الروح الخالد

ذلك موقف التاريخ من الحلَّاج وحياته، وتلك هي المعركة التي دارت حول رسالته.

وقد آن للضمير الإسلامي أن يتحرر من سحر التهاويل المفتعلة، وضجيج الافتراءات الكاذبة، التي أحاطت بالحلَّاج وسيرته ورسالته.

ومن أدب القرآن، أن من قتل نفسًا ظلمًا فقد قتل الناس جميعًا، وكذلك من اتهم نفسًا ظلمًا فكأنما اتهم الناس جميعًا.

إن عرض الإنسانية وشرفها وكرامتها كلٌّ لا يتجزأ، والدفاع عن هذه المقدسات للناس كافةً رسالةٌ وأمانةٌ في أعناق الأقلام الحرة، والقلوب المؤمنة.

ومن كلمات النبوة الخالدة: «من أرخ مؤمنًا فكأنما أحياه.»

ونحن نأمل أن نكون قد وفينا حق هذه الأمانة، وأقمنا على الصراط المستقيم المضيء حياة رجلٍ يقف شامخًا على مرقاةٍ مضيئةٍ هاديةٍ، ليرشد الإنسانية إلى معراجٍ من الحب الإلهي يسمو بالوجود الإنساني، إلى سدرة الرجل الرباني، الذي يرتفع فوق الحياة، ليتخلق بأخلاق الله، ويقتات قلبه بنوره ورضاه.

رجلٌ عاش للمثالية الإيمانية، بكل ما يتسع له أفقها الرحب، وجاهد في سبيلها، وقدَّم دمه فداءً لها.

عاش للمثل العليا، تملأ نفسه، وتغمر روحه، وتضيء قلبه، وتفتح له آفاقًا فسيحةً في عالم الخير والحب والكمال، عاش ووجهه للسماء أبدًا.

عاش ليقدم للإنسانية صورةً من صور البطولة الروحية الشامخة، تتضاءل حيالها كافة الصور البطولية، التي تنبثق من كبرياء النفس وشهواتها.

عاش ليقدم البرهان المضيء على أن التصوف في جوهره هو أعلى صور التسامي، كما هو أعلى صور الجهاد والفداء.

عاش ليقدم الدليل الحي على أن الروح إذا ارتفعت إلى الله سبحانه صغرت الأكوان في نظرها، وهانت الأحداث في منطقها، فغدت بزهدها وترفعها، أعظم قوةٍ تهز عروش البغي، وتوجه أحداث التاريخ.

وبعد، فعلى مرمى السهم من الفرات، في قلب بغداد، يقوم ضريحٌ لا تنطفئ أنواره، ولا ينقطع رواده.

وإلى هذا الضريح تتجه قلوب الملايين، عبر القرون، وتحت قبابه أنشد جلال الدين الرومي روائعه، ورتَّل فريد الدين العطار أقوى ملاحمه، وترنم الجامي بنفحات أنسه، وفي ردهاته عقد صوفية الفرس والترك حلقاتهم التاريخية، وأنشد العابدون على ناي منصور أروع ألحان الروحانية الإسلامية.

ومن عجبٍ أن الضريح لا يضم جسدًا، ولا يحوي رفاتًا، لقد أُقيم رمزًا وذكرى، لروحٍ لمع في أفق الحياة، كما يلتمع الشهاب في أفق السماء، ثم احترق كما يحترق كل شهابٍ، يطل على الوجود، بنورٍ لا تحتمله العيون.

ذلك هو ضريح الحلَّاج الشهيد، الذي لا يضم رفاتًا؛ لأن الكون كله، هو الذي ضم رفاته، واحتضن ذراته.

وتلك آيةٌ من آيات الخالدين.

طه عبد الباقي سرور نعيم
٢٢ من ربيع الأول عام ١٣٨١ﻫ / ٢ سبتمبر عام ١٩٦١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤