الفصل الرابع

في مدينة مَرْو

ما زال المأمون بمَرو عاصمة خُراسان لم يبْرَحْها، وكان الخُراسانيون أشدَّ أنصاره قُوَّة، وأعظمَهم عدَّة، وأكثرَهم عددًا، فلمَّا بلغَتْه ثورة إبراهيم بن المهدي ببغداد، وكَلَ إلى وزِيرِه الأكبر الفضل بن سهل في إطفائها، فبعثَ بجيشٍ يَقودُه أخوه الحسَنُ بن سهل لمُحارَبة إبراهيم والقضاء على ثَورتِه والقَبضِ عليه وتَشتيتِ شَمْلِه، ولكن هذا الجيش لم يُكتَب له النجاح، وفرَّ الحسن بمن معه إلى سمر، ثم إلى خراسان.

وأراد المأمون أن يُعالِج إبراهيم بالسياسة، فبعَث إليه بكتابه يُؤمِّنه ويُفسِح له عنده من عَفوِه ورِعايته، فردَّ عليه إبراهيم بكتابه السابق.

قرأ المأمون الكِتاب وهو يتميَّز غَيظًا ثمَّ طوَاه وهو يقول: قاتَل الله إبراهيم … لستُ مِن الرشيد ولا الرشيد مِنِّي إن لم أُثِرها عليه حربًا شَعواء تأكلُه وتأكُل أصحابه!

وجمَع وزراءه وقُوَّاده وشاوَرَهم في الأمر، فانتهَوا إلى إرسال جيشٍ آخر بقِيادَة «حميد بن عبد الحميد» أحد كبار القُوَّاد، على أن يكون هذا الجيش أكثر عددًا وأشدَّ جُندًا. فخرَج الجيش يقودُه حميد، وخرج معه المأمون بمَوكِبه إلى الصحراء فودَّعَه.

•••

عاد المأمون وهو واثِقٌ من نجاح قائده وفوز جيشه هذه المرَّة، ودخل قاعة العرش ومعه أخوه أبو إسحق المُعتصم وبعض الأُمَراء والوزراء وجلس على أرِيكة المُلك. وإنه لكَذلِك إذا بِحاجِبه «فتح» يدخل ويقول: يا أمير المؤمنين، مَولاكم ابن البوَّاب١يَستأذِن.

فأذِن له، فدخل مُحيِّيًا راكِعًا، فقال له المأمون: ماذا وراءَك يابن البوَّاب؟

فأخْرجَ ابن البوَّاب ورقةً وقال: إن أذِن أمير المؤمنين أنشدتُه هذا الشِّعر.

قال المأمون: هاتِ ما عِندك.

فشرَع ابن البواب يُنشِد:

أجِزني فإني قد ظَمِئتُ إلى الوَعد
متى تُنجز الوعد المؤكَّدِ بالعهدِ
أُعيذُك من خُلفِ المُلوك وقد بدا
تقَطُّع أنفاسي عليك من الوَجْدِ
أيبخَل فردُ الحُسنِ عنِّي بنائلٍ
قليلٍ وقد أفردْتُه بهوًى فَرْدِ

فقال المأمون: أحسنتَ … أحسنت.

قال ابن البواب:

رأى الله عبدَ الله خيرَ عِبادِه
فملَّكَه واللهُ أعلمُ بالعبدِ
ألا إنما المأمون للناس عِصمة
مُمَيِّزةٌ بين الضَّلالةِ والرُّشدِ
المأمون : أحسنتَ والله، وأجَدْتَ يا بن البواب.
ابن البواب : يا أمير المؤمنين، إنما أحسَن وأجاد قائِلُها.
المأمون : أولَستَ أنت القائِل؟
ابن البواب : نعم يا أمير المؤمنين لستُ هو، بل عبدك «الحُسين بن الضحَّاك»

فاحمرَّ وجه المأمون غضبًا وقال: لا حيَّا الله من ذكَرْت ولا بَيَّاه، ولا أقرَّ به عينًا … أليس هو القائل حينما قُتِل أخي «الأمين»:

أعينيَّ جُودا وابكيا لي مُحمدًا
ولا تَذخِرا دَمعًا عليه وأسعِدا
فلا تمَّتِ الأشياء بعدَ محمدٍ
ولا زال شملُ المُلك فيه مُبدَّدًا
ولا فرِح «المأمون» بالمُلك بعدَه
ولا زال في الدنيا طَريدًا مُشرَّدًا

هذا بِذاك، ولا شيءَ له عِندنا …!

ابن البواب : وأين فضلُ إحسان أمير المؤمنين وسعة حلمه؟
المأمون : لا أحسن الله إليه، ولا وسِعَه حلمُ حليم!
ابن البواب : وأين عادَة أمير المؤمنين في العفوِ والكرم؟

فسكَتَ المأمون بُرهةً ثم قال: وأين من ذَكرت، أبِبغداد هو أم بمَرو؟

ابن البواب : هو الساعة بباب أمير المؤمنين.

فنادى المأمون حاجِبه وأمره أن يأتي بابن الضحَّاك، فدخل الحُسين، فركَع وقبَّل الأرض، وقال: السلام على مولاي أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

المأمون : لا سلَّمَك الله يا هذا، ولا رَحِمك ولا بارَكَ لك. هِيه يابن الضحَّاك، تَهجُوني ثم تَقصِد اليوم بابي؟
ابن الضحَّاك : ذاك لكَرمٍ عَلِمتُه فيك، وحلمٍ اشتُهر عنك يا أمير المؤمنين.
المأمون : أخبِرني … ويلك … هل رأيتَ يوم مَقتلِ أخي الأمين أن هاشميَّةً قُتِلتْ أو هُتِكَت، أو نُبذَت صارخةً في الطريق؟
ابن الضحَّاك : لا يا أمير المؤمنين …
المأمون : إذن فَفيمَ قولُك:
هتكوا بِحُرمتك التي هُتِكَتْ
حُرَمَ الرسول ودونها السَّجفُ
تركوا حَريم أبيهمو نَفلًا
والمُحصَنات صوارخ هُتُفُ
هيهات بعدَك أن يَدوم لهم
عزٌّ وأن يبقى لهم شرَفُ
ابن الضحاك : أستغفِر الله، وأستغفِر أمير المؤمنين، فما حدَث ذلك.
المأمون : وهل رأيتَ نساء بني هاشمٍ في بغداد يندُبن كنساء العامَّة؟
ابن الضحاك : لا يا أمير المؤمنين، وحاشا لهنَّ أن يفعَلْن.
المأمون : إذن فما معنى قولك:
وسِربُ ظباءٍ من ذُؤابةِ هاشمٍ
هتَفنَ بدعوى خيرِ حيٍّ ومَيِّتِ
أردُّ يدًا منِّي إذا ما ذكرتُه
على كَبِدٍ حرَّى وقلبٍ مُفتَّتِ
فلا بات ليلُ الشامِتين بغبطةٍ
ولا بلغَتْ آمالهم ما تمنَّتِ
ابن الضحاك : أنشُدك الله يا مولاي!
المأمون : وهل ترَكْنا الدِّين ولم نَصُن حُرمَته فعاد عِندنا مطروحًا مَهينًا، وذهبَتْ بَشاشَة كلِّ شيءٍ في هذه الدنيا؟
ابن الضحاك : لا — جُعلتُ فِداءك — فقد اعتزَّ الدِّين والدُّنيا بك يا أمير المؤمنين.
المأمون : إذَن فَفِيمَ قولك في «الأمين»:
هو الجَبلُ الذي هوَتِ المَعالي
لهدَّتِه ورِيعَ الصَّالِحونا
ستندُب بعدَك الدنيا جوارًا
ونندُبُ بعدَك الدِّين المَصُونا
فقد ذهبت بَشاشةُ كلِّ شيءٍ
وعاد الدين مطروحًا مَهينًا
ابن الضحاك : يا أمير المؤمنين … لوعةٌ غَلبَتْني، وروعةٌ فاجأتْني، ونِعمةٌ حُرِمتُها بعد أن غَمرتْني، وإحسان شكرتُه فأنطَقَني، وسيدٌ فقدتُه فأقلقَني، فإن عاقبْتَ فبحقِّك، وإن عفوتَ فبفضلِك!
المأمون : يا بن الضحَّاك جعلتُ عقوبتَك امتناعي عن استخدامِك، وقد عفوتُ عنك وأمرتُ بإدرار رزقِك وإعطائك ما فات منها …
ابن الضحاك : أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وحفِظَه للدِّين والدُّنيا!
وأذن له المأمون فانصرَف، وما كاد يَغيب حتى أقبل قاضي القُضاة «يحيى بن أكثم»٢ واستأذَن لإسحق المَوصِلي ودخلا معًا، وكان إسحق قد وصَل إلى «مرو» بعد ما فرَّ من وجه إبراهيم بن المهدي. فسلَّم كلٌّ منهما على أمير المؤمنين، وجلسا، فقال المأمون: خبِّرني يا يَحيى، أكان علينا بأسٌ فيما أخذناه من اللباس الأخضر دون الأسود؟

فقال يَحيى: حاشا يا أمير المؤمنين، بل حَسنًا فعلت، فإن الأخضر خيرٌ من الأسود، والخُضرة رخاءٌ وخصْب، والسواد ظلامٌ وجَدْب، أرأيت كيف تخضرُّ الأرض في الربيع ويهتزُّ رُباها. والملابس الخضراء ملابس بيت الحُسين بن علي، وهي ملابِس أهل الجنَّة يلبَسون من سندس خُضر وإستبرق …!

قال المأمون: وهل كان من بأسٍ إذ بايعتُ لعلي بن موسى الرضا — رحِمَه الله — بولاية العهد من بعدي، وهو أفضل بني هاشم في هذا الزمان؟

فقال يَحيى: والله يا أمير المؤمنين لقد كان أصحَّ الناس بعدَك دينًا، وأكثرُهم ورَعًا.

فقال إسحق المَوصِلي: يا أمير المؤمنين، ما رأيتُ أبا نُواس — رحِمَه الله — ترَك معنًى من المعاني إلا قال فيه شِعرًا. وقد ذكَّرتُه يومًا بذلك وقلتُ له: «يا أبا نُواس قُلتَ ما قُلتَ في كلِّ شيء، وهذا علي بن موسى لم تقُل فيه شيئًا.» فقال: «والله يا إسحق ما تركتُ ذلك إلا إعظامًا لمقامِه، وليس قدْرُ مِثلي أن يقول في مِثله شِعرًا.» ثم سكتَ قليلًا وأنشَدَ:

قِيل لي أنت أحسنُ الناس طُرًّا
في فنونٍ من الكلام النَّبيه
لك من جيِّد القَريضِ مَديحٌ
يُثمِر الدُّرَّ في يَدَي مُجتَنيه
فلماذا تركتَ مَدحَ ابن موسى
والخِصالُ التي تَجمَّعنَ فيه
قلتُ لا أستطيع مدحَ إمامٍ
كان جِبريل خادِمًا لأبيه

قال المأمون: صدَق والله الحسَن بن هانئ.

ثم التفَتَ إلى إسحق وقال: وأين كُنتَ يا إسحق بعد فِرارِك من بغداد؟

قال إسحق: خرجتُ يا أمير المؤمنين من بغداد مُتنكِّرًا فلم يَظفَر بي إبراهيم، فضربتُ في الصحراء حتى أتيتُ مدينة «الرَّقَّة» وقد حَمِي النهار، فوقفتُ أستريح في فِناء بيتٍ رَحْب، فما لبثتُ أن مرَّ بي خادِم يقود حِمارًا فارِهًا٣ عليه جاريةٌ حسناء، تحتَها منديل مصري، وعليها من اللباس الفاخِر ما ليس وراءه غاية، فدخلتُ البيتَ الذي كنتُ واقِفًا بجواره.٤ ثم لم ألبثْ أن جاء شابَّان جميلان، فاستأذنا فأُذِن لهما، فدخلتُ أنا معهما، فظنَّا أن صاحب الدار دعاني، وظنَّ صاحِب الدار أني معهما. فجلسنا وأُتِي بالطعام فأكلنا، وبالشراب فوُضِع بين أيدينا، وخرجَت الجارية الحسناء، وفي يدِها عودٌ فغنَّت لذِي الرُّمَّة:
ألم تَعلَمِي يا مَيُّ أني وبيْنَنا
مَهَاوٍ٥ لطرْفِ العين فيهنَّ مَطرَح
ذكرتُكِ أن مرَّت بنا أمُّ شادنٍ٦
أمام المَطايا تَشرئبُّ وتَسنحُ

وشرِبنا يا أمير المؤمنين على هذا الغِناء الجميل ساعة، واهتزَّت أعطافي، وسأل صاحب الدار الشابَّين عنِّي فأخبراه أنهما لا يَعرِفَانِني، فقال: هذا طُفيلِي، ولكنَّه ظريف، فأجمِلوا عِشرَته.

وغنَّت الجارية بعد ذلك ثلاثةَ أدوارٍ كلُّها من أدواري فأخطأتْ في الدَّور الثالث، فاستَعدتُه منها لأصَحِّحَه فغضبت، فقال أحد الشابَّين: «ما رأيت طفيليًّا أصفَقَ منك وجهًا، لم ترضَ بالتَّطفيل حتى تُريد تصحيح الغِناء.» فأطرقتُ ولم أجِبه، ثم قاموا للصلاة وتأخَّرتُ قليلًا فأخذتُ عود الجارية فشدَدتُه وضبَطتُه ضبطًا مُحكمًا وعدتُ إلى موضِعي فصليَّت، وعادوا فأخذتِ الجارية العود فمسَّتْه فعرفَت أن أحدًا مسَّه، فقالت: «من مسَّ عُودي؟» قالوا: «ما مسَّه أحد.» قالت: «بلى والله لقد مسَّه حاذِق مُتقدِّم في الغناء.» قلتُ: «أنا أصلحتُه.» قالت: «فبالله خُذْه واضرِب به.» فأخذتُه وضربت، فما بَقِي أحدٌ في المجلس إلا وثَبَ على قدميه وهزَّ عِطفيه، ثم قالوا: «بالله يا سيِّدي من أنت؟» قلت: «أنا إسحق المَوصِلي.» فأقبلوا عليَّ يا أمير المؤمنين، وغنَّيتُ الأدوار التي غنَّتْها الجارية، فقال صاحب الدار: «هل لك أن تُقِيم عندي شهرًا والجارِية والحِمار لك مع ما عليهما من الحُلِي.» قلت: «نعم.» فأقمتُ عندَه شهرًا لا يدري أحدٌ أين أنا، وها أنا ذا جِئتُ إليك يا أمير المؤمنين.»

فضحِك المأمون وقال: قاتلك الله … كنت أبحثُ عنك طويلًا، حتى حسِبت أن إبراهيم بن المهدي قد احتجزك.

قال إسحق: الحمد لله الذي نجَّاني من المَارِق.

•••

ودخَل «فتح» الحاجب فقال: كلثوم العتابي٧ يا أمير المؤمنين.

فأذِن له المأمون، فدخَل وحيَّاه فقال: حيَّا الله أمير المؤمنين وبيَّاه، وبارك عهَدَه.

قال المأمون: حيَّاك الله وبيَّاك يا عتابي، بلغَتْنا وفاتُك فغَمَّتْنا، ثم انتهتْ إلينا وِفادَتُك فسرَّتْنا.

كلثوم : أحمد الله على الموت والحياة ما دمتُ في رعاية أمير المؤمنين.
المأمون : وكيف حالك يا عتابي؟

– حال رَجُلٍ لا يطمَع في الدنيا إلا في رضا أمير المؤمنين.

فاستظرَفَه المأمون وأراد أن يمزَحَ معه، فقد كانت له أطوارٌ غريبة، فقال له: وكيف شأنُك يا عتابي؟

فأجاب: في خيرٍ إن شاء الله.

فسكت المأمون وتشاغَل بشيءٍ ثم عاد فقال: وكيف حالك يا عتابي؟

فقال كلثوم: أتهزأ بي يا أمير المؤمنين … إن الإيناس٨ قبل الإبساس.

قال إسحق الموصِلي: وما هو الإبساسُ يا شَيخ؟

فقال كلثوم: ومن أنت أيها الوَسوَاس؟

قال إسحق: أنا من بعض الناس.

كلثوم : وما اسمُك يا هذا؟
إسحق : اسمي «كل بصل!»
كلثوم : هذا اسم مُنكَر مُستنكَر. وما «كل بصل» في الأسماء؟
إسحق : ما أقلَّ إنصافِك يا شيخ، وما اسمك أنت؟
كلثوم : اسمي كما سمِعتَ «كلثوم».
إسحق : وما «كُل ثوم» بين الأسماء، والبصل خيرٌ من الثوم؟!

فضحِك المأمون حتى استلقى، وضحِك من بالمجلس، فقال كلثوم: قاتلك الله ما أملَحَك … ولكن ما رأيتُ كالبصل حرارة.

قال إسحق: وما رأيتُ كالثوم رائحة.

فقال كلثوم: غلبَنِي والله يا أمير المؤمنين.

إسحق : ما دُمتَ أقررتَ بأنِّي غلبتُك فمن أكون؟
كلثوم : لعلك الشيخ الذي تناهَت إلينا أخبارُه بالكوفة ويُعرَف بإسحق المَوصِلي.
إسحق : هو من قُلتَ … وقد سرَّتْني رؤيتُك.

وما كاد يَنتهي إسحق حتى استأذن «فتح» الحاجب لرئيس الشرطة دِينار بن عبد الله، فأذِن له المأمون ودخل، وحيَّا الخليفة، فسأله عما جاء به، فقال دينار: جئتُ يا مولاي بِرجُلٍ يَدَّعي أنه النبيُّ «إبراهيم الخليل» عليه السلام. فابتَسَم المأمون وقال مُتهكِّمًا: أدخِله نَستمع لوَحْيه.

فذهب دِينار وأتى بالرَّجُل.

فقال له المأمون: هل أنت إبراهيم الخليل؟

قال الرجل: نعم … نعم … يا عبد الله.

فغَاظت المأمون جرأتُه، فقال يحيى بن أكثم: هل يأذَن أمير المؤمنين أن أُناقِشه؟

قال المأمون: دونك وإيَّاه …

فقال يحيى: يا هذا، إن إبراهيم الخليل كانت له بَراهين.

قال الرجل: وما هي بَراهِينه؟

يحيى : أُضرِمَت له النار وأُلقِي فيها، فكانت عليه بردًا وسلامًا! فنحن نُضرِم لك النار، ونطرحُك فيها، فإن كانت عليك بردًا وسلامًا آمنَّا بك وصدَّقناك.
الرجل : هذا برهان عسير، فاسألني برهانًا آخر.
يحيى : وكان من براهين موسى أن ألقى العصا فإذا هي حيَّةٌ تسعى، وضرب بها البحر فانفلَق، فافعل بعصاك مِثله.
الرجل : هذا برهان صعب، وما لنا وللعَصا وللحيَّة يا صاح ولسنا أمام فرعون، بل أمام المأمون!
يحيى : وكانت براهين عيسى عليه السلام إبراء المرضَى، وإحياء الموتى، فافعل مثل ما فعل.
الرجل : جئتَ بالطامَّة الكبرى، ما لي وللمرضى والأطبَّاء كثيرون، ثم ما لي وللموتى وقد بعثتُ للأحياء …؟!

فضحك المأمون والحاضرون وقال للرجل: لا بُدَّ لك من براهين وإلا ضَربنا عُنقَك …!

قال الرجل: ما معي شيء ممَّا تطلبون، ولقد قلتُ لجبريل حين أرسلتُ بالرسالة: إنكم تُرسِلونَني إلى قومٍ فيهم أمير المؤمنين المأمون وفيهم قاضي القُضاة يحيى بن أكثم، فأعطوني بُرهانًا أذهب به إليهم. فغضِب جبريل وقال: «اذهب أولًا وانظر ما يقول لك القوم، ثم نُعطيك ما يطلبون.»

فأغرق المأمون في الضَّحِك، وقال: هذا نبيٌّ يصلُح للمُنادَمة!

ثم أمَرَ بإطلاقه وانفضَّ المجلس، وخرج المأمون ليقضِي وقتًا في الرياضة وصيد الثعالب والظِّباء ليُخفِّف عن نفسه مَتاعِب المُلك، وهموم التفكير في ثورة العراق، وفي الثائر إبراهيم بن المهدي …!

ساحر ومسحور

عاد المأمون من الصَّيد بعد ما قَضَى فيه ثلاثة أيام، وقد أصاب من الثعالب والغِزلان عددًا، وقنَصَ فيما قَنصَ نِمرًا مُخطَّطًا ثائِرًا أتى به حيًّا، فسمَّاه «إبراهيم المبارك» تَفاؤلًا بأنه سيتغلَّب على إبراهيم ويقبِض عليه ويطفئ ثورتَه ويأتي إليه مُقيَّدًا ذليلًا، كما قنَصَ هذا النمر وقيَّده وأضعف قوَّته وأذلَّ كبرياءه. وكان المأمون لا ينفَكُّ مُهتمًّا بثورة إبراهيم وخروجه عليه، وزاد في همِّه ما علِمَه من انضمام بني العباس إليه في الكوفة والأنبار وبغداد وسائر العراق والشام، وقد شايَعوه وبايَعوه أميرًا للمؤمنين. ولكنه منذ بَعثَ «حميد بن عبد الحميد» بجيشه وما حوى من عدَّةٍ ضخمةٍ وعدَدٍ غفير، وما زوَّده به هو وجنوده من الوصايا والوعود بالعطايا الجزيلة، كان مُطمئنًّا إلى أن قائده سيبلغ ما يُريد، ويُحقِّق له ما يتمنَّى.

وكان الفضل بن سهل وزيره الأكبر يَزيده اطمئنانًا وأمَلًا بما يُهوِّن عليه من شأن إبراهيم، ويُخفِي عنه بعض ما يحدُث في العراق من خطرِ هذه الثورة ونِقْمة الناس على المأمون، شأنَ بِطانة المُلوك ووزرائهم يُخفون عنهم حقيقة ما يجرِي بين الشعب. ولكن المأمون كانت له عيونٌ ينظُر بها غير عيون الفضل بن سهل، وكان يُتابِع أنباء جيش «حميد» على الدَّوام. وجلس المأمون في ديوانه وهو في «مرو» يُعالج شئون خُراسان، وكانت هناك طائفةٌ من الزَّنادِقة اهتمَّ بالقضاء عليهم وعلى دعوَتِهم بين الناس، وكانوا من الزَّنادِقة المانويَّة أتباع «ماني»: وهو ماني بن فاتِك الحكيم الذي ظهر في عهد ملك الفُرس سابور بن أزدشير بعد ظهور المسيحية. وقد ابتدَع دِينًا بين المسيحية والمجوسية، وكان يَنفِي نبوَّة موسى، ويعترِف بنبوَّة المسيح. وقد زعم أن العالم مُركَّب من أصلَين قديمين هما النور والظلمة، وأنهما أزليَّان لم يزالا ولن يزالا، وأن النور جوهرُه حسن فاضِلٌ كريم صافٍ نقيٌّ طيِّبُ الريح جميل المَنظر، وأن الظلمة جوهرٌ قبيحٌ ناقِص لئيم كَدِرٌ خبيثٌ مُنتِنُ الرِّيح قَبيحُ المَنظر.

وأن للنور خمسة أجناس: أربعة منها أبدان والخامس روحها، فالأبدان هي: النار والنور والريح والماء، وروحها النسيم. وللظلمة خمسة أجناس كذلك: منها أربعة أبدان وهي الحريق والظلام والسموم والضَّباب، ورُوحها الدخان وهي تدعى الهمامة وتتحرَّك في هذه الأبدان.

وكان لِمَاني اعتقادٌ في بعض الشَّرائِع دونَ البعض الآخر، وله في ذلك مَذهبٌ وأتْباعٌ طالَمَا حَارَبهم المأمون.

واستأذن دِينار رئيس العَسكر في الدخول، فأذِن له المأمون فدخل وسأله عن شأنه وما أتى به، فأنبأه أنه قَبض على عشرةٍ من الزَّنادِقة المانوية، فأمر بإحضارهم فسألهم: أنتم الزَّنادِقة؟

فقال أحدُهم: أنا لستُ زِنديقًا يا أمير المؤمنين.

قال المأمون: وما خبرُك يا هذا، ولماذا جِئتَ معهم؟

– امرأتي طالِقٌ يا أمير المؤمنين إن كنتُ والله أعرِفُ هؤلاء أو أعرفُ من أمرِهم شيئًا، وإنما أنا رجلٌ طُفَيلِي.

المأمون (ضاحكًا) : طُفيْلي …
الرجل : نعم طُفيلي. رأيت هؤلاء قد اجتمعوا، فقلتُ ما اجتمعَ هؤلاء إلا لولِيمَة، فدخلتُ في وسطِهم ومَضيتُ معهم، فأركَبَهم المُوَكَّلون بهم سفينة، فرأيتُ فرشًا مُمهَّدًا وخُبزًا وسلالًا مَملوءة، فقلت: «نزهةٌ لطيفة يَمضُون بها إلى بعض البساتين والقصور، وهذا يوم سار.» وبشرت نفسي، ولكن لم أر نزهةً ولا بستانًا. وبينما نحن كذلك إذا جاء الشرطة، فقيَّدوهم وقيَّدوني معهم وأنا لا أدري شيئًا، فقلت لهم: «إيش أنتم؟» فقالوا: «بل إيش أنت؟ ومن أنت، أمن إخواننا؟» قلت: «كلا، بل أنا طُفيليٌّ أحببتُ ألَّا تتركوني دون هذه النزهة الجميلة، والوليمة المُباركة.» فتبَسَّم القوم ونظر بعضهم إلى بعض وضحكوا، ثم قالوا: «لقد حصلت معنا في الإحصاء، وأوثقت في الحديد. أمَّا نحن فزنادِقة مانوية أمر المأمون بالقبض علينا.» ووالله يا أمير المؤمنين ما أدرِي من هو «ماني.» وهل هو رجُل أو امرأة، وهل هو إنسان أو شيطان!

فقهقَهَ المأمون قهقهةً عاليةً وقال: يا دِينار، فكَّ قيود هذا الرجل.

فقال الطُّفيلي: أحمد الله إلى أمير المؤمنين … أأنطلِق؟

المأمون : لا بل انتظر ها هنا …

وأشار إلى ناحِية المجلس. ثم التفتَ المأمون إلى الزنادِقة، وقال: وأنتم ماذا تقولون عن العالم؟

أحدهم : نقول ما قاله «ماني.» إنه نشأ من النور والظلام.
المأمون (لباقِيهم) : وأنتم تقولون هذا القول؟
الجميع : نعم … نعم …!
المأمون (لدِينار) : يا دِينار، اذهَب بهم إلى أحدِ أصلَي العالم … اذهب بهم إلى ظلام السجن أعماهم الله.

وأراد بعضهم أن يتكلَّموا فعاجَلهم المأمون قائلًا: اخسئوا قاتلكم الله.

ودفعَهم الجنود إلى السجن، ثم التفتَ إلى الطُّفيلي وقال: وأنت يا هذا تطفَّلت، فغامَرْت، والله لأكاد أن أقذِف بك معهم!

الطفيلي : عفوًا يا أمير المؤمنين، وليَسعْني حِلمك، فقد جاءوا بي إليك وهي مُغامرة كانت خيرًا وبركةً وبردًا وسلامًا، وهي عندي خير من ثلاث ولائم!

فضحِك المأمون وقال: قاتَلك الله، إن فيك لظُرفًا … انصرِف وعفوتُ عنك!

•••

انصرف الطُّفيلي … وما كاد يغيب عن المجلس حتى سُمِعت ضجَّة في الخارج، فإذا بالوزير الأكبر الفضل قادمًا محمولًا كعادته على كرسيٍّ مُجنَّح، وكان المأمون قد أجاز له ذلك تكريمًا له، وسمَّاه ذا الرياستين!

وأقبل الفضل في هذه الهيئة، حتى إذا كان على مرأًى من المأمون نزَل وترجَّل، وسلَّم على أمير المؤمنين وجلس عن يساره، فقال المأمون: كيف حال العراق يا فضل؟

– إنها حالٌ تسرُّ أمير المؤمنين، وتكبِت أعداءه … إن العراقيين يلتفُّون حولك ويُخلِصون لمولاي الحبَّ والولاء.

– وما شأن إبراهيم بن المهدي فيهم؟

– إنه مَخذول مَنبوذ في طائفةٍ قليلةٍ من رِعاع القوم.

فسكتَ المأمون مَليًّا وقال: ولكن الوافِدين من بغداد يقولون غير ذلك.

فقال الفضل في غير تريُّث: وهل دخلتُ على أمير المؤمنين يومًا بكذب، أو حدَّثتُه بغير ما أعلم، أو مالأتُ أحدًا عليه؟ وإذا كان أمير المؤمنين قد شرَّفَني بِثقتِه ورفعَني إلى موضِع أمانته وسرِّه، فكيف يقول لي هذا القول؟!

– لا والله يا فضل ما علِمتُ عنك سوءًا. ولكن إذا كانت الحال على ما تصِف، فكيف أنباء جَيش حميد بن عبد الحميد؟

– إنه على ما يُحبُّ أمير المؤمنين، قد انتصَر منذُ الساعة الأولى.

– ولكنِّي علمتُ أنه خسِر الجولة الأولى بين جيشه وجيش إبراهيم!

وهنا دخَل الحاجِب يستأذِن لهِرثمة بن أعيَن أحد قوَّاد العباسيين القدَماء، وأكبرهم في عهد المَهدي والرشيد، وكان بينه وبين الفضل بن سهل ضَغينة ولم يكن راضِيًا عن سياسته. فأذِن له ودخل، فقال: السلام على مولاي أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

المأمون : وعلى هِرثمة السلام والبركات. لماذا تجشَّمتَ كلَّ هذا السفر يا أبا حاتم؟٩
هرثمة : تجشَّمت ذلك، لأقضيَ حقَّ الله في طاعةِ أمير المؤمنين وأُنبِّهه إلى أمره وأقوم بالنُّصح له.
المأمون (وقد أدرَك مُراده) : يا أبا حاتم ليستْ بك حاجة إلى هذا، وأنت شيخ مريض تعِب، فانصرِف إلى منزلك تسترِح.
هرثمة : لا يا أمير المؤمنين، ما تجشَّمت طول السَّفر ووَعْثاءَ الطريق لأنصرِف إلى منزِلي!
المأمون : بلى يا أبا الحاتم، أحبُّ أن تنصرِف لتستريح، ودَع ذكرَ ما لا نحتاجُ إليه، وما أنت عنه في غنًى.
هرثمة : كلَّا يا أمير المؤمنين، حتى أقضِيَ الحقَّ في نُصحِك، فإني لا آمنُ أن يحدُث علي في هذه الساعة حادث، فألقَى ربِّي مُقصِّرًا في حقِّ إمامي.

ثم التفت هرثمة إلى الفضل بن سهل وقال مُشيرًا إليه في تَهكُّم: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي لم يُمِتْني حتى رأيتُ هذا المجوسيَّ يُحمَل إلى مجلِسك في كرسيٍّ مُجنَّح، ويجلِس بين يديك على كرسيٍّ كأمراء بني العبَّاس!

فقال المأمون مُتَجهِّمًا: دَع ما لا يعنيك يا هِرثمة لما يَعنيك. ولا شأن لك بالفضل بن سهل.

هرثمة : يا أمير المؤمنين، ما لِمسرورٍ وسلَّام خادِمَي أبيك الرشيد يُحبسان بغير ذنب، ويأخُذ هذا المَجوسي أمتِعتَهما فيُمزِّقها ويحرِقها. ألِأنَّهما أعانا أباك الرشيد في الفَتك بجعفر البرمكيِّ وآله، فيأتي هذا وينتقِم من الأحياء للأموات؟
المأمون (غاضبًا) : يا هِرثمة ما لك وذِكر ما لا نحتاج إليه!
وهنا نهض الفضل في غضبٍ وحِقدٍ وقال لهرثمة: وما أنت وهذا يا سفيه، يأمرُك أمير المؤمنين أن تُمسِك عن الكلام، ولا تتعرَّض لما لا يَعنيك، فتأبى، وتقول ما تقول غير مُكترِثٍ بحقِّه، ولا سامعٍ لقوله، ولا مُحترِمٍ لطاعته! أو تظنُّ أنك تُكرِهه على أن يسمع منك لغوًا، ويُصدِّق منك كذبًا، ويأخذَني بما سوَّلت نفسك البغيضة حسدًا منك لأوليائه وتطاولًا على خاصَّة رجاله؟ ويلك! وأين لك هذه المنزلة؟ تقول لأمير المؤمنين إنك تُنبِّهه إلى أمره، وتقوم له بالنُّصح، وكأنه نزَل منك حيث ينزِل الوليُّ من المولى، وقد ردَّك في ذلك ردًّا لطيفًا، وأجابك جوابًا ليِّنًا، فما ارعوَيْت، ولا استحيَيْت، بل كنتَ تُجيب بالقول الجريء والكلام البذيء. أكان حِلم أمير المؤمنين أعزَّه الله يسَع منك أكثر ما وسِع، وقد أتاه ما كان من سعيِك لإبراهيم بن المهديِّ وثنائك عليه، وخِيانتك ليلَة خلع الأمين، لولا أن طاهِرًا بن الحُسين١٠ فطِن لما دبَّرتَ وكشف ما عليه تآمَرت، فأوقعَك الله وأوقَع المخلوع، فخرجتَ من نهر دِجلة تزعُم أنك كنتَ تُريد أسْرَه والذهاب به إلى الخليفة، وتسليمه بُردَة الخلافة والخاتَم والقضيب، فما صدَّقتُك ولا سمعتُ لك وأبعدتُك عن نَعْمَاء أمير المؤمنين، فرُحتَ تُشيع الأباطيل، وظننْتَ يا جاهِل بسوءِ تدبيرِك، أنك لو أتيتَ أمير المؤمنين، فلغوتَ بما لغوت، واجترأتَ بما اجترأت، صدَّقك وأحلَّكَ محلَّ الناصِح الأمين، ولكنك ما كدتَ تفتَحُ شفتيك بما افترَيتَ حتى استبانَ سوءَ قصدِك، وعرَف سبيل غيِّك، فأوقفَك عند حدِّك وردَّكَ إلى شأنك، فما انتبَهتَ ولا ارعوَيْت. «أرأيتَ لو أن أمير المؤمنين بطَشَ بك الساعة أكان لك منه مَعاذ؟ والله لأكاد أركُلُك بِرجلي ركلةً تذهب بك إلى نار جهنم. اذهب. اخسأ. لا رحمك الله.»

ثم نادى الفضل دِينارًا وجُندَه قائلًا: خذوا بِرِجل هذا الجاهِل السَّفيه وجُرُّوه على وجهه إلى السجن!

ففعل الجُند ما أمر الفضل، وسكَتَ المأمون ثم قال له: أحسنْتَ يا فضل، والله لو لم تقُل له ما قُلتَ لكنتُ قلتُه، ولو لم تفعل ما فعلتَ لأمرتُ الساعة أن يُقتَل.

ثم نهَضَ المأمون، وأذِن للفضل والحاضرين بالانصِراف، لكنه استبقَى كاتِبَه عمرو بن مُسعَدَة.

•••

انصرَف القوم ثم التفتَ المأمون إلى عمرو وقال: أرأيتَ يا عمرو ما فعل الفضلُ بن سهل بالشيخ هِرثمة في مَجلسي مع بَلائه في هذه الدولة، وهو قائدي وقائد أبي وجدِّي، والله إني لهمَمتُ أن أقتُل الفضل بن سهل الساعة.

ابن مسعدة: والله يا أمير المؤمنين ما تكلَّم الشيخ هِرثمة إلا حقًّا، ولقد ستَرَ الفضل عنك كثيرًا وأغضَبَ منك أهل العراق حتى قالوا عنه: «إنه ساحرٌ وإنك مَسحورٌ به!»

المأمون: عَجبًا، أهكذا يقولون؟!

ثم أطرَق المأمون في تفكيرٍ عميق!

عمرو بن مُسعدَة

كان عمرو بن مسعدة — ويُكنَى أبا الفضل١١ — من أصلٍ تركي، أبيض الوجه في احمرار. وجَدُّه «صول بن صول» كان رجُلًا تركيًّا تولَّى إمارة جرجان، وتشبَّه بالفرس في عاداتِهم وأخلاقهم. وكلمة «صول» كانت لقبًا لحاكم دهستان، كما يُطلَق لقب كسرى على الساسانيين من ملوك الفرس.

وقد تولَّى عمرو الكِتابة للمأمون، فأحبَّه وآثره وقدَّمه على سائر كُتَّابه، وولَّاه ديوان الرسائل وديوان الخاتَم والتوقيع والأزقَّة، ثم تولَّى حُكم فارس وكرمان. وكان المأمون يُعجَب ببلاغَتِه، ويُسنِد إليه الكِتابة في مَهامِّ دولته.

ودخل أحمد بن يوسف الكاتب على المأمون يومًا، فرأى بيَدِه كتابًا من عمرو، وهو يتأمَّل فيه مُدَّة، فوقف حتى انتهى منه والتفتَ إلى أحمد، فقال له: «إن في هذا الكتاب كلامًا نظير ما سمعتُ من الرشيد عن البلاغة من أنها التباعُد عن الإطالة، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المَعنى. وما كنتُ أتوهَّم أن أحدًا يَقدِر على ذلك حتى جاءني هذا الكتاب من عمرو فإذا فيه: «كِتابي إلى أمير المؤمنين، ومَن قِبَلي من قُوَّاده ورؤساء أجنادِه في الانقِياد والطاعة على أحسن ما تكون طاعةُ جُندٍ تأخَّرتْ أرزاقهم، وانقياد كُفاةٍ تراخَت أُعطياتهم، فأخلَّت لذلك أحوالهم، والْتَاثَتْ معه أمورهم.»

«وإن استِحساني هذا الكتاب بعَثنِي على أن أمرتُ للجُند بأُعطِيَتهم لسبعةِ أشهر. لله عمرو ما أبلَغَه، ألا ترى كيف أومَأَ إلى وجهِ المسألة في الإخبار، وإعفاءه سُلطانَه من الإكثار.» وكان عمرو ذا ثروَةٍ واسعةٍ مما أقطَعه إياه المأمون وممَّا نزَل عنه من خراجِ بعض الوِلايات كما كان خُلفاء ذلك العهد الذهبي يفعلون لخاصَّتهم، حتى قِيل إنَّه مات عن ثمانية ملايين دينار بعد ما عاش عِيشة البذخ والتَّرَف وبذَل ما بذَل من كثير الأموال للعلماء والشُّعراء وغيرهم. ولا غَرْوَ فقد كان مُلكُ العباسيين أكبر من قارة أوروبا، وكانت الضرائب تُجبَى من كلِّ مكانٍ إلى بغداد!

وقد كان لعمرو فرسٌ أدهم أغرُّ لم يكن للمأمون مِثله، فرآه واستحسَنه فبادَر عمرو بإهدائه إليه مع كتابٍ فيه هذه الأبيات:

يا إمامًا لا يُدا
نيه إذا عُدَّ إمامُ
فَضَلَ الناسَ كما يَفْـ
ـضُلُ نُقصانًا تمامُ
قد بَعثْنا بِجوادٍ
مِثله ليسَ يُرامُ
فرسٌ يزْهى به للـ
ـحُسن سرجٌ ولجامُ
دونَه الخَيلُ كما دُو
نَكَ في الفضل الأنامُ
وجهُهُ صُبحٌ ولكِنْ
سائر الجِسم ظلام
والذي يَصلُح للمَو
لى على العبدِ حَرام

كانت هذه مَنزِلة عمرو عند المأمون، فليس غريبًا أن يَستبقِيَه، ويصرِف من حضَر في المجلس، وفيهم الفضل بن سهل كبير وزرائه وعظيم دولته. وقد كان بين عمرو وفضل ما بين الوزراء والنُّظراء ورجال السلطان من تنافُسٍ ودَسائس وإيثارٍ للنفس بالحظوة والولاء.

•••

فلمَّا أفضى المأمون بما في نفسه لعمرو حين رأى الشيخ هِرثمة بن أعيَن يفعَلُ به الفضل بن سهل ما فعل بمجلسه، أجاب الخليفة بما أجاب به، وقال له: إن الفضل ستَرَ عنك كثيرًا، وأغضَب أهل العراق حتى قالوا: «إنه ساحِرٌ وإنك به مسحور!»

فقال المأمون لعمرو: ومن يَعلَم هذا غيرُك من رِجالي يا أبا الفضل؟

فأجاب: يعلَمُه خلَفُ المصري، وعلي بن سعيد، وعلي بن هشام.

فبعثَ المأمون من أتى بهؤلاء الثلاثة في اليوم التالي.

حضَروا وسلَّموا وركعوا، وقبَّلوا الأرض ثم رفَعوا رءوسهم، فقال لهم المأمون: ماذا تقولون في الفضل بن سهل، هل هو يَغشُّني؟

فالتفتَ بعضُهم إلى بعض، ولم يتكلَّموا، فأعاد المأمون سؤاله، فسَكتوا، ثم قال خلَفُ المصري: لا نقول شيئًا يا مولاي حتى تُعطِينا الأمان من الفضل!

المأمون : قولوا وأنتم آمِنون.
خلف المصري : إنه والله يا أمير المؤمنين ما صدَقَك الفضل بن سهل حين حدَّثك عن بغداد والعراق وإبراهيم بن المهدي، وإن بغداد اليوم تتأجَّجُ بفتنةٍ شعواء، فإن لم يَتداركها أمير المؤمنين ذهبتْ بِسُلطانه.
علي بن هشام : نعم يا أمير المؤمنين، وإن أمر إبراهيم بن المهدي لَفِي صُعودٍ وإقبال، وقد صار العراقيون في كل مكانٍ يَهتِفون به ويُنادونه خليفةَ المسلمين، وأمير المؤمنين.
علي بن سعيد : وقد غشَّك الفضل بن سهل في أمر هرثمة. والله يا أمير المؤمنين ما كذَب هرثمة، ولا خانك في أمرٍ ولا ائتمَر بك يوم حِصار الأمين ببغداد، وما أراد له أن يفِرَّ من وجهك وإنما كان كل همِّه أن يحفَظَ حياته، وأن يأتي به حيًّا؛ لأنه يعلم أنك كنتَ تحبُّ لأخيك الحياة، ولكن الفضل سلَّط عليه طاهر بن الحُسين وهذا سلَّطَ عليه صعاليك الجُند فذبَحوه كما تُذبَح الشاة، وكان ما كان من لوم الناس وغضَب بني العباس.
خلف المصري : والله يا أمير المؤمنين لقد نصَحَك الفضلُ فغشَّك، وأنبأك فكذَبَك، وما تجشَّم الشيخ هرثمة ما تجشَّم من السفر والتعب وهو شيخٌ طاعِن السن واهِن القُوى إلا ليؤدِّيَ حقَّ الله في طاعتك، وحقَّ ولائه لأهل بيتك، ولكنَّه أُخِذ من مجلسك على ما رأيتَ وألقِي في السجن، وما خرج الفضل من عندك حتى بعثَ إليه من قتلَه!
المأمون : أوَقد قتَلَه؟!
خلَف المصري : نعَم، قتلَ غُلام الفضل الشيخ هِرثمة في السجن منذ ساعة!

فدَمدَم المأمون بكلامٍ ثم قال: أهكذا يَفعلُ بأوليائي؟ والله ليَلْقيَنَّ جزاءه!

عمرو بن مُسعدَة : يا أمير المؤمنين، لقد رفَعتَ الفضل بن سهل، وأحلَلتَه الغايةَ من حظوَتِك، وجعلتَ له الرِّياستين: رياسة الحرب ورياسة التدبير، تفضُّلًا منك ونعمة، فظنَّ من سوءِ رأْيه أنه نظيرُ نفسك، وأنه إن نزَلْتَ عن مكانك صار له عرشُك وسُلطانك. وكان يُقال: «إذا عرَف المَلِك من الرَّجُل أنه قد ساواه في الرأيِ والمَنزلَة والهَيبة والمال والتَّبَع، فليصْرَعْه، فإن لم يفعَل كان هو المصروع.»
ثم ما عَرف يا أمير المؤمنين فضلَك عليه، ولا شَكَر نَعماءك، بل اتَّخذَها حربًا لأوليائك، واستَغلَّها لمآرِبِ أعدائك، وقد رأيتَ ما فعلَه بِهرثمة في مَجلسِك اجتراءً منه عليك، واستِخفافًا بحقِّك، ولو كان قد وضع نفسه مَوضِعَها لما فعل ما فعل بحضرَتِك، ولما تولَّى ذلك عن أمير المؤمنين، وهو أعلم بالأمور!
المأمون : يا عمرو، حقًّا لقد رفَعتُه على الناس، وأحللتُه عندي محلَّ بني العباس، وأقطعتُه وأعطيتُه، وجعلتُ له مرتبةَ من يقول في كلِّ شيءٍ فيُسمَع منه ولا يُرَد، ولا يتقدَّم غيرُه عليه في المَراتِب.
ولكن خَلِّ شأنه، فلَه يومٌ آخر. وانظر ماذا ترى في أمرِ الفِتنَة بالعراق.
ابن مسعدة : أرى الرأْيَ أن يأمُر أمير المؤمنين فنخرُج ويخرُج معنا إلى بغداد، فإنَّ الناس قد فُتِنوا هناك بإبراهيم بن المهدي، ولو رآك البغداديُّون بينهم لهدأتْ ثائرتُهم وانطفأتْ فِتنتُهم واغتَبطوا بِمقدِم أمير المؤمنين وهُرِعوا إليه بالطاعة والولاء، فإنهم يُحبُّونه ويُعظِّمونه منذ كان صبيًّا معروفًا بينهم بالنَّجابَة والفصاحة والتقوى.
يا أمير المؤمنين، إن النِّفاق من أخلاق الجماهير، وأنت في حِكمةِ تدبيرك، وبَراعة سياستك، وفصاحة لسانك، وعظيم كِياستك، أقدرُ على أن تَرُدَّ الأمر إلى نِصابه، وقد ميَّزك الله بالعِلم وفضَّلك بالسَّداد ووفَّقك إلى ما أنت به أهل وما أنت به جدير، وأرادَك حافِظًا لتُراث الرشيد في ولده وأن تكون للدِّين والدنيا خير إمام.
المأمون : أحسنتَ يا عمرو، نِعم الرأي ما رأيت. ولنذهب إلى بغداد. هيا بنا إلى دار السلام.
١  «ابن البواب» الشاعر، غير علي بن هلال الخطَّاط المعروف بابن البوَّاب أيضًا والمُتوفَّى سنة ٤١٣ﻫ.
٢  قاضي قضاة المأمون، وكان يتملَّقُ المأمون كثيرًا وقد قال له مرَّة: «يا أمير المؤمنين، إن خُضْنَا الطبَّ كنتَ جالينوس في مَعرفته، أو علم النجوم كنتَ هرمس في حسابه، أو الفِقه كنتَ علي بن أبي طالب في عِلمه، أو ذكرنا السَّخاء كنتَ فوق حاتم، أو صِدْق الحديث كنتَ أبا ذر.»
٣  الفارِه: النَّشيط الخَفيف.
٤  هذه القصة روَاها الأغاني لإسحق وروَى غيرُه ما يُشبِهُها لإبراهيم بن المهدي.
٥  جمع مِهواة، وهي ما بين الجَبلين.
٦  أمُّ شادنٍ كُنية الغزال.
٧  من كبار شُعراء ذلك العصر، وأصلُه من قنسرين، وله مُصنَّفات في اللغة والأدب، وكان مُتقشِّفًا زاهدًا.
٨  الإيناسُ ضدُّ الإيحاش. والإبساس: الرفق بالناقة عند الحَلْب، وهو أن يُقال بس بس. وهو مَثل يُقال في المُداراة عند الطلب.
٩  كنية هرثمة.
١٠  طاهِر بن الحسين هو قائد المأمون في الحرب بينه وبين الأمين، وهو الذي حاصر بغداد إلى أن قَتَل الأمين وحَمَل رأسه إلى المأمون.
١١  تُوفِّي عمرو بن مُسعدَة في سنة ٢١٧ﻫ قبل وفاة المأمون بعامٍ واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤