أيام السلم حين السمن سمن والدقيق دقيق والكعك كعك!

وأدرك رشدي ما ترمي إليه والدته فقال بلباقته المعهودة: كعكنا لذيذ فلا يدع لنا حاجة للتحسر على سواه!

وتفرَّقوا في الحجرات، وعاد أحمد عاكف إلى حجرته، وكان قلب الكهل يخفق بروح الشباب النشوان، بل كان كذلك منذ كاشفته بتحية الوداد ليلة القدر فلم تغب عن مخيلته قط صورة شبحها الرقيق وهي تجود بإيماءة السلام، ولا خمدت بعد ذلك العواطف التي بعثتها تلك الإيماءة الساحرة فرح الكهل، واستخفَّه الطرب، وهيَّأ له مرحه وطربه أنه سيسترد شبابه الريان فيخضر غصنه الباهت ويجري فيه ماء الحياة الدافق، ويسود فؤاده، وتغشى صلعته لِمَّة فينانة، وتغزر أهداب عينيه فتكحل أشفارهما المشربة بالاحمرار بيد أنه لم تقع عليها عيناه منذ تلك اللحظة السعيدة، وتغيبت عن موعدها المألوف المحبوب، فلم يشك في أنه الخجل الذي يتشجع بالظلمة ويفر من ضوء النهار، فدرَّت أضلعه حنانًا وعطفًا — ومن أدرى به منه بأهوال الخجل — وسُرَّ سرورًا كبيرًا إذ وجد أخيرًا من يستتر عنه — هو — حياءً! ولكن هذا صباح العيد وقلبه يحدثه بأنها لن تبخل عليه بنظرة تسر الروح وتحيي الأمل، وها هو يرفع رأسه فيرى الشرفة مفتوحة على مصراعيها والشمس تغمرها فيشي لألاؤها بالوجه الذي أطل منها، ولبث ينتظر مُجيلًا بصره في الحي الفرحان بالعيد، وقد بثت روح العيد في كل شيء فتراها في الألوان وتسمعها في الجو وتشمها مع الهواء، وغدا ذاك التيه — الذي تحده العمارات — يرقص فرحًا ويغنِّي طربًا ويبعث بحرارة اللذات، جري الأطفال هنا وهناك بثيابهم المزركشة ذوات الألوان الفاقعة، وتطايرت وراءها الضفائر والشرائط، وهتفت الزمارات، وفرقعت قنابل السلام، ولاكت الأفواه الحلوى والنعناع، وملأت الأناشيد والأغاني الأسماع، واكتظت المقاهي بأهل المدن والريف، فازدهت الأرض عيدًا والسماء، وتصفَّحت عيناه المناظر والوجود بعقل غائب، حتى جوزي على صبره أجمل الجزاء فرأى فتاته تبرز من باب الشرفة في أبهى حلل، فصعَّد إلى وجهها الأسمر الجميل ناظريه، وتشجع على غير مألوفه فلم يطرق، وابتسم وفؤاده يغلي من شدة الخفقان، وأحنى رأسه انحناءة خفيفة، وكانت ترنو إليه بعينيها النجلاوين، فابتسمت ابتسامة حلوة ردًّا على تحيته، ولم تحول عينيها عن عينيه فتولَّاه الاضطراب والحياء وأوشك أن يفقد شجاعته، ولكنها ابتسمت إليه مرة أخرى وتراجعت في خفة حتى اختفت عن ناظريه، فتنهد بارتياح وسرور، ومنَّاه الأمل أن يراها مرة أخرى فيفوز بابتسامة ثالثة ولكن خادمًا جاء متعجِّلًا وأغلق باب الشرفة، فشعر بخيبة وأسف، ثم ابتعد عن النافذة، وكانت الساعة تقترب من التاسعة فذكر أنه على موعد مع الصحاب في الزهرة — صار أخيرًا من أصحاب المواعيد في القهوات — فارتدى ملابسه الجديدة — البدلة والطربوش والحذاء والقميص — ونظر إلى صورته في المرآة فأعجبته جدَّته وأناقته، وذكر أيام شبابه الغابر — قبل أن يعبس له الزمان — حين عُرف دهرًا بالأناقة! وغادر البيت جذلًا طروبًا، فسار متمهلًا ثملًا بخمر الأمل والأحلام، يسائل نفسه في حيرة الفرحان: «وماذا بعد الابتسام؟ … ماذا بعد يا دهر؟!»

٢٠

ورجع رشدي إلى حجرته، فأشعل سيجارة وراح يدخِّنها وراء النافذة مصوِّبًا بصره نحو النافذة المرموقة، متوقِّعًا بين آن وآخر أن يلمح جارته الحسناء، وصدقه الأمل فلاحت الفتاة في النافذة بفستانها الجديد وعلى كتفَيها معطف رمادي، إلا أنها تراجعت في غير إبطاء كأنما تفر من نظرته الثاقبة. ولمح الشاب المعطف فخطر له أنها متهيئة للخروج، فدلف إلى المشجب بغير تردد وأخذ في ارتداء ملابسه، وغادر البيت بعد دقائق معدودات وساءل نفسه أين يحسن أن ينتظر؟ … وذكر لتوه الممر الضيق الموصل بالسكة الجديدة، وسار نحوه مسرعًا، ثم توقف، عند موضع اتصاله بالطريق، على الطوار، وكان الشارع يضطرب بتيارات السابلة وقد انحدرت من الدراسة العربات الكارو غاصة بالغلمان والبنات يغنون ويرقصون ويطبلون، فلبث في مكانه عينًا على الشارع المائج تنظر في ابتسام وعينًا على الممر تترقب في رجاء، وكان خبيرًا بأمثال ذاك الموقف فلم يساوره الجزع، بيد أن الحال لم يقتضه صبرًا طويلًا فما عتم أن رأى فتاته تبدو في أول الممر يسير لصقها غلام عظيم الشبه بها، فتشاغل عن النظر إليها بإشعال سيجارة وهو لا يشك في أنها تراه، ولكن هل أدركت يا تُرى أنه ينتظرها؟ ثم تبعها عن بُعد قريب في طريقها إلى الأزهر، فرآها جميلة لأول مرة، وبدت في السادسة عشرة على أكبر تقدير، متوسطة القوام رشيقة اللفتات، بيد أن وجهها أجمل ما فيها حقًّا، وأجمل ما في وجهها عيناها النجلاوان، ولم يستطع أن ينعم فيها النظر لأنها بلغت المحطة مسرعة وصعدت إلى حجرة السيدات ومعها أخوها — على الأرجح — فاستقل الترام وراء الحجرة مباشرة ليتمكن من رصد نزولها، وتحرك الترام وهو لا يدري أين تنتهي به المطاردة! وجعل يحدث نفسه: شابة صغيرة، وجهها ٧٫٥ على ١٠ وجسمها ٦٫٥ على ١٠، سنعلم بعد حين أيسيرة هي أم عسيرة، وهل تلهو بالحب أم تحلم بخاتم الخطوبة؟ سنعلم كل شيء في حينه، ولكنها إذا كانت من الحالمات بالخاتم فسيغدو الأمر شاقًّا وربما مضجرًا أيضًا، على أنه ينبغي أن نركز اهتمامنا في شيء واحد قبل أي شيء، وهو أن نستدرجها إلى الكلام وَلْنَرَ ما يكون! ووصل الترام إلى ميدان الملكة فريدة فغادروه جميعًا — هي وأخوها أولًا ثم هو — ولاحت منها التفاتة على الطوار فرأته على بُعد أذرع منها يديم إليها نظراته الجسورة الثاقبة، فحوَّلت عنه وجهها، وتظاهرت بالانهماك في محادثة الغلام، ولم يخالجه شك هذه المرة في أنها أدركت أنه يتابعها عن عمد، ثم رآهما يستقلَّان أول ترام قادم — وكان ترام الجيزة — فصعد إليه بغير تردد متسائلًا: «ترى هل يقصدان إلى قريب في الجيزة ليعيِّدا عليه؟!» وقرر في تلك اللحظة أن يهبها اليوم جميعًا عن طيب خاطر ولكنهما غادرا المركبة عند محطة عماد الدين، فغادرها مسرورًا وقد أيقن أنهما ذاهبان إلى سينما، وعبروا الطريق إلى شارع عماد الدين، الاثنان أولًا وهو في أثرهما متحفِّزًا لما يشبه الابتسام، أو لتضمين نظرته ما يريد من المعاني إذا هي التفتت وراءها، ولكنها مضت لا تلوي على شيء ممسكة بيد الغلام الذي هرول ليسير في حذائها، وجعل لا يحول عينيه عن ظهرها وساقيها، ويتبين حال مشيتها ومواقع قدميها، فوجد من السرور برؤيتها من وراء مثلما وجد لرؤيتها من أمام، وأعطى صورتها الخلفية جملة ٨ على ١٠، وتنهَّد عند ذاك متذكرًا وجوهًا أبى الحسن أن تُنسى وقال لنفسه: «حقًّا فشا الحسن في مصر هذا الزمان الحديث.» ولما بلغوا ريتز التفتت وراءها فرأت عينيه محدَّقتين بها فاستردت عينيها بسرعة — وفوجئ فلم يسعه أن يضمِّن نظرته شيئًا — وحثت خطاها في اتجاه استوديو مصر، وأسف على ما فاته من حديث العيون ولكنه سُرَّ بالسينما التي اختارتها فتاته — لأنها كانت تعرض فيلم دنانير — وأدرك أن هذه المطاردة أتاحت له لذَّتين عزيزتين، وأراد أن يجلس جنبها في الصالة فعمل على أن يقف وراءها مباشرةً في الصف الممتد أمام شباك التذاكر ليتمكن من اختيار مقعد لصق مقعدها، بينا تنحى الغلام جانبًا ينتظر متفرجًا على الصور، وصار منها على قيد خطوة، فخال أنفاسه تمس ضفيرتها، فاستثار قربها من صدره إحساسًا شبيهًا بما تستثيره رائحة زكية عميقة، وتتبَّع أنملتها وهي تختار مقعدين لها ولشقيقها على رسم الصالة، فرأى إلى يمين الكرسيين مقعدًا شاغرًا وإلى يسارهما ثلاثة، وتساءل تُرى إلى أية ناحية تجلس الفتاة؟ .. وأجرى في سره على الناحيتين القرعة المعروفة: «حطَّة يا بطَّة يا ذقن القطة عمي حسن … إلخ». فرست «حداه» على المقعد الأيمن فاختاره فيما يشبه الاطمئنان، وتحول عن الشباك وأجال بصره فيما حوله فلم يجد للفتاة ولا لشقيقها أثرًا، بيد أنه لم ينزعج فالتذكرة في يده، وهي خليقة بأن توصله إليها مهما ضل عنها، ولا يدري كيف ذكَّره هذا — قوة التذكرة — بعقد الزواج وقداسته وسحره فاهتز صدره الرقيق، ودخل السينما منفعلًا، ومضى به الدليل إلى مقعده وهو يرجو أن تكون «حداه» قد صدقته الهداية، ولكنه رأى الغلام يجلس بينه وبين أخته؟ ورأته الفتاة قادمًا فطرفت عيناها ارتباكًا وتجنبت أن تحولهما إلى جهته! وجلس الشاب في ثقة وسرور، واسترق إليها النظر مرة ومرة، فوجدها في المرتين شاخصة إلى ما أمامها، واستشف من تورد خدها وارتباك هيئتها ما يخامرها من حياء واضطراب، فأشفق عليها، ورأى عن حكمة ألَّا يشق عليها، فجعل يتسلَّى بإجالة بصره بين البناوير والألواح والمقاعد مزجيًا تحيات المودة إلى الصدور والنحور والثغور والمعاصم، ولم يَطُلْ به المطال فدق الجرس ثم أطفئت الأنوار، وانحسرت الشاشة عن دنيا الأحلام، وطاب له المجلس في الظلمة على كثب من الفتاة التي أضمر لها غزلًا — وإن لم يخفق لها فؤاده بعاطفة بعد — حتى غرَّد الصوت الإلهي بأغنية النبع «طاب النسيم العليل» فغفل عن الوجود، وكان يحب الغناء حبًّا خُيِّل إليه يومًا أنه خُلق ليكون موسيقيًّا، فتسلسل الفيلم وهو هائم في نغمة روحية عالية، وانتهى العرض وأضيئت الأنوار ونهض النظَّارة، والتفت رشدي نحو الفتاة فرآها واقفة مغمضة العينين تفاديًا لتأثير النور الباهر بعد طول الاستسلام للظلمة، فانتظر حتى فتحتهما على نظرته العارمة! وعُنِي خارج السينما بملاحظة أصابع يديها، فعلم أنها ليست مخطوبة، وابتسم لذلك ابتسامة ارتياح، ثم تعقبها في العودة بنفس العناد الذي تعقبها به في الذهاب، إلا أنه تثاقل عن متابعتها في الأزهر كيلا يشي بسره لأحد من أهل حيه الجديد. وعاد إلى البيت فوجد الأسرة في انتظاره للغداء، وما عتمت أن دعتهم أمه قائلة بلهجتها المرحلة: هلموا إلى طاجن العيد!

٢١

وعادت نوال إلى البيت وقد بلغ منها التأثر، راحت تسائل نفسها: ما لهذا الفتى الجسور لا يكف عن مطاردتها منذ وقعت عليها عيناه غداة الوقفة؟

جاوزت نوال في ذاك الوقت السادسة عشرة بقليل، وكانت ذات حسن يستحق الإعجاب، وتحلَّى حسنها بميزتين لا يستهان بهما: السذاجة والخفة ولكن أية سذاجة، وأية خفة؟ السذاجة التي توحي بها بساطة الجمال، والتي تطالعها في الحدقة الصافية الواسعة — في غير مبالغة — والنظرة المستقيمة، بيد أنها ليست سذاجة الغفلة أو البلاهة، وخفة تنبثق من أنافة الملامح ولطف الروح، فلا هي إلى الطيش والرعونة تنتسب، ولا من حدة الذكاء وبراعته تستمد. وهي سمراء، وكثيرًا ما تقول أمها إن السمرة روح الجمال ومصدر الخفة، ولكنها كانت في الحقيقة من عشاق اللون الأبيض، ولذلك أخذت تعالج نحافة ابنتها بعقاقير السمن لاعتقادها بأن السمن يكسب البشرة إشراقًا، وقد تقدمت الفتاة في دراستها الثانوية تقدُّمًا يبشر بالنجاح، ولكنها انضمت في الواقع إلى قافلة العلم، وليس العلم ما تنشد، ولا المدرسة بالمأوى الذي يهفو إليه فؤادها، فأحلامها لا تفارق البيت، ولن تزال تُعِدُّ أمها أستاذتها الأولى تتلقى عنها فنون الحياة المنزلية من طهي وحياكة وتطريز، وما رأت في العلم يومًا إلَّا زينة تحلي بها أنوثتها وحلية تُغلي من مهرها، فتركَّزت حياتها في هدف واحد: القلب أو البيت أو الزواج، أليس أول دعاء دعيت به «العروس»! .. وإنه لأجمل دعاء، وإنها لتتلهف على أن تكونه، وترقب حظها في صبر ورجاء، ولذلك قدست الزواج قبل أهليتها له بدهر طويل، وأحبت «الرجل» وهو أمل مجهول وعاطفة غامضة، فكانت ثمرة ناضجة دانية القطوف ترصد من يجنيها. وكان الأستاذ أحمد راشد المحامي أول رجل — من غير محارمها — يتصل بها عن كثب لإعطائها الدروس، وتلقته منذ أول مقابلة باستحياء، ورمقته بعين ملؤها التطلع والرجاء، فلم يتمثَّل لعينيها «أستاذًا» بقدر ما تمثل لهما رجلًا! ولان قلبها وأوشكت الحياة أن تنبض به، بيد أن الشاب المحامي كان صارمًا رزينًا أكثر مما ينبغي، وعجزت كل العجز عن أن تقرأ عواطفه الحقيقية وراء عويناته السوداء، ولما تعقب تهاونها بالتأنيب بدا لعينيها مكفهرًّا مخيفًا فجفلت منه وخاب رجاؤها فيه، وكثيرًا ما كان يحدثها بكلام لا تفقه له معنًى ولا تجد له طعمًا مثل قوله لها مرة: «يخيَّل إليَّ أنك لا تحبين العلم كما يجب وإن لم ينقصك الاجتهاد أو حسن الفهم، فأحبِّيه كما تحبين الحياة، فهو منها بمثابة العقل من شخص الإنسان، وينبغي أن يتغذى به عقلك ويتمثله، كما يتغذى جسمك بالطعام ويتمثله، أين الشوق إلى أسرار الوجود؟ .. أين اللهفة على المعرفة؟ .. لا يجوز أن يتخلف قلب المرأة عن قلب الرجل في طريق العرفان والمجهول ..» وفي مرة أخرى سألها: «علامَ نويت بعد البكالوريا؟ أما عرفت بعد العلم الذي ترغبين في دراسته في الجامعة؟» وهالتها كلمة «الجامعة»، أيمتد بها عهد الدراسة حتى الجامعة؟! وأجابته باقتضاب: «لا أدري». فقال لها الشاب ممتعضًا: «أما زلت عند موقفك السلبي من العلم؟!» ولم تفطن إلى أنه يريد أن يصوغها على المثال الذي يحب فحسبت أنه يحتقرها ويزدريها فاشتدت منه جفولًا.

ثم جاء أحمد عاكف الجديد. وقالت الأنباء إنه أعزب، وشعرت بمزيد الغبطة والسرور أن عينيه تسترقان إليها النظر فتحرك قلبها نحوه كما تتحرك الراحتان نحو مجمرة في ليلة شديدة البرد والزمهرير، وقالت لنفسها: إنه رجل جاوز حدود الشباب، ولكنه ما يزال في عنفوان الكهولة، ولا بد أن يكون موظفًا محترمًا لأنه غالبًا ما يصير الموظف — في مثل عمره — محترمًا، وأيما كان فلن يسعها أن تغضي عن نظراته الحيية التي يرسلها إليها في أدب وتردد، ولا أن تجد لذلك من معنى غير الوداد، وإلا ففيمَ يثابر على الانتظار والنظر أصيلًا بعد أصيل؟! على أنها تساءلت في حيرة: لماذا لا يخطو خطوة جديدة؟ لماذا يقنع بالوقوف عند مخالسة النظر؟ هلا ابتسم إليها؟ .. هلا أومأ بتحية؟! تُرى هل يعقل الحياء الرجال كما يعقل النساء؟! .. وإذا كان هذا شأنه فلماذا لا يخاطب أباها في الأمر؟ أو لماذا لا يكلف أمه بمهمة خطبتها؟! وكانت نوال حيية وفي حاجة إلى من يطاردها، فأوقعها حظها على كهل في أشد الحاجة إلى مَن تطارده! إلا أن شجاعتها لم تَخُنْها — خاصة بعد أن يئست من شجاعته — فبدأته بالتحية من شرفتها وتلقت رده الجميل، وحدثها قلبها بأن الأمل المرموق قد بات قريب المنال.

ولدى الضحى من نهار الوقفة طالعها وجه جديد من نفس الشقة، بل من الحجرة التي تواجه حجرة نومها، وأدركت من النظرة الأولى أن الشاب الجديد أخو صاحبها الكهل، ولكن أين كان قبل اليوم؟ .. وما باله يرميها بتلك النظرة القوية الجسورة التي دعت الدم من جميع أطرافها إلى خدَّيها وحملتها على الفرار؟! يا له من شاب نضير جم المحاسن جذاب المنظر؟ ويا لها من نظرة ثاقبة ترعش القلب، ولكن يا ترى أهذا شأنه مع كل حسناء؟ .. أم جذبه إلى وجهها شيء لا عهد له به؟ .. وهل يقيم في هذه الحجرة فيراها صباح مساء أم يختفي فجأة كما ظهر فجأة؟ وقال لها قلبها إن مثل هذا الشاب خير من ذاك الكهل بغير جدال، ولكن الكهل لم يعد غريبًا، فبينها وبينه تحية متبادلة، وهو المفضَّل إذا طلب يدها، وما ينبغي أن تنسى أن بينهما عهدًا صامتًا لا يلبث أن يصير — إن شاء الله — زمرًا وطبلًا وثريات لألاءة ورملًا فاقعًا يسر الناظرين، وفي صباح العيد ارتدت ملابسها الجديدة، ودعاها قلبها إلى الظهور بالشرفة ليراها الكهل في أبهى حلل وأجمل منظر، ووجدته في النافذة في أحسن صورة ممكنة، فذكَّرها جلبابه وطاقيَّته بأبيها، وتبادلا التحية، ثم عادت إلى حجرتها. ونازعتها مشاعرها إلى إلقاء نظرة على النافذة الأخرى، فوجدت الشاب الجميل وكأنه ينتظرها، فتراجعت أمام نظراته العارمة، وحسبت أنه لن يتخطى بجسارته نافذته، فما راعها إلا أن تجده بانتظارها في السكة الجديدة! وتساءلت في الترام تُرى هل تبعها أم أنه وهم ما رأت؟ .. ولكنها علمت بعد حين أنه يتعقبها عامدًا، وأنه ممن لا ينثنون عن غاية، ومن عجب أنه نسي وجودها في السينما بترنيم أم كلثوم، أما هي فلبثت تشعر بوجوده على كثب منها طوال الوقت! وعادت إلى البيت ثملة بسرور لا عهد لقلبها بمثله وقالت لنفسها ضاحكة: «لو أن جميع الشبان في مثل عناده ما بقيت فتاة واحدة بغير زواج!» ووجدت قلبها يؤنبها على تسرعها ببذل التحية للآخر، ولكن هل كانت تعلم الغيب؟ وقلق ضميرها فلم تجد لطاجن العيد ولا لسمكه طعمًا!

•••

وغادرت الشقة عصرًا بقصد زيارة حرم سيد أفندي عارف، وخطر لها أن تصعد إلى السطح — قبل القيام بالزيارة — لتجول جولة فيه مسرِّحة الطرف بين المآذن والقباب، وقد صار السطح نزهتها بعد أن تعذر عليها مشاركة البنات لعبهن في الطرقات، ودارت مع السور على مهل متصفحة المناظر مقلبة وجهها في الآفاق، وشعرت فجأة بداعٍ يدعوها إلى النظر نحو مدخل السطح، فما راعها إلا أن تراه هناك يملأ طوله فراغ الباب وينظر نحوها في هدوء وفي عينيه الجميلتين شبه ابتسام! واضطرب قلبها لمرآه اضطرابة عنيفة زلزلت صدرها الصغير، وشعرت بخوف وقلق، ثم استعادت رباطة جأشها بسرعة موقنة بأن الموقف أحرج من أن تلقاه بالحياء فحسب، وتعلقت عيناها وهما تنظران إليه بالإنكار والذهول.

٢٢

ثم حوَّلت عنه عينيها، وولَّته ظهرها، وألقت ببصرها إلى الأفق البعيد دون أن ترى شيئًا، وقال لها عقلها إنه ينبغي أن تزايل المكان إذا أرادت، ولكنها لم تحرك ساكنًا، وأهاب بها شعور باطني بأن تتجاهل وجوده، وبألَّا تعجل بذهابها، فلبثت حيث هي لا تريم، وتولَّاها إحساس بالحياء والقلق، وتنهَّد رشدي ارتياحًا لما رآه من تفضيلها البقاء على الرحيل، وقال لنفسه جذلًا: «أصابت سن الشص مرماها، ولكن ينبغي معالجة البلطية بحكمة ومهارة!» وكان علم بصعودها إلى السطح اتفاقًا، إذ كان ينظر إلى نافذة حجرتها المغلقة بأسف فلاحت منه التفاتة على سور السطح، فصادف ذلك مرورها به وكان انتهى من ارتداء ملابسه استعدادًا للخروج إلى سهرته، فحملته جسارته وحسن انتهازه للفرص إلى الصعود إلى السطح من فوره، ولما اطمأنَّ إلى بقائها تفحَّص المكان بهدوء حتى أدرك خلوه، ثم سار متمهلًا إلى موقف قريب منها، ولم تكن تخونه الجرأة الجنونية، ولكنه آثر معها الأناة لما عهده بها من حياء، ورأى على السور — في موقع وسط بينه وبينها — عمودًا خشبيًّا شُدَّ إليه حبل الغسيل، ووقعت عليه يمامة فرفع رأسه إلى اليمامة وقال بصوت خافت وهو يلحظ الفتاة بطرفه: «مساء الخير يا يمامتي!» ورآها تلحظ اليمامة بطرف خفي فابتسم واستدرك: «ما أجمل سمرتك! السمرة حلية الجمال وروح الخفة، هلَّا سمعت بأغنية السمرة: «يا أسمر اللون حياتي الأسمراني»؟» وأنصتت الفتاة إليه — وإن تظاهرت بعدم المبالاة — بأذنين مرهفتين، وطاب لها صوته، فابتسمت ابتسامة باطنية لم ترسمها شفتاها، ثم غلبها الحياء فابتعدت خطوتين وأشاحت عنه بوجهها. وجعل هو يقول محدثًا اليمامة: «كيف لا تردين تحيتي؟ .. كيف تعرضين عني؟! .. بل كيف اندست القسوة إلى هذا الحسن الرقيق؟!» وتساءلت أما ينبغي أن تمضي إلى حال سبيلها؟ ألا تخاف أن يصعد البواب أو بعض السكان إلى السطح فيريبه من موقفها ما يريبه؟ أَبِها مسٌّ يشد قدميها إلى الأرض؟! واستدرك رشدي قائلًا: «ألا تعلمين يا يمامة أني جارك؟ .. وأن السماء الرحيمة لن تستطيع أن تغيِّبك بعد اليوم عني؟ وأني سأكون دائمًا حيث تكونين!» وعطفت نوال رأسها قليلًا كأنما لترى اليمامة فوجدتها قد طارت! وألفته ينظر نحوها بجسارته المعهودة، ولم تعد تجدي مخاطبة اليمامة، فقال لها بهدوء: سعيدة.

فأشاحت عنه وجهها مرة أخرى، وحركت قدمَيها ببطء شديد نحو الباب، فدنا منها جزعًا وقال: ألا تردين عليَّ؟

فلم تنبس بكلمة وقد تورَّد خداها واختلج جفناها، فاقترب منها أكثر من قبل وقال: أما تجودين بكلمة واحدة؟ .. كلمة واحدة. لتكن عذلًا إن شئت، بل لتكن نهرًا!

ولكنها حثت خطاها فهمَّ باعتراض سبيلها، فقالت له بحدَّة مصطنعة: إليك عن سبيلي! .. وا خجلتاه لسلوك الجار!

– هل يعيب الجار أن يتودَّد إلى جارته الحسناء!

– أجل.

– وإذا أجبره حسنها على أن يتودَّد إليها فمن الملوم؟

– لا تستدرجني إلى الكلام، وإياك أن تعترض سبيلي.

ولكنه اعترض سبيلها غير مبالٍ تحذيرها، فتملَّكها الخوف واندفعت نحو الباب مارقة من تحت ذراعه، فلم يسعه اللحاق بها، ونزلت على عجل خافقة الفؤاد ومضت نحو شقة سيد عارف، لم تكن غضبى ولا مستاءة، بل كانت أبعد خلق الله عن الغضب أو الاستياء، وجلست في الشرفة تنتظر ربة البيت فلم تفارق مخيلتها صورة محياه الجميل، ولا غاب عن سمعها رجع صوته الحنون، وجعلت تستذكر أحاديث أترابها في المدرسة عن حِيَل الشبان ورسائل الغرام ونوادر الغزل، ثم تساءلت ترى هل تدلي بدلوها منذ الغد في حديث الحب الذي لا يمل؟ .. ولكن أي نوع من الشبان يكون؟! ونزل رشدي بعد قليل مبتسمًا مسرورًا، ولم يكن قلبه قد استشعر عاطفة صادقة بعد، فكأنما كان يقوم بتمثيل دور محبوب، بيد أنه كان كذلك من أولئك الممثلين الصادقين الذين يندمجون بتمثيل أدوارهم اندماجًا يوري القلب ويقدح شرره فإذا هم ضاحكون أو باكون، ثم انطلق إلى الكازينو بشهية متفتحة للسرور والشراب والطرب.

٢٣

ومضت أيام العيد فلم تقع عينا أحمد عاكف عليها مرة أخرى، وحسب أنها في شغل بالعيد وملاهيه فدعا لها قلبه بالسرور، وكان كل مطمعه أن تراه في البدلة الجديدة التي فصَّلها خاصةً إكرامًا لها، فقال لنفسه: إن البدلة لا تبلى في أيام وسوف تراه يومًا ما حتمًا وهو يرفل فيها، وشُغل هو كذلك بعطلة العيد وإن كان أنفقها جميعًا في قهوة الزهرة بين الصحاب، ما عدا سليمان بك عتة الذي سافر ليعيِّد في قريته، ومن عجب حقًّا ألا يكون قد ظفر بصديق منهم على دوام العشرة والصحبة، وذلك لأنه كان يتطلب في الصديق سجيتين لا تجتمعان: أن يدين له — هو — بالتفوق والأستاذية، وأن يكون مثقفًا — ولو لحد ما — ليتمتع بصداقته، ولكنه غالبًا ما يجد نفسه بين اثنين: واحد عامي — أو في حكم العوام — يُعجَب بشخصه ويؤمن بعقليته، وآخر مثقف لا يذعن لمشيئته ويجادله جدل المعتد بنفسه المتحدي غيره، ولعله أن يحب الأول كما يمقت الثاني، ولكن لا هذا ولا ذاك بالصديق المنشود. وقد أحب المعلم نونو، وكمال خليل، وسيد عارف، ومقت أحمد راشد، ولكنه ظل بغير صديق، أو كان شقيقه رشدي الصديق الوحيد في دنياه المحبوبة.

مضت إذن أيام العيد دون أن تقع عليها عيناه، ولكنه لم يكف لحظة عن التفكير فيها، ولا انقطع عن إدامة النظر فيما جد في حياته من أمور، ألم تحدث عاطفة، ويستيقظ قلب، ويبتسم أمل؟! ألم تحدث عاطفتان، ويستيقظ قلبان، ويبتسم أملان؟! لقد أحب بعد أن حُرم من الحب زهاء ثلاثين عامًا، وأحب بقلب آذن شبابه بوداع، فهو يستمسك بالحب كآخر أمل مُرَجًّى في سعادة الدنيا، وجاء الحب عفوًا بعد أن أشفى منه على اليأس، ورجَّع فؤاده النغم القديم فتيًّا نديًّا عذبًا كأنه بُعث من جديد، فوجب أن يفكِّر في أمره، ويقبل على تدبير شأنه، ومضت أيام العيد وهو مشغول بالتفكير والتدبير، فهذي الحياة تمسح عن جبينها ما ألف من تقطيبها، وتجود له بفرصة سعيدة ليعاود تجريب حظه، فلن يحجم ولن يتردد، وأراد أن يكون أعظم صراحة مع نفسه فغمغم في وحدته: «الزواج!» أجل، ولكنه في الأربعين وهي دون العشرين، فهو في سن أبيها، ولكن ما وجه الإنكار في ذاك؟ ألم تعلن له بميلها إليه — وقد خفق فؤاده للذكرى — ألم يختره قلبها؟ .. وأما صديقه كمال خليل فيرجح أن يرحب بيده، وإن لم يَخْلُ في بادئ الأمر من دهشة، وتخيَّل أن القوم راحوا يتحرون عنه فعلموا أنه «في الأربعين، كاتب بمحفوظات الأشغال، درجة ثامنة — فهو من المنسيين في الحكومة كما أنه من المنسيين في الدنيا — مرتبه خمسة عشر جنيهًا!» ألا ينزعج كمال خليل الذي يحسب أنه من رؤساء الأقلام؟ .. ألا تقول الست توحيدة — أم نوال — إن عمره كبير ومرتبه صغير؟! .. وعض عند ذاك على شفتيه، وعاوده شعور الأسى واليأس: وأوشك أن يثور به الغضب، وأن يقول كما قال مرة في مثل هذه المناسبة: «إن الدنيا جميعها لا تساوي زنتها قذارة إذا سوَّلت نفس لصاحبها أن يستهين بي!» ولكن توثُّبه لتجربة حظه لم يدعه يستسلم لجنون الغضب، فطرد عن فكره خواطر اليأس، واستعاد سروره ودواعي الأمل والسعادة من حياته الجديدة.

وانقضت أيام العيد الثلاثة وهو يفكِّر التفكير الذي يسبق العمل مباشرةً، وجاء يوم الجمعة الأول بعد العيد ولم يحقق شيئًا من أفكاره، بيد أنه رآها صباح ذاك اليوم لأول مرة، بعد مرة أول أيام العيد، وسُرَّ فؤاده المشوق. كان اليوم من أيام نوفمبر الأولى، والجو رقيق منعش تسري في تضاعيفه من آنٍ لآن هبات نسيم بارد، والسماء تغشاها غلالة من سحاب ناصع البياض ينضح بنور الشمس المتوهج، ففتح النافذة — نافذة نوال — ورفع رأسه، وما يدري إلا وفتاته تطل عليه كالأمل النضير والحلم السعيد، وحيَّاها بابتسامة وإيماءة، فردَّت تحيته مبتسمة، ولكم عشق ابتسامتها، ولبث يملأ عينيه من سمرتها الصافية، وخطر له وقتذاك أن يحاول تفهيمها بالإشارة — وعلى قدر المستطاع — أنه يوشك أن يحدِّث والدها بشأنهما، ولكنها سبقته فأنامت رأسها على راحتها كأنما تقول له إنها ترغب أن تنام، وأشارت على رأسها وقطبت ثم لوت شفتيها تعني أن رأسها موجع، ثم حنت له رأسها وتراجعت مولية، وأسف على فوات الفرصة، ولكن تصميمه تضاعف، وأراد أن يدخن سيجارة فوجد علبة السجائر فارغة، فمضى إلى حجرة رشدي ليأخذ منه سيجارة، وكان الباب مواربًا فدفعه بهدوء ودخل، ورأى شقيقه مرتفقًا النافذة شاخصًا إلى أعلى، مستغرقًا حتى إنه بلغ نصف الحجرة قبل أن ينتبه الشاب لمجيئه، فاستطاع أن يرى من موقفه النافذة الأخرى التي يتطلع إليها أخوه، وأن يلمح حال توسطه الحجرة رأس نوال — دون غيرها — وهو يرتد بسرعة البرق! وانتبه رشدي إلى مجيء شقيقه — باختفاء الفتاة الذي هو بالفرار أشبه — فالتفت وراءه، ثم ابتسم للقادم بترحاب وبوغت أحمد مباغتة عنيفة منكرة كانت أعنف وقعًا عليه من انفجار القنابل ليلة الغارة، فزلزلت صدره — الذي جاء به مثلجًا مطمئنًا — قلقلة جنونية صدعته كما يتصدع السحاب بشرارة البرق القوية الخاطفة، ولكن لم يغب عنه تحول الشاب إليه، فأغضى بصره — ببداهة الغريزة وسرعتها — ليخفي عينيه، وأهاب بقوته الكامنة ليحافظ على هدوء مظهره، وتكلَّف ابتسامة، ثم نظر إلى الشاب الذي أقبل نحوه مبتسمًا ابتسامته الحلوة البريئة وقال بهدوء: سيجارة من فضلك.

واستخرج رشدي علبة سجائره من جيب بيجامته وفتحها وقدمها لأخيه، فتناول الرجل سيجارة شاكرًا، وحياه برفع يده إلى جبينه، ثم قفل راجعًا.

٢٤

وردَّ باب حجرته وهو لا يكاد يرى شيئًا من الذهول، ورمى بالسيجارة إلى فراشه، ثم اقترب من النافذة ورفع رأسه فرأى الشرفة كما تركتْها مفتوحةً وخاليةً، ثم أطرق مقطبًا وأغلق النافذة بشدة طقطق لها الزجاج، وعاد إلى الفراش وجلس على حافته مغمغمًا: «غاب عني أن هناك نافذة تطل مثل نافذتي على هذه الشرفة، حقًّا غاب عني ذلك!» وكأن دمه استحال نفطًا يمد قلبه بألسنة من لهيب، ألم يرَها وهي ترتد فزعة لدى ظهوره؟ فهل غير الشعور بالإثم أفزعها؟ أو ما الذي دعاها إلى النافذة بعد أن أوهمته أنها ذاهبة لتنام؟ فليس وراء ذلك كله سوى معنى خبيث يتخايل خلقه البشع خلف خداع الآمال الباطلة، ومن عجب أنه لم يمضِ على حضور شقيقه إلا عشرة أيام، ففي أيام معدودات تغيَّر كل شيء — وشعر عند ذاك بصفعة — فكفر قلبه بهواه، وصارت ابتسامة الترحاب خدعة رياء، ترى كيف تحدث هذه الانقلابات؟ أتقع في يسر وهوادة كأنها لا تعرك ضحايا؟ أم أنها تلقى ما هو خليق بها من التردد والألم؟ أكانت تلعب بهما؟ أيمكن أن تتكشف تلك النظرة الساذجة عن مكر سيئ وخبث وعر؟! ولماذا إذا بادلته التحية منذ دقائق؟ أهو الحياء والحرج أو أنه المكر والحيطة؟

أما الشاب فلا يدري من الأمر شيئًا، إنه بريء من دمه، ولعل أنه رآها فراقته فغازلها كعادته فاستمالها فهَوِيَته، بنظرة وإشارة نسيته، وهل خطره أكبر من ذلك؟! نسيت الكهل الأصلع الفاني، فلا يلومنَّ إلا نفسه، ألم يكن له فيما اكتسب من معرفة بحظه وسوء ظنه بدنياه، وبالمرأة خاصة، ما يحرز به نفسه من غوائل الأمل وومضات السعادة الكواذب؟ ونهض قائمًا وقد اشتد شحوب وجهه ولاحت في عينيه نظرة حزن عميق ويأس سحيق، وجعل يذرع الحجرة جيئة وذهابًا ما بين الفراش والمكتبة حتى عراه دوار فعاد إلى مجلسه من الفراش، وراح يتساءل: أيرضى أن يستبقا — هو وأخوه — في مضمار منافسة واحد؟ ونار كبرياؤه وشمخ بأنفه، محال أن يتنازل لمنافسة إنسان، فالمنافسة الحقة لا تثور إلا بين أكْفاء! ومحال كذلك أن يطلع شقيقه على سره، فكبرياؤه تأبى عليه أن يستجدي السعادة أو يستوهب الحب، وخليق بمن كان مثله أن يترفع عن هذه الصغائر — الحب والفتاة والظافر بهما — فهو أكبر من هذا جميعه، ولكن ما بال الألم لا يرحم كبيرًا؟! لماذا لا يعرف هذا الألم القتال قدره فيتوارى؟! كيف تلسع الغيرة قلبه بمثل شوكة العقرب؟ وإلام تئن كبده وتتوجع! الحقيقة أنه مد يده ليجلو عروسه فتكشَّف له قناعها الموشَّى عن جمجمة ميت! ورأى بعين خياله صورتهما المزدوجة، هو بشبابه الريان وهي بعينيها النجلاوين، فوجد ألمًا وإباءً وعجرفة قاسية، تُرى لماذا يحول رشدي دائمًا بينه وبين سعادته وما أحب إنسانًا مثله قط؟ فهو الذي أجبره — قبل عشرين عامًا — على التضحية بمستقبله ليقف حياته على تربيته، وها هو الآن يجني ثمرة سعادته ويدوس أمله المنشود بقدم غليظة! واستولى عليه الغضب وتقيحت نفسه بالسخط والحنق، وثار بركانه في عنف ودوي، ولكن الكراهية لم تجد سبيلًا إلى نفسه، لم يكره أخاه لحظة واحدة، حتى وهو فريسة الثورة في عنفوانها، بيد أن حبه له أصيب بنوبة وقتية أفقدته وعيه، فأغمي عليه ولكنه لم يمت، بل لم يشعر نحوها — وهي الخليقة بالاتهام — بكراهية أو مقت، وإن بدا سخطه كأنه لا نهاية له، ثم خمدت ثورته بسرعة عجيبة تدعو للدهشة حقًّا، فولَّت أحاسيس الغضب والسخط والعجرفة، مخلَّفة وراءها حزنًا عميقًا لا يتزحزح ويأسًا خانقًا لا يريم وخيبة متغلغلة لا تؤذن برحيل، وحين عاودته ذكريات الأمس السعيدة، لم يتحسر عليها ولم يأسف، ولكنه شعر بهوان وخجل! وأنشأ يقول بصوت خافت حزين وكأنه يحدث غير نفسه: برح الخفاء، ولا مفر من الحقيقة، أنت رجل سيئ الحظ، بل هذا قول دون الواقع بكثير، فالحق أن الدهر نصبك هدفًا لسهام الخيبة والإخفاق، ووكل بك قوة شيطانية فظيعة تلقف من سبيلك كل فرصة سانحة أو مصادفة سعيدة؛ إذ أنت تحسب أنه لم يعد بينك وبين الرجاء إلا كلمة تقال أو راحة تبسط، وما تكاد أن تمد حجرك لتلقِّي ثمرة دانية حتى ينقض عليها طائر الشؤم الكاسر فيلتقطها بمنقاره ويطير بها، وتوشك أن تصعد قمة هرم من المحاولات فيندك عاليه سافله ويلقي بك إلى غور سحيق. آفاقك تلتمع ببروق الآمال الكاذبة وموضعك من الأرض مظلم عابس، هل يوجد في الدنيا إنسان مبتلًى بمثل عناد حظك العاثر! الناس يحثون الخطى باسمي الثغور ما بين ممتع بصحته، وهانئ بأسرته، وراضٍ بمكانته، وسعيد بماله، فأين أنت من هؤلاء جميعًا؟!

لا صحة ولا أسرة ولا مكانة ولا مال! في البدء قصم ظهرك عثار أبيك، وبدد آمالك حدبك على شقيقك ثم أعقم مواهبك العقلية بيئتك الجاهلة، ماذا يتبَّقى لك من أحلام دنياك؟ ذهب الشباب فلم ينجب حتى ذكرى جميلة تتفيَّأ ظلها في هجيرة العمر، وها هي الكهولة تطعن بك فيما وراء مشارف الشيخوخة، فكيف تحتمل هذه الحياة العقيمة؟ إن الرجل ليطلِّق الزوجة الوفية إذا عقمت، ففيمَ احتمالك دنيا لم تعقم فحسب، ولكن تورث الألم والضنى؟! .. لماذا وجدت في هذه الدنيا؟ أما من نهاية لهذا الألم الممض وذاك الملل المسقم؟ .. ثم ماذا أجدى عليك هذا العقل؟ وماذا أفدت من المعرفة؟ حلَّفتك بهذه الآلام جميعًا إلَّا ما أغلقت الكتاب إلى الأبد وحرقت هذه المكتبة العاتية، ولخير لك أن تدمن على مخدر يذهل العقل عن الوجود حتى يتداركك الذهول الأكبر، الحياة مأساة والدنيا مسرح مملٌّ، ومن عجب أن الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون، من عجب أن المغزى محزن، لا لأنه محزن في ذاته، ولكن لأنه أريد به الجد كل الجد فأحدث الهزل كل الهزل، ولما كنَّا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فإننا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة، ونتوهَّم أن الرواية مأساة والحقيقة إنها مهزلة كبرى! وصمت قليلًا متفكِّرًا، متجهم الوجه، منقبض الصدر، ثم نهض قائمًا في وثبة عنيفة وقال بشيء من الحدَّة: «إلى الكهف المظلم، كهف الوحدة والوحشة، إلى القبر البارد، قبر اليأس والقنوط، لقد ركلتني الدنيا وهي الدنية ولأَركلنَّها وأنا المتعالي، إن الخصي أزهد حيوان في المرأة، فإذا استأصلت من نفسي كواذب الآمال سُدْت باليأس الدنيا جميعًا، فإلى كهف الوحشة نتزوَّد من ظلمته غشاوة تحجب عن أعيننا خدع الحياة!»

والتفت بعنف نحو النافذة — نافذة نوال — التي أغلقها منذ حين وقال بغضب: غلقًا إلى الأبد .. غلقًا إلى الأبد؟

٢٥

ورأى أن يذهب — كعادته صباح الجمعة — إلى الزهرة، ووجد حزنه حافزًا يدعوه للذهاب إلى هناك ابتغاء الوسيلة إلى التسلي عن حظه، وأخذ يرتدي بذلته الجديدة وقد ذكر كيف فصلها ولماذا تكلَّف ثمنها فنفخ من الغيظ والحنق، وغادر الشقة، ولدى نزوله السلم تذكَّر الصباح الأول له في العمارة وكيف التفت وراءه فرأى عيني نوال لأول مرة، فكيف يمكن اتقاء الشقاء المقدر ما دام يبدو في حلل آمال مشرقة وألوان ناضرة؟ على أنه لم يغب عنه أن ما يعانيه من أحاسيس الألم والاضطهاد والظلم لا يخلو من لذة، لذة دفينة غامضة لا تكاد تفصح عن ذاتها، وسار في الطريق بقدمين متثاقلتين متفكِّرًا فيما يجلبه إعراض بنت قاصر على كهل عاقل حكيم من الحزن واليأس فهاله الأمر وكبر عليه، وجعل يقول لنفسه كالساخر: «واخِزياه، كيف أمكن هذا؟! .. بنت مقمَّطة تفعل بي كل هذا؟! كيف سَمَتْ بي إلى نضرة النعيم ثم ردَّتني إلى أسفل الجحيم! وما جدوى الحكمة إذا عبثت بها جراثيم الشهوة هذا العبث المزري؟! ألم يكن من الأفضل — غفرانك اللهم — أن نخلق خيرًا من هذا؟ وإذا كانت الدنيا جميعًا تمسي ظلامًا ويبابًا لمحض أن جرثومة — تنقض الوضوء — استاءت أو أخفق بها أمل، أفليس من الحكمة أن نبول على الدنيا وما فيها؟!» ثم انقطع عن حديث نفسه لدى وصوله إلى القهوة، ووجد الصحاب جميعًا قد سبقوه إلى هناك — إلَّا سليمان بك عتة الذي لم يعد بعد من بلدته — ووجد معهم المعلم نونو وكان من عادته أن يغلق دكانه يوم الجمعة من الساعة العاشرة إلى ما بعد صلاة الجمعة، أما عباس شفة فأخذ مجلسه المعهود جنب المعلم زفتة غير بعيدين عن حلقة الصحاب، وكان الراديو يذيع بعض الأسطوانات بينما أخذ الرجال في الحديث، وأراد كمال خليل أن يشرك القادم في حديثهم فقال له متسائلًا: وما رأى الأستاذ أحمد عاكف في الغناء، أيفضل القديم أم الحديث؟!

ويل الشجي من الخلي! ولكن ألم يجئهم ملتمسًا العزاء في لغوهم؟! بلى، وإذن فليُدلِ بدلوه وليكونَنْ من الشاكرين، وكان مغرمًا بالغناء — وهل تلد أمة إلا مغرمًا بالغناء؟ — إلا أنه يفضل القديم وما يتبع طريقته من الحديث بحكم العادة وبوحي النشأة الأولى، فقد سمع أول ما سمع أغنيات القيان وأسطوانات منيرة وعبد الحي والمنيلاوي، فاختلس نظرة من خصمه أحمد راشد المخبَّأة معارفه وراء نظارته السوداء، ثم قال: الغناء القديم هو الطرب الذي يأسر نفوسنا بغير عناء!

فصاح المعلم زفتة بسرور: «الله أكبر!» وصفق المعلم نونو ثلاثًا، أما سيد عارف فتساءل: وأم كلثوم وعبد الوهاب؟

فقال أحمد عاكف وقد اختلس من خصمه نظرة أخرى: عظيمان فيما يرددان من وحي القديم، تافهان فيما عداه!

فقال سيد عارف: أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل!

فقال أحمد عاكف: أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية!

فقال كمال خليل: الأستاذ أحمد راشد يعجب بالغناء الحديث بل وأشاد بالموسيقى الإفرنجية!

والظاهر أن الشاب المحامي كان راغبًا عن الجدل فقال بغير اكتراث: رأيي في الغناء رأي غير خبير، والحق أني قليل الاهتمام بالغناء!

وأبى المعلم نونو ألا أن يناقش رأيه، فقال بصوته العريض الأجش: يا إخواننا، أمة محمد ما تزال بخير، هل سمعتم ولو مرة إنجليزيًّا — وهم بين ظهرانينا منذ أكثر من نصف قرن — يغني يا ليل يا عين؟! والحقيقة أن من يفضل أغنية إفرنجية كمن يشتهي لحم الخنزير مثلًا!

وكان المعلم زفتة قليل الكلام لانشغاله في الغالب بعمله، ولكن الموضوع استفز اهتمامه فقال بصوت دلت مخارجه على أن صاحبه قد فقد ثنيتيه على الأقل: اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى يا ليل، وعلي محمود إذا أذن الفجر، وأم كلثوم في إمتى الهوى، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب!

وأشفق أحمد عاكف من أن يتغير موضوع الحديث من غير أن يتفلسف فقال: إن الإعجاب بالحديث من الغناء أو بالموسيقى الإفرنجية وحي من تقليد المحكومين للحاكمين كما يقول ابن خلدون!

ولم يخرج أحمد راشد عن صمته، ولم يستثره هجوم أحمد عاكف، فوقف الحديث عن الغناء عند ذاك الحد، ثم تحول مجراه إلى سليمان بك عتة بغير رابطة تداعٍ بعد أن لاحظ كمال خليل أن الرجل تأخر بالبلد أكثر من المعتاد، فقال سيد عارف متضاحكًا: أراحنا الله أسبوعين من وقاحة خلقه.

فقال عباس شفة بإنكار: عما قريب يصير عروسًا يا هوه!

فاستدرك سيد عارف قائلًا بأسف: أما العروس كريمة يوسف بهلة فوالله ما رأت عيني أجمل منها قط!

فتساءل أحمد عاكف: أما يدرك صاحبكم أنه لولا الطمع في ماله ما رضي به أحد زوجًا!

فقال عباس شفة: بغير شك. فلا شباب ولا جمال ولا أخلاق!

وامتعض أحمد من هذا الوصف، وشعر بأنه ينطبق عليه من أكثر من وجه، لا شباب ولا جمال ولا أخلاق، وأضاف إليها من عنده «ولا مال!» ثم أطرق هنيهة غارقًا في الكآبة التي كان انتشله منها لغو الحديث، وخاف أن يستأثر به الحزن فخاض الحديث مرة أخرى متسائلًا: وما الذي يحمله على الاستسلام لطمع الطامعين؟

وهنا التفت أحمد راشد نحوه وقال بلهجة ساخرة قَلَّ أن يصطنعها في حديثه: وما الداعي إلى العجب في ذلك؟ أليس المال كالشباب والجمال من المزايا التي تحبب الرجل إلى المرأة؟ بل لعل المال أن يكون أبقى على الدهر من الآخرين!

وسرعان ما أقلع الشاب عن السخرية وقال بلهجته الجدية: إن شيخًا في سن عتة بك لا يطمع في الحب الذي يستأثر به الشباب، لكنه إذا ضم إليه عروسًا نفيسة أرضى بها غريزة الحب المضمحلة، وغريزة الملكية المسيطرة.

فقال عباس شفة: الشباب ينتقل بالعدوى، فالشيخ خليق بأن يكتسب من عروسه روحًا من نضارة الشباب، فلا يبعد والحال كذلك أن يتحول البيك في القريب العاجل من قرد إلى حمار مثلًا!

فتساءل المعلم زفتة: هل نفهم من هذا أن أصلك قرد!

ولم يوافق المعلم نونو على التهكم بالشيخوخة بطبيعة الحال فقال: العبرة في السن بالصحة لا بالسنين؛ فأبي تزوج في الستين وخلف، وهاكم سيد عارف أفندي على سبيل المثال (وضحك ضحكته المجلجلة) فماذا صنع له شبابه؟

وضحك الجميع — وعاكف معهم — مما جعل سيد عارف يقول: لا تضحك يا معلم نونو فعما قريب يتغير الحال، وقد علمت بأقراص جيدة تجرب، وسترى!

ولم يستطع أحمد عاكف أن يوليهم انتباهه أكثر من ذلك، فكان كالسابح الذي تخور قواه وتوهي مقاومته فيغوص تحت سطح الماء، فلم يدرِ كيف انتقل بهم الحديث إلى أخبار الحرب، ولا كيف راح سيد عارف يعدد انتصارات الألمان في روسيا، ويذكر بالفخار سقوط فيازما وبريانسك وأوريل وأوديسا وخركوف، واقتحام شبه جزيرة القرم، ثم نهض المعلم نونو للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، فاستأذن الكهل وانصرف معه راجعًا إلى البيت، ووقف في الصالة هنيهة متسائلًا ترى أما يزال رشدي ملازمًا حجرته؟ وسار في الدهليز متمهلًا حتى دنا من باب الحجرة فشم رائحة التدخين النافذة من خصاصة الباب، ثم قفل راجعًا إلى حجرته لأول مرة يمضي رشدي يوم عطلة في البيت! بل الأوفق أن يقول يوم عطلتهما، والمرجح أنه لم يفارق حجرته وأنها لم تزايل النافذة، والله يعلم كم تحيات تبودلت، وكم من بسمات ومضت، وكم من آمال أشرقت، وخلع ملابسه وارتدى الجلباب والطاقية، وجلس على الشلتة القريبة من المكتبة، كان مترعًا بالكآبة، ولكن خلا قلبه من الغيرة — أو الغيرة السافرة على الأقل — وقال لنفسه إن ما يحدث في الناحية الأخرى من الشقة لهو أطفال غير حقيق باهتمامه، أهذا شعور وقتي؟ لا يدري، ولكن خُيِّل إليه أنه شفي، وتساءل كيف حدث هذا بمثل هذه السرعة، أكانت عاطفته سطحية توهَّم أنها الحب؟ واستراح إلى شعوره، ومد يده إلى المكتبة واستخرج كتاب مقاصد الفلاسفة للإمام الغزالي، فهذا أحق بتفكيره، وهو من الكنوز التي لا يدري أحمد راشد عنها شيئًا، وفتح الكتاب عن فصل الإلهيات، وحاول مطالعة مقدمة تقسيم العلوم، ولكنه أدرك بعد برهة قصيرة أنه يبذل من الجهد في تركيز انتباهه ما لا يدع له بعد ذلك لذة في متابعة القراءة، فأغلق الكتاب وأعاده إلى مكانه، وقال إنه لا بأس من أن يعفي عقله اليوم مكافأة له على الجهد — أيًّا ما كان هذا الجهد — الذي بذله في سبيل النسيان، كانت عاطفة تافهة، بل كيف كان يمكن أن تسعده تلك الفتاة وهو على ما هو عليه من عقل ومعرفة، وهي على ما هي عليه من بساطة وسذاجة؟! حقًّا أنقذه شقيقه من ورطة كادت تودي به، ومنذ الآن ينبغي أن يفتح عينيه، وأن يقلع بصفة نهائية عن التفكير في الزواج، وهيهات أن يجد امرأة كفاءً له! بيد أن الخيانة ذميمة شوهاء، ألم تغازله؟ ألم ترضَ به حبيبًا؟ فكيف تغيرت بمثل هذه السرعة التي لا تصدق؟! حقًّا ما يهمه أن يعرف شيئًا ولا يعبأ شيئًا، ولكن هل خلق الله أقبح منظرًا من فتاة ذات وجهين؟! شُفي والله ونسي، ولكن ما أتفه الدنيا إذا كانت القلوب تنقلب في غمضة عين! وقطع عليه أفكاره المحمومة صوت دوي يصيح: «ملعون أبو الدنيا.» فأدرك أن المعلم قد عاد من صلاة الجمعة إلى دكَّانه، ونهض مسرورًا بالتخلص من أفكاره إلى النافذة المطلة على الحي الجديد ففتحها، ووقف وراءها يسرِّح الطرف في مناظر الحي التي ألفها وملَّها، ليتهم ما غادروا السكاكيني؛ بل وجد نفسه يتمنى في أعماقه لو أن أخاه لم ينقل من أسيوط! فلو لم يحضر لما عكَّر صفوه معكِّر، وما لبث أن تألم لتمنيه هذا غاية الألم، إنه يحبه ما في ذلك من شك. ولا يمكن أن يفتر حبه لأخيه وابنه وربيبه .. ولكن الغريب المنكر أنه يحبه ويكره وجوده معًا! لو لم ينقل إلى القاهرة لكان — أحمد — الآن في عداد الخاطبين، وما يدري إلا ونفسه تسكب تحنانًا للحياة الزوجية غافلة عن هواجسها السالفة! فبدا له أن العدد اثنين هو العدد المقدس، ليس العدد الواحد بالمقدس كما يقول الفيثاغوريون ولكنه الاثنان! الإنسان يفقد نفسه في الجماعة، ويغرق الكآبة في الوحدة، ولكنه يجدها عند أليفه، فالتكاشف الصريح، والحب العميق، والألفة الممتزجة، وفرحة القلب بالقلب، والطمأنينة اللانهائية لذات عميقة لا تحدث إلا بين اثنين، وكم ملَّ الكآبة، وضجر من الوحشة، وكره الفراغ، وهذه نفسه تنازعه مشوقة متلهِّفة إلى الحب والحنان والألفة والمودة، أين ثغر يبسم إليه مشرقًا بالعطف؟ أين قلب يرجع خفقان قلبه خفقة خفقة؟ أين صدر يرضع منه قطرات الطمأنينة ويعهد إليه بطويته؟ وبلغ منه القهر منتهاه فتراجع إلى الفراش محسورًا وهو يحرك رأسه بعنف، كأنما ليصد عنه أحاسيس الحزن والخور، وليسترد حقده وصرامته وغضبه وإيمانه الوحشي بالوحدة والعجرفة والتعالي عن العواطف البشرية، وقد تبرد الغيرة، وتخمد العاطفة، أما ما يمس كبرياءه فيحدث حتمًا قرحة لا تندمل، وكيف تندمل وكلما التأمت قشرها غروره الأعمى؟! ولذلك جعل يقول قارضًا أسنانه: «ينبغي أن تدرك — الفتاة — أنني تنازلت عنها بغير مبالاة البتة!»

٢٦

واستيقظ غداة السبت متعبًا بعد ليلة مسهَّدة، فهو يؤدي ثمن اليقظة التي فرح بها قلبه، وإن كانت يقظة قصيرة، وأيًّا ما كان فما دام النسيان يكمن وراء الأحزان فالعزاء مُرَجًّى، أين اليهودية الحسناء وحبها المثالي؟! فالزمان يسحب ذيول النسيان على الماضي ويبلع الذكريات، ولكن لا ريب أنه مما تطيب به نفسه ألا يعبأ شيئًا، أو أن يتظاهر بذلك على الأقل، وأن يريها أنه لم يكد يشعر بأن فتاة هجرته، ومضى إلى الحمام فوجد باب حجرة شقيقه مواربًا، ولمحه يستكمل ارتداء ملابسه — وقد عجب لذلك لأن الشاب كان يستيقظ عادة متأخرًا عنه — بل رآه رافعًا رأسه إلى النافذة الأخرى، فتقبَّض قلبه كأنما أصابته شكة إبرة، وأسلم رأسه للماء البارد طويلًا لينعش أعصابه المحطمة، ثم عاد إلى حجرته وارتدى بذلته، وخرج إلى السفرة ليحسو قهوته ويدخن سيجارته ويتناول لقمته البسيطة، وكان وطن النفس على لقاء الشاب بما يعهده منه من الأنس به مستعينًا بما طُبع عليه من مداراة ما يعتلج بنفسه، وأقبل رشدي مرتديًا البدلة والطربوش وابتسم إليه ابتسامته المحبوبة فقال: صباح الخير.

– صباح النور.

وعجب أحمد من لبسه الطربوش إذ كان يفطر عادةً عاري الرأس فسأله: لماذا عجَّلت بلبس الطربوش؟

فقال رشدي والابتسامة لا تفارق شفتيه: سأتناول فطوري في الخارج لأن لديَّ أعمال مستعجلة.

– وما الذي دعا إلى هذه العجلة؟

– إنجاز بعض الأعمال المتعلقة بوظيفتي!

وحيَّاه الشاب — كما حيا والدته التي كانت تعد الطعام — ومضى بقوامه الرشيق وابتسامته المشرقة، ولم يصدق أحمد أسطورة «بعض الأعمال» فارتاب فيها لأول وهلة، وبدا له كاليقين أن رشدي بكَّر في الاستيقاظ على غير عادته وعجَّل بالخروج من البيت ليلتقي بنوال في مكان ما من طريق المدرسة، هذا ما حدسه قلبه المحزون، فهل اتفقا على ذلك حقًّا؟ .. وذكر ممتعضًا كيف لبث مرتبكًا جامدًا — مدة علاقته بها — لا يدري ماذا يفعل، أما هذا الشاب الجسور فليس في مذهبه بين التحية واللقاء سوى غمضة عين، وأُعجب بجسارته حقًّا كما أُعجب به يخطر أمام عينيه بشبابه الريان وقده الممشوق منذ دقيقتين، إلا أنه إعجاب انطوى على احتقار النفس والتمرد فلم يَخْلُ من حنق وغضب، فكان كمن يسبِّح بخلود الخالق وهو يرثي فناء المخلوق، وبعد قليل لبس طربوشه وغادر الشقة، ومال إلى قطع شارع الأزهر مشيًا على الأقدام تخفيفًا عن أعصابه المتوترة، فالتزم الطوار الأيسر وحث خطاه، وقال لنفسه بصوت كالهمس ليوحي إليها بالحكمة: «دع بواعث هذا الحزن العميق لا تستحضرها إلى وعيك، اقذف بها إلى هاوية النسيان، وإذا كانت القراءة لم ترشدك إلى الحكمة بعد، فخذها من شخص سعيد كالمعلم نونو!» وتمثل نونو لعينيه بصحته ومرحه فتأوَّه من الأعماق: لماذا يحمِّل نفسه ما لا طاقة لها به من الكآبة كأنه الثور الذي يقولون إنه يحمل الكرة على قرنه؟! كيف جهل فن السعادة هذا الجهل المزري؟ ولماذا لا يقصد الضاحكين ويسترشد بهم إلى طريق الضحك والسرور؟ ينبغي أن يفوز فؤاده الكسير بحظه من السعادة لأنه من العبث أن تمضي الحياة هكذا في كآبة وحزن، وردد هذه الخواطر حتى بلغ ميدان الملكة فريدة واستقل الترام، وكان الترام مكتظًّا فاضطر أن يقف بين الواقفين مضغوطًا، وكان يمقت الزحمة بطبعه فثارت نفسه بعد هدوء قليل، وخطر له خاطر غريب مخيف، فتمنَّى لو كان من الممكن أن تخلو الدنيا من بني آدم! ولم يدرِ إن كانت وقفته هي التي أوحت إليه بذاك الخاطر المخيف أم أن هنالك بواعث أخرى، فقد تمنَّى من قبل أو تخيَّل أنه يتمنَّى لو تقفر القاهرة إثر غارة! فخجل من خواطره الجهنمية التي تحلم أحيانًا بالتدمير المخيف لغاية تافهة كأن يستأثر بفتاة دون شريك ولا منافس! على أنه عاد يقول لنفسه متأفِّفًا: أليس الغدر ذميمًا كالدمار؟!

٢٧

خرج رشدي عاكف مبكِّرًا على غير عادته، ودون أن يتناول فطوره، يدفعه ما هو خليق بتغيير العادات وتأخير الفطور. ولما انتهى إلى السكة الجديدة رأى الفتاة على بعد قريب صاعدة طريق الدراسة إلى الطريق الصحراوي المؤدي إلى العباسية، فتباطأ قليلًا حتى اتسعت المسافة بينهما ثم تبعها عن بُعد، وكانت على علم سابق باتباعه لها — كما أنذرها به بالإشارة في النافذة — وكانت أيضًا على رضًى بذلك أخفى أكثره الدلال والحياء، وفضح أقله — وكان به الكفاية — الابتسام أو مغالبة الابتسام، وكان الزمن المتاح لرشدي قصيرًا حقًّا، ولكن زمنه من ذهب وماس، فلم يكفَّ منذ مقابلة السطح — بل منذ رآها أول مرة — عن رصدها وموالاتها بالمطاردة والغزل حاشدًا لتصيُّدها هباته جميعًا من أفانين الشباب والحسن والدعابة والصبر، حتى ظنته قطعة من النافذة، ولم يشك الفتى في ظفره من بادئ الأمر، ولا شكت هي فيه! أو فما معنى مجيئها إلى النافذة كأنهما على موعد، واستسلامها لنظراته وتصدِّيها لبسماته وإشاراته! فإن كان هناك ظل من الشك فقد مسحته ابتسامتها الأخيرة وقضي الأمر! على أنها لم تستسلم بغير تردد، بل كانت خائفة مما تنزع بها النفس إليه، وكانت تلوح لها صورة الآخر — أحمد — فيتولَّاها الخجل ويساورها القلق، إلَّا أنها رأت عيوبه واضحة على ضوء الوجه الجديد المشرق، فتساءلت لماذا يلوح الخوف في عينيه دائمًا؟! لماذا يبدو كالفأر ما إن يسمع حسًّا حتى يفر إلى جحره؟! إلامَ يظل جامدًا لا يتحرك ولا يفعل شيئًا؟! وإنها لعلى مثل حيائه فتحتاج بطبيعة الحال إلى جسور يقتحم حياءها، فلم تجد فيه طلبتها، أو أنها أدركت ذلك حين وجدت طلبتها الحقيقية، هذا إلى بون شاسع بين شباب نضير وكهولة ذابلة، وجمال صبيح وخلقة قلقة غامضة، ومرح باسم وكآبة موحشة، والحق أنها مالت إلى أحمد لأنه كان الرجل الموجود، أما رشدي فحرَّك قلبها المشبوب وأهاج عاطفتها، هكذا جازت صبره بابتسامة، وهكذا كتبت بهذه الابتسامة أول كلمة في القصة الجديدة.

صعدا طريق الدراسة، وانعطفا إلى الطريق الصحراوي — هي سابقة وهو لاحق — كان الصباح نديًّا رطيبًا مائلًا إلى البرودة، يعابثه نسيم رقيق يهب بأنفاس نوفمبر التي تنعي الأزاهر إلى المحبين، أما السماء فسمتها محمل سحابًا ناصعًا، يتصل حينًا، ثم يتفرق في المشرق فيحدث بحيرات ثلجية تنضح شطآنها بالشعاع الصاعد من الأفق فتتوهج أهدابها وتخطف الأبصار. منظر تطمئن النفوس إليه، إلا نفسين تفانتا معًا! وقد أوسع خطاه بعد المنحنى فأدركها، وشعرت الفتاة بوقع خطاه تقترب منها فلم تعطف رأسها إليه، ولكن أثر اقترابه بلغ خديها فتوردا، وعينيها الكبيرتين الصافيتين فابتسمتا وهي لا تدري. ثم حاذاها حتى أوشك أن يلامسها، وقال برقة: صباح الخير.

فمال رأسها إليه قليلًا ولحظته بطرف متردد وقالت بصوت خافت: صباح الخير.

وكانت متأبِّطة حقيبتها كعادتها فقال مبتسمًا: أتأذنين لي أن أحمل عنك هذه الحقيبة؟

فابتسمت بدورها وقالت: كلا، لا داعي لذلك، فهي خفيفة على كبرها، ولا ضير من حملها البتة.

– لا بد أن تثقل على يدين رقيقتين كيديك!

– بل يداي تثقلان عليها، لا تعوِّدني الترف من فضلك! فضحك بسرور صادق وقال: أليس مما يُخجل حقًّا أن أسير طليق اليدين وأنت تحملين هذه الحقيبة الكبيرة؟!

وأخذ الارتباك يزايلها ويحل محله الأنس به. فسألته معترضة: ولماذا تخجل؟ إني أحملها كل يوم بكرةً وعشيًّا.

– الظاهر أنك تخافين أن أخطفها.

– ليتك تقدر على هذا حقًّا، فإنها تحوي واجبات ثقيلة أخفها الحساب!

فضحك مرة أخرى وقال: لعن الله علمًا يثقل عليك!

فابتسمت متشجعة وقالت: أتلعن العلم إكرامًا لي حقًّا أم لعداوة قديمة؟!

– بل إكرامًا لكِ وإن لم يَخْلُ الحال من عداوات قديمة، ترى ما أحب العلوم إليكِ؟

– التاريخ واللغات!

وكان على عكسها يحب العلوم والرياضة، ولكنه أبدى سرورًا طافحًا وصاح بعزم: اتفقنا والحمد الله!

فعجبت لسروره وسألته: وما عبرة السرور لذلك؟!

فقال بلباقته المعهودة: كيف غاب عنكِ هذا يا عزيزتي؟! ألم يكن ذلك الاتفاق في الميول العقلية أصلًا وبشيرًا باتفاقنا «الروحي» الذي نلتقي عنده الآن؟

فتورد وجهها وطرفت عيناها — وهي عادتها إذا تولاها الحياء — ولم تنبس بكلمة، فسألها بإغراء: ألا توافقينني على رأيي؟

فلازمت الصمت، أو لازمها الصمت على الأرجح، وعاد يقول برفق: هل أجد في صمتك جوابي المرَجَّى؟

ولحظها، فخالها تبتسم، فخامره الحماس وقال بصوت خافت: عرفت ذلك من أول نظرة!

فلم تتمالك أن قالت وفي عينيها ابتسامة صريحة: أول نظرة!

– أجل.

– شيء لا يصدق!

– ألا تؤمنين بالنظرة الأولى؟

– ألا تغالي؟ .. أحقًّا ما يقال عن النظرة الأولى؟

فقال بحماس تألقت له عيناه العسليتان الجميلتان: هو الحق الذي لا مراء فيه!

فقالت وقد غيَّرت لهجتها: نحن لم نتعارف بعد!

فأدرك أنها تحاول الإفلات من الطوق الذهبي الذي طوَّق جيدها به، ولكنه لم يمكِّنها من مأربها وقال: لا تغيبي عن الحديث، سنتعارف حتمًا بعد حين، أو سنتم تعارفنا فلم يبقَ منه إلا اسمي، ولكني أريد أن أقول إنه إذا لم يكن حب (وتعمَّد أن يذكر هذا اللفظ كأنما جاء عفوًا) من أول نظرة فلا حب على الإطلاق!

وتعوَّذت بالصمت مرة أخرى وهو يلحظها مبتسمًا، ثم استدرك: لا أعني أن الحب يحدث حتمًا من أول نظرة، ولكن النظرة الأولى تكفي لاكتشاف من تربطهم بنا صلة روحية عَسِيَّة أن تصير الحب نفسه! أليس يقولون إن الأرواح تتخاطب بغير إحساس البتة؟! فنظرة واحدة تبلغ بالروح فوق ما تريد .. أما الحب الذي تلده الأيام وتنبِّهه المعاشرة فمرجعه على الغالب العادة أو المنفعة، أو غيرهما من القيم التي لا تُدرَك إلا بالروية والإمهال، فماذا ترَيْن؟

فترددت هنيهة ثم سألته كالمتحيرة: أتقول إنه لا يوجد … (ولم تنطق بكلمة الحب) إلا من أول نظرة؟! فأدرك أنه ثرثر أكثر مما ينبغي، وخاف مغبة تفسير كلامه فقال باهتمام: كلا ليس هذا ما أعنيه، وإنما أعني أن النظرة الأولى خليقة بالدلالة على الغاية التي عسى أن تهدف إليها العاطفة.

فضحكت ضحكة رقيقة وقالت: فلسفتك عسيرة، فلا هي من التاريخ ولا هي من اللغات!

واستغرق الشاب ضاحكًا بسرور أخذ بمجامع قلبه، وودَّ في تلك اللحظة لو يستطيع تقبيل الفم الصغير الذي تسيل جوانبه بهذه الحلاوة المشتهاة، وقال: بل هي أسهل من التاريخ أو اللغات لأنها فلسفة الفطرة الصادقة، وأصدق دليل على ما أقول إننا التقينا بوحيها ولن نفترق إلى الأبد إن شاء الله.

وكانا قد بلغا عند ذاك منتصف الطريق، فلاحت على يسارهما طلائع مدينة القبور خاشعة تحت كآبتها الأبدية، ينبعث من قوائمها هدوء شامل عميق، وصمت مخيم ثقيل، فرمقتها بعينيها النجلاوين، ثم قالت لتداري الخجل الذي سعره حديثه المطرب: قُضي عليَّ أن أستصبح كل يوم برؤية هذه القبور، فيا له من منظر لا يسر!

وتساءل الشاب عما يضطرها إلى قطع هذا الطريق الطويل مشيًا على الأقدام في الذهاب إلى العباسية وفي الإياب منها، ولماذا لا تستقل الترام عن طريق الخليج، ثم ابتده الحقيقة فأدرك أنها ترضى بهذا التعب — أو رضي لها به أبوها — توفيرًا لنفقاتها، فكمال خليل أفندي يعتبر من صغار الموظفين، وممن يكافحون بعزيمة صادقة — في ظروف دقيقة — للنهوض بأسرهم، وذكر أن أسرته اجتازت يومًا مثل هذه الشدة وعلى رأسها شقيقه المحبوب يذود عنها البأساء بصبر وَجَلَد، فتندى قلبه عطفًا ومحبة وتقديرًا، ثم قال لها مبتسمًا: لن تريها بعد اليوم!

فرمته بنظرة إنكار وتساءلت: كيف؟ هل أسير معصوبة العينين؟

– بل سيشغلنا الحديث عن النظر إليها!

فضحكت ضحكة رقيقة وقد أدركت ما يعنيه، وقالت: ولكنه سفر شاق ولن تحتمله طويلًا. خصوصًا والشتاء قريب!

– سنرى!

وأوغلا في السير فلم يعودا يريان إلا صحراء على اليمين وقبورًا على الشمال، ومرا بطريق يشق القبور ويمتد غربًا، فأشار رشدي إلى مقبرة خشبية ذات فناء صغير، تقع على جانب الطريق الأيمن ثالثة المقابر وقال: مقبرتنا!

فنظرت الفتاة إلى حيث يشير فرأت المقبرة الصغيرة وقالت باسمة: فلنقرأ إذن الفاتحة.

فقرءا الفاتحة معًا، ثم قال رشدي: هنا يرقد الأجداد، وآخرهم جداي لوالدي، وأخي الصغير.

– ومتى توفِّي أخوك هذا؟

– من زمن بعيد ونحن بعد أطفال.

وطرحا القبور وحديثها وراء ظهريهما، واستعادا الصفاء والسرور، دون التفات إلى وجه التناقض الساخر ما بين حديث الحب وحديث القبر، ولا كدَّرا صفوهما بأن يتساءلا مثلًا عما يتبقى لهما من عمر يقضيانه في الدنيا، أو عما ينتظر حياتهما من أحداث قبل أن يرقدا في تلك المقبرة أو في أختٍ لها، لم يلتفتا لشيء من هذا ولكنها قالت مستوصية بشيء من الشجاعة: ولكننا لم نتعارف بعد!

– ألسنا جيرانًا؟!

– بلى ولكني لا أعرف اسمك.

– سامحكِ الله، اسمي رشدي، رشدي عاكف!

– كيف يسيئك هذا وأنت تجهل اسمي أيضًا!

– معاذ الله!

– أعرفته من أول نظرة أيضًا؟

فضحك رشدي بسرور، وحنى رأسه أن نعم، فسألته: فما اسمي؟

– إحسان!

فضحكت بصوت مسموع وقالت بإنكار: أهكذا تختلق الأسماء!

– بل هو اسمك!

– أخطأت يا سيدي ولعلك رمت غيري فارجع بسلام!

– ولكني سمعت والدتي تتحدث عن والدتك مرة فتدعوها «ست أم إحسان».

– فحسبت أن إحسان هي أنا!

– نعم.

فضحكت مرة أخرى حتى تورد وجهها الأسمر وقالت: هذا اسم أختي الكبرى، وقد تزوجت منذ عامين!

فابتسم رشدي كالخجل وقال: لا تؤاخذيني، فما اسمك إذن؟

– نوال.

– عاشت الأسماء!

فتردَّدت لحظة ثم رمقته بنظرة ماكرة وتساءلت: أأنت تلميذ؟

– نعم بمدرسة العباسية للبنات.

– موظف إذن؟

– ببنك مصر!

فابتسمت قائلة: أما أنا فموظفة بوزارة المعارف!

وضحكا معًا، ثم رأيا أنهما يشارفان العباسية، فأدرك رشدي أن أول لقاء لحبه الجديد يؤذن بالانتهاء، أما هي فقالت: حسبك هذا فينبغي أن نفترق هاهنا.

فتوقفا عن السير، وأخذ راحتها في يده، وضغط عليها بحنو وهو يقول: مع السلامة وإلى اللقاء غدًا صباحًا.

فحيته بانحناءة من رأسها وغمغمت: إلى اللقاء.

وحثت الخطى، ولبث هو بمكانه يتبعها مقلتيه في سرور ونشوة محدثًا نفسه: «كانت في البدء متعثرة بحيائها، ثم أنست بي فصارت ألطف من نسمة عبقة، طاهرة خفيفة والله، وقاها الله شر الشياطين جميعًا بما فيهم شيطاني أنا».

وكان شأنه المعهود أن يغازل ثم يتعارف ثم يحب، وقد عاد ذاك الصباح وهو ينصت في صمت الطريق إلى أول خفقة لقلبه ترجع مطلع لحن الهوى، أما نوال فانحدرت في طريق المدرسة وهي تقول لنفسها: «ما ألطفه، ما أجمله، ما أعذب حديثه، فآهٍ لو تصدق الأحلام!»

٢٨

ولاحظ أحمد عاكف ما طرأ على شقيقه الأصغر من تغيُّر بعين متيقظة، رآه بعد ظهر ذاك اليوم — يوم السبت — نشوان بالسرور، فكأنما بات من سروره في سكرة ذاهلة، ورآه يغيِّر عادته من النوم ما بين الظهر والمغرب — موعد انطلاقه إلى السكاكيني — فيقيل ساعة واحدة ثم يستيقظ مثقل الجفنين فيمشِّط شعره ويتعطر ويتصدى للنافذة المحبوبة! ولبث الكهل في حجرته يطالع أو يحاول المطالعة ريثما يأزف موعد ذهابه إلى القهوة — تلك العادة الجديدة على حياته — وقد ركز آماله جميعًا في النسيان المرتقب، ينتظره صابرًا كما ينتظر المريض اليائس النهاية، وما برحت تتقاذف قلبه أحاسيس الحب والخيبة، والأنفة والغيرة، وحبه رشدي ونفوره منه، فتحير بينها لا يقر له قرار حتى أوشك أن ينفجر رأسه الصغير، وبعد العصر بقليل اقتحم رشدي عليه وحدته! ولم يكن في ذاك غرابة فرفع إليه رأسه مبتسمًا باذلًا جهده ألا يلوح في وجهه وجوم أو سهوم، فحيَّاه الشاب بابتسامته الحلوة وقدَّم له سيجارة وقال بسرور وبلهجة المعتذر معًا: لا تؤاخذني على إزعاجك ولكنني أزف إليك خبرًا سارًّا.

فخفق فؤاد أحمد وقال: خير إن شاء الله!

– أخبرني صديق من الموظفين أن الحكومة تفكِّر في إنصاف الموظفين المنسيين.

فقال أحمد بارتياح لم يدرِ الآخر بواعثه الحقيقية: بشَّرك الله بالخير!

– إن بقاء رجل مثلك عشرين عامًا في الدرجة الثامنة ظلم قبيح وسيئة ذميمة.

فهز أحمد منكبيه بغير مبالاة وقال: أنت تعلم أني لا أعبأ الدرجة ولا الوظيفة شيئًا.

وتحادثا مليًّا، ثم انصرف رشدي كيلا يضيع وقت أخيه الثمين … وتفكر الرجل بعد انصرافه فيما يساوره نحوه من نفور فامتعض، وتألم فؤاده غاية الألم، وهل ينسى أنه أحبه منذ كان في المهد؟ وهل يجهل أن الشاب يحبه حبًّا لا يحبه والديه؟!

وهرع إلى الزهرة قبيل المغرب مرتاحًا إلى مغادرة البيت، وجالس الصحاب ساعتين ملقيًا بنفسه في تيار الحديث لائذًا بشجونه من نفسه وأفكاره، ثم رجع إلى البيت وكان رشدي ما يزال في الخارج — طبعًا — يسهر ليلته في الكازينو، فكأن فتاته استأثرت بالوقت القصير — من الظهر للمغرب — الذي كان يخلد فيه إلى الراحة وجعلت من يومه وحدة متصلة من اليقظة والتعب، وألقى الرجل على النافذة — التي عاهد نفسه ألا تفتح أثناء وجوده بالبيت — نظرة غاضبة، وتساءل وهو يخلع ملابسه تُرى ألم تلاحظ تغيبه عن النافذة؟ ألم يُرِبْها من الأمر ما ينبغي أن يربيها؟ لكم يود لو تعلم باحتقاره غدرها، فكبرياؤه ما تزال جريحة تنزف، ونفسه مكتوبة بنار حامية.

ونام قبل موعده لصدود نفسه عن القراءة، ثم استيقظ على صفارة الإنذار، فنهض مسرعًا وارتدى معطفه وغادر الحجرة فالتقى بوالديه في الصالة، وكانت أمه قلقة لأن رشدي لم يكن عاد من سهرته وجعلت تتساءل عن المكان المحتمل وجوده فيه وتدعو الله أن يقيه السوء، وفي الطريق وجدوا الجو باردًا رطبًا فقال والده: «ما ينتظرنا في الشتاء أدهى وأمر.» ومضوا إلى المخبأ واتخذوا أماكنهم المعهودة، ونظر الأب في ساعته فوجدها الثانية بعد منتصف الليل، فقال باستياء وتهكم: أليس الأرحم برشدي أن يبيت في الخارج حتى لا يكلف نفسه مشقة الرجوع إلى البيت في مثل هذه الساعة؟

وحدثت أحمد نفسه باستراق النظر! ولكنه رأى رشدي يهبط أدراج المخبأ متعجلًا ويدور بعينيه في المكان باحثًا عنهم، ولما عثر بهم اتجه نحوهم مبتسمًا متشجعًا ببقية حُمَيَّا الشراب على مواجهتهم — ومواجهة أبيه خاصة — وحياهم ثم قال لأحمد: أطلقت صفارة الإنذار ونحن في الجمالية فعدوت في الظلام كالشياطين!

فانتهره أبوه قائلًا: أنت كالشياطين بغير جدال، ألا تريد أن تخفف عن غلوائك في هذا الوقت العصيب!

ولم يتجاسر أحمد على استراق النظر في حضرة الشاب! ولكن رشدي ضاق بالجلوس ذرعًا فقام يتمشى في المخبأ، وأطلق الكهل لعينيه العنان فانطلقت نظرتهما القلقة إلى الركن البعيد حيث تجلس أسرة كمال خليل، ورآها، كانت جالسة جنب أمها مطرقة، فرأى جانب وجهها الأيمن. هل رأته يا ترى؟ .. ألا تزال تحسب أنه يجهل أمرها؟ أما تعاني شيئًا من القلق والعذاب؟ أم أنه المقضي عليه بالقلق والعذاب وحده؟! .. وطافت برأسه في تلك اللحظة تمنياته الجهنمية عن الغارة المدمرة فارتجف قلبه ورفع رأسه إلى سقف المخبأ داعيًا في سره: «اللهم رحمتك يا أرحم الراحمين.» ثم وقع بصره على كمال خليل وسيد عارف واقفين على كثب من مجلس أسرة أولهما يحادثان شقيقه! فتولته الدهشة؛ كيف تعرف الشاب بهما؟ ومتى حدث ذلك؟ وهل رمى الشاب من وراء ذلك إلى غرض معين؟! .. حقًّا إنه شاب جسور يعجز خياله — هو — عن مجاراة أفعاله! وخامره نحوه شعور بالإعجاب ممتزجًا بالحنق، بيد أنه انقطع عن التمادي في مشاعره لدوي انفجار انتشر فجأة فملأ الأسماع، وانطلقت وراءه طلقات المدافع المضادة بسرعة فائقة، فحلق الخوف فوق القلوب الواجفة كحدأة منهومة تنقض على أفراخ مذعورة، ولم يتكرَّر الانفجار ولكن استمرت طلقات المدافع المضادة فترة وجيزة. ثم عاد السكون إلى نصابه، فأخذ القوم أنفاسهم، ومضت ربع ساعة أخرى ثم انطلقت صفارة الأمان. وفتَّش أحمد على أخيه فلم يجده، وكان الناس يخرجون أفواجًا، فخطر له خاطر أعاد له ذكريات قديمة، فبحثت عيناه عن أسرة كمال خليل فرآها قريبة من مجلسها تنتظر أن يخف التزاحم على باب المخبأ إلا أنه لم يرَ نوال! وذكر ليلة دعته إلى اللحاق بها وكيف تردد وجبن! أما رشدي فلا يمكن أن يتردد أو يجبن!

٢٩

واطرد مجرى الحياة، فتوطدت أسباب الصداقة بين رشدي وكمال خليل على حداثة عهدهما بالتعارف، وتفاوت ما بين عمريهما، بفضل لباقة الشباب وكياسته، ودعاه الرجل إلى قهوة الزهرة فلبى دعوته وجالس صحاب شقيقه — والكهل بينهم — ونال إعجابهم بما طبع عليه من دماثة الخلق وإشراق الوجه.

وطاب له المجلس فنوى أن يعاوده بين الحين والحين، ثم دعاه الرجل إلى زيارة بيته فمضى إليه فرحًا مسرورًا، وتوثقت عرى المودة بينهما، واكتسب الشاب ثقة الرجل لحد أن قدمه إلى زوجته وكريمته، ورفع الحجاب بينه وبين أسرته، وهي خطوة لم يتوقعها رشدي قط، ولا دار له بخلد أن تتخذها أسرة بحي الحسين خاصة حيث تسود روح المحافظة، بل إن أسرته هو لتعتبر من هذه الناحية أشد محافظة على خلوها من الفتيات، فما يجرؤ هو ولا أخوه — فضلًا عن أبيه — على أن يقدما رجلًا غريبًا إلى أمهما، على أنه سر بذلك سرورًا لا يدانيه سرور، وسعد بتلك الثقة الغالية، واصطبغ تفكيره بلون الجد فاستشعر الرزانة والتبعة، وتبع ذلك أن حل رشدي محل الأستاذ أحمد راشد المحامي في التدريس لنوال ومحمد، ولما اتصل نبأ ذلك بالأخ الأكبر عقدت الدهشة لسانه، ولم يَدْرِ كيف حدث ولا كيف أمكن أن يحدث، فأخوه صار كأنه عضو في أسرة الجيران، ولو أنه وطَّن النفس يومًا على أن يبلغ هذه المنزلة التي بلغها رشدي في أيام لما كفته عشرون عامًا، ولَكَمْ رمقه بعين الإعجاب المقرون بالحسد، ولكنه نجح في التظاهر بالجهل المطبق، فأسبل جفنَيه على القذى كما أغلق النافذة على آلامه، واستسلم للصبر الذي استمرأه لطول ما عاناه، أما الأم فلم يغب عنها شيء من بادئ الأمر، فلم يكن رشدي من الذين يُعنون بإخفاء أسرارهم، كان يلازم نافذته إذا وُجد بالبيت، ويهرع إلى بيت الجيران في ساعات الدروس، وكان يغشى روحه هيمان بدت آثاره في عنايته المتضاعفة بأناقته، وفي الحنان الذي اكتسبه صوته وهو يغني، وفي خروجه الباكر كل صباح الذي لم تعد تخفى حقيقته على أحد، بل ما من شك أن أسرة الجيران نفسها باتت تعلم من أمره ما تعلم، وتعقد عليه من الأمل ما يثلج صدرها بالسعادة، لم يغب شيء من هذا عن الست دولت، وشاورت قلبها فيه فلم تجد منه إباءً ولا نفورًا، وكان من عادتها أن تقول أحيانًا كالمتحسرة: «متى يا رب أفرح بالعرائس كالأمهات السعيدات؟!» ولكن هل نوال جديرة بابنها؟! لِمَ لا؟! هي عروس حسناء متعلمة، من أسرة طيبة، ووالدها موظف، فكل شيء مناسب، اللهم إلا خاطرًا واحدًا أحزنها وأكربها، أيجوز أن يتزوج رشدي قبل أحمد؟! ولكن ما حيلتها؟! فلتنتظر ما تلد الأيام من أحداث تقضي بها مشيئة الله الحكيمة!

وفات رشدي طور اللعب، فهو يبدأ بمعابثة الغزل ولكنه ينتهي دائمًا بالحب الحقيقي! فأحب نوال واستعرت لها في قلبه عاطفة صادقة، أليست بجارة النافذة المحبوبة، ورفيقة طريق الجبل المكللة هامته بالسحاب الرقيق، وتلميذته المغرمة يطارحها الهوى على مائدة الحساب والجبر والهندسة، وجليسته في السينما صباح الجُمَع؟ .. علق الهوى على قلبين طريين، ولصق نفسين توَّاقتين للحب والسعادة، وصارت حياته نشاطًا متصلًا يشق على الجسد والأعصاب، فهو إما مكب على عمله في المصرف أو هائم في غرامياته، أو ساهر في كازينو غمرة، فلم يخلد إلى الراحة إلا في الهزيع الأخير من الليل، فلم ينتشله حبه من داء المقامرة أو معاقرة الشراب ولا حتى من الحب الفاجر! وعالج هاتيك اللذات في يسر، وأنسته العادة أنها خطايا فأنس بها بلا تردد، ولم يتخيل أن الحياة حياة بغيرها، فعبد الورق والكأس والحب، وعسى أن يهوله ما تستوجبه هذه الحياة من مال ومشقة فيقول متأسيًا: «غدًا أودع حتمًا كل شيء إذا تزوجت!»

وكان حريًّا أن يفكر في نسيان ذاك العبث ليأخذ أهبته للزواج إن كان من الصادقين، ولكن هوَّن عليه الأمر أنه أودع المصرف يومًا مبلغ خمسين جنيهًا ربحها من السباق، ففي بحر عام واحد يستطيع أن يقتصد من مرتبه ما لو أضافه إلى ذاك المبلغ لقام بنفقات الزواج، ولكن متى يبدأ هذا العام؟ هذا ما كان يؤجل التفكير فيه، مستسلمًا لتيار الشهوات العارم، فلم يتعوَّد قط أن يروض من جماح شهوته، أو أن يحد من رغباته، أو أن يشد من إرادته، إلا أنه تردد أخيرًا متحيرًا، عينًا على الحياة التي يلبي نداءها، وعينًا على الفتاة التي يهواها.

٣٠

وانصرم شهر نوفمبر، فاشتد البرد اشتدادًا لم تعهده القاهرة إلا في النادر، وأصيب رشدي عاكف بالإنفلونزا، ولعلها أصابته أثناء عودته إلى خان الخليلي في الهزيع الأخير من الليل، ولم يكن يعبأ بوعكات البرد مكتفيًا ببلع أقراص الأسبرين إذا اشتد عليه وجع الرأس، فزاول نشاطه المعهود لا يعبأ شيئًا، إلا أن حالة المرض اشتدت عليه في اليوم الثاني في المصرف، فتناوبته قشعريرة، ثم شملته رعشة حتى اصطكت أسنانه، وعراه خور أظلمت منه عيناه فغادر المصرف واستقل تاكسي إلى البيت، ورقد في إعياء شديد، ومنحه طبيب المصرف أسبوعًا، واشتدت الحالة، وتدهورت صحته بسرعة مخيفة، وغيَّره هزال فبدا كإنسان لازمه المرض شهرًا طويلًا، وأدرك أحمد أن أخاه فقد مناعته الأولى التي طالما قاوم بها التوعكات فلم يملك أن قال له: صرت كالخيال، لأن جسمك لم يعد يقاوم لما تكلفه به مما ليس في وسعه.

وكان الفتى معتادًا أمثال هذه الملاحظة من أخيه، فابتسم ابتسامة شاحبة وقال: هذا عارض من أعراض البرد وسوف يزول!

فقال أحمد باستياء: ولكنه ما كان يتمكن منك لولا تفريطك في صحتك!

ولم يكن شيء يعدل به عن الدفاع عن سيرته المحبوبة فقال: ألا ترى أني لا أسهر وحدي! وأن صحبي جميعًا كالبغال صحة وعافية! ولكنها أعراض البرد وسوف تزول بإذن الله.

وكان يعلم أنه يستميت في الدفاع عن حياته لحد اللجاج والمكابرة فانكسر عن لومه، وكان يعوده كثيرًا، ويواسيه ويشجعه، وبالغ في ذلك مبالغة مردها إلى ما بات يساوره نحوه من امتعاض ونفور، فكأنه كان يغطي المشاعر التي تخجله وتحزنه بالمبالغة في إظهار العطف والمحافظة على مظاهر الحب، وكثيرًا ما كان يحدِّث نفسه بصوت مسموع قائلًا: «إني أحبه كعهدي دائمًا، وما يستحق مني غير هذا الحب، ولو أنه علم بطويتي ما أقدم على ما أقدم عليه، فهو بريء، وهو يحبني وأنا أحبه.» ولكن كيف يغفل عما يثور بنفسه أحيانًا من الغضب والثورة؟ .. وكيف ينسى أنه تمنَّى لو أن الشاب لم ينقل إلى القاهرة؟ .. بل كيف ينسى أنه تمنى لحظة لو تخلو الدنيا من الناس والشاب فيها طبعًا؟! فهذه الخواطر وغيرها كانت ترهقه بالحزن وترديه في الوساوس، وفي آخر ليلة من ليالي اشتداد الحمى على الشاب، حلم أحمد حلمًا غريبًا، وكان نام بعد جهد ناصب من عذاب الفكر، فرأى فيما يرى النائم أنه جالس على فراشه مرسلًا الطرف من نافذته إلى شرفة نوال في إشفاق ورجاء، فما يدري إلا ورشدي يقعد على كرسي بينه وبين النافذة مبتسمًا ابتسامته اللطيفة، فشعر باستحياء وحوَّل ناظريه عن الشرفة إلى وجه أخيه، وأراد رشدي أن يسرِّي عنه بتظاهره بأنه لم يفطن لشيء فلم يفلح، ثم رآه ينتفخ رويدًا رويدًا حتى صار ككرة ضخمة فأنسته الدهشة ما كان فيه من استحياء، ثم أخذ منه العجب كل مأخذ حتى لم يتمالك نفسه من الصراخ إذ رأى شقيقه — وهو كالكرة الضخمة — يرتفع ببطء طائرًا كأنما يلتمس سبيلًا إلى الفضاء خَلَلَ النافذة، ولكن النافذة ضاقت عنه فانحشر بين جانبيها وحجب عن عينيه النور، وزايلته الدهشة وحل محلها الرعب، ولكن الفتى جعل يضحك منه كالساخر بصوت مزعج أثار أعصابه فتولَّاه الغضب، وظن الشاب يسخر منه بخدعة فنهره ولكنه لم يعبأ به واستمر في ضحكه الساخر، ففزع أحمد إلى مكتبه وأتى بريشته وغرسها في بطنه فانقصفت فيها، واندفع من البطن بخار ملأ الحجرة بالغبار فأخذ جسم الفتى يتقلص بسرعة حتى عاد إلى حجمه الطبيعي ثم سقط عند قدميه، وجعل يتلوى كالسليم، ويعض من الألم قوائم الكرسي ويصرخ صراخًا موجعًا ويسعل حتى تجحظ عيناه ويسيل من محجريهما الدم، وهلع فؤاد أحمد وأطبق عليه رعب يضني ويميت، ثم … ثم استيقظ عند ذاك، وأدرك أنه كان يحلم، ربَّاه، تبًّا للأحلام، وما كاد يفيق من هول الرؤيا حتى بلغ مسمعيه صوت كالأنين يأتيه من عقب بابه المغلق، فأرهف السمع فتبين له أنه صوت أخيه وأنه حقًّا يتأوه ويتوجع، فقفز من فراشه وانتعل شبشبه ومضى على عجل إلى حجرته، وهناك وجد الشاب راقدًا يتأوَّه وأمه إلى جانبه تدلك ظهره بينما يجلس الأب على كرسي قريبًا من الفراش، فتساءل أحمد مروعًا: ماذا به؟

فقالت أمه: لا تنزعج يا بني، إنه ألم الحمى وهي تفارق البدن.

وتنبَّه رشدي إلى مجيء أحمد فكظم ألمه قليلًا وقال متأسفًا: واخجلتاه، أزعجت منامكم جميعًا.

ولكنهم شجَّعوه ودعوا له، وجلس أحمد جنب أمه، وأخذ راحة شقيقه بين راحتيه وراح يدلكها بحنو، وكأنه يكفر بذلك عن إساءته إليه في الحلم، ومضت ساعة مؤلمة لم يكن عناء الأسرة فيها دون عناء المريض، فلبثوا إلى جانب فراشه حتى مطلع الفجر.

٣١

وبرَّأ رشدي مما ألمَّ به، وغادر فراش المرض، ولم يكن هيِّنًا عليه أن يلزم الفراش أسبوعًا كاملًا، وهو الذي لا تطيب له الحياة إلا في تجارب اللهو واللعب واللذات، ولذلك هاله أن ينصحه أخوه بالبقاء في البيت والإخلاد إلى الراحة ريثما يسترد قوته، فضحك كعادته وقال كالآسف: حسبي أن ضاع من العمر أسبوع هدرًا!

فاحتد الذي ضاع عمره كله وقال: أحذرك الاندفاع فيما أنت آخذ فيه، فإنك تستحل شبابك للعدم كأنه معين لا ينفد، ولا تعبأ أبدًا أن تنال حقك من الراحة، فأي جنون هذا الذي تطيع؟!

ولمس رشدي في لهجة أخيه غيرته على صحته، فابتسم ممتنًّا وقال: دمت من أخٍ كريم، متعني الله بقلبه الكبير.

– إني أرشدك لما فيه صلاحك!

فقال الشاب الشكور المحب: وهل داخلني في ذاك شك؟!

ولكنه لم يُعنَ باتباع الإرشاد الذي لا يداخله فيه شك، وفي صباح اليوم التالي رآه أحمد يستجمع لخروجه الباكر، فتولته الدهشة وسأله بإنكار: ماذا أنت فاعل!

فقال بشيء من الارتباك: إلى المصرف!

– وما الموجب للعجلة؟

فعدل الفتى عن المداراة وقال بصراحة محزنة: أخي، لا أكتمك أن البيت يُسقمني!

وعلم أحمد بما يغريه حتمًا بالاستهانة بصحته، فانقبض صدره وأخفى بصره في فنجان القهوة، ومضى الآخر إلى سبيله، وأرادت الأم — وكانت جالسة إلى السفرة — أن تخفِّف من وقع مخالفة الشاب لنصح أخيه فقالت تعتذر عن سلوكه: شفاء أخيك في الدنيا الواسعة لا في البيت، فلا تؤاخذه!

ولما لم ينبس بكلمة ظنته غاضبًا فقالت تستوهبه ابتسامة: أليس هو ابن أمه؟ ومن شابه أمه فما ظلم، ألا ترى إليَّ كيف يركبني الهم إذ لزمت البيت وحيل بيني وبين زيارات الأحباب! فكلانا عدو البيت.

وضحكت ضحكتها الرنانة فابتسم الكهل ابتسامة لا لون لها، وما كان شيء بمثني الشاب عن حياته المحبوبة، فارتمى مرة أخرى بين أحضان الحب والقمار والشراب والتدخين والنساء؟ استرد نشاطه المعهود ولكنه لم يسترد صحته، فلم يزايله الهزال، واشتد لون وجهه شحوبًا وبدا وكأنه بقي من مرضه شيء لا يفارقه، وإذ كان أحمد منشغلًا بنصحه كان الشاب منشغلًا بالتفكير في أمور أخرى، فدخل على أخيه عصر يوم — قبل موعد خروج الرجل إلى القهوة بقليل — وحيَّاه بابتسامته اللطيفة وقال: هل تأذن لي بالتحدث إليك قليلًا؟

فرفع أحمد رأسه إليه وقال: تفضل يا رشدي.

وقرأ في وجهه الجميل الشاحب أمارات الرزانة والاهتمام على غير عادته، فعجب لأمره، وتساءل عما دعا السادر اللاهي إلى الجد والاهتمام، وذكر أنه لم يرَه في مثل تلك الحالة إلا في السويعات الحرجة التي تلقى فيها أنباء سقوطه في بعض الامتحانات على عهد دراسته، وساوره القلق ورفع حاجبيه الخفيفين متسائلًا، فقعد رشدي على الكرسي وقال: أريد أن أجدَّ في الأمر فليست الحياة كلها لعبًا!

ولو أنه سمع كلامه هذا في غير الظروف النفسية التي يعانيها لما تمالك أن يضحك ويقهقه، ولكن صدره انقبض، وحدس قلِقًا ما الشاب ماضٍ إلى خوضه، فقال بهدوء: الحياة ليست كلها لعبًا، هذا حق!

فقال الشاب: أنت مرجعي عند المشورة، وقد جئتك سائلًا هل توافق على زواجي؟

فاضطرب صدره كما لو كان بوغت بالقول مباغتة لم تدُرْ له بخلد، ولكنه لم يسمح لوجهه بالإفصاح عن كآبته، وتظاهر بالدهشة البريئة، بل وبالسرور، وقال: أجئت تتحدث أخيرًا عن الزواج! مرحى مرحى!

فضحك رشدي بسرور وقال: هي الحقيقة يا أخي، فهل يسرك ذلك؟

– يسرني طبعًا، لعلنا سررنا بشيء معًا لأول مرة!

وتبع ذلك صمت، وأدرك أحمد أنه من الطبيعي أن يسأل عن العروس، وكان يرجو أن يفتح الآخر الحديث بغير حاجة إلى سؤاله، ولكنه لازم الصمت، فلم يجد مناصًا من أن يزدرد ريقه ويقول متسائلًا: وهل اهتديت إلى بنت الحلال؟

فاعتدل الشاب في جلسته وقال: أجل يا أخي، كريمة جارنا الطيب كمال خليل أفندي صديقي وصديقك!

ولم يفلح ما سلف من تأهُّب في تحمل الطعنة إلا قليلًا، فيأس المتهم من النجاة لا يهوِّن على نفسه وقع النطق بالحكم عليه، ولكنه لاذ بكبريائه وقال بهدوئه: وفقك الله لما فيه سعادتك.

– شكرًا لك يا أخي.

– بيد أني أريد أن أسألك سؤالًا على سبيل الاحتياط، فهل زودت بالمعلومات الضرورية عن الأسرة التي ستصبح واحدًا منها؟

– خبرت الأسرة عن كثب، وعرفت الفتاة معرفة شخصية!

ونكأ تصريحه جرحه فضاعف مجهوده ليحافظ على هدوئه الظاهري، وقال: أذكرك بأنه إذا أعلن الخبر فالنكوص عنه يكون فضيحة!

فضحك رشدي قائلًا بثقة: انتهى التقلب واستقر الرأي!

– هل فاتحت أحدًا بهذا الشأن؟

– كلا فيما عداها هي!

فخفق فؤاده خفقة عنيفة، وشرع خياله في استحضار صورة انفرادهما معًا، وتهامسهما بهذا الشأن الخطير الجميل، ثم قطع تخيله بقوة، وقال بنبرات تنطق بالرضى: على بركة الله.

– إذن أكِل إليك تبليغ والدي بالأمر، ومِن ثم نأخذ في الخطوات المتبعة.

فتريث أحمد قليلًا ثم قال: سأخبر أبي، أما الخطوات الأخرى فتحت شرط!

– سمعًا وطاعة.

– ألا نشرع فيها قبل أن تسترد صحتك، وتستعيد وزنك السابق للمرض على الأقل!

فقال رشدي ضاحكًا: هذا عليَّ هين، ولن يطول انتظارنا.

ثم نهض قائمًا وهو يقول: أشكر لك والعقبى لك (ثم غير لهجته كمن تذكر شيئًا جديدًا) .. على فكرة! لماذا لا تفكر أنت أيضًا في الزواج، أما كان ينبغي أن أبارك لك قبل أن تبارك لي؟

أيصارحه بما حال بينه وبين التفكير في الزواج؟! الفتى لا يدري مما يقول شيئًا، ولذلك فهو يرميه بسهام مسمومة في غفلة وصفاء! وقد امتعض لتساؤله، وخاله لسان القدر يتهكَّم من شقائه بعد أن قضى به عليه. وقال كالمتهكم: مضى زمن الزواج!

– مضى؟!

– دع هذا يا رشدي، فأنت تعلم أنى امرؤ مشغول! والله لم يجعل لامرئ من قلبين في جوفه!

ومضى الشاب يهز رأسه أسفًا، وأطرق الرجل، ولاحت في عينيه نظرة حزن عميق، واستسلام للقدر واليأس، سيتولى — هو — أمر زواج الشاب، فلا مناص من أن يحيك كفته بيديه، وفي ذلك ما فيه من ضروب الألم وفيه كذلك ما فيه من ألوان اللذة والعزاء، لن يخلو على الأقل من تلك اللذة الغامضة التي تؤلِّف بينه وبين الألم كما تؤلف بين الفراشة والنور، وفيه لذة الاستسلام إلى القضاء القهار، وفيه لذة التكفير عن مشاعره الباطنية التي لم يرتح إليها، وفيه أخيرًا لذة لكبريائه الجريح.

٣٢

وارتدى على أثر ذلك ملابسه، ومضى إلى الزهرة وقد فارقه ذلك الشعور بالأسف الذي يخامره كلما همَّ بالخروج عن عادة وحدته، واشترك في أحاديث الصحاب أكثر من ذي قبل — إذ كان جل حواره مع أحمد راشد وحده — واستسلم للضحك طويلًا على غير عادته، وخطر له فجأة أن يشاركهم سهرتهم الأخرى التي سمع عنها دون أن يشهدها، وبدا له الخاطر مغريًا فمال إليه بكل قلبه، بيد أنه تردد كالخائف ولم يَدْرِ كيف يقدِّم نفسه، ولم يغادره هذا الخاطر حتى نهض القوم للذهاب إلى حال سبيلهم، وكان من عادة المعلم نونو أن يمضي إلى بيته أولًا ومِن ثَم يلحق بالصحاب في ندوتهم، فاتخذ منه رفيقًا، وآتته شجاعته في الطريق فقال باستحياء: يا معلم. هلا اصطحبتني إلى الإخوان؟

فصفق الرجل بسرور وصاح به: هداك الله أخيرًا!

فقال بصوت خافت: ولكني في هذا الأمر أجهل من دابة!

فقال المعلم بزهو وخيلاء: اجعلني دليلك، وأيًّا ما كان فهذا الأمر أسهل من كتبك وأجل فائدة!

وعادا معًا يخبطان في الممرات الملتوية يشملهما ظلام دامس، ودخلا عمارة وارتقيا السلم إلى الطابق الثالث، وضغط الرجل زر الجرس الكهربائي وهو يقول: إذا جئت بمفردك وأردت أن يفتحوا لك فآيتك أن تضغط الزر خمس دفعات متتابعات ثم تذكر كلمة السر التي سأقولها الآن.

وسمعا صوت عباس شفة يسأل عن القادم فقال المعلم: ملعون أبو الدنيا!

وفتح الباب ودخل أحمد بقلب هيَّاب وتبعه المعلم، وعبرا صالة إلى حجرة واسعة مزدحمة بالجالسين مضاءة بنور أزرق هادئ كنور الفجر العليل، ينبعث من مصباح ملفوف بغلالة زرقاء، فاتجهت الأنظار نحو القادمين، واستقرت على الجديد منهما حتى تعثَّر بالارتباك والحياء، وقد تربعوا على شلت تراصت على صورة دائرة، ووضع في وسطها «العدد» كالمجمرة والجوزة والطباق، فتبادلا التحية مع الحاضرين وجلسا جنبًا إلى جنب، واستطاع أحمد أن يلقي نظرة عامة على المكان، ويرى إخوان قهوة الزهرة — فيما عدا أحمد راشد — بين الموجودين، ثم استرعى صدر المكان انتباهه حيث جلست امرأة «هائلة» على شلتة ضخمة، وإنها لهائلة حقًّا، ففي جلستها كانت تطاول شخصًا قائمًا، عريضة المنكبين، طويلة الجيد، مستديرة الوجه في امتلاء وضخامة، واضحة القسمات، يراوح لونها بين المصري والحبشي، أما شعرها فكستنائي مجعد شُدَّ إلى ضفيرة غليظة قصيرة، وأعجب ما في وجهها عينان كبيرتان بارزتان بروزًا لا يبلغ القبح، لنظرتهما حدة ولحورهما التماع، ويوحي منظرها بالهيبة لضخامتها وقوتها، وبالشهوة لأمارات الحيوانية البادية في ملامحها، والإغراء المنعكس عن خلاعتها، وقد وضعت على كتفيها شالًا مجملًا منمنمًا وجعلت تتفرس في وجهه بعينيها القادحتين.

وأدرك أحمد عاكف أنها عليات الفائزة التي يدعونها بمعشوقة الأزواج، وقد جلس زوجها عباس شفة إلى يمينها بينما جلس إلى يسارها المعلم زفتة القهوجي، وسفر المعلم نونو بين الرجل وبينها بالتعارف، فمدت له راحتها المخضبة بالحناء ورحبت به، وحدجه المعلم زفتة بنظرة تأنيب وقال له متضاحكًا: وأخيرًا عرفت إن الله حق! لكم أنفقت من عمر في حجرتك! وعلامَ ذلك التعذيب؟! .. لا أنت متزوج ولا أنت رجل عجوز، ولكنه ظلم الإنسان لنفسه!

فقال المعلم نونو يزكي صاحبه ويعتذر عن «غفلته»: يا إخواني، إن نظري لا يخيب وفراستي تصدقني دائمًا، وقد اقتنعت من أول نظرة بأن صاحبنا أحمد أفندي «ابن حظ» ولكن أضلته الظروف عن منهله العذب حينًا، وإنا لهادوه بإذن الله!

وخاف كمال أفندي خليل أن يضيق صاحبه — الذي جدت دواعٍ جديدة تحمله على إرضائه — بكثرة المداعبات فقال: الأستاذ أحمد عاكف يا سادة رجل مطَّلع، ولكن لا ضير من أن يأخذ حظًّا من السرور، فالحياة لا يمكن أن تكون عناءً متصلًا.

فلوَّح المعلم زفتة بيده كالساخط وقال: ولماذا نقضي على أنفسنا، وبمحض اختيارنا، بعناء متصل أو منفصل؟! الأستاذ موظف ذو مقام فماذا يوجب عليه أن يقرأ كالتلاميذ من غير مؤاخذة؟! عاهدنا على ألَّا تغيب عنا ليلة بعد اليوم!

فابتسم أحمد كالمرتبك، وزاد من ارتباكه أن قالت عليات الفائزة تخاطب زفتة وهي تلحظ الكهل: رويدك يا معلم، كيف يعاهدك على ذلك وقد لا يطيب بنا نفسًا؟!

فتورَّد وجه أحمد وقال مسرعًا: العفو يا هانم!

وكانوا يدعونها بست عليات فوقعت … «هانم» من آذانهم موقعًا غريبًا، أما الست فقالت: أهلًا بك في كل وقت.

وكان عباس شفة مكبًّا على تعبئة «الكراسي» ثم رص الجمرات على كرسي منها وركبها على الجوزة وقدمها إلى الست، واستقرت عينا أحمد على الجوزة في اهتمام مشوب بقلق وإشفاق، ثم مال نحو نونو، وهمس في أذنه: ألا يحق لي أن أخاف هذه الجوزة؟

فعاتبه المعلم قائلًا بصوت منخفض: إذا خفتها أنت فماذا يفعل أبناؤنا!

وتوسَّط عباس شفة الدائرة، وجعل يدير الجوزة من رجل إلى رجل، مقتربًا منه، حتى بلغت المعلم نونو، فوضع الغاب في فيه وأخذ نفسًا طويلًا اتصلت قرقرته حتى ملأت الأسماع، وزفره من خيشوميه قطعًا من سحاب داكن! وأخيرًا رأى الغاب يدنو من شفتيه والأنظار تتحول إليه، فأطبقهما عليه وأخذ نفسًا قصيرًا كالخائف ونونو يهتف به: «شد … شد.» ثم قال له بلهجة الآمر: «ازدرد الدخان!» فازدرده ثم زفره بسرعة وقد شعر كأن يدًا تكتم أنفاسه، ثم سعل سعلة اضطرب لها جسمه النحيل ودمعت عيناه، وكان نونو يرقبه بقلق فسأله لما أفاق: كيف الحال؟

فقال وهو يتنهد: أولى بي أن أبدأ بأخذ أنفاس خفيفة، ألا ترى أنك مدرس قاسٍ يا معلم؟

فقهقه المعلم قائلًا: كما تشاء ففي التأني السلامة!

ودار عباس شفة بالجوزة خمس مرات متعاقبة، وتصاعد الدخان من كل جانب وانعقد سحبًا، وشم أحمد رائحة غريبة أثارت ذكرى قديمة، ذكرى رائحة تشابه هذه الرائحة، بل هي نفسها دون غيرها، فأين شمها ومتى؟! ولم يطل به عذاب التذكر، فذكر أول لياليه بخان الخليلي، ليلة التسهيد إذ تسربت هذه الرائحة الغريبة العميقة إلى حجرته فحيَّرته، فلم تكن إلا رائحة هذا المخدر العجيب المخيف، ولعلها انطلقت ليلتئذٍ من هذه الحجرة نفسها أو من أخرى تماثلها في ذاك الحي العجيب الذي لا يبعد أن تكون جميع الأنفاس المترددة في جوه من هذه الأنفاس، وسر للذكرى وارتاح إليها أيَّما ارتياح لأن التخدير كان قد أخذ يسري في أعصابه المتوترة فليَّنها، فابتسمت أساريره، وعاد عباس شفة إلى مجلسه يستريح قليلًا، بينما مضى المعلم زفتة في تعبئة الكراسي من جديد استعدادًا للدورة الثانية وقالت الست عليات الفائزة: أما هنأتم سيد عارف أفندي؟

فالتفت إليها القوم، وقال نونو: خير إن شاء الله!

فقالت المرأة الهائلة مبتسمة: أرشده طبيب ماهر إلى أقراص جديدة وأكد له أنها مضمونة النجاح!

فعلًا ضحك الجميع — أصحاب قهوة الزهرة والآخرون — وقال المعلم نونو موجِّهًا خطابه لسيد أفندي: أمنية قلبي أن أراك يومًا مثلنا!

فقال سيد عارف كالمحتدِّ: هذا يدل على سوء نيتك!

وسألوه عن الأقراص الجديدة، ولكنه أبى أن يذكر عنها شيئًا خشية أن تصيبها نفس.

فقال المعلم زفتة: إنما الأعمال بالنيات!

وكان كثيرًا ما يستشهد في أحاديثه بالحكم والأمثال أو الأحاديث الشريفة كيفما اتفق دون مبالاة بمطابقتها لمقتضى الحال، ودون أن يفطن إلى شذوذ الاستشهاد عن معنى كلامه، على أنه لم يكن يتنبه إلى غفلته تلك إلا قلة من الحاضرين! وضاق سليمان بك عتة بالضجيج ذرعًا واشتد وجهه القبيح كآبة فقال بحنق وعنف كعادته إذا استاء أو غضب: الهدوء … يا هوه، للغرزة آدابها!

ولاحت الدهشة في وجه كمال خليل فسأله باهتمام: وما آداب الغرز؟!

فقال القرد باستياء: هذه الضجة خليقة بالحانات حيث يفقد السكارى عقولهم، الغرز على عكس ذلك جديرة بالهدوء والصمت، فالحشيش سلطان يوجب على مواليه الخشوع والسكون، بالهدوء والصمت يبلغ التخدير مداه فيصفو المزاج وتنثال على الخيال الأحلام فيظفر الإنسان بمشكلات يومه ومتاعبه ويحسن التفكير فيها وحلها واحدة بعد أخرى!

– ولكننا نجيء هنا لننسى المشكلات والمتاعب لا لنفكر فيها!

– بئس الرأي، إن الهروب من المتاعب لا يذهبها ولكنه يُنسي عذابها إلى حين كي تعود أفظع مما كانت، حكمة الحشيش تهبنا ثقة نواجه بها المتاعب بقلب قادر على الاستهانة وتهوين خطبها فتذوب في بالوعة النسيان وتمحى من الوجود.

فقال سيد عارف ضاحكًا: فليس هذا بكرسي حشيش، ولكنه كرسي الاعتراف!

وقال المعلم زفتة: صدقت، هذا حشيش القسيس! وصدق من قال يا جحا عد غنمك!

ثم قال المعلم نونو مستنكرًا وموجِّهًا خطابه لسليمان بك: وكيف يلزم الصمت مَن خلا من المتاعب؟

– وهل يخلو من المتاعب إلا حيوان؟

– فكيف شعرت بها؟!

فأجابه سيد عارف: لعله مالك الحزين!

ونهض عباس شفة بشعره المنتفش كالشيطان فدارت الجوزة دورتها الثانية، ومحت القرقرة لغط الحديث، وأخذ أحمد أنفاسًا أشد من المرة الأولى مستوصيًا بشجاعة لا عهد له بها، وبرغبة قوية في الذهول، وقد أعجبته فلسفة سليمان عتة على مقته له، فحاول أن يعالج حزنه العميق الذي أورده هذا المكان الخانق على طريقته لعله أن يبرأ، لكنه تسلَّط عليه التخدير فثقلت جفونه واحمرت عيناه ومال عنقه قليلًا، ثم ساوره خوف مفاجئ فأدنى رأسه من أذن المعلم نونو وسأله: ألا يُخشى علينا من الشرطة؟ .. هب شرطيًّا تسلل إلى الباب وقال ملعون أبو الدنيا؟!

فضحك نونو وقال: نقول له ملعون أبوك!

وبعد انتهاء الدورة جلس عباس شفة جنب زوجه الهائلة مرة أخرى وتحركت الألسن من جديد.

فقال المعلم زفتة القهوجي وهو لا يمسك عن العمل: أُبشِّركم يا إخواني بأن هتلر — حين يفتح الله له مصر — سيلغي أمر منع الحشيش ويمنع شرب الويسكي الإنجليزي!

فقال المعلم نونو: هتلر رجل حكيم ولا يداخلني شك أن الفضل الأول في مهارة خططه راجع للحشيش!

فسأله كمال خليل أفندي: وكيف أوصله إليه عباس شفة؟

فقال نونو بلهجة جدية: لا حاجة به إلى عباس شفة، فالمخزن رقم ١٣ ملآن بالحشيش النقي!

ثم هز المعلم رأسه كالآسف وقال بحسرة ظاهرة: ألم تسمعوا بما يقال من أن اليابانيين ينشرون المخدرات بين الأمم التي يغزونها!

فقال المعلم زفتة بنفس اللهجة: ليت الإنجليز كانوا حشَّاشين!

– ضاعت خمسون عامًا من الاحتلال هدرًا!

وهنا نهض سيد عارف بغتة وقد ارتسم على وجهه آي الاهتمام الشديد، ولبس طربوشه كأنما يتأهب لمغادرة المكان، فعجب القوم له وسألته الست عليات: إلى أين يا أخانا؟

فتخطَّى محيط دائرة الجلوس وهرول نحو الباب متعجلًا وهو يقول: الأقراص نجحت.

وغاب عن الأنظار في لمح البصر، فانفجر القوم ضاحكين، وتساءل كمال خليل وهو يسعل: هل حقًّا ما يقول؟!

فقال سليمان عتة بسخرية: دعاية كاذبة كدعاية أصحابه الألمان.

فقال نونو: سنعلم الحقيقة بعد تسعة أشهر!

فقالت عليات الفائزة: عِلْم هذا عليَّ هين!

وواصلوا الهزل حتى قام عبَّاس شفة ممسكًا بالجوزة فكان نذير الصمت، وفي هذه الدورة أخلد أحمد لتخدير غريب — وكان طول الوقت صامتًا راغبًا عن الكلام أو عاجزًا عنه — وشعر بأن إرادته فقدت سلطانها على أعضائه، وقد أراد أن يحرك ذراعيه ليطمئن إلى أنه ما يزال متمالكًا زمامه، ولكن شعورًا عميقًا قويًّا أغراه بالعدول عن التجربة، وهيَّأ له أنَّه لا يوجد في الدنيا جميعًا ما يستحق التعب أو الحركة، وأن الرقاد والاستسلام والرضا خير ما تجود به الدنيا ورأى القوم خَلَل نفثات الدخان فخالهم أشباح دنيا غريبة أو سكَّان كوكب آخر، ولا يدري كيف ملأه ذاك الإحساس بالغرابة، فلذَّ له أن يضحك، فضحك ضحكة طويلة واهنة شابه مطلعها التأوه وحاكى ختامها قرقرة الجوزة، فما تمالك الجالسون أن ضجوا ضاحكين! وانتبه لضحكهم رغم ذهوله، فاعتدل في جلسته ليستعيد — ما أمكن — شيئًا من يقظته، وحدث عند ذاك شيء عجيب، حدث أن نهضت عليات الفائزة قائمة، استطال ذاك الجسم الهائل في الفضاء، وامتد طولًا وعرضًا فملأ الأعين، وكانت مرتدية روبًا شد إلى جسمها ليبرز محاسن مقاطعه، ثم تحرك موكبها العظيم فسارت قابضة براحتها على طرف شالها، فلاح ساعدها مختفيًا وراء الأساور الذهبية، ولما مرت أمامه ارتاع الكهل على ذهوله، رأى الروب يتسع بعد خاصرتيها ليكتنف عجيزة لم يرَ مثلها في حياته، ريانة ناهضة مترجرجة تبرز فوق الفخذين كالمشربية، فما صدَّق عينيه! ولاحظ المعلم نونو دهشته فقال له هامسًا: انتبه فالست تطلعك على السر الذي أشقى أزواج الحي. ما هذه بعجيزة ولكنها كنز!

فقال أحمد بصوت لا يكاد يسمع: هذا شيء فوق ما يتصوره العقل!

– وأكثر من هذا أنها تحوي فضيلتين لا تجتمعان، فهي من ناحية كالكرة المنفوخة صلابة، ومن ناحية أخرى تسوخ فيها الأصابع لينًا!

– هذه لغز!

– نسأل الله السلامة.

فقال الكهل وهو لا يدري: آمين.

وكان عباس شفة يسترق إليهما النظر فسأل نونو متكلِّفًا لهجة الوعيد: فيمَ تتحدثان؟

فضحك المعلم ضحكته المجلجلة وقال: نتآمر على أَنْفَس أثاث البيت!

وكفُّوا عن الكلام فسمع صوت المعلم زفتة وهو يتحدَّث في الجانب الآخر من الحلقة ويقول لبعض المستمعين الأغراب بلهجة الناصح: ثلاثة أشياء أشير عليكم بالإكثار من اقتنائها: الذهب والنحاس والسجاد الفارسي، فقيمتها ثابتة، تبيعونها وقت الشدة أو تنتفعون بها في تجهيز البنات.

فقال رجل معهم يدعى المعلم شمبكي: تبًّا للبنات وللأزواج وللأمهات!

فأومأ عباس شفة إلى المتحدث وقال: أما علمتم بأن حرم المعلم شمبكي هجرت بيته غاضبة؟!

فتأسَّف الحاضرون، وهنا عادت الست عليات إلى جلستها فسمعت العبارة الأخيرة وقالت: لماذا يا معلم؟ أرجو ألَّا أكون السبب!

– كلا يا ست، زواج ابني سنقر هو السبب، أردت أن يتم في هدوء مراعاةً للظروف، وتأبى إلا أن تزفه القيان، فقالت لي بوقاحة: مالك علي وعلى أبنائي حرام، أما هناك فحلال!

فقالت الست عليات ضاحكة: هناك هذه هي أنا!

فاستدرك الرجل يقول مغيظًا متأسفًا: وقالت لي وهي تشد أطراف بقجة ثيابها: «سأذكرك دائمًا بأنك الرجل الذي لم يسعدني يومًا واحدًا من حياتي!» .. اسمعوا يا هوه .. أهذا كلام تقوله عشيرة ثلاثين عامًا؟!

فقالت عليات بلهجة الانتقاد المر: تبًّا لها، وارحمتا لشبابك الذي أنفقته عليها، أصغِ إليَّ يا معلم، كِدْ لها وتزوَّج من غيرها!

فهز الرجل رأسه وقد ارتسمت شبه ابتسامة على شفتيه ثم قال مغمغمًا: وهل تبقَّت في العمر ذخيرة؟

– استغفر الله يا معلم، أنت قد الدنيا.

فقال المعلم نونو متحمسًا للفكرة: نِعْم الرأي إنه لا يؤدِّب المرأة إلا الزواج بغيرها، وربنا أمر بالزواج من أربع!

– أستغفر الله العظيم، لم يأمر الله بذلك ولكنه أباحه على أن نعدل!

– ومن قال لك اظلم؟!

– صلوا على النبي، أنا رجل عجوز وما من فائدة ترجى!

– تزوَّج على بركة الأقراص الجديدة التي اكتشفها سيد عارف أخيرًا!

وهنا قال المعلم زفتة متممًا الحديث الذي قاطعه المعلم شمبكي بشكواه العائلية: واقتنوا خاصة السجاجيد الفارسية فالذهب ربما انخفض سعره، وكذلك النحاس، أما السجاجيد الفارسية فتزيد نفاسة مع الزمن، المرأة القديمة لا تساوي مليمًا أما السجادة …

وعاجلته الست بلطمة على صدره فصاح: الضرس الباقي وقع …

فقالت له: يا حشَّاش يا مجنون نحن نتكلم في الزواج، فما دخل السجاد؟!

– لا تغضبي يا ست، فالصبر مفتاح الفرج، وما دمت ترغبين في حمل المعلم شمبكي على الزواج مرة أخرى فسأقص عليه نادرة تغريه بالزواج، (والتفت إلى شمبكي) واستمر يقول: عاد شيخ إلى بيته بعد سهرة طويلة فرأى زوجته نائمة على فراشها، وكانت تتيه عليه إدلالًا بحُسنها حتى كفَّرت عن سيئاته، فمر بها إلى فراشه وهو يقول بصوت منخفض: «الفتنة نائمة!» فما كان منها إلا أن أمسكت بطرف الجبة وهي تقول «لعن الله مَن أيقظها!»

وشعر أحمد عند ذاك باختناق ولم يعد يحتمل جو الحجرة، ونفد صبره، فنهض قائمًا كالمترنح، وجذبت حركته الأنظار، فسأله المعلم نونو: إلى أين؟

فقال بصوت لا يكاد يسمع: حسبي هذا!

– هذه نهاية البداية! وما يزال أمامنا القافية والغناء والذهول الحقيقي.

ولكن الرجل أصر على الاعتذار، وتحرك في بطء وتثاقل فقال المعلم زفتة: أأقراصك نجحت أيضًا؟!

وغادر الشقة: وأمسك بالدرابزين ونزل متثاقلًا وما زال يهبط ثم يهبط حتى خال السلم مفضيًا إلى مركز الأرض، ولكنه انتهى إلى الطريق وخبط راجعًا إلى حجرته بعد أن قام بأخطر رحلة في حياته، وكانت الساعة تقترب من الثانية فخلع ملابسه في إعياء، وأطفأ النور واستلقى على الفراش، ولم يسارع إليه النوم كما توقع، وتبين له أن تحت جفنَيه يقظة قلقة حائرة وشعر بقلبه يطلق خفقات سريعة مضطربة خالها تشيل الغطاء وتحطه، وتزاحمت الصور بمخيلته فالتبست وغرقت في غموض، إلا صورة واحدة غلبت ما عداها، تلك المرأة الهائلة، فهل يلتمس وصالها كالآخرين؟ ولكن مهلًا؟ ماذا يفعل بها، إنها إذا احتضنته صغر وضؤل وصار كالبرغوث في إبط الفيل، كلا ما تلك بامرأة، إن هي إلا رمز لدنيا الشهوة الساخنة التي انغرست قدماه في شاطئها وحملقت عيناه في عبابها، وتضاعفت ضربات قلبه فجف ريقه، وتهيأ له أنه يهوي من علٍ في فضاء لا نهائي ففزع جالسًا في فراشه، وداخله شعور بالخوف واليأس .. ولبث حتى مطلع الفجر يعاني آلامًا فظيعة، جسمية ونفسية.

٣٣

ولم يفكِّر بعد ذلك في معاودة المغامرة، ولم يجد فيه دفاع المعلم نونو وتأكيده أن ما حدث له إنما كان مرجعه إلى أنه لم يطعم حلوًا بعد التدخين مباشرةً، فأعرض عن إغراء الرجل وقال لنفسه يتأسَّى كعادته: «الظاهر أن الطبائع العقلية ليست بذات استعداد للتمتع بهذه الشهوات.» على أنه لن يمسي بحاجة إلى هذا المخدر الخطير كي ينسى شجونه، فغدًا إذا تم زواج شقيقه من الفتاة برأ هو ونسي، بيد أن رشدي ما يزال يخبط في سبيله على غير هدًى، ولم يخفف من غلواء عبثه واستهتاره، فلم يسترد عافيته بل وساءت حالته، ولم يعد يخفى على عين إنسان هزاله، واستحال شحوب وجهه صفرة، وجعل يتناوبه سعال شديد ثم فترت شهوته للطعام، فهال أحمد أمره، وقال له بلهجة حازمة: كأنك لإهمالك صحتك قد عدلت عن آمالك! لماذا لم تأخذ نفسك بالاستقامة حتى تسترد صحتك؟ لذلك استعصى شفاؤك من مرضك الأول وأصابك هذا السعال الشديد، وما ينبغي لك بعد اليوم أن تعاود السهر أو الشراب، فماذا أنت فاعل؟!

ولم يكابر رشدي كعادته، لأن وطأة السعال كانت شديدة عليه، فقال بتسليم ليس من دأبه: سمعًا وطاعة!

فقال المغرم بتعذيب نفسه: تعجَّل الشفاء رشدي قبل أن يستنجزك وعدك أهل الفتاة!

وأبدى الشاب المريض عزيمة صادقة، فانقطع عن كازينو غمرة، ولم يغادر البيت مساءً إلا لإعطاء تلميذيه الدرس الخصوصي — وهو واجب يستعذبه قلبه ولا يعدل به لذة — ولأوَّل مرة مذ فارق صباه حاول أن يأوي إلى فراشه في الساعة العاشرة، مما دعا أحمد إلى الإعجاب المطلق بصنع الحب الساحر، إلا أن الشاب لم يضحِّ برحلة الصباح عن طريق الجبل على ما يقاسيه فيها من شدة البرد القارص؛ لأنها كانت متعة قلبه وزاد أحلامه، وصبر على تلك الحياة المستقيمة أيامًا دون أن يطرأ على حالته ما يبشِّر بالشفاء، بل نال السعال من حنجرته فاخشوشنت وبُحَّ أخيرًا صوته، فتعذَّر عليه ترديد أغانيه المحبوبة، وكان عيد الأضحى قد أصبح على الأبواب، وأخذت له الأسرة أهبتها ككل عام، فجيء بكبش التضحية وشد من عنقه إلى نافذة المطبخ، حيث لم يجدوا له مكانًا سواه في الشقة، ومضت الست دولت تصنع الرقاق. وقد تشكَّى أحمد — كعادته — ارتفاع ثمن الخراف، وقال إنه ربما تعذَّر عليهم ابتياع كبش في العام القادم، فهال أمه القول وقالت له ضاحكة: ابصق هذه النية وطهِّر فاك الشريف؟

وجاء العيد في الأيام الأوائل من يناير سنة ١٩٤٢، واستقبلته الأسرة — والحي جميعًا — بالبشر والفرح، وحفلت المائدة باللحوم أشكالًا وألوانًا، ومن عجب أن رشدي لم يخرج عن نظامه الجديد في العيد، والحق أن إعياءه لم يمكِّنه من إشباع رغباته، أما أحمد فأمضى عطلة العيد في قهوة الزهرة، ولكنه لم يُذعن لإغراء المعلم نونو فخاب سعي الرجل لاستدراجه مرة أخرى إلى بيت عليات الفائزة، وهل يمكن أن ينسى ختام تلك الليلة الجهنمية؟ ثم كان صباح اليوم الرابع من أيام العيد، وفي ذاك الصباح حدث ما جعل أحمد يذكره على الدوام، وقد استيقظ في منتصف التاسعة ومضى إلى الحمَّام كعادته، فوجد رشدي مكبًّا على الحوض يسعل سعالًا شديدًا يضطرب له جسمه الهزيل؛ فاقترب منه حتى صار لصقه، ومد يده ليربِّت على منكبه فلاحت منه التفاتة إلى الحوض فرأى بقعة حمراء! .. فتصلبت يده وخفق فؤاده خفقة انخلع لها صدره وهتف بصوت متهدج: ربَّاه!

ثم نظر نحو شقيقه في ارتياع، وكان كف عن السعال ولكنه لم يزل في غيبوبة منه، يعلو صدره وينخفض، ويتنفس بصعوبة، وقد احمرت عيناه، فتريث الرجل حتى استعاد الفتى أنفاسه، وقال بلهفة منزعجًا وهو يشير إلى البقعة الحمراء: ما هذا يا رشدي؟!

فرفع إليه الفتى عينين كئيبتين وقال بصوته المبحوح: هذا دم!

– ربَّاه!

فتجلَّى الحزن في عيني الشاب، ثم أفلت منه زمام نفسه فاغرورقت عيناه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: أصبت وانتهيت!

فقال أحمد وكأنه يتوسل إليه: لا تَقُل هذا:

فقال الشاب بقنوط: هي الحقيقة يا أخي!

وفتح أحمد الصنبور ليغسل الحوض. وتأبط ذراع الشاب، وسار به إلى حجرته — حجرة الشاب — ومضى إلى النافذة فأغلقها، وجلس رشدي على الفراش فأتى الآخر بكرسي وجلس أمامه، ثم سأله بعد أن ازدرد ريقه: ماذا تقول يا رشدي؟! صارحني بكل شيء.

فقال الشاب بهدوء: ذهبت أخيرًا إلى طبيب فقال لي إن بالرئة اليسرى مبادئ سل!

٣٤

والحقيقة أنه ظل يعاني آلامًا بارحة منذ منتصف ديسمبر، وحدث أن اشتدت عليه نوبة السعال في المصرف مرة فاستخرج منديله ليبصق فيه فما روَّعه إلا أن بصق فيه دمًا! ورمق البصقة الدامية بنظرة ذعر وارتياع، ثم دس المنديل في جيبه خشية افتضاح أمره، وغادر المصرف إلى عيادة طبيب أخصائي في الأمراض الصدرية، وجلس بين المنتظرين يقلِّب بصره الزائغ في الوجوه الشاحبة والأجسام الهزيلة ويسعل مع الساعلين، واستولى عليه القلق والانزعاج، وتساءل هل يقع فريسة لذاك المرض الخطير الذي تقشعر لذكره الأبدان؟ وكان سمع مرة صاحبًا يقول إن السل داءٌ لا بُرْءَ منه، فذكر قوله خافق الفؤاد، ولم يكن سبق أن أصيب بمرض عضال، فأشفق من أن يكون ذاك الداء الوبيل أولى تجاربه القاسية، واشتد به القلق في جلسته حتى تهيَّأ له أن يقتحم حجرة الكشف، ولكنه تصبَّر حتى جاء دوره فدخلها يقاوم جاهدًا اضطرابه وانزعاجه، وألقى على أركان الحجرة نظرة عجلى خطفت العدد والآلات وأخيرًا الطبيب العاكف على حوض صغير يغسل يديه، ثم انتظر واقفًا، وجفف الدكتور يديه والتفت نحوه. كان قصيرًا نحيفًا دقيق الأعضاء، إلا أنه كبير الرأس أصلعه، واسع العينين جاحظ الحدقتين، حاد النظرة، فحيَّاه الشاب برفع يده إلى رأسه، فقال له الرجل بصوت رفيع: أهلًا وسهلًا تفضل بالجلوس.

فجلس رشدي على مقعد كبير، ودلف الدكتور من مكتب أنيق وجلس أيضًا وراءه واستخرج كراسة ضخمة وفتحها وسأل الشاب عن اسمه وصناعته وعمره ورشدي يجيب. ثم حدجه بنظرة الاستفهام التقليدية فأشار رشدي إلى صدره قائلًا: أريد أن أكشف على صدري.

وما كاد يتم قوله حتى انتابه سعال عنيف، فانتظر الدكتور حتى أمسك واسترد أنفاسه وسأله: هل أصابك برد؟ .. متى؟

– أصبت بالأنفلونزا منذ أكثر من أسبوعين، وكانت حادة، والظاهر أني استأنفت عملي قبل أن أبرأ تمامًا، فلم يفارقني الإعياء، ثم كان هذا السعال العنيف فتدهورت صحتي.

وأسهب الشاب في وصف السعال وآلامه وعمَّا فقد من وزنه، فقاطعه الدكتور متسائلًا: ومتى بُحَّ صوتك؟

فأجاب الشاب: منذ أسبوع على الأقل.

فأمره أن يعرِّي نصفه الأعلى، فقام الشباب، وأخذ في فك رباط رقبته ثم خلع السترة والقميص والفانلة، وتصدَّى للطبيب نضوًا مهزولًا، ووضع الرجل السماعة على أذنه وجعل يتلقى بها آثار نقر سبابته على الصدر والظهر، ولاحظ رشدي أنه كرَّر ذلك كثيرًا على موضع في أعلى النصف الأيسر من الصدر، وطلب إليه أن يرتدي ملابسه، ثم سأله: هل بصقت دمًا؟

فانخلع قلب الشاب، وتريث قليلًا، ثم قال بصوت منخفض: نعم … لاحظت ذلك مرتين أو ثلاث.

فجاء الطبيب بقنينة زرقاء وأمره أن يتنحنح بشدة ويبصق فيها، ثم مضت فترة وجيزة ورشدي منتصب القامة، ثقيل الأنفاس، كمتهم ينتظر النطق بالحكم، وقال الدكتور: إني أشك في وجود حالة ما في الرئة اليسرى، وليس من الحكمة الجزم بشيء الآن ولكن اذهب توًّا إلى الدكتور (…) ليصور صدرك بالأشعة وعد إليَّ بالنتيجة.

وحذره من أن يشق على نفسه بأي مجهود! ولكن رشدي لم يبرح موقفه وقد تجهم وجهه وغشيته كآبة ثقيلة، فاستطرد الدكتور قائلا: عسى أن أكون مخطئًا! ولكن حتى لو صح ظني فالإصابة بسيطة.

ومضى إلى الدكتور الآخر لتصويره بالأشعة، وانتظر أيامًا يعاني آلامًا نفسية مروعة إلى جانب آلام السعال، ولم يكن في الحقيقة مطبوعًا على الخوف أو الوساوس والأوهام، ولكنه وجد نفسه فجأة تحت رحمة أفتك الأمراض، وأثر فيه اسم المرض تأثيرًا بالغًا. ثم رجع إلى الدكتور الأول ومعه صورة الأشعة، وفحصها الرجل بعناية ثم تحول إليه قائلًا: كظني تمامًا! .. سمِّهِ خدشًا خفيفًا أو قذارة سطحية إن شئت.

وغاض الأمل، ولاح القنوط في العينين العسليتين وهما ترمقان صورة الأشعة بنظرة ساهمة لا تفقه شيئًا، خدش خفيف أو قذارة سطحية! .. هل تُضْحي الحياة رهينة بهاتيك التوافه؟!

وقال للدكتور بصوت حزين: فلنسمِّه بما تشاء، فهل يعني هذا إلا أنه سل لا يرجى له شفاء؟!

فحدجه الدكتور بنظرة استنكار وقال بصوته الرفيع: لا يهولنَّك هذا الاسم، واطرح جانبًا المخاوف التي لا أساس لها من الحق أو العلم، واعلم أن حالتك مضمونة الشفاء إذا اتَّبعت ما أنا موصيك به.

وأمسك قليلًا كالمتفكر، فقال الشاب بإشفاق: يقولون إن هذا الداء لا شفاء منه!

فهز الرجل منكبيه باستهانة وقال: انبذ هذه الآراء، واعلم أني كنت يومًا من ضحاياه، بيد أنه يلزمك الغذاء الجيد جدًّا والراحة التامة والهواء الجاف النقي، وكل أولئك متوفر في المصحة، فإلى حلوان دون تردد.

– وكم يستغرق العلاج من الزمن؟

– ستة أشهر على أكثر تقدير!

فانقبض صدر الشاب، وأيقن أن هذه المدة تقضي عليه حتمًا بفقد وظيفته، وغدًا إذا ذاعت الحقيقة وعلم بها «الجيران» فقد فتاته كذلك! فنفر من اقتراح المصحة، وقال للدكتور وإذا كانت هذه الشروط متوفرة في البيت؟

– أين تقطن؟

– في خان الخليلي.

– هذا مكان رطب فيما أعلم، والمصحة خير مأوًى لك، ولا تَنْسَ العناية الطبية هنالك!

وقوي أمله في أن يُستشفى في البيت دون أن يعلم بسره إنسان فيطمئن على وظيفته وفتاته، فقال: وإذا تعذر عليَّ الانتقال إلى المصحة؟

فهز منكبيه تارة أخرى وقال: هنالك ينبغي لك مضاعفة العناية في البيت، خصوصًا الراحة والغذاء، فإيَّاك أن تفارق فراشك، وسأصف لك العلاج الطبي.

وفي أثناء انشغال الدكتور بكتابة «الروشتة» خطر له — أي الشاب — خاطر هام، فتردد لحظة ثم قال متسائلًا: ثمة سؤال آخر: هل يمكن … أعنى متى يمكن أن يتزوج من كان مريضًا مثلي؟!

فابتسم الطبيب لأول مرة ثم قال: أرجو بالعناية أن تبرأ بعد ستة أشهر، ومن الضروري بعد ذلك أن تبقى عامًا كاملًا تحت الاختبار، ويا حبذا لو صبرت نصف عام آخر …!

ونصحه مرة أخرى بالانتقال إلى المصحة إذا وسعه ذلك، ثم وصَّاه — إذا لم يسعه الانتقال — بزيارته من حين لآخر، وعاد رشدي ينوء بكمده وكربه، وكان كل شيء يبدو كحلم مزعج، وامتلأت أذناه بل دنياه جميعًا بذلك اللفظ المرعب «السل»، فهل يصدِّق ما يقوله الناس، أو يطمئن بما قال الدكتور؟ وهل قرَّر الدكتور — بما قال — الحقيقة أو أراد أن يُفْرخ روعه؟ ولكنه صارحه أيضًا أنه كان من ضحايا المرض، ولا يجد مسوِّغًا لتكذيبه، أجل إن ستة أشهر زمن طويل، فليتحلَّ بجميل الصبر وليتوكل على الله، ولو كان حرًّا يفعل ما يشاء لفضل الاستشفاء في المصحة، ولكن دون ذلك فقدان وظيفته وحبيبته! فما العمل؟! إن صحته مهددة، صحته التي لم يقدرها حق قدرها إلا الساعة، فلم يذكر أوقات العافية والنشاط متحسِّرًا متأوِّهًا قبل اليوم، ولا سبق إلى ظنه أن الصحة شيء يزول أو يتغيَّر، ولكن ما قيمة الصحة إذا فقد عمله؟ وما جدواها إذا حيل بينه وبين الفتاة التي شغف بها حبًّا؟ فمن الحكمة ألا يبرح البيت، وأن يتعهد نفسه بالعناية والدواء دون أن يطَّلع أحد على سره، وبذلك يسترد صحته محتفظًا بسره ووظيفته وحبيبته، هكذا تسلسلت أفكاره، ويسر له الاقتناع بها أن قواه كانت وما تزال متماسكة، وقدرته على النشاط والحركة متوفرة، وشرع في العلاج منطويًا على سره حتى شاءت المصادفة أن تُطْلع أخاه عليه، فبرح الخفاء! والواقع أنه لم يأسف لذلك كثيرًا، لا لأن أخاه قطعة من نفسه فحسب، ولكن لأن صدره بات يتصدع بسره الخطير، فوجد في البوح لشقيقه ارتياحًا وسلامًا، فأفضى إليه بكل آلامه، ما عدا ما يتعلق منها بالمصحة مستوصيًا بالحذر.

٣٥

وأصغى الكهل إليه في صمت وذهول وحزن عميق، وزايلته الحالة المضطربة التي كانت تعتور مشاعره نحو أخيه فتسبغ عليها ألوانًا متضادة من الميل والنفور، فلم يعد يشعر نحوه بغير شعور واحد لا يقاوم، ودرَّت حناياه له حبًّا خالصًا وإشفاقًا شديدًا وحزنًا مبرحًا.

بيد أن ذكرى خطرت من الماضي القريب الأسيف، ولكنه ذبَّها عن مخيلته بقسوة خجلًا ثائرًا وامتلأ صدره حنقًا على الفتاة التي استثارتها!

وانتهى رشدي من قصته فتبادلا نظرة أسًى وحزن وكآبة، ثم قال أحمد: هذا أمر الله، لن نيأس من رحمته. فينبغي أن نصدِّق الطبيب فيما يقول فليس العهد بالأطباء أن يكذبوا رحمةً بمرضاهم، فالإصابة إذن بسيطة ولكن ينبغي أن نحشد لها كل ما في وسعنا من عناية وحكمة، وإن كان يدهشني أنك لم تفضِ إليَّ بالحقيقة في وقتها!

فقال الشاب بسرعة وإن خالف الواقع: عرفت الحقيقة قبيل العيد مباشرةً فلم أرد أن أزعج أحدًا، ولكني كنت أتحين الوقت الذي أفضي إليك بالأمر وحدك!

فقال أحمد بحزن شديد: هي إرادة الله، فلنصبر على حكمه حتى يمن علينا بالشفاء، وهو أرحم بنا من أنفسنا، والآن فأخبرني عمَّا عزمت عليه.

فساور رشدي القلق، ورمق أخاه بحذر وهو يقول: سأنفذ وصايا الدكتور بطبيعة الحال، وقد أوصاني بالراحة والتغذية الحسنة وبعض الحقن!

فبدا على وجه الرجل كأنه لم يقتنع بما سمع وقال: ولكن المصابين بهذا المرض يقصدون عادة إلى المصحة!

فكذب رشدي مرة أخرى قائلًا: لم يجد الدكتور ضرورة للمصحة!

فلاح الأمل في نظرة الكهل الواجم وقال: لعلها إصابة تافهة يا رشدي!

– أجل .. أجل .. هذا ما أكَّده لي!

– عسى ألَّا تطول إجازتك!

فعاد القلق يساوره، وقال بصوت منخفض: ولكني لن أطلب إجازة!

فانزعج الرجل وقال بإنكار: فكيف يتم استشفاؤك؟! .. إياك وأن تستهتر بالمرض مهما قيل عن بساطة الإصابة وحسبك استهتارًا يا رشدي!

– معاذ الله أن أستهين بحياتي يا أخي، وسترى بنفسك منذ اليوم أني سآخذ نفسي بالراحة المطلقة فيما عدا أوقات العمل، وسأعوض ما أبذله من قواي لعملي بالغذاء المختار والأدوية المقوية، أما طلب إجازة مرضية فمخاطرة بوظيفتي وبمستقبلي!

– ألا تغالي في تقديرك؟!

– كلا يا أخي، فإذا عرف طبيب المصرف مرضي استحال عليَّ العودة إلى العمل قبل الشفاء التام، وقد يقتضى ذلك زمنًا طويلًا لا آمن معه أن أفصل من وظيفتي! بل الفصل محتوم في تلك الحال نظرًا لما منحته من إجازات مرضية هنا وفي أسيوط من قبل.

فتجهَّم وجه الكهل واشتد عليه الضيق، ثم قال بتألُّم: ربَّاه، الصحة فوق الوظيفة، كيف يتاح لك الشفاء وأنت جاهد في عملك؟!

فقال رشدي برجاء وانفعال: لقد استأذنت الدكتور في ذلك فأذن لي، وهو أدرى. وسيتم الشفاء بإذن الله بغير ضياع مستقبلي، وبغير «فضيحة».

فاشتد التأثر بأحمد وقال مستنكرًا: فضيحة! .. ليس في الأمر فضيحة، هذا بلاء من الله، وكل إنسان عرضة للأمراض إلا من أمر الله له بالسلامة، ولكني أخاف.

– لا تخفْ، وادعُ لي ربك، وستجد مني ما يطمئن خاطرك!

فسكت أحمد مغلوبًا على أمره، وتنهَّد الشاب بارتياح وراح يحدِّث أخاه بما سوف يتخذ من تدابير الوقاية، فقال له: إنه سيحضر حامض فنيك لتطهير الحمام والحوض كل صباح، وإنه سيقتني أواني خاصة لطعامه وشرابه متعلِّلًا بأنها هدية من شخص عزيز، وأنصت الرجل إليه بانتباه، ولأول مرة خامره الخوف والقلق، وخشي العدوى، وكان بطبعه هيَّابًا موسوسًا، أما رشدي فكان يتحفز لضراعة جديدة لا تقل خطرًا في نظره عمَّا سواها إن لم تزد فقال: وهناك يا أخي أمر عظيم الأهمية أرجو أن ترعاه بالعناية التي أرعاه بها، وهو أن يبقى ما دار بيننا سرًّا دفينًا.

فدهش أحمد، وذكر ما قاله منذ لحظات من أنه سيقتني أواني خاصة متعلِّلًا بأنها هدية، فغمغم قائلًا: ووالدانا؟!

فقال رشدي بحزم: لا ينبغي أن يعلما بشيء، فلا داعي لإزعاجهما، ثم إن فزع أمي كفيل بافتضاح السر!

فارتبك الرجل، وأيقن أنه مقبل على حياة مؤلمة غريبة فتنهَّد قائلًا: بيدك الأمر يا رشدي، فإذا توثبت للشفاء حقًّا أمكن أن يظل السر سرًّا، أما …

– لا تخف لم تعد الاستهانة ممكنة بعد اليوم.

وأدرك بسهولة ما يحمل الشاب على إخفاء مرضه حتى عن والديه، فإنه ليخاف أن ينمو الخبر إلى مسامع أسرة فتاته فيهون عليهم بمرضه، وتأثر لذلك غاية التأثر، وتغلغل الحزن في أعماق قلبه، بيد أنه خشي أن يكون الشاب قد شق على نفسه بالاستمرار في عمله — على مرضه — ليبدو أمام الفتاة وأسرتها كالسليم المعافى، خشي أن يؤذي نفسه في سبيل حرصه على الفتاة، فاستجمع شجاعته وقال بصوت كالهمس: رشدي إذا كنت ترغب عن طلب الإجازة كي يبقى الأمر سرًّا، فيمكن أن نختلق سببًا نعتل به على طلب الإجازة غير هذا المرض!

ولكن رشدي هز رأسه بحدة وقال بلهجة دلت على البرم: لا تَعُدْ إلى ما انتهينا منه!

فسكت أحمد، ثم نهض بعد فترة وجيزة وهو يقول: تشدد وكن رجلًا كعهدي بك دائمًا، واعلم أن الشفاء رهن بإرادتك، حفظك الله ورعاك.

ورجع إلى حجرته محزونًا ضيق الصدر، وقد استثار الداء الخطير مخاوفه فاهتز فؤاده عطفًا على شقيقه المحبوب، نسي في تلك الساعة أنه كان الآلة التي طعن القدر بها آماله، أو أنه الشخص الذي جرح كبرياءه وداس غروره، ورآه على حقيقته الأخ المحبوب الذي نشأ بين ذراعيه وغذَّى عواطف الأبوة من نفسه عشرين عامًا، ولما حانت منه التفاتة إلى النافذة المغلقة التي سماها يومًا بنافذة نوال تحوَّل عنها كالغاضب، وأبى قلبه أن يذكر الفتاة كأن استدعاءها إلى رأسه جريمة لا تغتفر في حق الشاب المريض، فينبغي أن تقطع هذه الكارثة المحزنة ما تخلَّف من أسباب الذكريات، وقال لنفسه: «ذاك شيء انتهى وانقضى، والتأسف عليه وخز لعواطف الحب التي يكنها قلبي لشقيقي.» وكان يتكلم بحدة دلت على السخط والاستياء، والحق أنه كان ساخطًا على نفسه، فلم ينسَ أمنيته الآثمة أن تبيد القاهرة، ولا حلمه المخيف الذي استيقظ منه على تأوهات الشاب ليلة اشتداد الحمى عليه، ربَّاه أي شيطان مقيت في أعماقه ينفث هاتيك الأخيلة!

٣٦

وتوثَّب رشدي عاكف بحماس لمقاومة مرضه الخطير، وواظب على تناول ما أشار به الدكتور من الحقن والأدوية، وخص نفسه — فوق طعام البيت المعتاد — بأغذية ملحوظة الفائدة كاللبن والبيض والعسل والكبد والحمام، وأنفق في ذلك عن سعة، وكان يُطلع أخاه على خطى كفاحه أولًا بأول ليطمئن فؤاده المحب، ومضى شهر يناير جميعه ببرده القارص على حال تبشر بالخير، فقنع من يومه بساعة سرور واحدة يمضيها بين تلميذيه المحبوبين، ثم لا تأتي الساعة العاشرة مساءً حتى يكون قد راح في نوم هادئ عميق. وزايلت البحة صوته وخف السعال فأوشك أن يزول، وراعه ذلك وأيقن فرحًا جذلًا أنه يتماثل للشفاء ولكن هزاله، لم يزُلْ ولونه لم يُسترد، وكان يزور الطبيب كل عشرة أيام فوالاه بالنصح ووصَّاه بمضاعفة العناية.

وقد كانت أيام المرض الأولى سودًا: فوقع فريسة للأوهام والمخاوف، وخامره شعور مفزع بالقنوط، وتهيأ له أن حياته تؤذن بالوداع، حياته التي يكن لها حبًّا لا يكنه لها أحد من بنيها المخلصين، وكلما ذكر أنه في القاهرة حيثما كان ينبغي أن يكون في حلوان، وأنه في عمل بينما كان ينبغي أن يكون في إجازة، اشتد خوفه وفزعه، بيد أن أولئك الانفعاليين لا يعرفون التردد فيما تدعو إليه أهواؤهم، ويتخذون من عقولهم ما يتخذه الآثم من المحامي الماهر، فاستطاع أن يقنع نفسه — حتى في ساعات خوفه — بوجاهة الرأي الذي ارتأه ونفَّذه، ولما زايلت صوته البحة وسكت فيه السعال أو كاد، غمره الارتياح، واسترد ثقته بنفسه، وشعوره بالأمان وتعلقه الأمل، وتساقطت الطمأنينة على فؤاده المروَّع قطرات من السكينة والرحمة، ولم يمضِ على ذلك أمد طويل حتى عاوده شعوره بالجسارة ونزوعه إلى الاستهتار، وألح عليه حبه العميق لمسرات الحياة، فلم يعد المرض وخطره شغله الشاغل، ورمق صبره وقوة إرادته بعين الإعجاب، وذكر شهر يناير — الذي أذعن فيه لما عاهد عليه نفسه أمام أخيه — بالدهشة والإكبار، وكأنه لا يصدق أنه استطاع حقًّا أن ينزوي ويستقيم شهرًا كاملًا، ومن فرجة الأمل الباسم سمع مسرات الحياة — مسرَّات حياته — تناغيه بهمساتها الساحرة كتغاريد البلابل في الصباح الباكر، فذكر في وحدته الإخوان وكازينو غمرة والليالي الصاخبة، فتخايلت لعينيه وجوههم المرحة، ورنت في أذنيه أصداء ضحكاتهم المجلجلة، ودعاؤهم له بقلب الأسد، كنيته التي يحبها ويطرب لها ويخاف عليها عوادي النسيان. يا لهم من إخوان لا تطيب الحياة إلا بهم، ما أظرفهم وما ألطفهم! وهل يمكن أن ينسى كيف انثالوا على السؤال عنه بالتليفون في المصرف حين انقطع عنهم؟! أين أنت يا عم رشدي؟ ما هذه الغيبة الطويلة؟ لقد كنت في أسيوط أقرب إلينا منك وأنت في القاهرة! إلامَ يبقى كرسي قلب الأسد شاغرًا؟ أوحشتنا نقودك! ولَكَمْ ضاحكهم ودافعهم واعتذر لهم بمشاغل هامَّة! وأهاجه الحنين إلى الصحاب واستفزَّه الشوق إلى المرح واستهامته اللهفة على اللذات، وجعل يقول لنفسه هل في لقاء ليلة حرج؟! هل تقتل سهرة أو تميت؟! والحق أن هيامه بالحياة لم يفتر بسبب الداء، بل بالأرجح أنه غدا أرهف حسًّا وأعنف نشاطًا وأضرم حبًّا وولعًا، ثم استحر الإغراء فانعدم التردد، ووجد لخلاصه من عذاب الحيرة ارتياحًا فراح يدندن بصوت رخيم «ما أقدرش أنساك»، ولم يكن ترنم بغناء منذ شهر ونصف. وعندما أتى المساء تلفع بمعطفه وأحكم الكوفية حول عنقه ومضى إلى السكاكيني، وما إن لاحت لعينيه حديقة كازينو غمرة حتى هتف من أعماق الفؤاد «أهلًا وسهلًا ومرحبًا»، وتلقاه الإخوان بالسرور، فاستسلم لتيارهم الجارف، وأخذوا في الحديث الماجن كعادتهم طويلًا، ثم انتقلوا إلى البهو الداخلي يدخنون ويشربون ويقامرون، وخاف أن يمتنع عن لذة فيثير الظنون، ورغب من ناحية أخرى أن يتناسى — في يقظة الأمل — أنه يطوى في رئته اليسرى ما تقشعر الأبدان لذكر اسمه، فدخن بسرور وشرب كأسين من الكونياك بعثتا الدفء إلى جسده البارد، وقامر أيضًا وإن تردد قليلًا لأن تكاليف التداوي أرهقت ميزانيته، ولكن الحظ ابتسم فربح زهاء الجنيهين، وآب مسرورًا وإن شعر بحرارة تلتهم أنسجته، وأجهده المشي في الجو القارص، وبلغ البيت في حالة مضعضعة من الإعياء، وما إن أغلق الباب في هدوء حتى انفتح باب حجرة أحمد ولاح الرجل وراءه فدعاه إلى حجرته، ومضى إليها مرتبكًا يمشي على استحياء، وهتف به أخوه: ماذا فعلت؟ .. هل جننت؟ .. أهذا ما اتفقنا عليه؟!

فلاذ بالصمت وقد ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة تدل على الارتياح والحرج فاستدرك أحمد: هذا فوق التصديق، وما دريت به حتى نبا في الفراش، وظل نومي خفيفًا قلقًا حتى أيقظتني صفقة الباب، أهذا ما اتفقنا عليه؟

وخرج رشدي عن صمته بأن قال بصوت منخفض: أنت تعلم يا أخي أني حافظت على الاتفاق شهرًا كاملًا، ثم نازعتني نفسي أن أروِّح عنها قليلً.

– هذا كلام إنسان يجهل الحقيقة أو يتجاهلها، ألا تعلم أن استهتار ليلة واحدة يهدم ما بنيته في شهر كامل؟

– ولكني في الواقع أشعر بتحسن كبير!

فقال أحمد بحدة: أنت تخدع نفسك، وتقسو عليها بجهلك، وتركك حرًّا خطأ كبير، ولو كان الدكتور يعلم بما فُطرت عليه استهتار لحتَّم عليك أن تنتقل إلى المصحة غداة الكشف عليك.

فتجلَّى الحزن في عيني الشاب، وتكدَّر صفوه، وكان الجهد قد أعياه، فقال كالمعاتب: لا تكن قاسيًا على غير عهدك.

– ها أنت ذا لا تفرِّق بين الحنان والقسوة، فتدعوني قاسيًا جزاء قلقي وسهادي وإشفاقي، فلكم تقسو على نفسك وعليَّ!

واشتد بالشاب الإعياء والتأثر، فاغرورقت عيناه، مما أسكت غضب أحمد وحوَّله إلى إشفاق وتألَّم وعدم ارتياح، فوضع يده على كتف الشاب وقال بهدوء: حسبك تعبًا وحسبي ألمًا فلا تبْكِ لا بكيتَ أبدًا، ولن أزيدك فالله وحده كفيل بأن يلهمك الصواب، إن قلبي يخاف عليك ويدعو لك فامْضِ إلى فراشك واتَّقِ الله في صحتك!

وجعل يتساءل منزعجًا تُرى هل يستعيد الشاب سيرته الأولى من الاستهانة بالرغم من مرضه الخطير؟

٣٧

واستقبلت الدنيا أيام فبراير الأولى مشفقة من رياحه العاصفة وزوابعه الباردة المزمجرة، وقد تلفَّعت السماء بأردية ثقيلة داكنة من السحاب الجون، فأمست الأرض، كفرخ في بيضة، ترقب الربيع لتشق حجاب الظلماء عن بهجة النور وعبير الأزاهر، وظل رشدي جسدًا مهزولًا في قرارته ضرام لا يخمد من العواطف والأحاسيس وفي قلبه تمرد ثائر على الأغلال التي صفده بها المرض الخطير. وكان الطبيب أعاد عليه الكشف أخيرًا وقال له إن حالة الصدر لم تتحسن! فخاب أمله، وتنغص عليه سروره السابق بشفاء صوته وسعاله، لقد صبر طويلًا، وهجر الحياة التي يعشقها، وكان يرجو ويأمل، فمتى تتحسن إذن؟ والأدهى من ذلك أن الطبيب ألح عليه أن يجد سبيلًا إلى حلوان؛ فهل أيس الرجل من أن يسعى الشفاء إليه في القاهرة؟! وما جدوى العذاب والصبر إذن؟ وفضلًا عن هذا فأخوه لا يخفي عنه عدم ارتياحه لهزاله وشحوبه، فبات ساخطًا متبرمًا.

وكان ذات مساء يلقي درسه على تلميذيه، فكلَّفت نوال أخاها أن يحضر كوبًا من الماء، ولما خلا لهما المكان قالت للشاب بسرعة متسائلة: «ألا تستطيع أن تقابلني صباحًا كما كنت تفعل؟ .. ولو مرة واحدة!» فخفق قلبه خفقة السرور وقال دون تردد: متعاميًا عن العقبات جميعًا: «غدًا صباحًا!» ثم ذكر أخاه الذي صار سجَّانه فقال لنفسه: «إنه سلَّم بضرورة خروجي صباحًا الساعة الثامنة، فما يضيره لو قدمت الميعاد ثلاثة أرباع ساعة؟» ونهض مبكِّرًا في اليوم الثاني، وتناول فطوره الدسم، ورصد أخاه حتى دخل الحمام فانطلق إلى الخارج كالهارب، ورأى في الممر المفضي إلى السكة الجديدة حبيبته تسبقه بخطاها الخفيفة مرتدية معطفها الرمادي، متأبطة حقيبتها، فطرب قلبه طربًا أنساه شجونه، ثم صعد في أثرها طريق الدراسة، فذكر كيف كان يصعد هذا الطريق في أعقابها صحيحًا معافًى صافي أديم الفؤاد، وتنهَّد من أعماق فؤاده متحسرًا مغمغمًا: «ما أنفس كنز الصحة!» ورفع بصره إلى جبل المقطم وقد أطبقت السحب على قمته، وكانت السماء تذكِّره دائمًا بربه فدعا الله أن يأخذ بيده!

ولحق بها بعد المنعطف، وأخذ يمناها بيسراه، فعطفت رأسها نحوه وعلى ثغرها ابتسامة، وقالت تداعبه بلهجة لم تخلُ من عتاب: أهان عليك طريقنا هذا أيها الغادر؟

فهز رأسه متأسِّفًا وتمتم: لعن الله البرد!

– كان ينبغي أن تبرأ منذ أمد طويل، فما هذا التلكؤ؟!

فامتعض قليلًا وقال: أجل، وما بقي فهو هين .. والحق أن إهمالي هو المسئول الأول!

وكانت تعلم طبعًا أنَّه انقطع عن لقاء الصباح بسبب السعال، فلما زايله السعال، تشجَّعت ودعته إلى مرافقتها شوقًا إلى الانفراد به، وقد اختلست نظرة من وجهه الشاحب النحيل وقالت له: ألا تدري ماذا تقول عنك نينة؟

فخفق فؤاده، وخشي أن يسمع تلميحًا لبقًا إلى مسألة «الخطوبة» وسألها: ماذا تقول يا ترى؟

قالت لي ضاحكة: ما بال أستاذك نحيفًا كالخيال؟ هلَّا تقبَّل مني وصفة للسمن؟!

وضحكت نوال ضحكة رقيقة، فجاراها في ضحكها، ليداري شعورًا بالحزن غشي صدره، وساوره القلق، ولكنه لم يرَ بُدًّا من أن يقول بلهجة تكلف بها السرور: وما حاجتي إلى السمن والنحافة موضة؟! أبلغيها شكري وقولي لها إني طامع في المزيد من النحافة.

وقطَّبت فجأة كأنما ذكرت أمرًا ذا خطر وقالت بلهجة التعنيف: على فكرة يا ماكر! .. يحلو لك أحيانًا ونحن حول مائدة الدرس أن تداعب قدمي بقدمك متجاهلًا أن قدميك منتعلتان وقدمي عاريتان!

فضحك رشدي، وقد تورَّد وجهه، وقال: نفسي فداء لقدميك العزيزتين!

ومرا عند ذاك بالقهوة المعروفة بنادي الصحراء، فقالت له وهي تومئ إلى النادل وكان يتناول فطوره: ألم تَدْرِ أن هذا النادل الخبيث فطن إلى تواعدنا كل صباح؟! فلما رآني أسير وحدي الأيام الماضية جعل يصفق بيديه كلما مررت به ويقول وكأنه يحدِّث نفسه: «أين أليفك يا بلبل؟ .. كل الأحبة اثنين اثنين!» .. ربَّاه! .. لكم تولاني الحياء حتى كدت يغمى عليَّ!

واسترسلا في الضحك مرة أخرى وكانا يقتربان من منعطف الطريق الذي توجد على جانبيه مقبرة عاكف الخشبية، ولمحتها الفتاة فقالت: أنتم مدينون لي بمائة رحمة على الأقل، لأني أقرأ الفاتحة لمقبرتكم كل صباح!

فقال لها مبتسمًا: أنت يا نوال رحمة للجد وعذاب للحفيد!

ثم امتدت بصره إلى المقبرة فسرعان ما خطر له خاطر مخيف كأنه شيطان انشقت عنه أرض الموتى، هل يجري القضاء غدًا بأن تقرأ فتاته — وهي آخذة في طريقها هذا — الفاتحة على روحه هو؟! وانقبض صدره، ثم استرق إلى وجهها الأسمر نظرة غريبة، فشعر بأنها كل أمله في الوجود، وبأنه إذا جاز لشيء أن يسخر من الموت ويستهين بمخاوفه فهو اتحاد قلبين متفانيين، ووجد دافعًا قويًّا يدعوه إلى التعلُّق بها، وضمَّها إلى قلبه، بل إلى شغاف قلبه إذا أمكن، ولاحت منها التفاتة إليه فطالعت نظرته الحالمة، فلاح في وجهها الجد، وسألته: لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

فقال بصوت متهدج: لأني أحبك يا نوال … لقد أدركت — وأنا أنظر إلى القبور على ضوء عينيك — معنى القول أن الحياة الحب، وقالت لي القبور إن كل ساعة نرضى بأن تفرق بيننا جريمة عقابها ظلمة القبر، وسمعت صوتًا يهتف بي: لله ما أحمقكم تضنُّون بالتافه من الأشياء عن العبث وتعبثون جزافًا بنعمة الحياة!

فتورَّد خداها، وأضاءت عيناها الصافيتان بنور الوجد: فلم يعودا — هو وهي — يشعران بهبات الهواء البارد المندفع من الصحراء، وشد على راحتها وسارا صامتين. ومضى يتساءل تُرى كيف يسوِّغ أن يمسك عن ذكر «الخطبة» بعد كل ما قال! وكانت تتوقع من ناحيتها أن يطرق الموضوع المحبوب قبل كل خطوة تخطوها، ولكنه لزم الصمت حتى شارفا نهاية الطريق، وتوادعا ثم افترقا، فبطؤت حركته وهو يتابع مسيرها بنظرة استجمعت في حنانها جميع ما في قلبه من حب ووجد وحزن، حتى انعطفت مع الطريق إلى العباسية، وأخذ في طريقه إلى محطة الترام، وعند ذاك فحسب شعر بالإعياء واضطراب الأنفاس ودوار يوشك أن يصير غيثانًا.

•••

ولذلك لم يفُتْه أن يحدِّث أخاه عن الخطبة وعمَّا عسى أن يحدثه إمساكهم عن فتح موضوعها من سوء الظنِّ في نفوس أهل الفتاة، ولكن أخاه — وكان غاضبًا لعودته إلى الخروج المبكر — لم يوافق على مفاتحة كمال خليل أفندي بهذا الشأن قبل الشفاء الكامل، فقال للشاب: اعتل بما تشاء من المعاذير فأنت أستاذ في اللباقة، ولكن لا يجوز أن نتكلم رسميًّا قبل أن تُشفى تمامًا إن شاء الله، سيكون إعلان الخطوبة مكافأة الشفاء، فأرنا همتك!

وعجز الرجل عن إقناعه بالعدول عن الخروج الباكر والتعرُّض لأذى البرد، فأيس منه وسلم إلى الله سائلًا إياه اللطف والرحمة، وكان ممَّن يشقون بآلام الأقربين، فتجد الأوهام والمخاوف من صدورهم الضعيفة مرعى خصيبًا للهواجس والأحزان، فصار مرض شقيقه — منذ اللحظة الأولى — شغله الشاغل وهمه الملازم وشوكة سامة في جانب طمأنينته.

وامتد خوفه إلى نواحٍ أخرى حتى ألقى به في النهاية في مواجهة مشكلة من أدق المشكلات الخلقية، لم تكن لتخطر له على بال، فلم يغب عن ذهنه أن شقيقه يلتقي بالفتاة كل صباح، وربما انفرد بها مساءً وهو يجلس منها مجلس الأستاذ، فإذا أغراه الهوى — شأن المحبين — بقبلة، أفلا تتعرض الفتاة لأذًى بعيد الغور؟! ألا يدرك رشدي خطورة الأمر؟! .. ألا يجد من ضميره وازعًا؟! ولكن كيف بمن يستهين بحياته أن يعرف لحياة الآخرين قيمة؟ .. وتفكَّر في الأمر طويلًا، متكدِّرًا مغتمًّا، لا يدري كيف ينقذ من الهلاك فتاة بريئة، وبدت حيرته ذات بواعث أخلاقية صافية، ولم يداخله شك في أنها كذلك ولا كانت تخلو في الواقع من شعور أخلاقي عميق، ولكنه لم يرَ ما عداها على نزوعه الطبيعي إلى تفحُّص نفسه، أو أن العين في أحايين كثيرة لا ترى إلا ما تحب أن تراه، فتكدَّر واغتمَّ، وأفضى به الكدر والغم إلى حيرة شديدة، فلا هو يستطيع أن ينمي الحقيقة إلى كمال خليل لأن خيانة أخيه الحبيب جريمة نكراء لا يمكن أن يجترحها، ولا هو يستطيع أن يكاشف الشاب بمخاوفه أن يصيب مقتلًا من نفسه الحساسة الرقيقة، وعذبَّه التردد والقلق والإشفاق، ولم يكن أبدًا ذا عزيمة أو إرادة، فنكص على عقبيه بقلب خائر وفكر مشتت، وظلت المخاوف تطارده، وتلح على ضميره حتى بلغ منه الإعياء والكلال، فتساءل في يأس وقنوط: «أليست غيبوبة المعلم زفتة خيرًا من هذه الحياة؟!»

٣٨

وزادت حال رشدي سوءًا، فاشتد هزاله وشحوبه، ولكنه بدا مستهترًا سادرًا كأن الأمر لا يعنيه، ولم يعد يقنع برحلات الصباح في طريق الجبل، فكان كلما نازعه الشوق إلى كازينو غمرة انطلق إلى الإخوان يعربد معهم حتى مطلع الفجر، وكان أحمد يقول له مبكِّتًا: «أتروم الانتحار؟!» والحق أنه انحدر في سبيل الانتحار بلا قصد، وعجز عن مقاومة ميله الطبيعي للذات، وأذعن للحساسية المرهفة الجديدة التي أحدثها المرض في نفسه، وحجب العاقبة عن عينيه طبيعته الجسور المتفائلة، فلم يفقد الأمل قط، أو لم يفقده إلا لحظات عابرة، وظل على عهده من الجسارة والاستهانة والابتسام. ولكنه فوجئ بعودة السعال بل عاد أعنف مما كان في أسوأ حالاته، ثم تتابعت عليه نوباته، وتلوَّث بصاقه مرة أخرى بالدم، ولفتت نوبات السعال الموظفين إليه في المصرف، فساورتهم الشكوك، وأمسى عمله عديم الجدوى، وتنبَّه الوالدان للخطر الذي يهدد ابنهما ونصحا له بالانقطاع عن عمله حتى يسترد صحته، ولكنه بالرغم من ذلك كله ظل يكافح متعلِّقًا في جنون مظاهر الأصحاء المعافين، ولم يستطع أحمد صبرًا فدعاه يومًا إلى حجرته وقال له بحزم: إلامَ تتغاضى عن خطورة الحال؟

فسأله الشاب في استسلام لم يتوقعه: بمَ تشير عليَّ؟

– لا يجوز بعد اليوم أن تواصل عملك فضلًا عن السهر والعربدة!

– وإذا انفضح سري؟

فقال أحمد بتأثر شديد: ليس المرض بالفضيحة، وللضرورة أحكام.

فأطرق رشدي وقد خارت عزيمته وتنهد من فؤاد مكلوم قائلًا: الأمر الله!

ونجم استسلامه المفاجئ عن الإعياء — لا الاقتناع — ولذلك ما كاد يقرر طبيب المصرف سبب مرضه الحقيقي ويمنحه أولى إجازاته المرضية حتى خارت قواه، ورقد على الفراش صريع الضعف والسعال، وأخفى أحمد الحقيقة عن والديه، ولكن الحالة اشتدت اشتدادًا مخيفًا، ورأت الأم البصاق الدامي وعلم به الوالد، ففزعا فزعًا شديدًا، ورُوِّع قلباهما الضعيفان، ودعت الحالة إلى استشارة الطبيب، فاقترح أحمد أن يدعوه إلى البيت ولكن رشدي اختار أن يذهبا إليه معًا، فارتدى بذلته بمساعدة أمه، وقد اتسعت عليه أيما اتساع، واستقلا عربة إلى عيادة الطبيب، وصحبه أحمد إلى حجرة الكشف، ولما وقع عليه بصر الطبيب، ولم يكن رآه من أسبوعين، قال بصوته الرفيع وهو يتظاهر بالابتسام: ماذا فعلت بنفسك؟

فابتسم رشدي ابتسامة باهتة وتمتم قائلًا: السعال وضعف شديد!

وأجرى الدكتور الفحص، فساد الصمت برهة غير قصيرة، ثم قال بعد الانتهاء: كلمة واحدة لا أزيد عليها: المصحة!

فتجهم الوجه المصفر، وتساءل صاحبه بصوت خافت: هل زادت الحالة سوءًا!

فرفع الرجل حاجبيه وقال: هي الحقيقة، ولا شك أنك لم تتبع نصحي، ولكن لا داعي للخوف إذا بادرت بالذهاب إلى حلوان. سافر اليوم إن أمكن. وستجدني هناك إلى جانبك!

وسأله أحمد: هل تطول إقامته في حلوان؟

فقال الرجل: علم هذا عند الله، ولست متشائمًا، ولكن لا يجوز الإبطاء.

ورجعا إلى البيت فوجدا الوالدين ينتظران فارغي الصبر، وبادر الوالد أحمد قائلًا: ماذا به؟

وعلم أحمد أن الكذب لن يجدي فقال واجمًا، وباقتضاب ذي مغزًى: المصحة!

وساد الصمت، واحمرت عينا الست دولت منذرة بالبكاء. وتمتم الوالد: ربنا يلطف بنا.

فقال أحمد متصنعًا السكينة: ليس هناك ما يدعو للقلق، ولكن لا محيد عن المصحة.

وكان رشدي لا يزال نافرًا من المصحة ولكنه لا يجرؤ على قول «لا» بعد ما صار إليه حاله، فدعا أخاه إلى جانبه وقال له بتوسل وعلى مسمع من أمه: لتكن المصحة إذا شئت، ولكن …

وأومأ إلى النافذة، واستدرك: ولكن لا أحب أن يعرفوا الحقيقة!

فاشتد التأثر بالرجل، وخفق فؤاده بحزن عميق، وقال: لا تخف فمن السهل أن نقول إنك مصاب بماء في الرئة أوجب سفرك إلى المصحة!

فتساءل رشدي محزونًا: وهل يجوز هذا عليهم؟

فقال أحمد: إن التداوي من ماء الرئة يستدعى زمنًا طويلًا، ومهما يكن من أمر فالعناية بصحتك أولى بالاهتمام مما عداها.

٣٩

ولم يُضع أحمد وقتًا، فقام بالإجراءات المتبعة لإلحاق شقيقه بالمصحة، مستعينًا بتوصية الطبيب المداوي ووجد أن سريرًا سيُخلى في أول مارس لانتهاء مدة علاج صاحبه، فقرَّر انتقال رشدي من ذاك التاريخ، وفي المدة القصيرة التي سبقت السفر عانت الأسرة آلامًا برحاء، وكان رشدي يكابد من السعال عذابًا مضنيًا وسهادًا متقطِّعًا. وغرق الوالدان في حزن ذاهل، وتكدَّر صفوهما، ولاحت في أعينهما نظرة واجمة امتزج فيها الرجاء بالخوف. ووقع أحمد فريسة لهواجسه فانقلبت حياته غمًّا وجزعًا، وعاد كمال أفندي خليل الشاب، وأكَّد له أن «ماء الرئة» لا خطر منه البتة مع العناية! ثم زارته الست توحيدة ونوال ولم يكن أحمد بالبيت وقالت له إن غرامه بالنحافة هو الذي أدى به إلى المرض، وتعهَّدت له ضاحكة، بأن تتولى تسمينه بعد الشفاء، ولم تَدْرِ نوال ماذا تقول على مسمع من الوالدتين، ولم يستطع الشاب أن يديم إليها النظر، ولكن عينيه التقتا بعينيها في لمحات خاطفة فتجاوبت رسائل الحب والشكر والحزن الصامتة، وسر رشدي بالزيارة سرورًا لم يشعر بمثله منذ استسلم للرقاد. وبعد خروج المرأة وابنتها أعرب لأمه عن خوفه من حقيقة مرضه، ولكن المرأة المحزونة طمأنته قائلة إن مرضه سر مطوي في صدور محبيه.

وفى صباح اليوم الأول من مارس حملت عربة الشقيقين إلى محطة باب اللوق وكان دعاء الأب آخر ما سمع رشدي في البيت، وكانت دموع الأم آخر ما رأى، وفي الطريق قال الشاب لشقيقه: إذا طالت مدة التداوي فصلت من عملي حتمًا!

فقال له أحمد بثقة: وحتى لو حدث هذا — لا قدر الله — فعودتك إلى عملك مرة أخرى أمر يسير، ولا تشغل نفسك بغير الشفاء!

ثم انتقلا إلى الديزل، فانطلقت بهما في طريق حلوان، وجلسنا جنبًا إلى جنب، وكان أحمد صامتًا يلوح في وجهه النحيل الهم والفكر، وكان رشدي يسعل من حين لآخر، وعجب أحمد لسوء الحظ الذي يلاحق أسرته، فقد فقدت غلامًا، وها هو رشدي يصاب بالداء الخطير، أما هو فقد نصَّبه الدهر هدفًا للعثرات والإخفاق! ولو قنع الدهر به فدية لكفاه ولكنه لا يقنع! واختلس من الشاب نظرة فهاله هزاله، وضمور رقبته، وذبول عينيه، وغياب النظرة اللامعة الساحرة منهما، فتنهد وقال لنفسه متحسِّرًا: «ربَّاه … متى تنكشف الغمة؟ .. متى أفتح عيني فلا أجد من هذا الشقاء الماثل إلا أطياف ذكريات منقضية!» ونظر إلى الخارج خَلَل زجاج النافذة فجرت أمام ناظريه الأبنية والفيلات في حشد طويل، ثم انسابت القاطرة بين حقول ممتدة من النضرة والخضرة والمناظر الريفية الفاتنة، ثم أقبلت الصحراء اللانهائية الجرداء يحف بأفقها الجبل الشامخ، فاستثار تتابع المشاهد ما بين أبنية وحقول وصحراء جرداء عاطفة كئيبة في صدره، فامتلأ شجنًا وأسًى.

وبلغت القاطرة حلوان فتركا القاطرة وقد نهكت الرحلة الشاب المريض، واستقلا عربة إلى المصحة، وسارت بهما تتهادى في طريق مقفر، وتراءت لهما المصحة فوق سفح الجبل كقلعة هائلة، فرنا إليها الشقيقان بقلبين خافقين، وقال أحمد: الفاتحة إن ربنا يأخذ بيدك ويمن عليك بالشفاء ويخرجك من هذا المكان مجبور الخاطر.

وانتهيا إلى المصحة، واستقلا المصعد إلى الطابق الثالث، ودلتهما ممرضة على الحجرة التي يقصدانها، وكانت بالحجرة سريران، يرقد على أحدهما شاب في مثل سن رشدي وفي مثل هزاله وصفرته فتبادلوا التحية باسمين. واستراح رشدي حتى استرد أنفاسه، ثم غيَّر ملابسه بمعونة شقيقه، واستلقى على الفراش، وجلس أحمد أمامه على كرسي مريح، وأومأ الرجل إلى الشاب المريض الغريب. وقال مخاطبًا شقيقه: ستجد في صاحبك خير رفيق، فتعاونا على قتل الوقت وتبديد وحشية الوحدة، حتى يأذن الله لكما بالخروج سالمين غانمين!

ومضى يتحدث مع شقيقه حينًا، ومع صاحب السرير المجاور حينًا آخر — وقد علم أن اسمه أنيس بشارة وأنه طالب في السنة النهائية بكلية الهندسة — والظاهر أن الرحلة أعيت رشدي فاعتراه تعب شديد، واستلقى في خور وخمود، ومكث أحمد معهما حتى اطمأن على الشاب، ثم نهض لينصرف، وقد شعر وهو يضغط على راحة الشاب مودِّعًا بدمعة تتحرك في مجرى الدموع من قلبه، فقرض على أسنانه ليمنعها من الصعود إلى محجريه، وغادر الحجرة. وخال في الخارج أنه رأى عيني الشاب كالمنذرتين بالبكاء وهو يسلم عليه، فنازعه قلبه إلى العودة إليه مرة أخرى، ولكنه قاوم عاطفته ومضى في سبيله، واخترق دهاليز طويلة تفتح عليها أبواب عنابر المرضى، ورأى الأشباح الآدمية في الثياب البيض الفضفاضة، فاقشعر بدنه ووجف قلبه، وظل وهو آخذ في الطريق إلى المحطة يعاود النظر وراء ظهره إلى بناء المصحة الشاهق ويتمتم بالدعاء.

وفي مساء ذلك اليوم باتت أسرة عاكف في وجوم وكآبة، وقد لاحت في عيني الأب نظرة شاردة، وبكت الأم حتى دميت عيناها، وحاول أحمد أن يخفف عنها بحديث الرجاء والأمل، ولكنه كان في الحقيقة في حاجة إلى من يخفف عنه.

٤٠

وانتظرت الأسرة يوم الجمعة — يوم الزيارة في المصحة — بصبر فارغ، وقر رأي كمال خليل أفندي على أن يصحبهم هو وأسرته، وأخذت الأسرتان للزيارة أهبتهما فابتاع أحمد لأخيه صندوق بسكوت بالشوكولاتة، وأعدت الست توحيدة — والدة نوال — له كعكًا عُرفت بإتقان صنعته وعند الضحى ذهبوا جميعًا — الرجال الثلاثة والسيدتان ونوال — إلى محطة باب اللوق، واستقلوا قاطرة الديزل، وجلسوا متقابلين، الرجال في ناحية والنساء في الأخرى، وبذلك وجد أحمد نوال جالسة لقاءه! وتجنب، منذ اللحظة الأولى، أن ينظر إليها، ولم يكن رآها منذ ذاك اليوم الذي كشف له عما كشف، بيد أن وجودها على بُعد قدم منه أيقظ الذكريات وحرَّك الأشجان وخاف مغبة الاستسلام للخواطر فتشاغل بالحديث مع كمال خليل تارة، وبقراءة الأهرام تارة أخرى، والواقع أنه لم ينجح إلا في تجنب النظر إليها، ولكنه غُلب على أمره إزاء سيل خواطره الجارف، وأنى له أن ينسى أمله الخائب! أو سخطه المر القديم على شقيقه! أو مرض شقيقه الذي جعل سخطه القديم عليه جرحًا في ضميره لا يلتئم! وهل ينسى أنه خاف يومًا على الفتاة العدوى، وأنه حام حول اتهام شقيقه بتعريض حياتها للهلاك؟! كل أولئك آلام جعلت من حياته مرتعًا للنار، حتى صدق قوله لنفسه مرة: «لقد أصيب رشدي في صدره وأصبت أنا في عقلي!» ثم تساءل ترى ماذا يخطر لها من الأفكار حين يقع بصرها على شخصه أمامها؟! هل يثير ألمًا؟ خجلًا؟! ألا يجوز أن تأسف إن لحقت العلة بحبيبها متعامية عن هذا الكهل؟ ولو فعلت ما جاوزت القصد ولا حادت عن الإنصاف، فما فائدة حياته؟ وما وجه الانتفاع بصحته؟ ووجد لتوه ذاك الشعور بالاضطهاد، المؤلم اللذيذ معًا! وحقيقة أخرى لم تغب عنه، وهي أنه مرتاح إلى وجودها رغم تجنُّبه النظر إليها! لماذا يا ترى؟ هل يرغب أن يمتحن قدرته على النسيان والتأسِّي؟! أو يريد أن يُشبِع رغبته القديمة في أن يريها قوته على تجاهلها والترفُّع عنها؟! ثم أفاق لنفسه قليلًا، فكبر عليه أن تكون تلك خواطره وهو ماضٍ لعيادة العزيز المريض! وبلغ منه الألم حدًّا تمنى معه لو كانت الجراحة تستطيع بتر الفاسد من النفس، كما تبتر الفاسد من الأعضاء!

وانتهت الرحلة، وساروا في الطريق وأبصارهم عالقة بالمصحة، وقوي أمل أحمد أن يجد الشاب أحسن حالًا — وإن لم يُمضِ في المصحة سوى ثلاثة أيام — لإخلاده الإجباري إلى الراحة ووجوده في الجو الموافق، وتقدمهم جميعًا نحو الحجرة، وسبقته عيناه إلى السرير، كان رشدي راقدًا، وقد شعر بحضورهم، ولكنه لم يحرك ساكنًا، إلا ابتسامة خفيفة باهتة ارتسمت على شفتَيه الذابلتين وهو يتلقى تحيات القادمين الذين أحاطوا بفراشه، وخاب أمل الرجل، ورُوِّع لما رأى من تدهور الشاب، فلم يشك أن حالته ساءت عما كانت عليه يوم أتى به، وحار في تفسير ذلك وانقبض صدره، وجلس الزوار، ووضع البسكوت والكعك على خوان قريب من السرير، ولما رآهما رشدي قال بصوت ضعيف: أنا لا أكاد أتناول طعامًا … لا شهية لي البتة.

فسألته أمه بقلق وهي تتفحَّصه بعينين حاولت ألا يلوح فيهما شيء من الانزعاج المستولي عليها: ألا يعجبك طعام المصحة يا رشدي؟

– الطعام جيد، ولكني فقدت شهيتي!

فقالت الست توحيدة: لا تخف فهذا شأن المرض أول عهده، وغدًا تلتهم الطعام التهامًا بفضل هذا الهواء الجاف النقي.

فابتسم الشاب إليها — وإلى نوال بالتالي لأنها كانت لصقها — ثم قال موجِّهًا الخطاب لأحمد: كانت الليالي الثلاث الماضية شديدة الوطأة عليَّ، اضطرب فيها نومي وتقطَّع، واشتد عليَّ الألم، ولم يكف عني.

ولم يتم جملته، فأدرك أخوه أنه أمسك حذرًا عن ذكر «السعال»، فأيقن في تلك اللحظة أن اصطحابهم أسرة كمال خليل — على ما فيه من سرور — كان خطأً كبيرًا، ولكنه أراد أن يشجع الشاب فقال: على رأي تيزتك فهذا شأن المرض أول عهده، وستجتاز هذه الشدة بعون الله، وتخرج منها سالمًا.

ولكن رشدي قال بلهجة دلت على التوسل: أليس الأفضل أن أعود إلى بيتنا؟

ورأى أحمد أمه تهم بالموافقة على رغبته فبادر بقوله: سامحك الله! بل قل إنك لن تبرح حجرتك حتى تسترد صحتك وفتوتك، ثم تقفل إلى القاهرة مشيًا على الأقدام! ومن حسن الحظ أني أراك متحسِّنًا تحسُّنًا محسوسًا!

وقال كمال خليل يساهم في تلك الكذبة المفيدة: أجل يا رشدي أفندي أنت … اليوم أحسن حالًا بلا شك!

وحدَّت الأم بصرها لعلها تصدق ما يقولان، بينما راح أبوه يقول بصوته الهادئ المنكسر: الصبر … الصبر يا رشدي، وربنا يرعاك ويأخذ بيدك!

فسكت رشدي، ولكن على رغمه، ولم يغب ذلك عن أخيه الذي يحسن فهمه، وكان يعلم أنه لا يقتنع بغير رأى نفسه، ولا يعمل إلا بمشورتها، فأيقن أنه إذا كره المصحة فلن يصبر عليها ولن تعود عليه إقامته فيها بنفع يذكر، وازداد حزنًا على حزن، واسترعت انتباهه حركة آتية من السرير الآخر، فنظر إليه، ورأى زميل أخيه جالسًا في فراشه، فتولَّاه الخجل — لأنه نسي — في غمرة حزنه — أن يحييه، فقال له وهو يرفع يده له بالتحية: كيف حالك يا أنيس أفندي؟ .. لا تؤاخذنا!

فضحك الشاب قائلًا: العفو يا بك، الظاهر إن رشدي يرغب في هجرنا!

فقال رشدي متأسفًا: لَكَمْ أزعجت نومك!

فقال الشاب مبتسمًا: لا داعي للأسف على ذلك، فسهر الليل لا يضايقني بتاتًا.

فابتسم أحمد وقال: الظاهر أنك من عشَّاق الليل كرشدي!

– نطقت بالصواب يا سيدي، وها نحن أولاء يعلمنا الدهر أنه ينبغي أن نقلع عما كنا نعشق.

ودعوا لهما بالشفاء، ونهضت أم أحمد إلى الخوان، وأتت بصندوق البسكوت، ووضعته إلى جانب رشدي وفي متناول يده، وقالت برجاء: هلا تناولت واحدة يا رشدي؟!

ولكنه هز رأسه على المخدة وقال بسرعة وبلهجة حازمة: ليس الآن … فيما بعد!

فأخذت المرأة الصندوق أسيفة حزينة وإن كانت تغالب عواطفها مغالبة صادقة ناجحة، ولم تنسَ — حتى في تلك الساعة — واجبات اللياقة، فدلفت من سرير أنيس بشارة وقدمت له بعض البسكوت، وكان أحمد يتفحَّص أخاه بعينين كئيبتين، فإذا أرسل الشاب إليه بطرفه تبسم مداريًا حزنه وقد هاله ذبول أخيه، واصفرار لونه، وخوره، وأمارات التعب التي تعتوره، هاله أن يراه مستسلمًا للرقاد، سجينًا، وما كانت الدنيا تسعه حركة واضطرابًا ولهوًا، وخُيِّل إليه أنه يقرأ في نظرة عينيه حيرة وقلقًا، إلى ما بهما من ألم واستسلام، فأوحيا إليه أن الشاب ينطوي على شيء يريد أن يفضي به إليه، وقوي شعوره بذلك حتى خطر له أن ينفرد به دقائق بعد انصراف عوَّاده، ولكنه خاف أن يضرع إليه أن يعيده إلى البيت، فعدل عن رأيه، وجعل يكوِّر له قبضة يده مشجعًا متظاهرًا بالمزاح والاطمئنان.

وآذن الوقت بالعودة، فسلموا بحرارة، ولهجت ألسنتهم بالدعاء، وغادروا الحجرة، وكانت الست دولت آخر من غادرها بعد أن قبَّلت الشاب في خديه وجبينه، وفي الطريق لم تعد تملك أعصابها فامتلأت عيناها بالدموع، وكانت نوال تعالج دمعة لا تدري كيف تخفيها. وظل أحمد منقبض الصدر حتى أوى إلى حجرته، ومضى يعلل نفسه بالأمل ويقول إنه سيجده في الزيارة القادمة أحسن حالًا حتمًا مما وجده اليوم، ربَّاه … متى يُرد إلى ما كان عليه من القوة والنشاط والنضارة؟! متى يعاود سمعه تغريده الحنون ودعابته اللطيفة وضحكته الرنانة؟!

ونامت أسرة عاكف تلك الليلة على حزن وكمد كنومها ليلة الفراق!

ثم استيقظوا جميعًا في الهزيع الأخير من الليل على رنين الجرس وجلس أحمد في الفراش مرهف الأذنين، فسمع الرنين متصلًا كأنه يصرخ في الغافلين، وانقض عليه خاطر جعل قلبه يرجف كإبرة الجرس فقفز من الفراش وجرى إلى الخارج، التقى بوالديه في الصالة وهما يكادان أن يعدوا عدوًا نحو الباب، ولم ينبس أحدهم فقد تولاهم استسلام يائس للأقدار، ودلف أحمد من الباب مزدردًا ريقه وأضاء المصباح الخارجي وفتح الباب، ونظر في الردهة الخارجية فلم تقع عيناه على إنسان، وكان الرنين لا يزال متصلًا … والتفت الرجل إلى والديه مندهشًا مغمغمًا: «لا أحد في الخارج.» واقترب من «بطارية الجرس»، ورفع غطاءها وفصل بين الأسلاك فسكت الجرس المزعج! وأغلق الباب والدموع توشك أن تطفر من عينيه وتبادلوا جميعًا نظرات حائرات، ثم هتف الأب قائلًا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

وقالت الأم وهي تتنهد من أعماق قلبها: أليس الأوفق أن نأتي برشدي ما دامت هذه رغبته؟

فقال أحمد وقد وشى صوته باضطراب نفسه: يا شيخة وحِّدي الله!

٤١

وعند عصر يوم الأحد وكان أحمد مجتمعًا بوالديه يحتسون قهوة العصر، جاء البريد بكتاب ما إن رأى الظرف حتى تمتم بغرابة: هذا خط رشدي.

وتنبَّه الوالدان، وتابعت عيناهما يد الرجل وهو يفض الغلاف، وقد كتب الخطاب بالقلم الرصاص، وبخط رديء — على غير عهد صاحب الخطاب — وكان به ما يأتي:

٨-٣-١٩٤٢
أخي العزيز:

تحياتي إليك وإلى والدي.

أكتب كتابي هذا وقد مضى على انتصاف الليل ساعتان … ولا تدهش يا أخي فقد حُرمت نعمة النوم إلى الأبد، وما عاد لأي منوم من تأثير فيَّ، تصور أني تناولت بالأمس جرعة من منوم معروف، فلما لم تُجدِ شيئًا، عاطاني الدكتور برشامة مخدرة وبشرني بنوم ثقيل، وها هو الليل ينتصف وتمضي على انتصافه ساعتان وأنا متيقظ مسهَّد، ولا نهاية لعذابي، بل لا أزال جالسًا لأن الرقاد — أو ضغط ظهري على حشية الفراش — يهيج السعال الذي اشتدت نوباته عليَّ، فلا مَعدى لي عن الجلوس في فراشي، وقصارى ما يمكن عمله لتهيئة الراحة أن أكسر مخدة وأضعها على حجري ثم أسند رأسي إليها.

أخي:

يؤسفني أن أؤلمك أو أحزنك، ولكنها الحقيقة المرة، ولا حيلة لي فيها، ولا مفر من أن أفضي إليك بالحقيقة فأنت ملاذي أولًا وأخيرًا، فاعلم يا أخي أني اطلعت على نتيجة الأشعة التي صورت صدري غداة وصولي إلى المصحة، وقد كشفت إصابة جديدة في الرئة اليمنى، أما اليسرى فقد حفرت الإصابة القديمة لي كهفًا في حجم نصف الريال، والحالة العامة خطيرة، وإليك تقرير الطبيب النوبتجي. «عدم قابلية للأكل مطلقًا، عدم النوم مطلقًا، سعال نظيف، ونَفَس مكروش دائمًا …» فلا شك أني في طريق النهاية، لا شك في ذلك مطلقًا، إني أكتب إليك ودموعي تنهمر فتخفي عن ناظري الألفاظ التي أنعى بها نفسي إليك، وكلما ذكرتكم غلبني البكاء.

هذه هي الحالة، فأستحلفك بالله يا أخي إلا ما وافقت على عودتي إليكم لأقضي بينكم أيامي الأخيرة حتى يوافيني الأجل … فلا تُعرض عن توسلاتي هذه المرة. وأكرر أسفي لإيلامك ولكن ما حيلتي؟! .. وعليك ألا تخبر والدي بالحقيقة والسلام عليكم ورحمة الله.

أخوك المخلص
رشدي

قرأ الخطاب ذاهلًا، وأعاد قراءة كثير من عباراته أكثر من مرة، وشعر عند الانتهاء من قراءته بدوار، وإنكار، وغرابة ولكنه لم يرفع عنه ناظريه حتى يستعيد رباطة جأشه، فيواجه أمه بشيء من السكينة يمكنه من الكذب عليها، واستطاع بفضل تفكيره في أمه، ووجودها على كثب منه، أن ينسى نفسه إلى حين فيمتلك أعصابه، ثم نظر إلى والديه فرآهما ينتظران كلمته بعينين معذبتين كمن ينتظر — غير معصوب العينين — إطلاق النار عليه، فتكلم قائلًا متصنعًا لهجة السخط والتبرم: رشدي يلح في العودة إلى البيت، فماذا دهاه؟!

فسألته الأم بلهفة: ولكنه بخير!

– بخير والحمد الله إلا أنه كاره للمصحة!

– أعِده إلي يا أحمد، فلا فائدة ترجى من تركه في المصحة على رغمه.

فنهض أحمد وهو يقول: سأسافر اليوم إلى حلوان وآتي به.

وأعطى الخطاب إلى والده ومضى إلى حجرته وأمه في أثره.

وسافر إلى حلوان دون تردد أو تأخير. وظل طوال الطريق مشتت الفكر موزع الفؤاد مضطرب النفس، ولأول مرة — منذ أمد بعيد — يفكر في الموت كحقيقة ماثلة يطالع معالمها الرهيبة ويستشعر آثارها العميقة من الألم والخوف والقنوط، وتخيَّل المقبرة النائية التي ابتلعت شقيقه الأصغر، فخالها تنفض عن ثغرها تراب الأرض وتفغر فاها لابتلاع رشدي الحبيب الذي لا يدري كيف تكون الدنيا بدونه! وكان كلما قصرت المسافة بينه وبين المصحة اشتد انقباض صدره، وثقلت وطأة الخوف على قلبه، ربَّاه! .. كيف يجده الآن؟! وما فعل السهاد به؟! وغادر القطار على عجل والشمس تميل نحو المغيب وأخذ العربة إلى المصحة، ثم صعد إلى الطابق الثالث لا يلوي إلى شيء، واشتدت ضربات قلبه وهو يقترب من الحجرة، ودخلها وقد تركز وعيه في الفراش أمامه، رأى رشدي كما وصف نفسه في رسالته جالسًا في فراشه مسند الرأس إلى مخدة منكسرة على حجره! وازدرد ريقه وهتف به: رشدي!

فرفع الشاب رأسه عن المخدة بسرعة، وطالع أخاه الضامر الشاحب، وصدره المضطرب، وسرعان ما لاح السرور في عينيه، وقال بصوت متهدج: أجئت؟ .. خذني .. خذني.

فقال أحمد ليدخل الطمأنينة على نفسه: لهذا جئت يا رشدي.

ثم التفت إلى أنيس بشارة فحياه، فرد الشاب تحيته وقال بلهجة جدية دلت على تأثره: مسكين رشدي! إنه لا يذوق للنوم طعمًا، وكانت ليلته الماضية شديدة فظيعة! فالأوفق حقًّا أن يُمضي هذا الأسبوع في البيت، على أن يعود إلى المصحة فيما بعد!

فأومأ أحمد برأسه موافقًا وسأل الشاب: أتدري ما هي إجراءات الاستئذان لخروجه؟

فقال أنيس بنفس اللهجة الجدية: اسعَ إلى الطبيب بلا إبطاء.

ولم يلقَ الرجل صعوبة ما، بل ساوره الخوف والقلق لسرعة موافقة الطبيب على طلبه.

وعاد إلى أخيه، وحزم متاعه، وعجز رشدي عن خلع بيجامته وارتداء البدلة، فاكتفى بلبس الروب، وجاءوا بنقالة لحمله إلى المصعد. وسار أنيس بشارة في وداعه حتى الباب الخارجي للمصحة، وشد على يده بحرارة، ودعا له مخلصًا بالشفاء والصحة، ورأى أحمد شقيقه يستسلم لأيدي حامليه بلا حول ولا قوة وقد زاغ بصره، وبدا للعين هزاله، فذكر نضارته وحسنه، ورشاقته ونشاطه وفكاهته وغناءه، ثم لم يملك أن يعض على شفته متوجعًا متحسرًا وقد شعر بقلبه ينتحب باكيًا في أعماق صدره.

٤٢

ووجدا في انتظارهما في البيت الوالدين وأسرة كمال خليل أفندي، وكانت الست توحيدة ونوال جاءتا لزيارة أم الشاب المريض، فلما علمتا بأن شقيقه سافر ليأتي به لبثا في انتظار وصوله. وأحدث ظهور رشدي أثرًا عميقًا في النفوس فلم يحاول أحد إخفاء انزعاجه، ولكن الشاب لم يبدُ عليه أنه أدرك شيئًا مما حوله، أو أنه فطن إلى وجود أحد، وأُجلس على فراشه وصدره يعلو وينخفض، مغمض العينين، والأعين محدقة به، وقد انعقدت الألسنة، واصفرَّ وجه الست دولت وارتعشت أطرافها، فهرعت إلى فراشه، وجلست وراء ظهره لتسنده بصدرها المضطرب. وفتح رشدي عينيه بعد برهة وأجالهما في الحجرة والوجوه، فلاح فيهما نور العرفان واليقظة، وارتسمت على شفتَيه شبه ابتسامة خفيفة، وقال بصوت متهدج خفيض كأنما يتصاعد من أعماق صدره: الحمد الله … الحمد الله … أنا مسرور بعودتي إلى حجرتي.

فدعا له الجميع، وكرَّرت الست توحيدة الدعاء، فابتسم الشاب وقال: سأُشفى هنا بإذن الله .. لا تبرحي مكانك يا نينة!

فقبلته المرأة في منكبه وقالت: لن أبرحه يا رشدي بإذن الله — إنَّ قلبي لا يمكن أن يكذبني!

والتقت عيناه بعيني نوال مرات، وتلقى في كل مرة ابتسامة حلوة ضمنتها عيناها ما تكنه جوانحها من الدعاء والرجاء والإشفاق، وتنحَّى أحمد جانبًا دون أن تفارق عيناه وجه شقيقه، وكلما طالع في عينيه نظرتهما الذابلة ارتعش كيانه وقال لنفسه: «اللهم رحمتك!»

وقال عاكف أفندي أحمد — الأب — عن حكمة: الأوفق أن نتركه حتى يسترد أنفاسه ويستريح!

فخرجوا جميعًا ما عدا أمه وانصرفت الزائرتان، وخلا أحمد إلى نفسه في حجرته قليلًا، ولكن لم يستطع صبرًا فعاد إلى حجرة الشاب، ووجد رشدي لا يزال فرحًا بالعودة ويحادث أمه قائلًا بصوته المتهدج الخافت: لشد ما يطمئن قلبي فرحا وسرورًا، ولشد ما آلمني جو المصحة الموحش، لم أذقْ فيها النوم ولا الطعام، ورأيت مريضًا ينزف حتى غرق في دمه، ومروا بحجرتنا حاملين مريضًا آخر إلى حجرة «العزلة» حيث يودعون المرضى المشرفين على النهاية .. ومن المؤسف حقًّا أن سوء حالتي آلم زميلي أنيس بشارة، ويغلب على ظني أنه استثار مخاوفه فجعل يبكي حزنًا وفرقًا. الآن عاودتني الطمأنينة.

وحوَّل ناظريه إلى أحمد، وسكت قليلًا وصدره يعلو وينخفض ثم استطرد: أتعبتك كثيرًا يا أخي، معذرة. لا تجد عليَّ لعصياني نصحك، أعدك بأني سأرعى منذ اليوم صحتي، وأني لن أخالف لك نصيحة، وإذا منَّ الله على بالشفاء فلن أستهين يومًا بحياتي.

فعض أحمد على نواجذه ليحبس دموعه الهائجة، وقال مبتسمًا: لا محل للوم يا رشدي، فكل شيء بأمر الله، وغدًا سترد إلى صحتك بإذن الله، وستذكر هذه المحنة كما يذكر المستيقظ وطأة الكابوس.

فابتسم الشاب إلى أخيه ارتياحًا لقوله، وسأله أن يدني الخوان من فراشه وأن يضع عليه زجاجات الدواء، وأتى أحمد بالخوان، وجعله في متناول يد الشاب، ورصَّ عليه الكالسيوم، وحق المنوِّم، والكارومين، فشكره رشدي، ثم قال: سأحتاج إلى ممرضة لحقني بالكالسيوم يومًا بعد يوم.

فقال أحمد: سأُوصي الصيدلي بإحضار واحدة والاتفاق معها … ويحسن بك أن تسكت كي لا تشق على نفسك، وربنا يرعاك ويحفظك!

تناول الشاب جرعة من المنوم، فاسترخت أعصابه — وقد نال منه أرق الليالي السابقة — وأخلد للنوم، إلا أن السعال انتابه مرات فمزَّق نومه شر ممزَّق.

٤٣

وجاءت أيام شدة وألم، فغرق الشاب المريض في غمرة العذاب، وتقطَّع قلب الأم الذي يسند ظهره المهزول، واستبد به الأرق فلم يغمض له جفن — مع تناوله المنوِّم — إلا ساعات معدودات في الهزيع الأخير من الليل، وكثيرًا ما أدركه الصباح وهو قاعد في فراشه وقد حطَّم السعال أضلعه، وصدفت نفسه عن الطعام، فإذا تجلَّد وتناول لقمات تقيَّأها في نوبات السعال المخيف، وتعاقبت عليه نوبات هذا السعال واجتاحته بعنف فما إن تسكت عنه واحدة إلا وقد أشفى نفسه على الانقطاع، وأنذرت عروق عنقه بالانفجار، وسالت عيناه دمًا. فظن به الهلاك وأيست من شفائه القلوب، إلا أنه بدا وكأنه يجتاز مفازة الهلاك بسلام، لا لتحسُّن طرأ عليه، ولكن لأن الأيام تتابعت وهو يقاوم ويجالد دون أن يسقط، ثم مضت تخف ثورة السعال، وتنتظم ساعات نومه، وتتقبل معدته القليل من الطعام، واستطاع أخيرًا أن يرقد على جنبه، وآذن كل أولئك بتحسُّن قريب في صحته، ولكن مضى مارس جميعًا وهو على حاله من الضعف والإعياء، لم يكن يستطيع مفارقة الفراش بتاتًا، وهزل هزالًا محزنًا حتى لم يعد في برده سوى جلد ذابل وعظم معروق، وبعث منظر ساقيه القشعريرة في النفوس، وضمر وجهه، وتقلص خداه، وغارت عيناه، وعلت محياه صفرة باهتة، وبدا رأسه أكبر من الواقع وعنقه رفيعًا يكاد أن ينقصف من حمله. ولاحت في عينيه نظرة عميقة متجهمة تدل على التصبر والتجلد، والتألم والاستسلام، فلم تزل تعذب أحمد حتى أضنته، كان يطالعها في عينيه كلما عاده فلا تمحى من ذاكرته أبدًا، وكانت تحمل فؤاده المرهف جميع ما تنطق به من التألم والتصبر، كانت تترك في قلبه جروحًا لا تندمل، كان يطلع منها على عوالم الألم والمرض واليأس، ربَّاه لَكَمْ قطعت فؤاده وفتتت كبده، ولكم أهاجت مجاري دموعه.

وفى مرة دخل حجرته فوجده قد استوى جالسًا في الفراش، وأدلى ساقيه إلى الأرض، ولم تكن أمه في الحجرة، فخاف أن يكون ذلك مقدمة لمحاولات تشق عليه، فقال له بتوسل: أليس الأوفق أن تلزم الرقاد؟!

فغاضت من عينيه نظرة التألم العميقة، وحلت محلها نظرة جزع وبرم وقال بلهجة لم تخلُ من حدة: أخي، ألا ترى كيف تمضي الأيام وأنا بمكاني هذا لا أبدي حراكًا! هكذا أُلقى على الفراش بلا حول ولا قوة، طوال النهار وأكثر من نصف الليل، حتى يغلبني ذهول المخدر الذي نسميه نومًا! .. أواه، ما أضيق الحياة … لقد سئمت هذا الفراش، وضقت به ذرعًا.

فلم يدرِ الآخر ماذا يقول، وألقت اللهجة الشاكية على روحه غبارًا من الكدر، فقال برقة: صبرًا يا رشدي، وما وراء الصبر إلا الفرج!

ولا مَعدى عن الصبر أيضًا كان يعتصر غصص الزمن الثقيل بقراءة الجرائد والمجلات، والحديث إلى أمه — ولم تكن تفارقه إلا للضرورة — وأبيه وشقيقه، وكان على ألمه وملله قد نجا من ساعات اليأس القاتل التي أوحت إليه مرة بالرسالة التي بعثها من المصحة إلى شقيقه، نجا من اليأس، وعاوده الأمل في الحياة، والرجاء في الشفاء، ولكن الألم الذي رسم في عينيه تلك النظرة العميقة المتجهمة لقَّنه حقيقة الشقاء التي ينطوي عليها قلب الدنيا، فذاق العذاب، وشعر بأنفاس الموت الباردة تتردد على وجهه، والأرجح أن الحياة تحرص على أن يعرفها أبناؤها جميعًا، إلا أنها تقطر حقيقتها على المعمرين وتسكبها في أفواه المتعجلين.

ومن عجب أنه لم ينسَ قلبه! فالمرض لا يمحو الحب، ربما لم يعد يضطرب به دمه، ولكنه يحسه بروحه ويخفق به قلبه، ولَكَمْ ترف عليه الذكريات فتضيء مخيلته بنور وهَّاج، وتدندن أذنيه كسجع الألحان، فيستيقظ قلبه كزهرة نفخ الربيع فيها من روحه، وتتخايل لعينيه بروق البسمات وطريق الصحراء والعينان النجلاوان، وتطن في مسمعيه العهود والمواثيق. تُرى ما مصير كل أولئك؟ .. ماذا يخبئ له الغيب؟ .. هل يمكن أن يعود الشباب والقوة والأمل والحب؟ .. هل يمكن أن يسعى كسابق عهده متبخترًا في رشاقة وخيلاء؟ .. وأن يضحك ملء قلبه دون أن يهيج سعالًا قتَّالًا؟ .. وأن يذهب رأسه ويجيء بالترنيم والتجويد؟ .. وأن يراه الإخوان فيتصايحوا «جاء قلب الأسد»؟ .. وأن يشبك ذراعه بذراع نوال فيقطعا معًا طريق الجبل وغلالة الضباب تخفيهما عن الأعين؟ .. هل ما يزال ثمة أمل في أن يبتاع خاتم الخطوبة ويزف كالعرائس؟ .. وكانت نوال تعوده مع والديها، فيتبادلان نظرات خاطفة مشوقة لم يشعر بوقدتها إلا همًّا، ربَّاه لماذا لا يتركانهما وحدهما ولو لحظة؟ إنه يذوب شوقًا إلى كلمة وداد ترطِّب حرارة فؤاده المحموم، وهكذا مضى شهر مارس. ولما جاء إبريل تغير الحال، فلم يعد يرى نوال! مضى أسبوع دون أن تزوره وانتصف الشهر فلم تحضر، وعاده والداها بمفرديهما، وانتهى إبريل دون أن يراها أو تراه! عاده إخوان قهوة الزهرة وأسرهم وأصحاب السكاكيني وجمهور من الأقارب والجيران القدماء، فالبيت لا يفرغ حتى يمتلئ، إلا نوال، اختفت من حياته فجأة كأنها لم تكن حقيقة محسوسة وأملًا مشوقًا! ولا شك أن والديه وشقيقه يشاركونه ألمه وإنكاره ولكنهم لا يفصحون عن مشاعرهم رأفة به، وأبى عليه كبرياؤه أن يسأل والديها، لماذا انقطعت نوال عن زيارته؟

هل عرفوا حقيقة دائه وأيسوا منه؟ هل منعها من عيادته الخوف من العدوى؟ .. هل أمسى شرًّا وأذى بعد أن كان حبيبًا محبوبًا؟ .. أكذب الحب وعده؟! وجعل يجتر آلامه في صمت، حتى ضاق بها فقال يومًا لأحمد وقد خلت لهما الحجرة: ألم ترَ كيف انقطعت عن زيارتي؟

عرف أحمد من يعنيها بقوله. وتظاهر بعدم الاكتراث وقال: حذار من الفكر! أنت في نضال من أجل الصحة فلا تضعف مقاومتك بنفسك!

فاستطرد قائلًا وكأنه لم يعِ ما قال الرجل: أبشع شيء في هذه الدنيا جفاء صديق بغير ذنب، أو أن يكون ذنبه أن الصحة جفته!

– لا تبالِ شيئًا ولا تستسلم للأفكار السود!

فتمتم الشباب بصوت حزين: لن أبالي شيئًا ولكن الخيانة قبيحة!

وسرت في الرجل رعدة لأنه ذكر أنه فاه يومًا بمثل هذه الجملة، وقال يداري عواطفه: حسبك قلوبنا فهي تحبك ولا تجفو أبدًا.

فاتبسم رشدي وقال: لا أدري متى حفظت هذين البيتين:

ما لي أرى الأبصار بي جافية
لم تلتفت مني إلى ناحية
لا ينظر الناس إلى المبتلى
وإنما الناس مع العافية

فقطَّب أحمد تألمًا وهتف به: أترغب أن تقتلني غمًّا وكمدًا!

فقال بأسف صادق: معاذ الله، أنت أحب إليَّ من الشفاء!

وعاد أحمد إلى حجرته وهو يقول لنفسه محزونًا: «ربَّاه .. كيف جفته وقد راح ضحية لها؟!»

٤٤

والحقيقة أن كمال خليل أخذ يساوره الشك فيما قالوا عن مرض الشاب، وما لبث أن أفضى بشكه إلى امرأته، ولكي يقطع الشك باليقين زار صديقًا في بنك مصر وسأله عن حقيقة مرض رشدي، فأطلعه الرجل على الحقيقة، وحزن كمال خليل حزنًا بالغًا، لأنه أحب رشدي حبًّا صادقًا، ووجد فيه خير زوج يمكن أن يرجوه لابنته، وهوى الخبر على الست توحيدة كالصاعقة، وخيَّب أملها في سعادة نوال، وخلا الرجل بزوجه وقال لها متجهمًا: ماذا ترين؟

فلاذت المرأة بالصمت إشفاقًا من الجهر بالحق المؤلم، فقال كمال أفندي: لا أظن رشدي بناجٍ من مرضه الخطير!

فقالت المرأة بامتعاض: ربنا يلطف به!

– وحتى لو كتب الله له النجاة فلن يصلح للحياة الزوجية.

– فماذا ترى أنت؟

– أرى طبعًا أن أصون صحة ابنتي، فهي شباب غض، ودخولها حجرته كما حدث مرات استهتار شديد الخطورة سيئ العاقبة، فينبغي أن تعرف الحقيقة حتى لا تعيش على الأوهام أو تتعرض لعدوى مرض خبيث ندرت النجاة منه.

فقالت المرأة بلهجة دلت على الأسف والاستسلام: الأمر لله!

ودَعَوَا بنوال، وجاءت الفتاة غافلة عما يضمرانه لها، وكان ينبعث من عينيها نظرة وديعة تلوح فيها الكآبة، فطلب الرجل إليها أن تجلس قبالته على كرسي ثم راح يقول بصوت رزين: نوال، دعوتك لأفضي إليك بسر هام، وعهدي بك فتاة عاقلة، والسلوك الحكيم هو ما أتوقعه منك دائمًا، فاعلمي أن جارنا العزيز رشدي أفندي مريض مرضًا خطيرًا أفظع مما يقولون!

فاصفر وجه الفتاة ونفذت لهجة والدها الرزينة إلى قلبها فانقبض خوفًا، وتساءلت بإشفاق: أي مرض يا أبتي؟

– يؤسفني أن أصارحك أن الشاب مصاب بالسل، وهو مرض كما تعلمين فظيع، ورحمة الله واسعة، بَيْد أن على الإنسان واجبًا نحو نفسه لا يجوز أن يفرط فيه أو يستهين به لأي داعٍ مهما جل شأنه، فلندع لصديقنا العزيز بالشفاء، ولنذكر قوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

السل! .. يا رب السماوات! .. ماذا يقول أبوها؟ هل أضحى رشدي العزيز شيئًا واجبًا اجتنابه؟! هل أوى حقًّا ذاك الداء الخطير إلى صدره الحنون؟ .. هل ضاعت الآمال وتبددت الأحلام؟! ورددت بين والديها نظرة حائرة تستحق الرثاء، فأدركت أمها ما تعاني من ألم أجبرها وجود أبيها على مداراته، فقالت: والله عالم بشدة حزننا وأسفنا، وهو القادر على جبر كسرنا، ولكن صدق والدك يا نوال، فحداثة سنك تجعلك صيدًا سهلًا لعدوى هذا الداء، فدعينا نحن نقم بالواجب عنا وعنك، ولندعُ له جميعًا بالسلامة والشفاء إنه سميع مجيب.

وجعل أبوها يتفرس في وجهها من تحت حاجبيه، ويقرأ ما تظهر وما تبطن، ثم قال مستطردًا: الآن أدركت ولا شك الباعث الذي دعانا إلى مخاطبتك في هذا الشأن، ولا شك أنك تقدِّرين رأيي حق قدره، فأنا أبوك وأخاف عليك أكثر مما تخافين على نفسك، لهذا أقول لك إنه لا يجوز بعد اليوم أن تعودي المريض العزيز، ولا عليك من هذا، ولن يلومك عليه إنسان عاقل منصف، ومهما يكن من الأمر فما أبالي كلام الناس ولا أقيم للومهم وزنًا إذا جاء مخالفًا العقل، فما رأيك؟!

ولم تكن تملك من الجسارة ما تستطيع معه أن تصارحه بما يدور في خلدها، وكان له من المهابة في نفسها ما يمنعها من مشافهته بما يخالف رأيه، فلاذت بالصمت حتى استحثها على الجواب، فقالت بصوت خفيض: أمرك مطاع يا أبتي!

ولم يكن يطمع في أكثر من هذا، وخاف إن أطال الحوار أن يشجعها على الإفصاح عن حقيقة مشاعرها، فنهض قائمًا كالمقتنع المرتاح، وقال: لا خيبت لي رجاءً أبدًا.

وما إن غيَّبه الباب حتى أحدقت في وجه أمها وهتفت بها: كيف يكون هذا يا أمَّاه؟!

فقالت المرأة بحزن واستسلام: لا مَعدى عنه يا نوال.

فقالت بصوت متهدج مرتعش: كيف لا أعوده .. كيف أتجنبه؟ هل يقوم خوف الإنسان على نفسه عذرًا معقولًا لهجر أصدقائه في أوقات محنتهم؟! وما جدوى الصداقة والمروءة في هذه الدنيا؟!

ولم تتم حديثها فخنقتها العبرات، وأوشكت الأم أن تتأثر لها، ولكنها تداركت عواطفها أن ترق لها فتدفع بها إلى الهلاك، فقالت بلهجة لا تدل على ذات نفسها: وما جدوى أن يصاب إنسان بداء وبيل من أجل صديق لن ينتفع بمرضه فتيلًا؟! إن أباك حريص على صون شبابك الغض وله الحق في ذلك كل الحق.

– أواه يا أمَّاه! ولكني إذا ضلت نفسي بهذا الغدر القبيح فلن أنتفع بها، ليس المرض بالشر الوحيد في هذه الدنيا، فالغدر شر من المرض، ماذا يظن بي؟ بل كيف أدفع عن نفسي أمامه وأمام الناس؟

– تقولين إن أباك أجبرك على الامتناع عن عيادته، فعلى أبيك التبعة وعليك الطاعة، ولن يجادلك إنسان في حق والد على ابنته.

– ما أقساك يا أماه! .. سأموت كمدًا.

– أفضِّل ألف مرة أن يلعنني الناس على أن ألقي بفلذة كبدي إلى التهلكة!

فقالت الفتاة وما تزال عيناها تسحان دمعًا ساخنًا حتى سدت خياشيمها وتغيَّرت نبرات صوتها: سيمقتني ويحتقرني، وغدًا إذا برئ …

وخنقتها العبرات مرة أخرى، فقالت الأم وهي تتنهد: هذا هو حظك فما حيلتنا؟! .. بيد أنك ما زلت على عتبة الشباب، والفرص أمامك كثيرة، والله قادر على جبر خاطرك، فلندعه أن يصون للشاب المسكين شبابه وأن يعوِّضك عنه خيرًا!

فهتفت بها منتحبة: ما أقساك! ما أقساك!

وفرت إلى حجرتها، وكان الوقت مساءً، فدلفت من الشباك محمرة العينين ورمت ببصرها إلى النافذة المحبوبة، وكانت النافذة مغلقة ينبعث من خصاصها نور خافت. وتمثل لها راقدًا على جنبه تلوح من عينيه تلك النظرة الحزينة المتجهمة، ثم تمثل لها وهو يسعل ذاك السعال القتَّال الوحشي: لهفي عليك يا حبيبي، وا أسفي على رقادك بلا حول ولا قوة .. ونظرتك التي تنم عن أفظع الآلام البشرية؟ .. أين نضارتك؟ أين شبابك؟ أين حديثك؟ أين آمالك، بل أين نضارتنا؟ أين شبابنا؟ أين حديثنا؟ أين آمالنا؟ ربَّاه ما أتعس حظي .. وما أحلك دنياي!

وارتمت على مقعد تكفكف دمعها وتتنهد من الأعماق، وأوهنها التأثر فانطلقت خواطرها بلا ضابط، مرت حياتها مع رشدي أمام ناظريها في مثل لمح البصر فأيقنت أنها فتاة تعيسة الحظ، ولم يغب عنها ما في حديث والديها عن مرض الشاب من يأس وقنوط، فتولاها الذعر، وما كانت تعرف عن الموت إلا لفظه، فكيف وقد تمثل لها وحشًا كاسرًا يتوثَّب للانقضاض على قلبها؟ ربَّاه! ويأمرانها بألا تعوده! ويحولان بينها وبينه بعزيمة لا تعرف الرحمة! وتجهم وجهها الباكي وشعرت برعدة تسري في أطرافها، فتحسست راحتها صدرها! .. شعرت في أعماقها بأنها تخاف المرض قدر ما تخافه على حبيبها، الرقاد، والسعال، والهزال، والعذاب، ثم أحست تعاسة وقنوطًا وحزنًا وخوفًا، ومزقتها الحيرة إربًا إربًا بين حبيبها وصحتها وسعادتها! ربَّاه، ألم تكن تحيا في دعة وطمأنينة وأمل مشرق؟! فما الذي أوجب هذا الشقاء وهذه التعاسة؟!

ولدى عصر اليوم التالي عادت المدرسة فوجدتهم قد نقلوا حجرتها إلى حجرة أخرى بعيدًا عن نافذته، وأنه حيل بينها وبين رؤية ذاك البصيص من النور.

٤٥

ولم يعد رشدي إلى ذكر نوال، وعجب أحمد لصمته وتساءل أيُعاني آلامه وحده أم أنه يتناسى باستهانة واحتقار، ودعا له مخلصًا — وهو المبتلى — بالنسيان وراحة القلب، ولم يكن من الممكن استكناه باطن الشاب من محياه، لجمود ملامحه وتجهم نظرة عينيه العميقة الحزينة وملازمته حالًا من الكآبة لا تكاد تزايله، فظل أحمد متحيرًا مشفقًا، وشاركه الوالدان حيرته وإشفاقه، ولم يكن الأمر يعنيهم من ناحيته العاطفية، ولكنهم خافوه على الصحة المتهالكة التي تجاهد في سبيل الحياة، خصوصًا وأن مضي الأيام قد بعث في النفوس الأمل بعد أن أوشكت أن تشفى على اليأس، ولو سألت على بواعث الاستبشارات لما وجدت غير كرور الأيام وتعود الحال، أما رشدي فلبث عاجزًا عن مغادرة الفراش، ونضو هزال يستثير الذعر والإشفاق، وظل لونه مصفرًّا مشربًا بزرقة، ولم يخف عنه السعال إلا قليلًا.

وفي النصف الأول من مايو جاءه طبيب المصرف، ليعيد الكشف عليه وليجدد له الإجازة حسبما يرى، وفحصه الرجل فحصًا سطحيًّا ثم قال: أظنك تعلم أن إجازتك القانونية تنتهي في ٣٠ مايو سنة ١٩٤٢!

أجل كان يعلم ذلك، ولكنه كان كأنه يسمع به لأول مرة، فقال بصوت خفيض: حقًّا؟! .. نعم .. أعلم ذلك.

فقال الطبيب بغير مبالاة: فأيامك الباقية من الإجازة منتهية لا محالة قبل الشفاء بزمن طويل، وعليه فلا مناص من فصلك من خدمة البنك ابتداءً من ٣١ مايو سنة ١٩٤٢.

وكان صوت الدكتور يقع من سمعه موقعًا غريبًا، فتساءل بصوت أشد ضعف: ألا يوجد ثمت أمل في الشفاء قبل انقضاء المدة الباقية من إجازتي؟

فهال الطبيب السؤال وقال بإنكار: هل تتصور أنه من المستطاع أن تبرأ وتسترد قوتك ووزنك الطبيعي فتستأنف عملك في بحر عشرين يومًا؟! هذا محال، أمامك عام استشفاء على أقل تقدير.

فسهم رشدي كالشارد، ثم أطرق كئيبًا محزونًا، أما الدكتور فأعطاه «استئمارة» نص بها على انتهاء إجازته في ٣٠ مايو سنة ١٩٤٢، وعلى أنه يعتبر مفصولًا ابتداءً من ٣١ من مايو ١٩٤٢، إذا لم يعد إلى عمله قبل ذاك، وقال له بلهجة دلت على أنه يريد الانصراف سريعًا: وقع من فضلك بإمضائك على هذه الاستئمارة للعلم.

وذكر أخاه أحمد كأنه يستغيث به في تلك الساعة الحرجة! .. وردَّد عينيه بين الطبيب وبين الورقة فلم يغب عن ناظريه ما بالرجل من نفاد الصبر، فعراه الارتباك وتناول قلمه ووقع بإمضائه بيد مرتعشة وغادر الدكتور الحجرة فجاءت أمه متطلعة إليه بوجهها الذي نال منه الإعياء والهم كل منال، فقال لها بصوت مبحوح متهدج: أمَّاه، وقعت الآن بإمضائي على أمر فصلي من عملي!

فخفق قلب المرأة خفقة عنيفة، بيد أنها تداركت نفسها فلم تستسلم لعواطفها أن تضاعف من أشجانه، وقالت باستهانة: أهذا ما جعلك تتكلم بهذه اللهجة الحزينة؟! يا بني، إن الله أكرمنا بإنقاذك من الخطر الداهم فلا ينبغي أن نغفل عن ذكره وشكره، وليهُنْ بعد ذلك كل شيء، فلا يحزنك الأمر، فإنك إن فقدت عملك اليوم واجده غدًا إن شاء الله.

ولكنه قال بنفس الصوت المتهدج المبحوح وكأنه لم يعِ شيئًا مما قالت: قضي الأمر وخسرت وظيفتي، وضاع الماضي والمستقبل.

فقالت المرأة وهي تعض على نواجذها دافعة دموعها: رشدي، لا تيأس ولا تحزن، وغدًا تنكشف الغمة بأمر الله ورحمته، فترد إلى وظيفتك أو إلى خير منها، والله لتبسمنَّ بعد عبوس وليصدقنَّ قلبي.

ولكنه لم يكن يصغي إليها، وتاهت عيناه في آفاق مجهولة، فغابت أمه عن ناظريه، وراح يقول وكأنه يحدث نفسه: ما أفظع المرض! .. حقًّا إن ألمه لشديد، وعذابه لمروع، يجعل القوة عجزًا، والشباب شيخوخة، والأمل قنوطًا، يُقعد الناهض، ويعطل العامل، ويقبح الحبيب، أضاع مستقبلي، وأطفأ نوري، وأوهن عظامي، وأفقر يدي، اللهم اكفهم شر المرض .. اللهم اكفهم شر المرض.

وانفلت زمام المرأة من بين يديها فأجهشت في البكاء، وقالت بصوتها الباكي: هلا رحمتني يا رشدي!

فقال بحدة: الله لا يريد أن يرحمنا.

وبعد ظهر ذاك اليوم — وبعد عودة الوالد من مسجد الحسين وأحمد من الوزارة — حدَّث الرجلان رشدي حديثًا طويلًا يهونان به من أثر ما وقع، ويؤملانه خيرًا منه، حتى بدا في النهاية أنه يعيرهما أذنًا واعية ويتأسَّى بما يقولان، ورأى أحمد أن نفقات التداوي ستضحى، بل أضحت بالفعل، أكثر مما تتحمَّله نقود الشاب التي انكمشت إلى ربع مرتب وستنقطع بعد حين، وأنه لن يغني عنه ما عسى أن يعينه به من مرتبه المثقل، فقال له: رشدي، أنت الآن خير حالًا مما كنت في الماضي القريب، وأظنك تحتمل البقاء في المصحة، أفلا يحسن بك أن تنتقل إليها لتظفر بجو وعناية لا يتوافران لك ها هنا؟

فقال الشاب وقد اقشعر بدنه لتذكر المصحة وعهدها: ليس في طوقي الآن أن أعود إلى الدرجة الثانية، ومحال أن أرضى بالانتقال إلى عنابر الدرجة الثالثة.

– أليست عنابر الدرجة الثالثة بخير من حجرتك هذه هواءً ودواءً؟

فهز رأسه الذي بدا كبيرًا جدًّا بالنسبة إلى عنقه الرفيع وقال: الحياة هناك فظيعة، وأحوال المرضى مخيفة، كفاك الله شر المرض.

فلم يزد أحمد كلمة واحدة، وعند المساء، وكان رشدي وأمه كعادتهما يراوحان بين الحديث وبين سماع الراديو المترامي إليهما من المقاهي المحيطة، قدم المذيع طبيبه الذي كشف عليه أول مرة إلى الجمهور «.. يلقي عليكم محاضرته الأولى عن السل.» فارتعشت أمه لسماع الاسم الذي يقض مضجعها، أما رشدي فانتبه بعناية وأرهف أذنيه، ولم يكونا وحدهما اللذان يرهفان أذنيهما في تلك الساعة، فالأب في حجرته رفع رأسه عن القرآن ومال برأسه نحو النافذة، وغاب أحمد عن حديث الصحاب في الزهرة ليلقي بانتباهه كله إلى الراديو خافق الفؤاد، وتكلَّم الدكتور عن تاريخ كشف ميكروب المرض، والأدوار التي يمر بها، ووصف كل دور بإسهاب، ثم تكلَّم عن مسألة زواج الناجين من الداء، وما ينبغي أن ينتظره أصحاب كل دور من أعوام، واقترح في النهاية أن تنشأ الحكومة للناجين من الدور الثالث قرى في صحراء حلوان تكون بمثابة معازل يقضون فيها شطرًا من أعمارهم أو العمر كله. أصغت الأسرة متفرقة إلى المحاضرة، فأخفت الأم عينيها الدامعتين، وتنهَّد الأب وعاد إلى كتابه، أما أحمد فبكى قلبه وهو يتظاهر بالسرور بما يقول المعلم نونو، ولازم رشدي الصمت، ومضى يستعيد ما سمع، فغمرته فجأة ذكريات حياته، الشباب الطروب واللهو العابث والحب الساحر، وصور سريعة متزاحمة من الوجوه والأماكن والربوع، فتآكل صدره حسرةً، وهوى من ربوة الأمل إلى هاوية القنوط، ونسي وجود أمه فهتف بائسًا: «رباه إذا كانت مشيئتك قد قضت بأن ينتهي بهذا الداء أجلي، فأسألك الرحمة بالتعجيل به.» وارتاعت أمه، ونظرت إليه بعتاب وهي تقول: رشدي!

فنظر إليها مبتسمًا ابتسامة حزينة وقال بلهجة تهكمية: الغالب أنك لن تفرحي بعرسي كما تودين!

ولما رآها تجهش في البكاء، غلبه التأثُّر، فوجم .. وقال بأسف: معذرةً يا أماه .. لشد ما أقسو عليك يا مسكينة. حرمت عليك النوم والطعام وسودت أيامك، وها أنا ذا أعذبك بهذياني، فاللهم غفرانك.

٤٦

واستيقظ في صباح اليوم الثاني أهدأ نفسًا وأهدأ قلبًا، ولما جاء أحمد عليه طلب إليه أن يعيره القرآن، وأتى الرجل بالكتاب الشريف فتناوله الشاب بسرور، وسأله: أليس من الحرام أن ألمسه ولما أستحم منذ أشهر؟!

فقال له مبتسمًا: عذرك مقبول عند الله.

ومضى يقرأ الكتاب، ولولا خوف السعال، لتلاه بصوته العذب. ووجد في القراءة لذة وسلامًا، واطمأن بذكر الله قلبه، ونسي به الحنين إلى الماضي السعيد، والحسرة على ما فات منه، والندم على ما فرط منه فيه، بل نسي به التوجع الدائم لما صار إليه حاله، واليأس من الشفاء الذي قبض قلبه منذ أمس، والخوف من النهاية التي تتخايل لعينيه، وفرَّ أخيرًا من آلامه ومخاوفه لائذًا بالاستسلام والتسليم والصبر والتوكل على الله، ووجد ارتياحًا في الإذعان المطمئن إلى إرادة الله وقضائه، ورأى تلك الإرادة الشاملة تحيط بماضيه ومستقبله فاستسلم إليها آمنًا مطمئنًا كما يستسلم إلى صدر أمه إثر نوبة السعال، ومرت أيام وهو هادئ رزين، صابر متصبر، باش مسالم، لا يثور ولا يغضب، لا يشكو ولا يتذمر، ولا يتمرد ولا يسخر، وفي المرات القلائل التي أطلقت فيها زمارات الإنذار لم يفارق الشقة منهم أحد، فكانوا يتحسسون طريقهم إلى حجرته في الظلماء، ويلتفون حوله بقلوب خافقة وأعصاب متوترة، واطرد الزمان في هدوء حتى وقع حادث هام! كان مايو قد انتصف، والوقت أصيلًا، والأب قد انطلق كعادته إلى مسجد الحسين لصلاة المغرب، وجلس أحمد في حجرة الشاب يحادثه بوجود والدتهما، فدق الجرس وفتح الباب واقتربت أقدام خفيفة، ثم دخلت الحجرة امرأتان: الست أم توحيدة ونوال! وحدثت دهشة لاحت أماراتها في الأعين، وخفق قلب الشقيقين بعنف، لماذا جاءت نوال بعد هذا الغياب الطويل؟! وإن ظهورها مرة أخرى خليق بأن ينكأ الجرح الذي أوشك أن يندمل، ونهض أحمد وتنحَّى جانبًا حتى ارتفق النافذة ورفع رشدي عينين أحاطت بهما هالتان زرقاوان، ونطقت عيناه بالإنكار، ثم زايلته الدهشة وحل محلها امتعاض شديد فتنغَّص عليه هدوءُه البديع، وحدثته الست توحيدة بلهجتها المرحة، وأكدت له أنه يتحسَّن تحسُّنًا محسوسًا، أما نوال فرنت إليه بعينين مروعتين وقد أفزعهما ما صار إليه من الهزال والضعف، وغُلبت على أمرها فلم تدرِ ماذا تقول، ولم تزد على أن قالت بصوت لا يكاد يسمع: «كيف حالك؟!» ولم يرغب في الرد عليها فاكتفى بأن رفع ذقنه وسط راحتيه كأنه يقول لها: «كما ترين!» ولم يعد يخفى على أحد أن الشاب تغير، وأنه اعتراه اضطراب واستياء، وأنه يعاني ألمًا باطنيًّا حادًّا، وأرادت الست توحيدة بلباقتها أن تخفف من توتر الجو فراحت تتحدث وتضحك وتستثير الضحك ما وسعتها الحيلة، ثم قالت: أبشر يا رشدي أفندي! رأيتك في الحلم حاملًا أثقالًا عابرًا بها قنطرة طويلة، فبلغت نهايتها بسلام، وتفسيره أنك ستبرأ عما قريب إن شاء الله!

فقال رشدي بلهجة لم تخلُ من خشونة: فسر الدكتور قبلك هذا الحلم فأكد لي أني لن أفارق فراشي قبل عام طويل!

فقالت المرأة بلهجة عتاب: سامحك الله يا رشدي أفندي، هكذا أنت متطير دائمًا .. (وأومأت إلى ابنتها واستأنفت الكلام) هذه نوال جاءت لتراك وما منعها منك إلا انشغالها بدروسها، ومرضها في الأيام الأخيرة، وستؤدي الامتحان في نهاية هذا الشهر!

فقال الشاب بلا تردد: نفس التاريخ الذي أفصل فيه من عملي.

فاصفر وجه نوال التي أدركت حقيقة غضبه، وبادرت المرأة تقول بامتعاض: بعد الشر .. بعد الشر. كل شدة إلى انتهاء تسير.

ولكنه بسط راحتيه على صدره وقال بحدة: إلا هذه الشدة، فلا انتهاء لها حتى تقضي على الحياة.

– مرضك يا رشدي أفندي ليس بالخطير، وستبرأ قريبًا بإذن الله.

فهز منكبيه استهانة، وعاد يقول بحدة وراحتاه على صدره: أي مرض تعنين؟! .. ها هنا سل! أما سمعت به؟! .. سل سل إنه يأكل صدري، ويسيل مع ريقي دمًا .. إنه مرض خطير فظيع، شديد العدوي، فحذار.

واشتد به التأثر، وغلبه الانفعال، فضرعت إليه أمه أن يسكت، ورجت الضيفتين أن يصحباها إلى حجرة الاستقبال معتذرة عن حدة الشاب بمرضه. ولما خلت الحجرة إلَّا من الشقيقين، قال أحمد بحزن: ليتك لم تستسلم للغضب!

ولكنه قال له بانفعالٍ شديد: والله ما تستحق إشفاقك يا أخي! إن الخيانة قبيحة، وهذه الفتاة هي سبب الكارثة التي حلت بي كما تعلم يا أخي، لولاها لتداركت خطر المرض ودفعت الأذى عن حياتي، ولكن تعلقي بها هيأ لي مداراة المرض حتى انتهيت إلى ما ترى.

واستوى جالسًا وقال وما يزال منفعلًا: لماذا خاطرت المرأة العجوز باصطحابها إليَّ؟ .. المرأة الماكرة ترمي بنظرها إلى بعيد، فترى الشفاء محتملًا كالموت، وتأخذ الحيطة لكل احتمال، ولكني يا أخي لن أفكر في الزواج، وإذا كتب الله لي الشفاء فسوف أتعهد بنياني المتهالك بالعناية الواجبة، فعلى أحسن الفروض لن يبقى من عمري إلا شيخوخة حقيقة بالرعاية الحكيمة. أخي.. لي في المصرف مقدار من النقود كنت ادخرته لزواجي فسأسترده وأشد الرحال إلى حلوان، وهناك أضع نفسي تحت رحمة المقادير حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، غدًا اسحب لي النقود بنفسك، وابتع لي ثيابًا ولوازم، وسأكون بالمصحة قبل نهاية هذا الشهر، وعلى الله الجبر.

٤٧

وفي ضحى اليوم الثاني — الجمعة — نفذ أحمد مشيئة أخيه، فاسترد وديعته من المصرف وابتاع له بيجامتين وثيابًا داخلية وبعض اللوازم الثانوية، وعاد إلى البيت ظهرًا مسرورًا بما قر رأي المريض عليه من الانتقال إلى حلوان، ولما دخل حجرة الشاب رآه يدخن سيجارة، فانزعج انزعاجًا شديدًا، وكان أقلع عن التدخين منذ ظهور المرض، فارتبك لمرأى القادم، وابتسم ابتسامة ارتباك وخجل. وهتف به أحمد وقد نسي المشتريات الجديدة: من أعطاك هذه السيجارة؟ .. ماذا تفعل بنفسك؟!

وألقى على أمه نظرة ملؤها الاتهام، فقالت المرأة تدافع عن نفسها: ألح عليَّ يا أحمد ولم ينفع اعتراضي، فما سكت حتى فاز بطلبته.

وقال رشدي دون أن يترك السيجارة: لا تؤاخذني يا أخي .. نازعتني نفسي إلى التدخين فجأة فلم أستطع مقاومتها.

فقال أحمد بامتعاض شديد: ولكن هذا هو الجنون عينه!

فقال الشاب كالمعتذر: سيجارة واحدة لا تؤذي، لَكَمْ هي لذيذة! دعني آخذ أنفاسها في طمأنينة.

ودخَّن سيجارته في سرور عجيب، ثم قال: لا تغضب يا أخي فهي آخر سيجارة، والآن هات ما عندك من الثياب الجديدة.

وبعد الغداء بقليل اعتراه إعياء شديد ولم يطمئن إلى الاضطجاع، فجلس في الفراش مادًّا ساقيه مسندًا ظهره إلى وسادة منكسرة، فبدا ساقاه كخطين، واشتد اصفرار وجهه وشابته زرقة خفيفة، ولاحت عيناه متسعتين مكحلتين بهالتين سوداوين، وارتسمت على الحدقتين نظرة غريبة، غير نظرة الحزن الأولى، كأنها ترمى إلى شيء بعيد لا تراه الأعين، وجاءه أحمد يجالسه ساعة العصر قبل أن يمضي إلى قهوة الزهرة، فقال له رشدي: أذاهب إلى الزهرة؟! .. سلامي إلى الصحاب. لَكَمْ يشوقني أن أسهر ليلة في السكاكيني بين إخواني.

فقال أحمد بتأثر: ستبرأ إن شاء الله وتعود إلى إخوانك ولياليك!

فقال الشاب بانكسار: هل يمكن أن أبرأ حقًّا؟! .. انظر إلى ساقي! هل تعودان مرة أخرى إلى هيئة السيقان البشرية!

– وما يكون هذا في قدرة الله العظيمة؟

فهز رأسه، ثم قال لأخيه بلهجة الناصح الأمين على غير مألوفه: ارعَ صحتك دائمًا بعين اليقظة ولا تتهاون بها أبدًا.

ثم أطرق لحظة قصيرة واستدرك قائلًا وقد تغيرت نبرات صوته: المرض كالمرأة يلتهم الشباب ويبدد الآمال.

وتساءل أحمد ما بال أخيه يتكلم هكذا؟

ونظر إليه بانكسار، فاستدرك الآخر: وميكروبه يعمل في الخفاء حتى إذا تمكن من فريسته قضى عليها.

– رشدي! ماذا تقول؟!

– أجلو لك الحق قبل الفراق، فعسى ألا أراك بعد اليوم.

فقال الرجل بانزعاج: كيف لا أراك يا رشدي؟

فتنبَّه قليلًا وقال وكأنما عاودته سخريته المرة: أليس من المحتمل أن يذهب صبرك فتعاف المرض أو تنشغل بدروسك فتنساني في حلوان؟!

فهتف به أحمد متألمًا: سامحك الله .. سامحك الله!

فحدجه بنظرته الغربية الغائبة وسأله: لماذا لا يحرقون المرضى فيريحوهم ويستريحوا منهم؟

فصاح به الرجل: رشدي! كيف تتكلم!

فلزم الصمت لحظة قصيرة، ثم قال بأسف: لعن الله المرض، الله يكفيكم شر المرض!

وانزعج أحمد انزعاجًا كبيرًا، وعادت أمه بالقهوة فاحتسى قهوته في سكون؛ وخاف أن يعود الشاب إلى كلامه المزعج، ولكنه لم ينبس بكلمة، فارتاح ارتياحًا خفيفًا، وحسب أنه استرد حالته الطبيعية، وجعل يسترق إليه النظر، فهاله تراخيه، لون وجهه، ومنظر ساقيه، وحدَّث نفسه متحسرًا: أهذا أنت يا رشدي؟! تبًّا للمرض!

وذهب الرجل إلى القهوة متأخرًا عن موعده، وكان يجد فيها بعض الراحة لأعصابه المتوترة، ونفسه المحزونة، فمكث بها حتى منتصف العاشرة، ثم عاد إلى البيت، ومر بحجرة أخيه، فوجده قد تعاطى المنوم واضطجع في طلاب النوم، ولكنه لم يكن نام بعدُ فردَّ تحية القادم قائلًا: مساء الخير .. هل عدت؟

فقال أحمد وهو يتفحصه بعينيه: أجل .. كيف حالك؟

– الحمد لله .. كيف شاي الزهرة؟

– كعهدك به.

فقال بصوت لم يكد يسمع: هنيئًا!

وتركه لينام ومضى إلى حجرته، وخلع ملابسه، كان منقبض الصدر متوتر الأعصاب، وترامت إلى أنفه رائحة نتنة فازداد صدره انقباضًا وأعصابه توترًا، ترى هل للهواجس التي تضطرب بها أعماق النفس رائحة تُشم؟! وحاول أن يغيب عن أفكاره ساعة بالقراءة. ثم نهض لينام، فلم يغمض له جفن حتى مضت ساعة طويلة من الأفكار والوساوس، واستيقظ في الصباح الباكر على حركة في البيت فتنبهت حواسه، ونظر في الساعة فوجدها الخامسة. فتساءل ما الذي أيقظهم في هذا الوقت المبكر؟! وغادر الفراش، وانطلق إلى الخارج يساوره قلق وخوف، وقبل أن يخطو خطوتين في الدهليز المفضي إلى حجرة رشدي انفتح باب الحجرة بقوة وبدت أمه على عتبته وقد رفعت ذراعيها فوق رأسها كمَن يستغيث، ثم هوت براحتها على خديها تلطمهما بعنف وجنون.

٤٨

وكان يومًا فظيعًا مروعًا، سارت قافلته في هول من الألم والعذاب والشجن، وأن أحمد ليذكره ساعة ساعة لأن ذكرياته السود حفرت في فؤاده كما حفرت في فؤادي الوالدين البائسين، فساعة دخوله الحجرة سار متثاقلًا بقلب كسير وعين مذعورة لما ينتظر أن تراه، ومد بصره نحو الفراش فرأى رشدي راقدًا وقد سجته أمه بالغطاء ووالده واقفًا على كثب منه دامع العينين منكس الرأس، فاقترب من الفراش وحسر طرف الغطاء فرآه كالنائم لم تتغير منه هيئة ولا لون، وهل ترك المرض للموت شيئًا يغيره؟! وانحنى عليه فلثم جبينه البارد ثم أعاد الغطاء كما كان، واستسلم لبكاء غزير تجمعت أبخرته في قلبه يومًا بعد يوم تنفثها الآلام حتى تكاثفت في برودة الموت فسحت دمعًا فيَّاضًا.

وموقفه في حانوت بالغورية: يبتاع كفنًا، ويذكر ما ابتاع له بالأمس من ثياب الدنيا، انتقى له أجمل الألوان لما عهده فيه من حب الأناقة، وجعل ينظر إلى يدي البائع، وهو يقيس القماش ويقطعه ثم يلفه، بإنكار وذهول.

ثم ذهابه إلى مركز الصحة لاستخراج تصريح بالدفن، سأله موظف بعدم اكتراث: «اسم المتوفى؟» فأجابه وهو يود ألا يسمع صوت نفسه: «رشدي عاكف» ثم قال لنفسه بذهول: «رشدي عاكف مات! أفظع بها من حقيقة» وسأله بنفس اللهجة الباردة: «عمره؟» فأجابه: «ستة وعشرون عامًا» فسأله: «المرض؟» فسماه والغضب يضطرب في جوانحه، وهل ينسى ما فعل بالشاب المنكود؟ هل يمكن أن ينسى منظر الساقين والعنق؟ لون البشرة؟ .. قسوة السعال؟ ثم تسلم الورقة التي لا يمكن أن يغيب رشدي في باطن الأرض إلى الأبد إلا بها، ومضى شاكرًا! وقد أحدث عدم اكتراث الموظف والدكتور ثورة في صدره على وشائج الإنسانية جميعًا، كيف يلقى الموت بعدم اكتراث وهو أفظع حدث في الدنيا! هل يمر يوم دون أن يُرى نعش محمولًا على الأعناق؟! فكيف يمرون به مر الكرام كأن الأمر لا يعنيهم؟! كيف لا يرى كل فرد نفسه محمولًا على هذا النعش؟!

ثم مرتزقة الموت، جاءوا تباعًا يحملون أدوات الغسل والنعش، براقة أعينهم، قوية سواعدهم، يكتمون وراء عبارات الرثاء المصطنع سرور التاجر بالربح المرتقب، فلم يروا في جثمان رشدي العزيز إلا سلعة.

ثم النعش يتهادى على الأعناق في حلة الشباب البيضاء، وملأ عينيه منه وهو يسير في انحرافه المعروف تتبادله الأيدي والمناكب، وضع الطربوش عليه مستويًا وكان صاحبه يميله إلى اليمين فيوشك أن يمس حاجبيه فعل المختال بشبابه المدل بجماله، لله ما أوفى أصحابه، لقد بكوا حتى احمرت أعينهم، وبكي كمال خليل أفندي، أما أحمد راشد فجمد وجهه ولم يُبِنْ، ولم يرتح أحمد لمنظره ولا لوجوده بين المشيعين، كذلك تجنب النظر إلى المعلم نونو الذي أيقن أنه لا يمكن أن يشاركه عاطفة لما طبع عليه من استهانة بالأحزان وابتسام للكروب، وسار الأب وراء النعش مباشرةً في حزن حفظ الإيمان عليه وقاره، وبلغ التأثر بأحمد منتهاه حين بلغت الجنازة طريق الجبل، الذي يعلم من أمره ما يعلم، الطريق الذي شهد رشدي عاشقًا صباحًا بعد صباح، والذي جرى فيه الفتى وراء هواه مستهينًا بمرضه الخطير، فاشترى قلبه بصدره، ثم خسر الاثنين معًا. ربَّاه هل يشهد الطريق على خيانة الرفيق؟ .. هل يفضي إليه بأن التي رأى الفتى المسكين ينتحر من أجل حبها خافت عدواه ونبذته نبذ النواة؟! ثم بدت المقبرة في ثوب قشيب! فرشت أرضها بالرمل، واصطفت عند مدخلها الكراسي، ودار بها السقاة، وفغر القبر فاه كأنه يتثاءب ضجرًا من المأساة المعادة، ووضع النعش على الأرض وكشف الغطاء، ورفع رشدي ملفوفًا في الكفن الذي اختاره له بنفسه، وأطبقت عليه الأيدي، وغابوا به في جوف الأرض، ثم صعدوا بعد قليل من دونه، وبلا رحمة حثوا عليه التراب، فاختفى القبر في دقائق معدودات، واستوى بالأرض، ونضحوا الماء عليه كأن غلته لم تُروَّ بعد، وهكذا غاب عزيز وانتهت حياة! بين انتباهه عين القبر وغمضتها بغيب حبيب إلى الأبد فلا تغني عنه الدموع ولا الحسرات، ورجعوا جميعًا وقلوبهم شتى، الحكمة التي أوجبت بالأمس أن يكون رشدي محبوبًا توجَّب اليوم أن يصير نسيًا منسيًّا! البيت كئيب، والوالدان ذاهلان، وقد كوم رياش حجرة الراحل وأغلق بابها، ولما أوى عند منتصف الليل إلى حجرته، انثالت عليه الفكر، حتى تنبه إلى شيء في الجو، يا عجبًا ما زالت الرائحة الكريهة تزكم أنفه .. رائحة الموت المخيفة! وفي صباح اليوم الثاني وجد أنها ما تزال تنبعث في الجو، فتهيأ له أنها ربما كانت متصاعدة من الممر المفضي إلى خان الخليلي القديم، ففتح النافذة ونظر منها، فرأى على الطوار كلبًا ميتًا وقد انتفخ بطنه وتشنجت أطرافه، فصار كالقربة، وأكب عليه الذباب وأدام النظر قليلًا، ثم تحول عن النافذة بفؤاد مكلوم وقد امتلأت عيناه بالدموع.

ثم كانت أيام قاسية مرة. أما عاكف أفندي الأب فقد راح يداوي بالإيمان جرحًا داميًا، وأما الأم فقد ذهلت في حزنها عن كل شيء حتى الإيمان، بل قالت تخاطب ربها في وقدة الألم: «ما ضر دنياك لو تركت لي ابني!» ثم قالت لزوجها بحدة: «هذا حي شؤم، جئته على كره مني وما أحببته قط، وفيه مرض ابني وفيه قضى، فدعنا نهجره بغير أسف!» ثم انثنت إلى أحمد قائلة: «إذا أردت أن ترحم أمك حقًّا فابحث لنا عن مقام جديد.» كرهت الحي وأهله جميعًا، وضاق أحمد به صدرًا كذلك، ولكن كيف السبيل إلى سكن جديد والقاهرة قد ناءت بسكانها! ولم يألُ جهدًا فوصَّى زملاءه جميعًا بالبحث عن سكن في أي موقع من القاهرة، بل جعل يروض حزنه الأليم بالاضطراب في الشوارع القريبة والبعيدة بحجة البحث عن مسكن خالٍ، وقد لاحظ المعلم نونو سهومه وكآبته فأكثر من ممازحته وجذبه إلى أحاديثهم، حتى دعاه مرة إلى بيت الست عليات، ولكن الكهل أبي وظل مغبر الجبين.

٤٩

وتلا وقت حافل بالأحداث الحربية الهائلة، فانسحب الجيش الثامن من جسر الفرسان، وفي النصف الثاني من يونيو سقطت طبرق في يد الألمان، وتهامس الناس بخطر الغزو، وتناول الصحاب، في الزهرة، الأخبار بتعليقاتهم المعتادة، فقال سيد عارف بسرور: لن يقف زحف رومل هذه المرة.

فسأله الأستاذ أحمد راشد بلهجة المتهكم: يا من تحبون الألمان، هل تحسبون أنهم إذا دخلوا مصر يدخلون بسلام، أو أن دون ذلك حربًا ضروسًا تقتلع كل قائم؟!

فأجابه المعلم زفتة باستهانة: وماذا لنا في البلد مما يخاف عليه؟! فليحزن السادة الذين لا يعرفون أن الدنيا فانية!

وقال المعلم نونو: لا أملك إلا روحي وأرواح أبنائي وهي جميعًا ملك الله تعالى ولا سبيل لرومل عليها إلا بأمره، وقد وقَّت لها آجالها قبل أن يخلق رومل بملايين السنين.

ثم ضحك نونو ضحكته المجلجلة واستدرك قائلًا: نذرت إلى الله، لو جاء رومل وأنا على قيد الحياة، لأدعونَّه إلى سهرة ببيت الست عليات، ليشهد أن المدفع المصري فوق المدفع الألماني.

وجعل أحمد ينقل إلى والديه ما يقوله الناس، ويحدثهما بأخطار الغزو وما يتوقعه الكثيرون من اشتداد الغارات الجوية، وكأنما أراد أن يلهيهما عن حزنهما ولو بإثارة خوفهما!

وعاد أحمد ذات مساء إلى البيت، وكان انقضى على وفاة رشدي أربعة أسابيع فوجد أمه بانتظاره، وبادرته قائلة: زارتني نوال بعد عصر اليوم!

وخفق قلبه لذكر الاسم، وأمسكت يداه عن فك رباط الرقبة، وسألها مندهشًا: ولماذا جاءت؟

فقالت الأم: قابلتني في ارتباك شديد، وما إن التقت عينانا حتى انتحبت باكية، وقالت لي بصوت متقطع ونبرات مختنقة: «أنا أعلم بسخطك عليَّ، بل بسخطكم عليَّ، ولكم العذر، ولكني مظلومة والله يا تيزة، منعوني من زيارته، وحالوا بيني وبين رؤيته، وفرضوا عليَّ رقابة شديدة، وأبوا أن يصغوا إلى توسلاتي أو يرحموا دموعي، وما كنت لأفعل هذا بنفسي أبدًا، ومع ذلك لم أذعن ولم آيس حتى اضطرت أمي تحت ضغطي الشديد أن تصحبني معها في غياب أبي، فجئنا معًا ذاك اليوم الذي لا أنساه ولن أنساه ما امتد بي عمر، آه يا تيزة، ألقى عليَّ يومئذ نظرة واحدة، تنطق بالاحتقار والزراية، فقطعت قلبي المكلوم البريء، أدركت أنه ناقم عليَّ، كاره لي، لَكَمْ تألمت، ولَكَمْ أتألم .. ولكنه سيعلم الحقيقة يومًا ما، ويعلم أني ما بغيت عليه ولا خنت عهده!»

أصغى أحمد إليها بفؤاد خافق وصدر هائج جياش، ثم سألها: أتقول الحق يا تُرى؟

فتفكَّرت المرأة قليلًا ثم قالت على مهل: سمعتها تتكلم بإخلاص، ولا أدري لماذا تحمِّل نفسها عناء الكذب بعد أن انتهى كل شيء، فيغلب على ظني أنها صادقة، بيد أن مقتي تضاعف لأهلها الدون.

وخلع الرجل ملابسه متفكِّرًا، وقد مال إلى تصديق الفتاة كأمه؛ وارتاح لذلك، ولكن وا أسفاه قضى رشدي نحبه يائسًا من حبه يأسه من الشفاء! فيا لهما من حبيبين تعيسين الميت منهما والحي! وأهاجته الذكريات فاستثارت أحزانه ومضى يقول لنفسه: «اللهم غفرانك، ألم يكن الأوفق أن تختارني وتعفو عن أخي؟ فحياتي لا تستحق الوجود، وحياته الناجحة كانت أهلًا للدوام، اللهم غفرانك!» وأحس في تلك اللحظة داعيًا باطنيًّا يدعوه إلى ارتياد حجرة الفقيد المغلقة، وكانت نفسه نازعته إلى ذلك مرات ثم يعدل إشفاقًا، أما هذه المرة فلم يستطع أن يغفل عن نداء الداعي، وهزه الشوق والحزن، وما عتم أن مضى إليها والسكون شامل وقد أخلد والده إلى النوم، ولما اقترب من بابها انقبض صدره وفاض به الحزن ثم أدار الأكرة، وعبر مدخلها متثاقلًا، وأضاء المصباح الكهربائي وألقى على الحجرة المهجورة نظرة شاردة، وقد ملأت رائحة التراب أنفه، فرأى كومًا من الأثاث ومكتبًا تراكم عليه الغبار فأحاله، وكل شيء يدل على الوداع. ربَّاه لماذا ولج هذه الحجرة وما جفت دموعه بعد؟! وأجال عينيه بها في حزن بالغ، فجذبهما درج المكتب الأوسط، فذكر أن هذا الدرج يحوي مذكرات رشدي و«ألبوم» صوره! وأملى عليه قلبه أن يحتفظ بهما في حجرته ما دام الأثاث عرضة للبيع اليوم أو غدًا، ففتح الدرج واستخرج كراسة المذكرات والألبوم، ونفخ عنهما الغبار، ثم ألقى على الحجرة نظرة وداع وغادرها كأنما ما جاء إلا ليأخذ الألبوم والمذكرات. ووضعهما على مكتبه، وطفق يديم النظر إليهما باهتمام وحزن، وفتح الألبوم عن أولى صحائفه، فرأى صورة كبيرة لرشدي تمثله واقفًا ويداه في جيبي بنطلونه، ما أجمله وما أنضره! .. وسرعان ما طرقت ذاكرته صورة الكلب الميت الذي كدَّر جوَّه يومين كاملين! فتآكلت نفسه حسرات! ولم يمضِ في استعراض الصحائف احترامًا لأسرارها، وتناول كراسة المذكرات دون أن تحدثه نفسه بالتطفل على مكنونها، بيد أنه لم يقاوم رغبة في فر صفحاتها الأخيرة، فجرى بصره على بعض رءوس النبذ التي تكون خاتمة المذكرات .. فقرأ: «حب جديد» «طريق الجبل» .. «حديث غرام» .. «آمالنا» حتى مر بصره بهذا العنوان «القبلة القاتلة!» فخفق فؤاده بعنف شديد، ما معنى هذا العنوان؟! ألم يردده في بعض هواجس حزنه يومًا؟! وكان مؤرخًا في ١٢ يناير ١٩٤٢ أي أول عهده بالمرض، فلم تكن ثمة قوة تستطيع أن تعدل به عن قراءته، فقرأ وصدره يضطرب ويجيش بالعاطفة:

الاثنين ١٢ من يناير سنة ١٩٤٢:

«ربَّاه! أنا من اليوم وحتى يشاء الله شخص غريب، في صدره أذًى للناس، أنفاسه تهدد العباد، برج متداعٍ من الميكروبات الفتَّاكة، لعبت لعبة خطيرة كيلا تضيع نوال من يدي، اللقاء مبذول، ولكن حذارِ، نوال محرمة عليك، محال لمسها! قبلتها التي كانت شفاء للنفس حرام حرام، لشد ما تنكرني وتعجب لشأني ولعلها تساءل نفسها ما له لا ينتهز فرصة خلو الطريق كما كان يفعل؟ هل شبع من شفتيَّ؟ أتُرى فتر حبه؟ .. كلا يا حبيبتي لم يشبع من شفتيك ولا فتر حبه، ولكنه يخاف عليك، ويصون فاك من الهلاك المبين، ليس الذنب ذنبي، فقلبي كعهدك به ولكن دونه صدرًا عشش فيه عدو شرير أخافه عليك وأعيذك منه …»

أغلق أحمد الكراسة، وجعل يذرع الحجرة وكأنه يترنح من شدة الصدمة، ثم ارتمى على الفراش وهو يصك جبينه براحته ويهتف: «ربَّاه، لَكَمْ ظلمته .. ولكم اتهمته بالباطل!» وأحس كما لو أن منشارًا ينشر قلبه فأنَّ أنينًا موجعًا!

٥٠

وتصرمت الأيام الباقية من يونيو، وجاء يوليو بقيظه الفائر.

وظلت الكآبة ناشرة رداءها على البيت الثاكل، ولم تفتر همة أحمد عاكف في التنقيب عن مسكن جديد، رحمة بوالدته، ولأنه هو أيضًا، ضاق بالحي صدرًا، وقد خلَّفت الصدمة في أعصابه الرقيقة آثارًا عميقة، فعاوده بعض أرقه القديم، وتلبَّسته حال من القلق النفسي بات معها سريع الانفعال، سريع التأثر، كثير المخاوف مستسلمًا للحزن. وألقت في صدره الجيَّاش أحزان الماضي والحاضر، وتوجس خيفة مما يخبئه المستقبل ومما عسى أن يلده من الأحزان والآلام، وقال لنفسه، وهو يذكر والديه: إن سعادتنا بأحبائنا اليوم مرتهنة بالدموع التي نسكبها على فراقهم غدًا، وطفق يردد بيت أبي العلاء:

ومن لم تبيته الخطوب فإنه
سيصبحه من حادث الدهر صابح

فلم تكن أعصابه مما يعين على تحمل غِيَر الدهر وآلام الحياة، وأوشك أن يقع فريسة لمرضه القديم، ولذلك صدقت رغبته في هجر الحي. وفي ذلك الوقت كثر إطلاق صفارات الإنذار ليلًا ونهارًا، ولكن لم تُضرب المدينة كما حدث في سبتمبر، ثم تحرَّجت الحالة الحربية بتوالي تقدم قوات المحور، فعبرت الحدود المصرية، وتوغلت فيها، حتى جاوزت مرسى مطروح التي كانت تعد أهم خط دفاعي عن مصر، ثم استولت على فوكة والضبعة، وبلغ التحرج منتهاه بتقدم القوات المعادية إلى العلمين! .. تخايلت الإسكندرية لأعين الغزاة وتهامس الناس بأن الضرورات الحربية تنذر بتحويل الوطن إلى خرائب تنعق فيها البوم، ومستنقعات يرعاها البعوض.

وفي مساء اليوم الذي بلغت فيه قوات المحور العلمين اجتمع الصحاب بقهوة الزهرة كعادتهم، فتلاقوا بالبشر والسرور، وملئوا الجو برنين ضحكاتهم، لم يفكر أحد منهم في الهجرة أو تخزين بعض المواد الغذائية، ولا شغل أحد نفسه بتقدير الحالة التي تنشأ عن الغزو والحرب في المدن، أو كانوا يتمثلون هذه الحالة مازحين ضاحكين كأن الأمر لا يعنيهم، ولسان حالهم يقول: «الأمر لله وليحدث لنا ما يحدث للناس جميعا!» ولم يختلف أحمد عاكف عنهم في شيء، بيد أنه وجد في الاجتماع بهم — ذلك اليوم — لذة مضاعفة، كأنه وجد في مجتمعهم الصغير ملاذًا من القلق العام الذي أخذ يساور النفوس، لم يخلُ قلبه من خوف وقلق ولم يخلُ من سرور، كان يفكِّر فيما يحتمل أن يحدث فينقبض صدره، تتمثل له تلك الحالة التي يختلط فيها الحابل بالنابل وتمَّحي التبعات وتنهار القيم فيجد في أعماقه شعورًا بلذة خفية تعكسها أعصابه المتوترة، كأن ذاك الغزو المرتقب سيبيد فيما يبيد أحزانه وآلامه، وسيمحو فيما يمحو من آثار الماضي آثار ماضيه.

قال سيد عارف بلهجة المتثبت مما يقول: اسمعوا آخر الأخبار .. قسم رومل جيشه جناحين، وجه الأول نحو الإسكندرية وهبط بالثاني صوب الفيوم.

وقال أحمد راشد: سمعت أن الإسكندرية تضرب بالقنابل من الجو ومن البر حتى هجرها أهلوها إلى دمنهور.

– هل انتهى الإنجليز حقًّا؟

– إنهم يحرقون أوراقهم ويرحِّلون نساءهم!

– متى يبلغ الألمان القاهرة؟

– غدًا أو بعد غد.

– إلا إذا ساروا بجيشهم المظفَّر شرقًا إلى السويس.

– سمعت من ثقة أن جنود الباراشوت يهبطون جماعات في الحقول.

وتساءل المعلم نونو: ما عسى أن يفعل أحدكم لو هبط عليه جندي من أولئك الجنود وأمره أن يدله على موقع حربي؟!

فأجاب سيد عارف فورًا: أمضي به إلى شقة سليمان بك عتة وأقول له: «هاك السفير البريطاني!»

فهتف به سليمان عتة محنقًا: أولى بك أن تستوهبه بعض الأقراص اللازمة لمرضك!

وقال المعلم زفتة: أما أنا فأسوقه إلى شقة عباس شفة وأريه أضخم «طابية» في مصر.

فقال أحمد عاكف داهشًا: أليس لهذا المزاح من نهاية؟ ألا تعلمون بأننا مهددون بهجر ديارنا وربما قذفوا بنا إلى بعض القرى القذرة.

فصاح نونو: ما أحلاها عيشة الفلاح!

فسال أحمد راشد: ألا تخافون الموت؟!

فقال المعلم زفتة: أعطني عمرًا وارمني على رومل!

وقال المعلم نونو باهتمام مصطنع: الحق فيما قال أحمد أفندي؛ الألمان شياطين، وهم إذا هجموا على بلد انتشروا في كل مكان، وتخفوا في كل زي، فلا يبعد أن ترى غدًا ألمانًا معممين أو في ملاءات لف … والله إني أخاف أن أفتح الصنبور لأتوضَّأ فيخرج لي مع الماء غواص ألماني.

وبغتة أُطلقت صفارات الإنذار!

كانت الساعة السابعة مساءً، فهبوا جميعًا قائمين واختفت البسمات من وجوههم، وهرعوا إلى طريق المخبأ، وخاف كثيرون أن تحدث غارة عنيفة مدمرة كالتي تسبق الهجوم، وذكروا الإسكندرية والسويس وبورسعيد، بل ذكروا وارسو وروتردام! وبعد دقائق قلائل عج المخبأ باللاجئين، وجلس أحمد مع والديه وقد شمل الجميع قلق وخوف وكأن الأم قد كبر عليها ذاك الحرص على الحياة منها فدمعت عيناها، ومر ثلث ساعة في ذعر واضطراب وانتظار هو التعذيب عينه، ثم انطلقت صفارة الأمان! ودهش الناس، ثم لاح في أعينهم السرور والارتياح، وهتف بعضهم: «استكشاف .. استكشاف!» وهتف آخرون: «اقتربت الطيارة من حدود منطقة القاهرة ثم عادت وغيَّرت اتجاهها!» وتحرك التيار صوب باب المخبأ، وخرج مع الخارجين، وعلى بعد قريب من مدخل المخبأ رأى نوال متأبطة ذراع شقيقها الصغير محمد! والاثنان يضحكان ويوسعان الخطى نحو العمارة! خفق قلبه لمرآها كما تعوَّد أن يخفق لمرآها أو لذكراها، وظل هنيهة يتبعها مقلتيه حتى غيَّبها المنعطف، ثم انقبض صدره ورانت عليه كآبة، وأحنقه ضحكها وأغضبه فكأنه فاجأها متلبسة بجريمة نكراء! وبلغ منه التأثر مبلغًا لم يستطع معه العودة إلى القهوة قبل أن يروح عن نفسه قليلًا بالمشي، فمضى إلى شارع الأزهر على مهل، وأخذت نفسه تسكن وتهدأ، حتى عاودته حالته العادية بأسرع مما كان ينتظر، بل أنحى على نفسه باللائمة لغضبه، وأنكره. ما الذي أوجب غضبه؟! ماذا أثار ثائرته؟! أوَضحكها؟! يا عجبا! وهل حسب أنها تظل باكية إلى الأبد؟! ألم يضحك هو مرات سواء في الوزارة أم في القهوة؟! .. ألم يجر الابتسام على شفتي أمه نفسها في بعض الأحيان؟! فلماذا لا تضحك نوال؟ وماذا يغضب من ضحكها؟! حقًّا إنه النسيان، ذاك الدواء المر الذي يعقب العزاء ويستوجب الحسرة. العزاء عن آلامنا والحسرة على أنفسنا. نقول نسينا والحمد لله وهي سُنة الحياة، فيهتف بنا هاتف: ولسوف تنسون وا أسفاه وهي سُنة الحياة! وتنهَّد من الأعماق، ثم خطر له خاطر ليس بالجديد عليه، ولكنه كان يروغ منه، يشفق من مواجهته، بيد أنه قال لنفسه هذه المرة: «حتَّام أهرب وأتجاهل! ألا يخلق بي أن أواجه الحقيقة وأمعن النظر! أما زلت أحب نوال؟ لماذا يخفق فؤادي لمرآها ولذكراها؟»

وتفكَّر مليًّا — وهو آخذ في مشية المتمهل — ثم حدث نفسه مرة أخرى وقد تورد وجهه الشاحب خجلًا كأنما اطلع على سره الناس جميعًا: «حب، فوقه غضب. فوقه حزن، فوقه ذكرى مروعة. فلكي أخلص إلى هذا الحب ينبغي أن أدوس كرامتي وذكرى أخي وهو المحال .. بيني وبين الحب أخي وكبريائي، والحياة أهون من أن أمتهن في سبيلها هذين العزيزين!» كل هذا حق فهو يحب نوال، ولم يزايله حبها أبدًا وإن حجبته الآلام كثيرًا، ولكن محال أن يعترف لهذا الحب بغاية، فدون ذلك ما هو أقوى من الحب نفسه، ولكن حتَّامَ يمكث على كثب من النار وهو محموم؟!

٥١

وفي أواخر أغسطس اهتدى أحمد عاكف إلى شقة خالية بضاحية الزيتون، في بيت يملكه موظف بإدارة الحسابات بالأشغال ممن كانوا يعلمون برغبته الملحة في الانتقال، وكان يسكنها موظف اضطر إلى فسخ عقدها لنقله إلى إحدى البلدان، فدعا صاحب البيت أحمد وحدثه بشأنها وتم الاتفاق بينهما سريعًا على أن يتم الانتقال في أول سبتمبر موعد إخلائها، وسرَّت الأسرة بقرب الرحيل عن خان الخليلي وذكرياته السود، على رغم أنها ترحل عنه مهيضة الجناح، وقد ألمَّ بالأب ضغط دم نغَّص عليه عزلته، ونال الحزن من الأم فأصابها بالهزال وأغاض مرحها وألبسها ثوب الكِبَر، بيد أن أحمد — على حزنه — رأى في الأفق نجومًا تخفق. تحدثوا في تلك الأيام عن إنصاف المنسيين من الموظفين، وباتت الدرجة السابعة قريبة المنال، وكان دائمًا يستهين بالوظيفة والموظفين، ولكنه سُرَّ في باطنه بالترقية المنتظرة، وسره أيضًا أنه سيصير رئيسًا على أربعة غير ساعي بريد الوارد، ونوى صادقًا أن يجعل من عهد «رئاسته» فتحًا جديدًا في حياة الإدارة الحكومية يُضرَب فيه المثل الأعلى للرئيس «العالم الحكيم»! ثم من يدري بعد ذلك بما يخبئه الغيب؟ فأمامه في الحكومة خدمة طويلة تناهز العشرين عامًا، وعسى أن يرقى درجات أخرى؟ وعسى أن تحسن الحكومة الاختيار ولو أخيرًا! وليس هذا كل شيء، فقد حدث أن اصطحب أمه إلى المسكن الجديد ليعايناه، وهنالك دعاهما صاحب البيت إلى شقته فاحتسى معه القهوة في حجرة الاستقبال، ودعيت والدته إلى حريم الرجل، وعند عودتهما معًا أثنت أمه على زوج صاحبه وشقيقته، وقالت عن الأخيرة: إنها أرملة في الخامسة والثلاثين على أدب وجمال. ونشط خياله! أرملة في الخامسة والثلاثين، على أدب وجمال يحويهما بيت واحد، وهو أعزب في الأربعين، وزميل شقيقها، ولا فارق في السن من ناحيته ينفِّر، ولا شباب غض من ناحيتها تتيه به عليه. والظاهر أن الحياة لا تريح من الأمل، هل يعلم الغيب كله إلا الله؟ بيد أن هذه الأحلام لا تتفق ورباط رقبته الأسود! ربَّاه، ما لأحلامه تحلق في غير حياء؟ ولا يبعد في تلك اللحظة أن تكون نوال تسترق النظر إلى أحمد راشد مثلًا، وهكذا تسير قافلة الأحياء لا تلوي على شيء كأنها لم تفقد بالأمس القريب من كان يحل منها بالمكان المرموق. حياة صماء قاسية كالتراب، ولكنها تُنبت الأمل كما يُنبت التراب الزهرة اليانعة. حزن أحمد حزنًا شديدًا، ولكن لم يكن من الأمل مفر.

وأخذوا للرحيل أهبتهم، فلُفَّت الأبسطة، وفُكَّت الدواليب والأسرة، وجُمعت الأواني والكتب وقطع الأثاث، واعتزم السير غدًا.

وعند عصر ذلك اليوم وفدت نسوة العمارة لتودع الأسرة الراحلة، وكان أحمد لا يزال في حجرته، وجاء فيمن جاء منهن الست توحيدة ونوال، وجلسن جميعًا في الصالة الخارجية لأنها المكان الوحيد في البيت الذي كان صالحًا للجلوس وقتذاك، ولبثت الست توحيدة ونوال بعد انصراف الزائرات. وجاء موعد ذهاب أحمد إلى القهوة ليودِّع صحابه، فلم يجد بُدًّا من المرور أمام الزائرتين، ولكن السيدة نهضت قائمة عند ظهوره ومدت له يدها وهي تقول: كيف أنت يا أحمد أفندي؟

فسلِّم عليها في ارتباكه المعهود وهو يقول بصوت خفيض: الحمد لله يا سيدتي، شكرًا لكِ.

ونهضت نوال لنهوض أمها، فتحوَّل إليها مادًّا يده كذلك، والتقت يداهما لأول مرة، فسرت في بدنه رعشة، فلم ينبس بكلمة، ولم يرفع عينيه.

وقالت السيدة: ما زلت أعتذر لوالدتك عن سلوكنا، ولعلك تقيم لنا العذر يا أحمد أفندي، ووالله كان المرحوم عزيزًا علينا أثيرًا لدينا وربنا يعلم.

فقال الرجل المرتبك المضطرب: كلنا نقيم لكم العذر، وللضرورة أحكام يا سيدتي.

ودارت المرأة بلباقة حول الموضوع، وشكرت أحمد لأدبه وحسن تقديره للأمور. ثم استأذن الرجل في الانصراف وسلم على السيدة ومد يده لنوال مرة أخرى، وفي هذه المرة، واليدان مجتمعتان، خطف من وجهها نظرة بعينيه الخجولتين، ثم اتجه نحو الباب، كانت أول مرة تلتقي العينان عن قرب، ولم يكن نظر فيهما منذ مداعبات النافذة والشرفة على عهد الأمل الأول، فخال أنه طالع فيهما ما كان يطالع من صفاء وحنان وتطلُّع، فدق قلبه وهو يحث خطاه وطرفت عيناه في هياج عصبي. ربما كان موقف الوداع هو المسئول وحده عن كل ذلك، فالوداع يستثير حتى عطف أولئك الذين لا يعطفون في غيره من المواقف، وهكذا اعتذر لضميره، بسيكولوجية الوداع هذه، عن انفعاله وتأثُّره وخطفه النظرة، خاصة حين خطرت على فؤاده ذكرى رشدي ولاحت لعينيه صورته المحبوبة وكأنها تبسم إليه في عتاب، وراح يحادثها بلهجة حزينة مؤثرة: «معذرة يا رشدي، إنه الوداع وأنت أعلم بالوداع، وإنه الألم وأنت أخبر بالألم، ولن تجد مني بعد الآن ما يستحق عتابك.» وبلغ قهوة الزهرة، والله وحده يعلم متى يتاح له أن يغشى قهوة مرة أخرى، واستقبله الصحاب استقبالًا حافلًا يليق باللقاء الأخير، وأمسكوا عمَّا كانوا آخذين فيه من أسباب الحديث ليفرغوا لوداع الجار العزيز، وقال له المعلم نونو متسائلًا: أتنسانا يا تُرى؟

فقال أحمد وهو لا يدري إن كان يصدق في قوله أم يكذب: معاذ الله يا معلم.

وقال المعلم زفتة: ولكن الزيتون هذه بلدة بعيدة لا يبلغها طالبها إلا بالقطار!

فقال أحمد مبتسمًا: ما كان لقطار أن يمنع صاحبًا عن صحبه.

ثم قال عباس شفة وهو يرفع حاجبيه كمن يتذكر أمرًا هامًّا: أنا أعرف الزيتون كما أعرف خان الخليلي. مضى زمن كنت أسافر إليها مرة على الأقل في كل أسبوع فأرجع بأحسن أنواع الحشيش.

فابتسم أحمد متسائلًا: فهل أرجو أن أراك كثيرًا؟

فقال عباس شفة بلهجة دلت على الأسف الشديد: تلك أيام خلت، لقد زجوا بالتاجر في السجن ومات فيه.

وأعربوا جميعًا عن أسفهم لفراقه، وأثنوا على أسرته أجمل الثناء وترحَّموا على فقيدها، حتى سليمان عتة نفسه قال كلمة طيبة. وفاض قلب أحمد بمودتهم في تلك الساعة، سواء من يحبه منهم كالمعلم نونو أم من يمقته كالأستاذ أحمد راشد، وعجب لقلبه الذي يأسف على ترك أي شيء — وإن طال برمه به — ساعة الوداع، ثم عاودوا حديث الحرب كعادتهم، وذكروا توقف الهجوم الألماني عند العلمين.

وكان من رأى أحمد راشد أن المحور خسر موقعة مصر، أما سيد عارف فقال بلهجة اليقين: إن هتلر أمر رومل بالتوقف ليجنب مصر — قلب الإسلام النابض — ويلات الغزو، وإنه لولا رحمة الفوهرر لكان الألمان في القاهرة منذ شهر، ولبث بينهم مستمتعًا بسمرهم ومزاحهم حتى انتصفت العاشرة فودَّعهم الوداع الأخير، وسلَّم عليهم واحدًا واحدًا، وتقبل تحياتهم شاكرًا، ثم قفل إلى البيت.

وفتح النافذة وأطل على الحي. كان البدر — بدر نصف شعبان — يتألق نوره السني في سماء أغسطس الصافية، والنجوم من حوله تزهر باسمات في إشفاق كأنما يرثى لإدلاله بشبابه الذي علمت منذ الأزل أنه لا يدوم. وقد اكتسى الحي بغلالة فضية بددت وحشة الليل، وأضفت على الأركان والممرات سحرًا.

الليلة نصف شعبان، ودعاء شعبان يتصاعد من النوافذ القريبة، وذاك صوت غلام يهتف بصوته الرفيع: «اللهم يا ذا المن ولا يُمَن عليه يا ذا الجلال والإكرام» والأسرة تردد الدعاء وراءه. بينهم صامت وحده! وتساءل عما عسى أن يتوجه به من دعاء إلى ربه؟ .. وتفكَّر مليًّا، ثم رفع رأسه إلى البدر المنير، وبسط راحتَيه، وغمغم بخشوع: «اللهم يا خالق الخلق، ومدبر كل شيء، تغمَّده برحمتك الواسعة، وأسكنه فسيح جناتك، وألهم والديه الحزينين الصبر والسلوان، وأنزل على قلبي السكينة والسلام، واكتب لي فيما يُستقبل من الأيام عزاءً عما سلف (وهنا وضع يده على قلبه) فلشد ما تحمل هذا القلب من ألم، ولشد ما تجرع من خيبة!»

هل يذكر يوم أقبل على هذا الحي وفي النفس شوق إلى التغيير؟ لقد حدث التغيير وأحدث دمعًا وحسرة! وها هو ذا رمضان مقبل فيا للذكرى، أيذكر كيف استقبل رمضان الماضي؟ أيذكر موقفه من النافذة الأخرى في انتظار أذان المغرب وكيف رفع البصر فرأى؟!

وجرى أمام ناظريه التاريخ الذي كتبته الليالي متتابعات حتى هذه الليلة بمداد الأمل والحب والألم والحزن.

وهذه الليلة الأخيرة. وغدًا يبيت في دار جديدة، في حي جديد، موليًا الماضي ظهره.

الماضي بما أحدث من أمل وما خيَّب من رجاء .. فالوداع يا خان الخليلي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤