الفصل الثاني والعشرون

هل نجا أيٌّ من عائلة رومانوف؟

انتهت سلالة رومانوف ذات الثلاثمائة عام نهاية دموية في يوليو عام ١٩١٨.

كانت ظروف العائلة قد تدهورت منذ مارس ١٩١٧، حين تخلَّى القيصر نيقولا الثاني عن العرش كرهًا، تاركًا الحكومة في أيدي ذوي البشرة البيضاء المعتدلين التابعين لألكساندر كيرينسكي. كان العديد من أصحاب البشرة البيضاء — على عكس الحمر البلاشفة — يفضلون الملكية الدستورية كنظام للحكم؛ ومن ثَمَّ كانت معاملتهم للقيصر السابق وعائلته مُهذَّبة، وإن كانت حذرة. تحددت إقامة عائلة رومانوف في قصرهم بالقرب من سانت بطرسبرج، ولكن بخلاف ذلك، استمرت الحياة كما كانت قبل الثورة إلى حدٍّ كبير؛ فقد انخرطت العائلة في أسلوب حياة ملكية متكرر؛ حيث الدروس، وجولات السير، والتنس، وحفلات الشاي. غير أن العالم بالخارج كان قد تغيَّر. وبحلول أغسطس، أجبر خطرُ اقتحام القصر من قِبَل الغوغاء الغاضبين كيرينسكي على إجلاء العائلة وترحيلهم إلى بلدة توبولسك السيبيرية.

في نوفمبر ١٩١٧، وبعد أن صار زمام الأمور في يد البلاشفة، اتخذت حياة آل رومانوف منحنًى حادًّا إلى الأسوأ؛ فلم يعد هناك وجود للروتين الملكي والحرس المتعاطف معهم من ذوي البشرة البيضاء، وصارت العائلة تأكل الخبز الأسمر والحساء، في حين قام الحرس البلشفي المعادي لهم بطلاء زجاج النوافذ، واستولوا على مقتنيات العائلة، وكتبوا نقوشًا بذيئة على الجدران. وفي مايو ١٩١٨، تمَّ نقل العائلة إلى بلدة يِكاتيرينبيرج، وهناك، وفي الساعات الأولى من صباح يوم ١٨ يوليو، لقوا حتفهم فيما يبدو.

وصَفَ أحد الحرس، ويُدعَى بافل مدفيدياف، المشهدَ فيما بعدُ للمحققين ذوي البشرة البيضاء؛ إذ قال إنه قد تمَّ إيقاظ أفراد العائلة من نومهم وأُمِروا بالنزول إلى قبْو المنزل. حضر القيصر السابق نيقولا أولًا، حاملًا ابنه المريض أليكسي ذا الثلاثة عشر عامًا. بعد ذلك حضرت زوجته ألكسندرا، وأعقبها بناتها الأربع؛ أولجا ذات الثانية والعشرين، وتاتيانا ذات الحادية والعشرين، وماريا ذات التسعة عشر، وأنستاسيا ذات السبعة عشر عامًا. تواجد أيضًا طبيب العائلة، والطاهي والخادمة، والخادم الخاص. وكان الضابط البلشفي المسئول عن الحراسة، ويُدعَى ياكوف يوروفسكي، قد رتَّب أن يكون ظهور السجناء الأحد عشر للحائط، وكأنه سيلتقط صورة للعائلة. بعدها استدعى فرقة الإعدام وأبلغهم بأن لجنة الأورال التنفيذية المركزية قد قررت إعدامهم. وفي تلك اللحظة، أطلق يوروفسكي النار على القيصر السابق ليلقى مصرعه في الحال.

خُصِّص لكلِّ عضو في فرقة الإعدام ضحية، إلَّا أن الغرفة كانت صغيرة للغاية حتى إنهم لم يستطيعوا اتخاذ الوضع الصحيح لإطلاق النار، وفشلت تصويباتهم الأولى في قتل الملكة السابقة وبناتها. وطال عذابهنَّ أكثر بصفوف الماس التي خبَّأْنَها في مِشدَّات الخصر؛ فقد ارتدَّت طلقات الرصاص عنها وتبعثرت عبر الغرفة. وفي النهاية، أجهز عليهنَّ الحرس باستخدام حرابهم ومؤخرات بنادقهم.

عمَّت الفوضى مراسم دفن العائلة بالقدر نفسه؛ وكان ذلك يرجع في جزء منه إلى اهتمام الحرس بالاستيلاء على الماس أكثر من اهتمامهم بالتخلص من الجثث. فقد ألقوا بهم في البداية في مهوى منجمٍ قريب، ثم عادوا في اليوم التالي للبحث عن مكان أكثر استتارًا يدفنونهم فيه. وعندما عَلِقت شاحنتهم في الوحل، قرروا دفن الجثث حيثما كانوا.

لم يذكر الإعلانُ الرسمي عن موت القيصر السابق أيًّا من تلك التفاصيل الدموية. ففي ٢٠ يوليو، أفادت جريدة البرافدا بأن نيقولا قد أُعدِم بناءً على أوامر المجلس المحلي بيِكاتيرينبيرج. وأضاف بنفس الاقتضاب أن بقية أفراد العائلة قد «أُرسِلوا إلى مكان آمن.»

تركت تلك العبارة الأخيرة العالم يتساءل عن مصير العائلة. ففي النهاية لم يكن هناك سوى شاهد العيان الوحيد، مع ملاحظة أن مدفيدياف كان قد أدلي بشهادته لذوي البشرة البيضاء، الذين كانت لهم مصلحة شخصية في تصوير البلاشفة كسفاحين وقتلة. وبشكل شبه فوري، انتشرت قصص عن هروب واحدة أو أخرى من أفراد العائلة، في الغالب بمساعدة أحد الحرس الرحماء. وقد كان من السهل نبْذُ معظم من ادعينَ أنهنَّ الهاربات باعتبارهن محتالات، ولكن ليس جميعهن؛ إذ إن البعض منهن قد حصلن على دعم من أقارب ومعارف العائلة الملكية الباقين على قيد الحياة.

وفي ظل عدم وجود أيِّ جثث لإثبات أنهن قد متْنَ، بدا مستحيلًا ترك آل رومانوف يرقدون في سلام.

figure
القيصر نيقولا وبناته في محبسهم بسيبيريا، في وقتٍ ما في مطلع ١٩١٨. (مكتبة بينيك للكتب النادرة والمخطوطات، جامعة ييل.)

•••

ومن بين مدَّعيات الانتماء لأسرة رومانوف الكثيرات، برزت واحدة. كانت تُعرَف بأسماء متعددة في مراحل مختلفة من حياتها، ولكنها كانت بالنسبة إلى مؤيِّديها دائمًا أنستاسيا.

جذبت هذه السيدة أنظار العالم إليها لأول مرة في فبراير ١٩٢٠، بعد أسبوعين من محاولتها الانتحار بالقفز في قناة لاندفير ببرلين. وبعد إنقاذها، رَوَتْ حكاية غريبة عن جنديٍّ بولندي أخرجها محمولة من القبو في يِكاتيرينبيرج وهي فاقدة للوعي، ولكن على قيد الحياة. وتمكنت بمساعدته من عبور روسيا في عربة. ووصلت إلى رومانيا، ثمَّ قررت التوجه إلى برلين لطلب المساعدة من عمتها الأميرة أيرين من بروسيا. ولكنها يئست من إقناع أيرين بهويتها وقررت بدلًا من ذلك إلقاء نفسها في النهر.

وقد لاقت قبولًا من عدد مذهل من الروسيين المنفيين، بعد ملاحظة الشبه الملحوظ بين السيدة التي تمَّ إنقاذها من القناة وأنستاسيا التي يُفترَض أنها ماتت. وكان من بين من صدقوها ابنُ عم نيقولا الثاني من الدرجة الأولى، الجراندوق أندريه. وابنة عم أنستاسيا نفسها، الأميرة زينيا. وفي نيويورك، حيث اتَّخذَت اسم آنا أندرسون، كانت المدَّعية محلَّ إعجاب واسع؛ فكانت تُدعَى للشراب وتناول الطعام من جانب العديد من وجهاء المجتمع الأثرياء المتلهفين لأنْ يُشاهَدوا برفقة الجراندوقة المزعومة.

ولكن سرعان ما وقف معظم أفراد عائلة رومانوف الأحياء ضد أندرسون. وفي أكتوبر عام ١٩٢٨، وقَّع اثنا عشر فردًا من أسرة رومانوف وثلاثة من أقارب ألكسندرا إعلانًا مشتركًا ينصُّ على أن «السيدة التي تعيش الآن في الولايات المتحدة … ليست الجراندوقة أنستاسيا.» وعلى عكس ما يُشاع، رفضت الإمبراطورة العجوز، جدة أنستاسيا، مقابلتها أو حتى سماع ذكر اسمها.

في عام ١٩٣٨، توجَّهت أندرسون بقضيتها إلى المحكمة، في محاولة للحصول على نصيبها مما تبقَّى من أملاك رومانوف. وكانت الأدلة ضدها قوية؛ فلم ينبُذها معظم أقاربها فحسب، بل إنه في عام ١٩٢٧ تعرَّفت عليها سيدة تُدعَى دوريس وينجندر، وأقرَّت بأنها فرانشيسكا شانتسكوسكا، وهي عاملة بولندية بأحد المصانع عاشت معها حتى عام ١٩٢٠.

كانت أندرسون بطلة صعبة المِراس بالنسبة إلى شخص يزعم أنه عاش حياةً توازي ما يُقرَأ عنه في قصص الجنيات. فكثيرًا ما كانت تتصرف بغطرسة وتعجرف، وتعادي حتى أقوى مؤيديها. وكانت ترفض التحدث بالروسية؛ ما عمَّق الشكوك تجاهها بأنها محتالة. وقد قدَّم مؤيدوها تفسيرات منطقية لذلك؛ فلِمَ ينبغي ألا تكون متغطرسة؟ فقد نشأت في العائلة الملكية. لِمَ ينبغي أن تتحدث الروسية؟ لقد كانت هذه هي اللغة التي ربطت بينها وبين الاغتيال الصادم لوالديها وأشقائها.

غير أن كل ذلك لم يشكِّل سوى حجة واهية. وبعد عدة تأجيلات، رفضت محكمة ألمانيا الغربية العليا استئنافها عام ١٩٧٠.

•••

كانت قضية آنا أندرسون في نظر معظم المؤرخين حدثًا ثانويًّا؛ فقد كانت الأحداث الأساسية تكمن في التحقيقات الدائرة داخل الاتحاد السوفييتي نفسه. وكان أول هذه التحقيقات هي تلك التي تولاها ذوو البشرة البيضاء، الذين استردوا يِكاتيرينبيرج بعد ثمانية أيام فقط من أحكام الإعدام التي يفترض وقوعها. وكلَّفت حكومة ذوي البشرة البيضاء نيقولا سوكولوف، وهو محقق محترف، بالتحقيق لمعرفة ما حدث لعائلة رومانوف.

استغرق سوكولوف ستة أعوام للانتهاء من تحقيقه. وفي ذلك الوقت بالطبع لم يكن البلاشفة قد استردوا يِكاتيرينبيرج فحسب، بل استردوا روسيا بأكملها، وكان لزامًا أن يُنشَر تقرير سوكولوف في باريس. وأعلن الكتَاب الذي نُشِر عام ١٩٢٤ أن إعلانَ البلاشفة الحمر المبدئيَّ لم يكن سوى كذبة؛ فقد زعم سوكولوف أن القيصر السابق لم يكن هو فقط من قُتِل يوم ١٨ يوليو، بل جميع أفراد العائلة. فبادئ ذي بدء، هناك شهادة الحارس بافل مدفيدياف، الذي ادَّعى عدم مشاركته في إطلاق النار، ولكنه سمع صوت الطلقات وشاهد الجثث في القبو. أشار سوكولوف أيضًا إلى أن مجموعة كبيرة من المجوهرات والمقتنيات الأخرى الخاصة بعائلة رومانوف قد عُثِر عليها في موقع إطلاق النار ومهوى المنجمِ القريب. وكانت هناك أيضًا برقية بتاريخ ١٧ يوليو، تمَّ الاستيلاء عليها، وفيها يخبر البلاشفة الحمر بيِكاتيرينبيرج موسكو بأن «العائلة قد شهدت نفس مصير رأسها.»

بعد عامين من صدور تقرير سوكولوف، أصدر السوفييت تقريرهم الذي كتبه بافل بيكوف. كان بيكوف متفقًا بشكل ملحوظ في الرأي مع سوكولوف؛ وكان الفارق المؤثر الوحيد في روايتهما للحدث أن سوكولوف قد قال إن الجثث أُحرقَت، بينما قال بيكوف إنها وُوريَتِ الثرى. وقد دحض تقرير بيكوف ما أنكره السوفييت على مدار ثماني سنوات؛ إذ أقرت الحكومة حينها بأن جميع أفراد العائلة قد ماتوا في يِكاتيرينبيرج، رغم أن بيكوف قد واصل الادعاء بأن القرار قد جاء من المجلس المحلي بيِكاتيرينبيرج وليس من موسكو. وقد كان بيكوف نفسه عضوًا من أعضاء المجلس المحلي.

أقنع تقريرا سوكولوف وبيكوف غالبيةَ العالم بأنه لا أحد من أفراد الأسرة الملكية قد نجا من المذبحة. وقرر معظم المؤرخين أنه إذا كان ذوو البشرة البيضاء والحمر قد تمكنوا من الاجتماع على قصة واحدة، فقد كان ذلك وحده سببًا وجيهًا لتصديقها. ولكن ظلت هناك شكوك لدى البعض، بعد ملاحظة أن سوكولوف وكذلك بيكوف لم يعثرا على أيِّ رفات للجثث ذاتها.

كان من بين المشككين صحفيان بريطانيان؛ هما أنتوني سامرز وتوم مانجولد، اللذان بحثا عن الملفات التي بنى عليها سوكولوف تقريره. فوجدا أن سوكولوف قد «أدرج بدقة كلَّ الأدلة التي أيَّدت فرضيته بأن المذبحة قد طالت سائر أفراد العائلة … إلَّا أنه حذف الأدلة التي كانت تلمح أو تقرر بشكل قاطع أن شيئًا آخر قد حدث.» وكان من ضمن هذه الأدلة شهادة مواطنين محليين بأن الملكة السابقة وبناتها قد رُصِدْن داخل يِكاتيرينبيرج وحولها «بعد» ١٨ يوليو.

وخلص سامرز ومانجولد إلى أن الإعلان السوفييتي الأصلي — الذي يفيد بأن القيصر السابق وحده هو من قُتِل — كان صحيحًا في الواقع. ففي محاولة منه لتصوير الحمر كوحوش متعطشة للدماء، تجاهل سوكولوف الأدلة التي تفيد بنجاة بعض أفراد الأسرة. ولكن لماذا يريد بيكوف، الذي يكتب نيابة عن لينين والقيادة السوفييتية، إخفاء حقيقة أن البلاشفة «لم» يقتلوا بقية أفراد العائلة؟

كانت الإجابة، بحسب سامرز ومانجولد، تتعلق بمفاوضات سرية بين السوفييت والألمان عُقدَت في مطلع عام ١٩١٨. كان الألمان يريدون إنقاذ ألكسندرا، التي كانت ابنة عم للقيصر فيلهلم. وكان لينين على استعداد تامٍّ لاستخدام العائلة كورقة مساومة لانتزاع تنازلات من الألمان. فأمر بإجلاء العائلة من يِكاتيرينبيرج، ولكن بعد ذلك انهارت الصفقة الألمانية، ولم يعد للعائلة أيُّ نفع. وفي تلك اللحظة هرب آل رومانوف أو قُتِلوا؛ لم يكن سامرز ومانجولد متأكدَين أيهما حدث. وفي كلتا الحالتين، كان الأمر برمته مصدر حرج للينين؛ لذا كان من الأسهل بالنسبة إلى بيكوف أن يكتفي بمجاراة قصة سوكولوف عن عملية إعدامٍ حدثت في يِكاتيرينبيرج. وكان الأفضل من ذلك أن يعترف بأن لينين قد استخدم أفراد العائلة كوسيلة، ثم قتلهم أو فقدهم.

رفض معظم المؤرخين فرضية سامرز ومانجولد. فقد كانت الأدلة على المفاوضات الألمانية عرضية على أقصى تقدير، وبعضها أشار إلى أن المحادثات، إن كانت قد حدثت من الأساس، قد أخفقت قبل يوليو. وكان هذا من شأنه أن يترك للينين الكثير من الوقت لتغيير خططه والسماح بالمضي في تنفيذ أحكام الإعدام في يِكاتيرينبيرج. أما بالنسبة إلى ملفات سوكولوف التي عثر عليها مؤخرًا، فقد أشار الكثير من المؤرخين إلى أن المحقق ربما يكون قد حذف من تقريره شهادات برؤية أفراد العائلة؛ لأنه ببساطة لم يصدقها. فنظرة واحدة عن كثب إلى الشهادة أشارت إلى أن الشهود كانوا «يعتقدون» أنهم رأوا بعض أفراد العائلة، ولكنهم لم يكونوا على يقين تامٍّ من رؤيتهم.

غير أن سامرز ومانجولد قد منحا أملًا جديدًا للحالمين الذين كانوا يأملون أن يكون أحد ورثة عرش رومانوف قد نجا بطريقة أو بأخرى. وكانت الوسيلة الوحيدة لوأد هذا الأمل هي العثور على جثث الضحايا، وفي سبعينيات القرن العشرين قرر صانعُ أفلامٍ روسيٌّ معروف، يُدعَى جيلي رابوف، أن يقوم بذلك.

•••

جاءت الانطلاقة الكبرى لرابوف في عام ١٩٧٨، حين اقتفى أثر الابن الأكبر لياكوف يوروفسكي، الرجل الذي كان مسئولًا عن حراسة آل رومانوف في يِكاتيرينبيرج. ومما أسعد رابوف أن يوروفسكي الصغير منحه نسخة من تقرير والده عن عملية الإعدام. وأكَّد التقرير نسخة بيكوف، التي جاء فيها أن الجثث قد دُفنَت ولم تُحرَق. والأفضل من ذلك أنه تضمَّن وصفًا دقيقًا لمكان الدفن؛ على بعد قرابة اثني عشر ميلًا شمال غرب يِكاتيرينبيرج.

جاءت الانطلاقة الثانية حين كوَّن فريقًا مع أحد السكان المحليين، ويُدعَى ألكسندر أفدونين، الذي كان على دراية بيِكاتيرينبيرج ولديه نفس القدر من الاهتمام بالعثور على الجثث. وفي ٣٠ مايو عام ١٩٧٩، ولدواعي سعادته وفزعه أيضًا، اكتشف رابوف ثلاث جماجم ومجموعة متنوعة من عظام بشرية أخرى في نفس المكان الذي قال تقرير يوروفسكي إن الجثث موجودة به. ولكن رابوف وأفدونين أصابهما الاضطراب والقلق حينها؛ فقد كانا لا يزالان في عصر ما قبل الجلاسنوست، ولا يعرفان تمامًا كيف يكون رد فعل السلطات إزاء اكتشاف رفات آل رومانوف، إن كان هو بالفعل. وقرر رابوف وأفدونين إعادة الرفات إلى مدفنه، وأقسما على ألَّا يخبرا أحدًا بما وجداه إلى أن تتغير الحال.

ولم يكن إلَّا بعد عشر سنوات لاحقة أن قرر رابوف أنَّ الوقت بات مناسبًا. وفي ١٠ أبريل عام ١٩٨٩، نشرت صحيفة موسكو نيوز الأسبوعية خبر العثور على رفات آل رومانوف في مستنقع بالقرب من يِكاتيرينبيرج. وبعد عامين، وصلت القوات الروسية إلى الموقع، واستخرجوا الرفات الذي أعيد دفنه، ووجدوا أيضًا بعض الجماجم، والضلوع، والفقرات، وعظام سيقان وعظام أذرع.

هل كان هذا الرفات لآل رومانوف؟ لمعرفة ذلك يقينًا، اضطر العلماء إلى مقارنة الحمض النووي المستخلص من الرفات بالحمض النووي المأخوذ من دم أحد أقارب رومانوف الأحياء. ولجأ العلماء البريطانيون، من بين آخرين، إلى الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث الذي تصادف أيضًا أن كان حفيد شقيق ألكساندرا؛ في ظل عالم الملكية الأوروبية المترابط. ووافق الأمير وتبرع بدمه. وفي يوليو عام ١٩٩٣، وبعد عشر سنوات من العمل، أعلن بيتر جيل وبافل إيفانوف أن الدليل المعتمد على الحمض النووي أكَّد لهم بنسبة ٩٨٫٥٪ أن هذا الرفات هو رفات آل رومانوف. وأشارت اختبارات لاحقة إلى درجة أعلى من اليقين.

أظهرت اختبارات الحمض النووي أيضًا، بشكل نهائي وقاطع، هوية آنا أندرسون. كانت أندرسون قد تُوفِّيت في عام ١٩٨٤، بعد أن تزوجت من طبيب ثري في تشارلوتسفيل، بولاية فيرجينيا. ولكن جيل استطاع الحصول على عينة من أنسجتها من أحد مستشفيات تشارلوتسفيل التي احتفظت بها بشكل روتيني بعد أن أجرت أندرسون عملية جراحية فيها. وقارن جيل الحمض النووي المأخوذ من الأنسجة بالحمض النووي المأخوذ من الرفات الذي عثر عليه في يِكاتيرينبيرج ولم يجد أيَّ تطابق بينهما. بعد ذلك، قارن الحمض النووي لأندرسون بعينة من مزارع ألماني يُدعَى كارل ماوخر، الذي كان حفيد أحد أشقاء القروية البولندية فرانشيسكا شانتسكوسكا، وكانت نسبة التطابق بينهما ١٠٠ بالمائة.

ظل هناك لغز واحد فقط. كانت مقابر يِكاتيرينبيرج تُؤوِي أجزاءً من تسعة هياكل عظمية، على الرغم من أن العائلة الملكية كانت تتألف من أحد عشر شخصًا — أفراد العائلة السبعة، والطبيب، والخدم — مما جعل اثنين من أفراد العائلة الملكية مفقودَين دون أي توضيح بشأنهما. كان واضحًا أن إحدى الجثتين المفقودتين هي جثة أليكسي؛ إذ لم يكن أيٌّ من الهياكل العظمية لصبي في الثالثة عشر. واختلف العلماء حول الهيكل العظمي الآخر؛ واستنتج فريق روسي أنه لماريا، في حين أصر فريق أمريكي زائر على أنه لأنستاسيا. وفي أيٍّ من الحالتين، فقد ترك ذلك باب الاحتمالات مفتوحًا أن يكون أحد ورثة العرش الروسي قد نجا من المذبحة التي وقعت في يِكاتيرينبيرج.

ولكنه حتى الحالمون والمناصرون للملكية (الذين لا يزال كثيرون منهم في روسيا) اضطروا للتسليم بأنه احتمال ضعيف للغاية. فقد وصَفَ تقرير يوروفسكي، شأنه شأن تقرير مدفيدياف، مشهدًا شديد الدموية تستحيل معه نجاة أليكسي؛ أو ماريا أو أنستاسيا. كذلك قدم تقرير يوروفسكي تفسيرًا للجثتين المفقودتين؛ إذ إنه تحت تأثير الارتباك، حسبما تذكر كبير السجانين، تمَّ دفن جثتين بمعزل عن بقية الجثث. ولو تمَّ اكتشافهما، كما يظل محتملًا، لأمكن إزالة أي شكوك باقية.

في غضون ذلك، في يوليو ١٩٩٨، أُعِيد دفن رفات نيقولا، وألكسندرا، وثلاثة من فتياتهما، وهذه المرة في سانت بطرسبرج، وفي احتفال مهيب؛ وإن لم يكن ملكيًّا. كان العديد من المؤرخين يرون أن موت آل رومانوف كان علامة على قدوم إرهاب الدولة وملايين الوفيات الأخرى التي ستصِمُ الحكم الروسي، في حين كان معنى عودة آل رومانوف إلى سانت بطرسبرج أقل وضوحًا بكثير.

لمزيد من البحث

  • Mark Steinberg and Vladimir Khrustalev, The Fall of the Romanovs (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1995). A useful collection of documents including letters between Nicholas and Alexandra, parts of their diaries, minutes of government meetings, and other official papers.
  • John F. O’Conor, The Sokolov Investigation (New York: Robert Speller & Sons, 1971). Includes translations of sections of Sokolov’s report, along with a harshly critical commentary.
  • Anthony Summers and Tom Mangold, The File on the Tsar (New York: Harper & Row, 1976). An impressive investigation of the investigator, even though the discovery of the Romanov bones ultimately disproved the Summers-Mangold theory.
  • Peter Kurth, Anastasia (Boston: Little, Brown, 1983). An entertaining albeit overly credulous investigation of Anna Anderson.
  • Edvard Radzinsky, The Last Tsar, trans. from the Russian by Marian Schwartz (New York: Doubleday, 1992). Radzinsky is a prominent Russian playwright, and that’s both the book’s strength and its weakness. As literature, it’s engrossing and evocative; as history, it’s frustratingly vague and undocumented.
  • Marc Ferro, Nicholas II, trans. from the French by Brian Pearce (New York: Oxford University Press, 1993). A solid though uninspired biography that’s undermined by Ferro’s belief that some family members survived.
  • Robert K. Massie, The Romanovs (New York: Random House, 1995). A thrilling historic and scientific detective story that’s especially good at describing the DNA evidence and the rivalries among the Russian, British, and American scientists.
  • Peter Kurth, Tsar (Boston: Little, Brown, 1995). A magnificently illustrated portrait of the lost world of Nicholas and Alexandra; even a Marxist historian couldn’t help but be moved by the snapshots of the family before and during their imprisonment.
  • Orlando Figes, A People’s Tragedy (New York: Viking, 1996). A comprehensive history of the Russian Revolution, from the end of the nineteenth century to the death of Lenin. Figes is scholarly and fair, yet he captures the passions of the period.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤