الفصل الثالث

الثورة

كان إسحق المَوصلي يَعقِد مجالس الغناء والأدب والمُناظرة في قصره. وكان قصرًا بديعًا يعيش فيه عيشة الأمراء والعظماء مما أفاء الله عليه وعلى أبيه إبراهيم المَوصِلي من عطايا هارون الرشيد. وقد كان يقول: «لو بَقي لنا الرشيد لبَنينا جُدران بيوتنا بالذهب والفضة.»

وكان أكثر ما يكون الحديث عِنده عن إبراهيم بن المهديِّ ومُستحدَثاته ومُبتكراته في الغِناء والموسيقى، وكان يُنكِر عليه إسحق ويَنتقِده انتقادًا مُرًّا.

وزارَه أبو دلف قاسم العِجْلي، ومُخارِق، وعمرو بن الورَّاق، مع جمعٍ من الأصدقاء وجلسوا يشربون ويتحدَّثون.

وكانت بغداد في هذه الآونة قد زخرَت بأنباء المأمون وإحراقِه الملابِس السوداء (شِعار العباسيين) واستِبدال الملابس الخضراء بها (شِعار العَلويين)، وما كان من مُبايعته بولاية العهد من بَعدِه لعليِّ بن موسى الرِّضا زعيمهم، مما أحدَث ثورةً في نفوس بني العباس والعرب ببغداد والعراق.

وأخذَتِ الفتنة تزحَف من القصور إلى الدُّور، ومن صدور الخاصة إلى أفواه العامَّة.

وجلس الأُدَباء والمُغنُّون في قصر إسحق المَوصِلي يتذاكرون ويَتشاورون، ويروي بعضهم لبعضٍ ما سمِعه من أنباء المأمون وشِيعة العَلويين في «مَرو» وخراسان.

فقال أبو دلف: وهل استشار المأمون الفُقهاء فيما فعل واستحدَث من هذا الأمر؟

فقَهقَه عمرو بن الورَّاق وقال: أجل … أجل … إني مُحدِّثكم ما سمِعتُه من صديقٍ جاء من «مرو» مُنذ أيام: فقد روى أنه لما اعتزَم المأمون تَوليةَ علي بن موسى الرضا عَهْدَ الخلافة، خلَع الملابس السوداء، وجَمَع فقهاء المدينة عِنده وأخذ يسألهم رأيَهم، فكان والله كلَّما قال قولًا قال الفقهاء: «كلُّنا نقول بِقول أمير المؤمنين، وكلُّنا نرى رأي أمير المؤمنين.» حتى لو كان قد قال لهم إن الوَحْي نزل على أبي نُواس لقالوا: «كلُّنا نقول بقول أمير المؤمنين، وكلنا نرى رأي أمير المؤمنين!»

فضحِك جميع الحاضِرين وقهقهوا قهقهةً عالِية، وقال إسحق المَوصِلي: … اتَّقِ الله يا عمرو … اتَّقِ الله … ودَع عنك هذا التَّشنيع!

قال عمرو: والله ما حدَّثتُكم كذِبًا، ولا روَيتُ لكم إلا ما سمعتُ من شاهدٍ صادق.

فقال أبو دلف: سمعتُ الناس في بغداد يتحدَّثون عن خلع المأمون، والنِّداء بغَيره خليفةً للمسلمين، فمن يكون يا تُرى يصلُح للخلافة من بعده، ومن يا تُرى يكون أمير المؤمنين الجديد؟!

قال إسحق المَوصِلي: وهل بعدَ المأمون من رجلٍ رشيد يصلُح لخلافة المسلمين؟

فقال مُخارِق: إبراهيم بن المهدي، فهو أكبر أمراء بني العباس!

فصاح دعبل:

إن كان إبراهيم مُضطَلِعًا بها
فلْتَصلُحَنْ مِن بعدِه لمُخارِق
ولتَصلُحنْ مِن بعد ذاك لزلزلٍ
ولتَصلُحنْ من بعدِه للمارِقِ

قال إسحق: صدقتَ يا دعبل صدقت، وويلٌ للخلافة يتقلَّدُها مُغنٍّ.

مُخارِق : ما أصبْتَ والله أبا محمد … وأيُّ بأسٍ في أن يتولَّى إبراهيم الخلافة … أليس هو ابن الخليفة المَهدي، وأخا الخليفة هارون الرشيد وعمَّ الخليفة المأمون؟ ثم أليس هو مَن تَعرِف عِلمًا وأدَبًا ونُبلًا وفَضلًا وملكًا للغِناء والموسيقى؟
إسحاق : سُبحان الله! تقول أيُّ بأسٍ أن يتولَّى مُغنٍّ الخلافة؟ إني لا أرضى لنفسي أن أوصَف بالغِناء، وودَدتُ أن أُضرِب كلَّما أراد مُريد منِّي أن أغنِّي، أو كلما قال قائل: «إسحق المَوصِلي المغني.» وتمنَّيْتُ بدَل هذا أن أُقرَع عشرَ مَقارِع لا أُطيق غيرها، ولو أطقتُ أكثر منها لفضَّلتُها على هذا الوصف … فكيف أرضى أن يكون الخليفة مُغنِّيًا …؟
مُخارِق (في دهشة) : كيف هذا يا إسحق، أتضَع من شأن الغِناء؟ والله ما بلغتَ ما بلغتَه إلا به، ولا احتَرَمك الناس إلا لأجله، ولا قدَّمَك الخلفاء إلا بما صحَّحتَ أجناسه ومَيَّزتَ طرائقه وما كان لك فيه من ألحانٍ شتَّى، فكيف تَحطُّ من قَدْره الآن وقدْر أهله؟!
إسحق : لقد أفسدَ إبراهيم بن المهدي الغناء، فكيف أنسِبُ نفسي إليه بعد … ولو أنه تولَّى الخلافة لأفسَدَها.
مُخارِق : ويحَك ثم ويحَك أبا محمد … كيف ذلك؟! والله لقد سمِعتُ أباك إبراهيم المَوصِلي يقول: «لو طلَب إبراهيم بن المهدي بالغناء ما نطلُب، لما أكلنا خُبزًا أبدًا.» ثم لقد شهِدتَ أنت له بالفضل، فقلت: «ما ولَدَ العباس بن عبد المطلب بعد عبد الله بن العباس رجُلًا أفضلَ من إبراهيم بن المهدي.» ثم أنت تَعِيبه وتقول فيه ما تقول الآن؟!
إسحق : لأنه تغيَّر، فتغيَّرنا …
مُخارِق : عَجبًا! إذا تغيَّرتِ النفوس تغيَّرتِ الآراء في الرءوس. لقد كنتَ تَشهدُ بكفايته وتعترِف له في فنِّه بالدِّراية والرِّواية.
إسحق : دَعْني … دَعْني أبا المُهنَّأ، فوالله ليست له دِرايةٌ ولا رِوايةٌ ولا كِفاية. لقد عابَنا في صِناعتنا، وأحدَث فيها وخرَج علينا، وثار على قواعِدنا. وإني لأخشى أن يُحدِث بين المسلمين حدثًا في دينهم كما أحدَث بيننا أحداثًا في دُنيانا … وإني أبغَض صَلَفه وكِبرياءه، وما طُبع عليه من ثورةٍ وفُتون.
اسمعوا: كنتُ عِند هارون الرشيد يومًا في مجلسٍ مُؤنِس، وكان عِنده إبراهيم، فقال لي الرشيد: غنِّ يا إسحق …

فغنَّيْت:
أعاذِلَ قد نَهَيتِ فما انتهيتُ
وقد طال العِتاب فما ارعَوَيتُ
فأقبل إبراهيم، وقال لي أمام الرشيد: «ما أصبتَ يا إسحق ولا أحسَنت.» فقلتُ له: ليس هذا ممَّا تُحسِنه ولا تعرِفه، وإن شئتَ فغنِّه، فإن لم أجِد أنك تُخطئ فيه منذُ ابتدائك إلى انتهائك فدَمِي حلال!
ثم قلتُ للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذه صِناعتي وصناعة أبي، وهي التي قرَّبَتنا منك، واستخدَمتْنا لك، وأوطأتنا بساطك، فإذا نازَعَنا إيَّاها مُنازِع بلا علمٍ لم نجِد بُدًّا من الإيضاح!

فقال الرشيد: لا غَروَ ولا لوم عليك يا إسحق. ثم قام الرشيد من المجلس لبعض شأنه، فقال لي إبراهيم: «ويلك يا إسحق تَجترئ عليَّ يا بن الفاعِلة، وتقول ما قلت!»

فقلت له: «وأنت الآن تَشتُمني، وأنا لا أقدِر على إجابتِك وأنت ابن الخليفة، وأخو الخليفة، ولولا ذلك لكنتُ قلتُ لك مِثل ما قلت. أترى أني لا أُحسِن أن أقول لك يا بن الفاعِلة مثنَى وثُلاث ورُباع … ولكن قولي هذا يَنصرِف إلى خالك الأعلم … ولولاك لذكرتُ صناعته ومذهبه».

وكان خاله كما تعلَمون بيطارًا يُعالِج نِعال الدواب، ثم قلتُ له: «أنت تظنُّ أن الخلافة تَصير إليك يومًا ما، فلا تزال تُهدِّدني بذلك، وتُعاديني كما تُعادي سائر أولياء أخيك الرشيد حَسدًا له ولِولدِه، وتَستخفُّ بأوليائه تَشفِّيًا، وإني أرجو الله ألَّا يُخرِج الخلافة من يدِ الرشيد وولدِه، فإن صارت إليك — والعياذ بالله — فحرام عليَّ العيش يومئذٍ، والموت أطيَب من الحياة معك!»

قال إسحق: وهنا عاد الرشيد، فوَثَب إبراهيم بين يديه يقول: «يا أمير المؤمنين، شتَمَني إسحق، وذكر خالي وأُمِّي واستخفَّ بي.» فتغيَّر وجه الرشيد وقال لي: «ويلَك … ما تقول؟» فقلت: «سَل من حضَر.» فأقبل علَى خادِمه مسرور وسأله عمَّا حدَث، فجعل مسرور يُخبِره فكان وجهُه يربدُّ ثم يربدُّ إلى أن انتهى إلى ذِكر الخلافة، فسُرِّي عن الرشيد، ورَجَع لونه، والتفتَ إلى إبراهيم وقال له: «لا ذنب له … شتَمتَه فعرَّفك أنه لا يقدِر على جوابك. ارجِع إلى مَوضِعك، وأمسِك عن هذا، وإياك أن تعود إليه!»

فقام إبراهيم مُنصِرفًا، ولما انقضى المجلس أمر الرشيد ألا أخرُج فساء ظنِّي، وأهمَّتني نفسي، ثم أقبل عليَّ وقال لي أمام بعض الخدَم: «ويلَك يا إسحق، أتُراني لم أفهم قولك ومُرادك؟ قد والله شتمتَه ثلاثَ مرَّات … ويلك لا تعُد … أخبِرني، لو ضرَبك إبراهيم أكنتُ أقتصُّ لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهِل … أم تُرى لو أمر غِلمانه فقتلوك، أكُنتُ أقتلُه بك؟»

فقلتُ للرشيد: «قد والله قتَلتَني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلَغَه لَيقتُلني، وما أشكُّ أنه سيبلُغه!»

فصاح الرشيد بمسرور الخادِم وقال: عليَّ بإبراهيم الساعة.

فأحضره، وقال لي الرشيد: «قم يا إسحق فانصرف.» فقلت لجماعةٍ من الخدَم وكلهم كان لي مُحبًّا: «أخبِروني بما يجري.» فأخبروني أنه لما جلَس إبراهيم بين يدَي الرشيد، وبَّخَه وجهَّله، وقال له: «أتَستخفُّ بخادِمي وصَنيعتي، ونديمي وابن نديمي في مجلِسي … هاه … هاه … أتَجترِئ على هذا وأمثاله بحضرتي … وأنت ما لك وللغِناء حتى تتوهَّم أنك تبلُغ مَبلَغ إسحق، ثم تظنُّ أنك تُخطِّئه فيما لا تَدريه … ألا تعلم ويلَك أن هذا سوء أدبٍ وقلَّة معرفةٍ وعدم مبالاة! والله العظيم والله العظيم وحق رسول الله، وإلا أنا لستُ للمهدي، لئن أصابه أحد بسوء، أو سقَط عليه حَجرٌ من السماء، أو سقط من دابَّته فمات، أو سقط عليه سقفٌ أو جدار، أو مات فجأة، لأقتُلنَّك. قم الآن فانصرِف …!»

فخرَج إبراهيم يتعثَّر وهو يكاد يموت …!

•••

سمِعَتِ الجماعة من إسحق هذه القصة، وكانت بغداد وقتئذٍ تَضطربُ بالفتنة، وكان بنو العباس يُنادون بإبراهيم بن المهديِّ خليفةً للمُسلمين، وأميرًا للمؤمنين، ويُبايعون له، ويخلَعون المأمون لأنه خرج على سُنَّة آبائه وشِعارهم وسياستهم في الملك والسلطان بما أتاحه للعَلويين من نفوذ.

ودخَل «بديح» غلام إسحق يُنبِئه أن الناس نادوا لإبراهيم ولقَّبوه «إبراهيم المُبارك» و«أمير المؤمنين.» وما كاد ينتهي من كلامه حتى سمِع إسحق وضيوفه النداء بخلافة إبراهيم على مآذن بغداد وفي أسواقها، فقال علوية: ما رأيك أبا محمد، لقد استعذْتَ بالله من أن يُصبِح إبراهيم خليفة، وها هو ذا قد واتَتْه الخلافة، فماذا أنت صانِع؟

إسحق: لا عَيش لي في بغداد، والموت أهون عليَّ من هذا …

مُخارِق: والله لم أرَ أفصح لِسانًا، ولا أحسنَ بيانًا، ولا أجودَ شعرًا، ولا أسدَّ رأيًا، ولا أبلغَ في التصرُّف في الفِقه وسائر الآداب الرَّفيعة من إبراهيم بن المهدي.

إسحق: أنِفاقٌ وتملُّقٌ يا مُخارِق، ولمَّا تمضِ على مُبايَعتِه ساعة …؟!

ثم نهَض إسحق ونهَض الحاضرون، فخرجوا واستَبقى منهم علوية، فأفضى إليه أنه راحِلٌ عن بغداد اليوم وأنه يُوصِي له بأمر أولاده وشُئونه، حتى يقضِي الله أمرًا كان مفعولًا. فسأله علوية: إلى أين أبا مُحمد؟

قال إسحق: إلى خُراسان، إلى مَرْو، إلى المأمون، فإنه مولاي وابن مولاي وهو بي أولى.

•••

خرج إسحق مُتنكِّرًا في زيِّ أعرابي، وقد حلَق لِحيَته، وكانت بغداد تهتزُّ بالدُّعاء لإبراهيم ومُبايَعته والهِتاف له وتزْدَحِم بمواكِب الهاتفين وهم ينادون:

«إبراهيم … إبراهيم أمير المؤمنين … لا طاعة للمأمون … لا طاعة للمأمون …»

ثم يُنشِدون:

يا بَني العباس أنتم شِفا
ء وضِياء للقلوب ونور
أنتُمو أهل الخلافة فينا
ولكم مِنبرُها والسرير
لا يزال المُلك فيكم مدى الدَّهـ
ـر مُقيمًا ما أقام ثَبير
وأبو إسحق١ خير إمام
ما له في العالمين نظير
واضِح الغُرَّة للخير فيه
حين يبدو شاهدٌ وبشير
زانَه الله بعزٍّ وجلالٍ
وجمال ووقار وخير

وشايَعَت بغداد الخليفة الجديد، وأقام بنو العباس في قصر الخلد — قصر الخلافة — حفلًا فاخرًا له رَقَصت فيه الجواري الحِسان، وغنَّت فيه «خالدة» بشِعر جرير:

إنا لنَرْجو إذا ما الغَيثُ أخلَفَنا
مِن الخليفةِ ما نرجو مِن المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدَرًا
كما أتى ربَّه موسى على قدَر

إبراهيم المبارك

بلغَت أنباء هذه الفتنة المأمون في «مَرْو» فاشتَدَّ عليه وتَمثَّل له خطرُها إن لم يُسرِع في إخمادِها قبل أن تَستفحِل في دولته وتذهب بمُلكه، وأيقَنَ أنه قد تجاوز الحِكمة في التدبير وغفَل عن السداد في الرأي والتقدير، فما كان ينبَغِي له أن يُقدِم على ما أقدَم عليه فأغضب بني العباس وأثار العراق، ولم يكن من الكِياسة أن يتسرَّع في تنفيذ رأيٍ رآه قبل أن يُنضِجَه التفكير الطويل.

رأى أن يعهَد بولايةِ العهد لعليِّ بن موسى الكاظم لأنه في زمَنه خير أبناء هاشم جميعًا، ولم يجِد أفضل منه يصلُح للخلافة من بعده، ولعلَّه كان ينظُر في ذلك إلى مصلحة المسلمين وحدَها، ولعلَّه كان مُتأثرًا باحترامه للعلويين منذ تربَّى في شِيعتهم، بل من المؤكَّد أن مُربيَه الفضل بن سهلٍ كان أكبر المُؤثِّرين عليه في هذه الناحية، وأول المُحبِّذين لهذا العمل، إذ كان علويًّا يُخفِي تَشيُّعَه كما كان البرامكة يفعلون.

ونظَر المأمون في أولاد العباس وكان عددُهم وقتئذٍ ثلاثةً وثلاثين ألفًا، فلم يجِد بينهم من يصلُح للخلافة إذا قُورِنوا بعليٍّ بن موسى الرِّضا عِلمًا وتُقًى ودينًا. وقد وُلد علي سنة ١٥٣، وهو ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحُسين بن علي بن أبي طالب. وكان هو أحدُ أئمةِ الشِّيعة الاثني عشَر.

ولَّى المأمون عليًّا العهدَ من بعده، ولم يكن يتوقَّع أن يَثور عليه الناس في العراق. بل لعلَّه كان يتوقَّع، ولكنَّه لم يَخْشَ الثورة ولم يحفَل بها وقد دانَ له المَشرِق والمغرِب وأصبح لا يُنازِعه في السلطان مُنازِع!

•••

ثار العراق وقاد الثورة بنو العباس في بغداد، ونصَّبوا عمَّه إبراهيم بن المهدي خليفةً للمسلمين، فرأى المأمون أن يُعالِج الحال بأحَدِ أمرين: الأول أن يُرسِل جيشًا لإخضاع إبراهيم وخَلْعِه من الخلافة، والثاني أن يخلَع عليًّا بن موسى من ولاية العهد فيُرضِي بني العباس ويُرضِي العرب.

ولكن العلاج الثاني قد يُثِير الفرس في خُراسان وهم أنصار هذه البَيعة لعلي، فلا بُدَّ من طريقةٍ أخرى لا تُثِير الفريقين. ورأى المأمون أوَّلًا أن يُخضِع إبراهيم بن المهدي، فجنَّد جيشًا كبيرًا بِقِيادة الحسن بن سهل وأمرَه أن يذهب إلى بغداد ويأتي بإبراهيم حيًّا أو مَيتًا …!

وكان إبراهيم قد جمع الجموع، وألَّفَ جَيشَين: أحدهما بقيادة عيسى بن أبي خالد أحد القُوَّاد السابقين للمأمون، والثاني بقيادة إبراهيم بن عائشة. وخرج الجيشان فقابَلا جيشَ الحسن بالقُرب من بغداد، ودارت رحى القِتال، فانهزَم الحسَن، وفرَّ بمن معه إلى «سمر.» فطارداه حتى خرج إلى خُراسان.

•••

كُتب النَّصر في أول الأمر لإبراهيم بن المهديِّ على المأمون، وكان نصرًا مُبينًا زادَ من إقبال الناس عليه ومُبايعتهم له. وجلَس إبراهيم على أرِيكَة الرشيد ودُعِي «إبراهيم المبارك.» وسكن قصر الخُلد ببغداد وتبوَّأ عرش آل العباس، وكان العرش من الذهب الخالِص المُرصَّع بالجواهر النفيسة، ووراءه حارسان بيَدِ كلٍّ منهما سيفٌ مسلول، وقد نُصِب العرش في صدر القاعة فوق سدَّةٍ قائمة على أعمِدة صغيرة من الأبَنُوس المُنزل فيه العاج، وسقفها من الدِّيباج الأسود المُزركش برسومٍ فنيةٍ جميلة من الذهب، وازدانت حاشِيَتها من الأمام والجانبين بأهِلَّةٍ مُدَلاةٍ فيها وردٌ ونجوم من الياقوت الأحمر والأصفر على نظامٍ بديع. وقد لَبِس إبراهيم حُلَّة الخلافة التي كان يلبَسها الرشيد، وهي مُؤلَّفة من ملابِسَ سوداء وطَيلسان أسود وقَلَنسوَةٌ قصيرة حولها عِمامة سوداء من الحرير المُوشَّى، وبين ثنايا العِمامة عقودٌ صغيرة من الجواهر، وفي مُقدِّمتها طرَّةٌ من أسلاك الذهب على هيئة عُرف الطاووس.

ودخل عليه أخوه المنصور بن المَهديِّ وابن أخيه صالح بن الرشيد، وابناه: هِبة الله٢ وبقية الله، وبعض أمراء بني العباس، فجلَسوا عن يمينه. ودخل عيسى بن أبي خالد قائد العسكر وبعض رجال الدولة الآخرين، فجلسوا عن يَساره. وسأل إبراهيم أخاه المنصور: ما حال أعمامِنا بالكوفة يا منصور، هل أجابوا إلى البَيعة لنا وخلعِ المأمون؟

قال المنصور: نعم يا أمير المؤمنين، وقد وعدوا أن يحضُروا غدًا إلى بغداد.

فقال إبراهيم: حمدًا لله على ما أنعم.

ثم التفتَ إلى عيسى بن أبي خالد، وقال: وكيف حال القوم يا عيسى؟

عيسى: إن أهل بغداد والعراق يُدينون لك بالطاعة، وقد كشف الله عدوَّك، فإن أنت قوَّيتَ هذا الأمر، حَفِظتض تراث آبائك، ولم تُملِّكه العلويين وشِيعتهم من الفرس، واحتفظتَ بمَجد العرب.

فقال إبراهيم: لن يَضيع هذا الأمر من يدي إن شاء الله!

ودخل إبراهيم بن عائشة فسلَّم وجلَس خاشِعًا مُطرقًا، فقال له إبراهيم بن المهدي: أحسنتَ أبا علي، فتَحَ الله عليك ونصَر الحقَّ على يدِك.

فأجاب ابن عائشة: هذا من فضل الله وعون أمير المؤمنين.

فقال إبراهيم: وأين إسحق المَوصِلي؟ بَعثتُ إليك أنْ أغلِقْ في وجهه السُّبل فلا تَدَعه يفرُّ من العراق!

ابن عائشة: قاتَلَه الله! لقد فرَّ يا أمير المؤمنين ونحن مَشغولون عنه بالحسن بن سهل، وقد تَزيَّا بزيِّ أعرابيٍّ وما عرفَتْه الشرطة.

فقال إبراهيم بن المهديِّ في غَيظ: ويلٌ لهذا المارِق! يقول عنِّي ويلٌ للخلافة يتقلَّدُها إبراهيم كأنما لستُ أهلًا لها، والله إنِّي لأحقُّ بالخلافة بعد أخي الرشيد من الأمين والمأمون!

قاتله الله! إنه خَصمٌ لدُودٌ حقود. لقد استعاذ بالله أن أكون حيث أنا الآن، ولكن الله خيَّب رجاءه. وكان يَعيبُني بالغِناء وهو يعلم أنِّي في العِلم مُناظر، وفي الغِناء مُتلذِّذ، وأني مَلِك وابن مَلِك!

فقال عيسى بن أبي خالد: والله يا أمير المؤمنين إن سَيفي لظمْآن إلى هذا المارِق وودَدتُ لو رأيته فأقتله أينما كان!

•••

ودخل الحاجِب فقطَعَ كلام عيسى بقوله: رسول يا مولاي جاء من عبد الله المأمون.

فأذِن له إبراهيم فدَخَل وركَع وسلَّم، ثم قدَّم له كِتابًا من المأمون فتناوَلَه وفضَّه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من أمير المؤمنين عبد الله المأمون، السلام على أبي إسحق إبراهيم بن المهديِّ ورحْمَة الله.

أما بعدُ، فقد علِمتُ أمر خروجك علينا، وادِّعاءك لنفسك الخلافة مُتجاوِزًا في ذلك حدَّ الله فيما أعطيتَه من العهود والمَواثيق أمام أمير المؤمنين الرشيد في البيعة لولَدِه من بعده. وقد كنتُ عَذرتُك حين علمتُ بغضبك لمُبايَعتي لعلي بن موسى الرضا بولاية العهد، وعذرتُ بني العباس في ذلك، وقد شاء الله ولا رادَّ لمَشيئته أن يضعَ بيننا الخُصومة في هذا الأمر، فاختار عليًّا — رضِي الله عنه — إلى جِواره وانتقل إلى جنَّةِ الخُلد راضيًا مرضيًّا.

فأنا أدعوك ومن معك إلى الطاعة، وعليَّ عهد الله أن أُعطيَك الأمان وسيكون لك من عَفوِي وقُربي ما أنت به أهلٌ إن شاء الله.

قرأ إبراهيم هذا الخِطاب، وعَجِب لمَوت عليٍّ بن موسى الرضا في هذا الأوان، وسأل الرسول: أوَهل مات حقًّا علي بن موسى؟

قال الرسول: إنه مات بِطوسٍ فجأة!

– فجأة، وكيف كان ذلك؟

– خرج المأمون يومًا من مَرو إلى مدينة طُوس لزيارة قبر الرشيد، ودعا عليًّا للزِّيارة معه، فلبَّى دعوته، وأقاما يَومَين في هذه المدينة، وبينما كانا يأكُلان جاء الغُلام بطبقٍ من العنب فأكلَ علي منه كثيرًا فمات!

– وهل مات من العِنب؟

– بلى، قد مات …

فقال أحد الحاضرين: والله يا أمير المؤمنين ما مات علي بن موسى إلا مَسمومًا!

فقال صالِح بن الرشيد: عجبًا! كان المأمون يحبُّ عليًّا ويحترِمه ويُجِلُّه.

فسكت إبراهيم بن المهديِّ ساعة، وكأنما كان يفكِّر في هذا الحادِث وكيف أن السياسة وأطماع المُلك والسلطان لا قلبَ لها ولا نُبل فيها، إلا لِمَن عصَم الله، وهم قليلٌ من قليل. ثم التفت إلى رسول المأمون وقال: بلِّغ مولاك أني قرأتُ كِتابه ولكلِّ كتابٍ جواب!

•••

انصرَف الرسول والتفَتَ إبراهيم إلى مَن حولَه وقال: ماذا تقولون في كِتاب المأمون؟

– إنه خِداع، وما نَظنُّه صَادِقًا في قوله يا أمير المؤمنين.

إبراهيم: صدقتُم.

ثم التفتَ إلى ابنه «هِبة الله» وأملَى عليه الكِتاب الآتي إلى المأمون:

بسم الله الرحمن الرحيم

من أمير المؤمنين إبراهيم بن المَهديِّ إلى عبد الله المأمون.

أما بَعد، فقد جاءني كتابُك، فعجِبتُ من خِطابك فيه، وما اجترأتَ عليَّ به من وصْفِي بالخروج والثورة عليك، وقد علِمتَ أني لم أخلَعك وحدي لكنَّ الناس في العراق خلعوك وخرجوا عليك لخُروجك عن سُنَّة آبائك وشِعار آلِك، وتَفريطك في أمرِهم، تُريد أن تَنقُله من ولَد العباس إلى ولَد علي. وقد أقَمناه نحن بالسُّيوف، وسقَيناه بالدِّماء، وألزَمناهم الحُجَّة بالطاعة لنا منذ اختارنا الله فيه دونهم وفتح الله بِنا على المسلمين.

ثم تَزعُم أني نقَضتُ العهود والمواثيق، فأيُّها كانت عليَّ في أمرِك؟ لقد عَهِد أبوك بالخلافة للأمين دُونَك وولَّاك أمر خُراسان تحتَ ولايته، فطَمِعت فيه واغتصَبتَ حقَّه ناقضًا ما قطَعتَه على نفسك أمام الله وأمام الرشيد والناس، ولم تحفَظ عهدَه ولم ترعَ قَرابته ولم تخشَ الله فيه فسلَّطتَ عليه صعاليك الجُند يَذبَحونه كما تُذبَح الشاةُ في ظلام الليل وهو يَصيح في جَزَع: ويْحَكم ويْحَكُم، أنا ابنُ عمِّ رسول الله، أنا ابن هارون الرشيد، اللهَ اللهَ في دَمِي. فلم يتَّقُوا الله فيه أو تأخذهم رأفةٌ به. ثم صَلَبوه على باب الأنبار ومثَّلوا بِجُثَّته تَمثيلًا، وفصلوا رأسَه وأتَوا بها إليك مَحمولةً في ترسٍ كما تُحمَل رءوسُ الكفَّار، فأيُّنا كان أحفظَ للعهود والمواثيق؟ وأيُّنا كان بارًّا بقَرابَتِه رءوفًا بذوِي رحِمِه وآله؟

لقد والله أتيتَ أمرًا نُكرًا، وأحدثتَ في بني العباس ما لم يَسبقكَ إليه غيرُك، فقتلتَ أخاك ومثَّلت به، وخلَعت شِعار آلِك وأردتَ أن تَسلبهم حقَّهم في الولاية على المُسلمين، فأيُّ حقٍّ علينا في الطاعة لك؟! ونحنُ أحقُّ بها مِنك، والسلام.

ثم طوى الكِتاب وبعَثَ به إلى المأمون …

١  أبو إسحق كُنية إبراهيم بن المَهدي.
٢  كان لإبراهيم بن المهدي ولدان هما «هبة الله» و«بقيَّة الله».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤