الفصل الحادي عشر

حصار بيروت

انتظر عماد الدين وحسن في غرفة الدير حتى انتصف الليل، ثم نهضا فقفزا من نافذتها إلى سطح سور المدينة، ولم يكن بينه وبينها أكثر من متر، فلما استقرَّا فوقه بقيا حينًا لا يتحركان، وقد أرهفا السمع وراحا يتأملان السهل الممتد خارج السور في ضوء النجوم، فلما أطمأنا إلى أن ليس هناك مَن يشعر بهما، همس عماد الدين في أذن حسن قائلًا: «إن السور مرتفع عن الأرض كثيرًا، وفي الوثوب من هنا خطر كبير.»

فخفق قلب حسن جزعًا وسكت حائرًا، على أن عماد الدين سرعان ما عمد إلى كوفيته فنزعها عن رأسه وكتفيه، كما نزع مَنطِقته وطلب إلى حسن أن ينزع عمامته ففعل وناوله إياها، فوصل بعضها ببعض بحيث صارت حبلًا طويلًا، ربط أحد طرفيه بمَنطِقة حسن، ثم طلب إليه أن يدلي نفسه من فوق السور إلى الأرض خارجه، بينما أمسك هو ببقية الحبل وأخذ يرخيه قليلًا قليلًا حتى وصلت قدما حسن إلى الأرض في الوقت الذي أفلتت يد عماد الدين الطرف الآخر من الحبل، فبُغت وجزع؛ لأنه كان يعتزم بعد ذلك أن يثبت ذلك الطرف بأعلى السور ثم يتدلى ممسكًا بالحبل حتى يصل هو الآخر إلى الأرض.

على أنه حمد الله على وصول صديقه إلى الأرض بسلام، ولم يشأ أن يضيِّع الوقت في التردد والتفكير، فأخذ يزحف فوق السور وهو يتطلع إلى الأرض حتى وصل إلى موضع رأى الأرض أقرب إليه لارتفاعها نسبيًّا، فأمسك بصخرة ناتئة في السور، مدليًا جسمه نحو تلك الأكمة المرتفعة، ثم أفلت الصخرة تاركًا جسمه يسقط عموديًا فوق الأكمة، فأحدث ارتطامه بها صوتًا مدويًا أيقظ الحراس النائمين بباب يعقوب، فخفوا إلى مصدر الصوت ليروا ما هناك، وسرعان ما انقضوا عليه كالذئاب، وحملوه إلى داخل السور وهو يئن من الألم؛ إذ كانت السقطة قوية لم تتحملها ساقه التي كُسرت من قبل في المعركة التي دارت بينه وبين قاطعي الطريق، وما وصلوا به إلى مقرهم خلف الباب حتى كان قد وقع في إغماء عميق، فأخذوا يرشون وجهه بالماء حتى أفاق، وراح يصرخ من فرط الألم لكسر ساقه، لكنه أدرك وهو يجيل نظره بينهم أنهم لم يشعروا بهرب حسن، فكان هذا أكبر عزاء له، وما زال يستنجدهم ويستثير شفقتهم حتى رثوا لحاله ورضوا أن يبعثوا بأحدهم في طلب طبيب لتضميد جروحه وتجبير ساقه المكسورة.

وكان البادري رئيس الدير قد شعر هو ووكيله بالضجة التي حدثت عند باب يعقوب، فأدركا أن الضيفين اللذين هربا إلى خارج السور من الدير وقعا في أيدي الحراس، وفيما هما يتداولان في ذلك، سمعا طرقًا على الباب ثم جاءهما البواب وأخبرهما أن أحد الحراس يطلب طبيب الدير لإسعاف رجل وقع على الأرض من فوق السور فانكسرت رجله، فنهض الوكيل ومضى إلى الباب فأطل من الكوة التي فوقه على الحارس المنتظر وسأله متجاهلًا: «لمن تريدون طبيب الدير؟»

فقال الحارس: «نريده لإسعاف رجل قبضنا عليه خارج السور بعد أن سقط من فوقه وهو يحاول الخروج من المدينة.»

فأدرك الوكيل أنهم لم يقبضوا إلا على أحد الضيفين، وأراد أن يحتال لإنقاذه، ولإنقاذ الدير في الوقت نفسه من غضب الجزار، فقال للحارس: «إن هذا الخائن الذي قبضتم عليه لا يستحق الشفقة، فهو من خدم الدير الذين نرسلهم لابتياع المؤن من لبنان، وكان الرئيس قد غضب عليه لخيانته وحبسه في غرفة بأعلى الدير، فحاول الفرار من النافذة، لكنه وقع في شر أعماله.»

فجازت حيلة الوكيل على الحارس واعتقد أن المصاب المقبوض عليه من خدم الدير، فقال: «على كل حال، إنه الآن يئن من فرط الألم؛ إذ كُسرت ساقه، ولا بأس بأن يسعفه طبيب الدير، ثم نبعث به في الصباح إلى مقر الوالي فيلقى جزاءه كما يريد رئيس الدير.»

فقال الوكيل: «إذا لم يكن بدٌّ من تطبيبه، قيامًا بواجب الإنسانية، فالأفضل أن نعيده إلى الدير، وسأستأذن الرئيس في ذلك، فإذا قبل لحقت بك لإحضار ذلك الخائن المصاب.» ثم أغلق الكوة وعاد إلى رئيس الدير، فأخبره بالحيلة التي عمد إليها؛ إنقاذًا لذلك الغريب المسكين؛ ولإبعاد الشبهات عن الدير، فاغتبط الرئيس بذلك وقال: «لقد حاولنا إنقاذه أولًا حبًّا في عمل الخير، ولا شك أن إنقاذه الآن أوجب لأنه جريح.»

وكان الحارس قد عاد إلى زملائه، وأنبأهم بما علمه من أن المصاب كان محبوسًا في الدير لخيانة ارتكبها فيه، ثم جاءهم وكيل الدير بعد قليل، وأكدَّ لهم صحة تلك الرواية، ثم طلب منهم معاونته على حمل المصاب وإعادته إلى الدير، فقال الجاويش رئيس الحراس: «لكننا لا بد لنا من تبليغ أمره إلى حضرة الوالي؛ لأننا اعتقلناه خارج السور بعد صدور الأمر بعدم الخروج من المدينة أو دخولها.»

فقال وكيل الدير: «إننا أشد رغبة منكم في الانتقام من هذا الخائن، وسنتولى إبلاغ الأمر إلى الوالي فيما بعد.» وما زال يحاورهم ويموِّه عليهم حتى أقنعهم بإعادة المصاب إلى الدير، فتعاون بعضهم على حمله، ومضوا به والوكيل معهم حتى أدخلوه الدير وأرقدوه على وسادة في إحدى الغرف ثم انصرفوا.

وخشي وكيل الدير أن يبلغوا الأمر إلى الجزار، فعاد إلى جاويشهم وانتحى به ناحية، ثم شكره على همته ويقظته، ومد إليه يده بصرة من النقود قائلًا: «إن رئيس الدير بعث بهذا إليك تقديرًا لشهامتك، ويرجو أن تقبله بركة منه.»

فتناول الجاويش الصرة ووجهه يفيض بالغبطة والابتهاج، وصافحه الوكيل مودعًا وهو يقول: «وقد طلب مني الرئيس أن أبلغك رجاءه ألا يبلغ أمر ذلك الخادم الخائن إلى جناب الوالي؛ لأنه يرغب في محاكمته بحسب قوانين الدير.»

فقال الجاويش: «حسنًا، ليكن جناب الرئيس مطمئنًا، فسأحقق طلبه هذا إكرامًا لإنسانيته.»

فعاد الوكيل إلى الدير مغتبطًا بنجاح مسعاه، ولم يكن رئيس الدير بأقل منه اغتباطًا بذلك، ثم أشرفا على علاج عماد الدين من جروحه وكسر ساقه، وأعدَّا غرفة لإقامته بالدير حتى يتم شفاؤه.

•••

كان حسن بعد أن وصل إلى الأرض خارج سور المدينة، قد شعر بإفلات الحبل الذي تدلى بوساطته من عماد الدين، فوقع في حيرة، ولم يدرِ ماذا يفعل، ثم لاح له أن يربط حجرًا بأحد طرفي الحبل ويقذف به إلى عماد الدين فوق السور، ولكنه لم يستطع أن يرفع صوته لينبئه بهذه الفكرة مخافة أن يسمعه الحراس. وفيما هو في حيرته هذه، رأى عماد الدين في ضوء النجوم قد دلَّى جسمه محاولًا الهبوط من فوق السور، ثم سمع صوت اصطدامه بالأرض وصرخته متألمًا، فخفَّ إلى مكانه لنجدته، لكنه ما لبث أن سمع ضجة الحراس وهم يفتحون الباب، وأيقن بأن عماد الدين لن يفيده شيئًا أن يبقى بجانبه حتى يُقبض عليهما معًا، فاستقر رأيه على النجاة بنفسه من أيدي الحراس، وابتعد مسرعًا من ذلك المكان، وهو لا يدري أين يتوجه، ولا يكاد يتبين الطريق.

وما زال مجدًّا في سيره حتى نال منه التعب والخوف بعد حوالي نصف ساعة، فوقف ليستريح، وأخذ يتفرس فيما حوله فوجد أنه في أرض رملية مرتفعة، وقمم جبال لبنان الشامخة تبدو إلى الشرق، تتخللها أضواء متفرقة كأنها فصوص من الماس أو نجوم ترصع الفضاء، ثم رأى القمر بازغًا في ربعه الأخير فاستأنس بضوئه، ولبث في جلسته قليلًا حتى ارتفع القمر في الأفق، فأدرك على ضوئه أنه بالقرب من المصطبة التي حدثت فيها المقابلة بين الأمير يوسف والجزار، وذكرته الأكمة التي جلس عليها بالليلة التي التقى فيها بعماد الدين قرب الصالحية فساوره القلق عليه وهاجت أحزانه ولم يتمالك عن البكاء.

وبعد قليل، تجلَّد ونهض فولَّى وجهه شطر الأضواء المنبعثة من المنازل والمغارات القائمة فوق الجبال الشاهقة الممتدة أمامه، وما زال سائرًا في تلك السهول الرملية حتى صادف تلًّا مرتفعًا فصعد إلى قمته وتفرس فيما حواليه، فرأى نورًا يبدو قريبًا منه، فهبط من التل واتجه إلى مصدر ذلك النور، فلم يبلغه إلا بعد ساعة، فأدرك أنه قرب من البحر؛ إذ سمع هديره، ثم تأمل البناء المنبعث منه ذلك النور، فإذا هو منعزل والسكون يخيم عليه، فدار حوله حتى وجد بابًا صغيرًا، فدنا منه وقرعه ويده ترتعش قلقًا وخوفًا، فسمع صوتًا من الداخل يقول: «مَن بالباب؟» فقال: «رجل غريب.»

وبعد قليل، فتح الباب، وظهر خلفه شيخ عجوز في زي القسس وقال له: «مرحبًا بك.» ثم أدخله وأغلق الباب وتقدمه إلى غرفة صغيرة بها مصباح زيتي خافت الضوء، وليس فيها من الأثاث سوى حصير فوقه وسادة صغيرة، فترامى عليها متهالكًا من فرط التعب، وقال للقس: «عفوًا يا سيدي، فأنا في تعب لا مزيد عليه.»

فقال القس: «لعلك في حاجة إلى الطعام.» فسكت عن الجواب، ولكن القس فهم أنه جائع، فغاب عنه قليلًا ثم عاد إليه ومعه ما تيسر من الطعام وقلة بها ماء، ثم انصرف وتركه وحده في الغرفة، فأكل وشرب وتمدد على الحصير، فما لبث أن أدركه النوم ولم يستيقظ إلا وقد طلع النهار.

وعلم بعد ذلك أن البناء الذي أوى إليه هو مغارة النبي إيليا، وهي بمثابة كنيسة يؤمها كثير من النصارى اللبنانيين للصلاة والتبرك، والوفاء بالنذور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤