غرام النساء بالنساء

سألني حضرة محمد شهيب عبد الناصر بديروط، عما قالته الغواني في غرامها وحنينها إلى بنات جنسها، إن كان هناك شيء من ذلك، بمناسبة ما حدث في برلين من غرام المسز كلين بالمسز ويب، وما جنت يداهما في سبيل هذا الحب الغريب!

وآسف كثيرًا أيها الأديب لاستحالة الجواب بالتفصيل في صحيفة سيارة: فقد درج الناس هنا على تفضيل الجهل في سبيل الوقار! ويكفي أن ألفت نظرك إلى حديث مسطور في كتب الأدب جاءَت فيه هذه العبارة: «هذا شيء يحتاج إلى حبال ورجال!» وإلى ذوقك يترك تقدير الظروف لأمثال هذه الوقائع، وقد جاءَ في كلام رسول الله النهي عن «السحاق» كما جاءَ في القرآن النهي عن الزنا، والفرق واضح بين الكلمتين في اللفظ والمدلول، والمطلع على آداب الفرنسويين يجد في اعترافات النساء عجائب وغرائب تعجز عن مثلها الشياطين! والآداب العربية مملوءَة بأمثال هذه الأعاجيب. والناس هم الناس في كل قطر وفي كل جيل، فلا تصدق ما تسمع من أن الإسراف في المجانة بدعة ابتدعها نساءُ برلين! وعندي أن آفة المصلحين في الشرق هي جهلهم بدقائق الحياة الإنسانية، وإغفالهم الركن الأساسي للإصلاح، وهو تشخيص الداء قبل وصف الدواء، وإقدام كثير منهم على الأمر بما لا يأتمر به والنهي عما لا ينتهي عنه، ومن البلية أن يكون المصلحون منافقين!

ألم نصف الآداب الغربية بالإسراف في وصف النساء؟ لقد جعلنا ذلك سيئة لا تقبل الغفران، ولكنها في رأيي من الحسنات، إذ كان الواجب على كل مصلح أن يقوي ما بين الرجل والمرأة من الميول الطبيعية، حتى لا نشكو غرام المرأة بالمرأة، وحب الرجال للغلمان!

اقرءوا هذا وتأملوه قبل أن تصدعوا رءوسنا بالدعوة إلى الفضيلة من حيث لا تعلمون!

وبعد ذلك ألفت نظر قراء «مدامع العشاق» إلى أن شعر النساء في الحب قليل؛ فقد كان العرب يستنكرون أن تعشق المرأة، وكان الرجل منهم يذوب خجلًا إذا قالت إحدى قريباته بيتًا واحدًا في غلام جميل، وقد ثأر طويس المغني لنفسه من عبد الرحمن بن حسان بن ثابت حين غناه شعر عمته قارعة بنت ثابت في عبد الرحمن بن الحارث المخزومي:

يا خليلي نابني سهدي
لم تنم عيني ولم تكد
فشرابي ما أسيغ وما
أشتكي ما بي إلى أحد
كيف تلحوني على رجل
آنس تلتذه كبدي
مثل ضوء البدر طلعته
ليس بالزمِّيلة النكد
نظرت عيني فلا نظرت
بعده عيني إلى أحد

وحديث علية بنت المهدي معروف، فقد حرم عليها أخوها هارون الرشيد أن تشبب بغلامها طل، فكان من نتيجة ذلك أن تشببت بجاريتها زينب وقالت فيها:

وجد الفؤاد بزينبا
وجدًا شديدًا متعبا

وهو شعر سخيف، ولكنه يدل على أن عشق المرأة كان مما تسيغه النفوس في ذلك العهد. وليس معنى ذلك أننا ننكر أن زينب هنا كناية عن طل، ولكن معناه أن تشبيب علية بزينب كان حيلة سائغة لستر هواها الصحيح، ولم نر في الكتب الأدبية من أنكر على علية هذا الميل الذي أنكرناه اليوم على نساء الألمان! وهناك أبيات لفضل الشاعرة قالتها في «قبيحة» جارية المتوكل!

سلافة كالقمر الباهر
في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف كبدر الدجى
فوق قضيب أهيف ناضر١

ولا مرية في أن العرب قتلوا عواطف المرأة، وحرموها من التشبيب، ولهم في ذلك عذر مقبول، فإن الغيرة لم توجد، ولن توجد، في مثل النفوس العربية، والعرب بطبيعتهم عمالقة يكرهون الشريك، أو شبه الشريك، ويأبون أن يسمعوا حديث المرأة عن هواها المشبوب بل يغارون من تحدث الرجل عن هواه، حتى ليقول شاعرهم:

لم ألق ذا شجن يبوح بحبه
إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذرًا عليك وإنني بك واثق
أن لا ينال سواي منك نصيبا

وإذا عز على المرأة أن تقول شعرًا في الرجل، فإنه يعز عليها من باب أولى أن تقول شعرًا في أختها المرأة، فضلًا عن بعد ذلك من الحاجة الطبيعية، فإن «هذه الشهوة» تعتبر فضولًا في باب الشهوات!

والحق أننا حرمنا خيرًا كثيرًا حين حرمنا شعر النساء، انظر إلى قول فضل في حبيب حرمها طيب الرقاد:

إن من يملك رقي
مالك رق الرقاب
لم يكن يا أحسن العا
لم هذا في حسابي

وتأمل ما غنته عبيدة الطنبورية:

كن لي شفيعًا إليكا
إن خف ذاك عليكا
وأعفني من سؤالي
سواك ما في يديكا
يا من أعز وأهوى
ما لي أهون لديكا

إننا نشتهى أن تتكلم المرأة، إننا نحب أن نسمع حديثها العذب الجميل، ولكنهم يزعمون أن كلام المرأة فسق، وأن حديثها فجور، فيا ليت شعري متى يفقهون؟!

١  الخشف بتثليث الخاء ولد الظبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤