الفصل التاسع عشر

الهدنة والتحكيم

وأصبحوا يوم الجمعة والقتال على أشده، وقد تقهقر جند معاوية حتى وصل رجال علي إلى الصفوف المعقولة حول القبة، فالتفت معاوية إلى عمرو وقال: «ما الحيلة يا عمرو؟» قال: «ارفعوا المصاحف على الرماح وقولوا: «كتاب الله بيننا وبينكم»، فإن قبلوا ذلك جميعًا ارتفع القتال عنا، وإذا قبل بعضهم دون البعض الآخر تفرقوا وانقسموا على أنفسهم، فيكون لنا بانقسامهم فرج.»

فلما سمعت أسماء ذلك خافت أن يُخدَع رجال علي، فهرولت مسرعة تخترق الصفوف وقلبها يخفق فرحًا لأنها تمكنت من القيام بهذه المهمة، لأنها واثقة من فشل جند معاوية وأن النصر لعلي إذا ظل على القتال، أما إذا صدق حيلة عمرو فإنه يضيع الفرصة السانحة.

أما علي فكان قد قاتل ببسالة طوال نهاره وليله وقد تحقق فوز جنده، وظل يطوف في صفوفهم يحثهم على الثبات ويدعو لهم بالنصر إلى أن عاد في الصباح إلى فسطاطه، فجاءه مخبر بأن أهل الشام رفعوا المصاحف على الرماح وهم يقولون: «هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم. من لثغور الشام بعد أهله؟ ومن لثغور العراق بعد أهله؟» فلما سمع علي كلامهم قال: «لا نجيبهم إلى ذلك فهي حيلة لا تنطلي علينا.»

فجاءه نفر من رجاله وقالوا: «بل نجيبهم إلى كتاب الله.»

فوقف علي وقد خاف الفتنة وقال: «عباد الله، امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيبًا وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالًا ثم رجالًا فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم! والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنًا ومكيدة!»

فقالوا: «لا يسعنا أن نُدعَى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.»

فقال: «فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه.»

فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصبة من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: «يا علي، أجب إلى كتاب الله — عز وجل — إذا دُعِيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان.»

قال: «فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.»

قال ذلك وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا، وفيما هو في هذا انشق الجمع وخرج من بينهم جندي لم يكن سوى أسماء، وقد وصلت وسمعت الناس يحاجُّون عليًّا، فهرولت حتى وقفت بينهم وبين علي وثارت الحمية في رأسها وعلى وجهها احمرار التعب من شدة العدو، فضلًا عما قام في نفسها من الأسف لتلك الحال، فأسفرت وحيَّت الإمام بتحية الخلافة والتفتت إلى الوقوف هناك وقالت لهم: «اعلموا أني قادمة من معسكر معاوية، وقد سمعت حديثهم عن الحيلة بأذني، وإنما جئت مسرعة مخافة أن تنطلي الحيلة عليكم وتكفوا عن القتال. إنها والله خديعة اخترعها ابن العاص ليلقي الشقاق بينكم! وأخشى أن تنفذ حيلته فيكم، فأطيعوا أمير المؤمنين وأنتم الغانمون.»

فضحكوا من كلامها وقالوا: «كيف نُدعَى إلى كتاب الله ولا نجيب؟! هذا لا يكون أبدًا!»

ثم وجهوا كلامهم إلى علي وقالوا: «ابعث إلى الأشتر فليأتك.» وكان الأشتر النخعي من أشجع قواد تلك الحملة وقد أبلى في تلك الحرب بلاءً حسنًا، وكان لا يزال يحارب، وهم إنما طلبوا استقدامه ليكف عن الحرب. فبعث إليه فلم يأتِ لأنه رأى الفوز بين يديه، فإذا تحول عن موقفه فسدت أعماله.

فلما أبطأ قال أولئك الناس لعلي: «نظنك أمرته بالحرب، فابعث إليه وإلا والله اعتزلناك»، فبعث إليه ثانية فجاء وهو يقول: «أظنكم تدعونني إلى الكف عن القتال بعد رفع المصاحف؟!»

ثم أقبل وهو يقول: «يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين غلبتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أُنزِلت عليه؟! فأمهلوني فُوَاقًا فإني أحسست بالفتح!» ولكنهم لم يمهلوه.

قال: «أمهلوني عَدْو الفرس فإني قد طمعت في النصر!»

قالوا: «إذن ندخل معك في خطيئتك.»

قال: «فخبروني عنكم متى كنتم محقين، أحين تقاتِلون وخياركم يُقتَلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلِون. أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم منكم في النار.»

قالوا: «دعنا منك يا أشتر، قد قاتلناهم لله وندع قتالهم لله.»

قال: «خُدِعْتم وانخدعتم، ودُعِيتم إلى وضع الحرب فأجبتم! يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زَهادة في الدنيا وشوقًا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا قبحًا! يا أشباه النِّيب الجلَّالة، ما أنتم برائين بعدها عزًّا أبدًا، فابعدوا كما بَعُد القوم الظالمون!»

فسبُّوه وسبَّهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه. فصاح به وبهم علي: «كفُّوا!» وقال الناس: «قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حَكَمًا.»

وطال الأخذ والرد بينهم، وأسماء واقفة وقلبها يكاد ينفطر جزعًا من عناد أولئك المخالفين، فلما سمعت قبولهم إجابة الدعوة تناثرت الدموع من عينيها، والتفتت إلى علي فإذا هو مطرق وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا كأنه يرى عاقبة ذلك بعينه، فتعاظم غيظها وأرادت تأنيب المستخلفين ثم أحجمت ولبثت ترقب ما يكون.

•••

وتقدم رجل من خاصة علي، فقال: «نرى الناس قد قبلوا ما دُعُوا إليه من حكم القرآن، فهل تأذن في أن نسمع ما يدعونا معاوية إليه من هذا الأمر؟»

قال علي: «سر إليه واسأله.»

فذهب ثم عاد وهو يقول: «سألت معاوية عما حمله على رفع المصاحف، فقال: «الرجوع إلى ما أمر به الله في كتابه، فابعثوا رجلًا ترضون به ونبعث نحن رجلًا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يتعديانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه.»

فقال علي: «قبلنا، فأي رجل اختاروا؟»

قال: «اختاروا أن ينوب عنهم عمرو بن العاص.»

فالتفت علي إلى من حوله وقال: «ومن تختارون أنتم؟»

قالوا: «نختار أبا موسى الأشعري.»

فأجفل علي وقال: «لا! لا! إنكم لم تصيبوا، وقد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن. لا أرى أبا موسى كفئًا لابن العاص، وهو مع ذلك ليس بثقة، فقد فارقني وخذَّل الناس عني، ثم هرب مني حتى أمَّنته بعد أشهر. فكيف نركن إليه في هذا التحكيم؟! هذا ابن عباس أوليه ذلك.»

فصاحوا بصوت واحد: «والله لا نريد إلا رجلًا هو منك ومن معاوية سواء!» قال علي: «فإني أجعل الأشتر.»

قالوا: «وهل سَعَّر الأرض غير الأشتر؟» قال: «قد أبيتم إلا أبا موسى؟»

قالوا: «نعم». قال: «افعلوا ما أردتم!»

وكانت أسماء تسمع الجدال وهي تتميز غيظًا، ولكنها لا تجرؤ على الكلام تهيبًا من علي.

وبعد قليل جاء أبو موسى الأشعري وعمرو، فدخلا على عليٍّ ليكتبا القضية بحضوره وهي صورة عقد التحكيم، فبدءوا بكتابة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين …» فاعترض عمرو قائلًا: «هو أميركم وليس أميرنا»، وطال الجدال في ذلك حتى وقع نفور شديد بين علي وعمرو. وانتهى الأمر إلى أن يُكتَب العقد على هذه الصورة:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضَى عليٌّ على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضَى معاوية على أهل الشام ومن معهم؛ أننا ننزل عند حكم الله وكتابه وألا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، عملا به. وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المُفَرَّقة.» وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على نفسيهما وأهليهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يردانها في حرب ولا فرقة حتى يُعصَيا. وأُجِّل القضاء إلى شهر رمضان، وإن أحبَّا أن يؤخرا ذلك أخراه. وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.

ويلي ذلك أسماء الشهود.

وقد كُتِب هذا العقد في ١٣ صفر سنة ٣٧ﻫ.

ولما تمت الكتابة تُلِي العقد على الناس، وانفض المجلس ولجأ الجنود إلى الهدنة ريثما يحل الأجل المضروب لمجلس التحكيم.

وتراجع الناس عن صفين وهمَّ عليٌّ بالنزوع إلى الكوفة، فجاءته أسماء في ساعة كان فيها مختليًا، وقبَّلت يده فسألها عن حالها وما تم لها بعد سفرها، فقصت عليه خبرها وما حملها على القدوم قبل مقابلة القسيس، فأثنى على غيرتها ودعاها إلى الذهاب معه إلى الكوفة.

فقالت: «حبذا الأمر! ولكنني أقرب الآن إلى أنطاكية مني إلى الكوفة، فأْذَن لي بالذهاب إليها فقد آن لي أن أعرف نسبي.» فأطرق علي برهة يتأمل، فخافت أن يكون في شاغل آخر فودعته وخرجت على أن تعود يوم التحكيم لتسمع حكم الحكمين.

وكان المسلمون في انتظار ذلك اليوم لأنه سيكون عظيمًا، ولم تفتقد محمدًا لأنها علمت أنه في مصر يتولى أمورها.

•••

عادت أسماء إلى الجبل حيث تركت جوادها وخادمها وخلعت ثيابها وركبت إلى أنطاكية لا تستريح ليلًا ولا نهارًا.

فأشرفت عليها من جبلها الشرقي، وأطلت على البحر فلمحت شيئًا كأنه سفينة حجبها البعد عنها، فخفق قلبها سرورًا وهبطت من الجبل، حتى إذا دنت من المدينة سمعت دق الأجراس دقًّا بطيئًا متقطعًا، فقالت في نفسها: «لعلهم يحتفلون بقدوم البطريرك.» ولكنها لم تكد تسير في الطريق الكبير حتى رأت الناس محتشدين يتقدمهم رهط من الأكليروس بالمباخر، فعلمت أنه احتفال بجنازة.

ولا تسل عن حالها لما علمت أنها جنازة القسيس مرقس، وقد مات بعد وصوله إلى أنطاكية بيومين، فإنها لطمت وجهها وندبت سوء حظها، وذهبت توًّا إلى الخان وأقفلت باب غرفتها وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجعلت تعدد ما أصابها من الإحن منذ ولادتها، وكم قاست من المصائب! وكم عانت من الأخطار! حتى إذا دنا وقت سعادتها وآن لها أن تعرف أباها داهمها القدر بالفشل الذريع.

وتذكرت مروان وما قاست من البلاء بسببه، وتذكرت عذابها في الصحراء بين مكة والبصرة، وما قاسته على أثر ذلك. وغرقت في تيار هواجسها، وتحققت سوء حظها، وتمنت أن تموت فتخلص من العذاب. ولما تمنت ذلك أجفلت وندمت لأنها تصورت محمدًا وحبه لها وما ترجوه من السعادة بقربه، فقالت: «لا، لا أموت بل أحيا لأجل حبيبي وأقصى مرادي، وهو تعزيتي الوحيدة في هذا العالم. فإذا خسرت الدنيا كلها وفاتني كل نعيمها وحصلت على محمد بن أبي بكر، فذلك يكفيني.»

وبعثت خادمها يستطلع مكان التحكيم وزمانه، فأنبأها أنه سيكون في «أذرح» في أطراف الشام من أعمال السراة بنواحي البلقاء وعمان في زمن معلوم، فلما دنا الأجل تنكرت وسارت تلتمس أذرح والخادم معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤