روائع المسرح العالمي

حين نقدِّم للقارئ هذه السلسلة نؤكِّد على أن الأزمة التي يمرُّ بها المسرح المصري ليست سوى حدث عابر بعد أن عاش سنوات النهضة والازدهار أثرى فيها الواقع العربي، وذلك حين آمَنَ المجتمع برسالة هذا الفن، ليس فقط من خلال أهل المسرح، ولكن أيضًا المسئولين عن إدارة شئونه الفنية والعملية الإنتاجية في وزارة الثقافة بما كان لديهم من وعي بضرورة المسرح؛ فأَنشئوا المؤسَّسات التي ترعاه، وأرسلوا البعثات وشرعوا في بناء المسارح وأهل المسرح معًا، وقدَّموا هذه الترجمات التي كانت تصدر كلَّ يوم ٤ من الشهر. نقدِّم هذه الترجمات، وهي نتاج عصر النهضة، لتعرف الأجيال الجديدة أن الآباء والأسلاف تركوا ميراثًا عظيمًا وأنهم لم يؤمنوا بالمسرح ورسالته فقط، بل آمنوا بضرورة الفن، وآمنوا بحتمية العلم وبقوة المعرفة كزادٍ روحيٍّ وغذاء عقلي للشعوب التي يُصيبها الوهن والضعف حين تتخلَّى عن هذه القيم، وهذه الأعمال تقول للأجيال الجديدة إنه لا يجوز أن نبدِّد هذا الميراث في لحظة عابرة من لحظات الضعف والتراجع التي تمرُّ بها الأمة. فلم تكن هذه الأعمال مجرَّد ترجمة لنصوص عالمية بقدر ما كانت تعبيرًا قويًّا عن روح العصر؛ فالمسرح يكاد يكون الفن الوحيد الذي تتحوَّل فيه الممارسة الإبداعية إلى ممارسة اجتماعية، وبالتالي حين يتعثَّر وتصيبه الأزمات، فلا تكون هذه الأزمة إلا انعكاسًا حقيقيًّا لأزمة الإنسان بل والمجتمع بكامله، وهذا ما حدث في الماضي والحاضر، سواء في لحظات الضعف أو الازدهار.

صدر العدد الأول من سلسلة «روائع المسرح العالمي» عام ١٩٥٩م عن وزارة الثقافة والإرشاد القوم، واستمرَّت حتى عام ١٩٦٦م، وقبل أن تتوقف هذه السلسلة صدرت سلسلة «مسرحيات عالمية» لتكمل نفس الدور، وواصلت وزارة الثقافة المصرية الاهتمام بالمسرح العالَمي وتقديمه لجمهور المسرح حتى تسعينيات القرن الماضي، حيث صدرت سلسلة «مسرحيات مختارة» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القطع الصغير «كتاب الجيب»، ثم عادت لتصدر سلسلة «روائع المسرح العالمي» مرةً أخرى، وإن كانت غير منتظمة، لكن كانت هناك رغبة في استمرار المسيرة وتقديم روائع النصوص الأجنبية الكلاسيكية والمعاصرة. ومن قبلُ، ومنذ نشأة المسرح المصري، كان هناك وعي بضرورة ترجمة النصوص العالمية، ليس فقط من أجل الاستفادة من التجربة الإنسانية والتفاعل معها، بل ومحاولة سد النقص في هذا النوع الوليد؛ فالمسرح في إحدى صوره يُعرَّف بكونه فنًّا مزدوجًا يقوم على مكوِّنَين، هما النص من جهة، والعرض الذي يشكِّل غائية المسرح من جهة أخرى، فاستعان الروَّاد الأوائل بعشرات النصوص الأجنبية، استعانوا بالمكوِّن الأول وأعادوا إنتاجه مُجدَّدًا من خلال عملية إرسال واستقبال يشترك فيها الممثِّل المصري والجمهور المصري في فضاء حاضنة اجتماعية مصرية تؤثر خصائصها في هذا النص؛ حيث كان الروَّاد الأوائل على قناعة بأن المسرح نشاط تكاملي يتحقَّق من خلال اتحاد وتناغم مجموعة من العناصر «مفردات العرض المسرحي» يمثِّل النصُّ اللغوي الحواري إحداها فقط، وتتضافر جميعها لإنتاج التجربة المسرحية، فاستفادت التجربة المصرية من الثقافة العالمية.

والكلمة التي كتبها د. ثروت عكاشة وزير الثقافة والإرشاد القومي وقتذاك في تقديمه للعدد الأول من السلسلة تدل على هذه الروح، وكانت البداية بنص «الشقيقات الثلاثة» لأنطوان تشيكوف، وترجمها عن النسخة الإنجليزية د. علي الراعي، حيث تحدَّث وزير الثقافة عن الأزمة التي يمرُّ بها المسرح في مصر وبلاد العالم في مواجهة السينما والتليفزيون كمنافسَين لهذا الفن، وأكَّد على أثر المسرح الخطير في الرقي بالفن والتربية الوجدانية للشعب، وأيضًا على إيمان وزارة الثقافة والإرشاد القومي برسالة المسرح؛ لذلك سعَت إلى تشجيعه بمختلف الوسائل حين قامت بتحويل بعض دور السينما إلى مسارح، بل وأعدَّت العدة لبناء مسارح جديدة، بالإضافة إلى مشروع ترجمة النصوص العالَمية لتقدِّم من خلالها صورة من الثقافة الرفيعة لجمهور المثقفين في مصر والعالم العربي، وبعد ستة عقود على هذا الحدث الذي لا يخلو من دلالة، تُقدِّم وزارة الثقافة للأجيال الجديدة من المسرحيين مختارات من هذه الكلاسيكيات التي ما زالت قادرة على إثراء الحركة المسرحية والنهوض بوعي الجماعة الثقافية في لحظة فارقة، حيث يمرُّ المسرح المصري بأزمة أفقدت الجمهور الثقة في قدرة هذا الفن ورسالته العظيمة والمؤثِّرة في حياة الشعوب.

لقد راودتني الفكرة منذ سنوات، وظلَّت حُلمًا، إلى أن وجدت الفرصة سانحة من خلال مشروع النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ لاستعادة قبس من عصر النهضة، ولاقت الفكرة الاستحسان والتشجيع من الجميع، وفكَّرتُ في البداية في تقديم سلسلتي روائع المسرح، ومسرحيات عالمية كاملتين وفقًا للتسلسل الزمني، ولكن الفكرة تبلورت على أرض الواقع لتقديم خمسين عنوانًا على الأقل في هذه الفترة، إذ وجدنا صعوبة في الالتزام بالتسلسل لأسباب، منها صعوبة الوصول إلى بعض المترجمين أو الورثة بعد أن تقطَّعَت السبل بينهم وبين الواقع الثقافي، بالإضافة إلى استبعاد النصوص التي تم ترجمتها عن لغة وسيطة، إذ ترجمت فيما بعد عن اللغات الأصلية. بالإضافة إلى الالتزام بتقديم هذه الأعمال كما هي مصحوبة بالمقدِّمات والدراسات الوافية دون حذف أو إضافة، في محاولةٍ لاستعادة روح زمن النهضة والازدهار المسرحي وتقديمه للقارئ من خلال هذه النصوص.

جرجس شكري
ديسمبر ٢٠١٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤