الفصل الثاني عشر

في القدوة

قال جون سنرلن ما معناه:

كأنا وطيف الأقربين يزورنا
وإنْ أبعدتهم عن حمانا المقابر
جيوش إلى كسب الفخار تسابقوا
وأملاكهم تحتثُّهم أنْ يحاضروا

وقال جورج إليوت: أولادنا يموتون وأفعالنا تحيا، وحياتها خالدة في نفوسنا وفي غيرها.

وقال توما الملمسبري: لا عمل من أعمال الإنسان إلَّا وهو بداية سلسلة من النتائج التي تقصر عن إدراك نهايتها الحكمة الإنسانية.

***

القدوة معلم من أقدر المعلمين، مع أنها تعلم بلا لسان وهي مدرسة البشر العملية، وتعليم العمل أفعل من تعليم القول، والإرشاد يري الطريق، ولكن القدوة البكماء تسيِّر فيه، والنصيحة ثمينة ولكنها لا تفيد كثيرًا ما لم توافقها سيرة الناصح، وخير النصح: افْعَلْ كما أَفْعل، لا كما أقول. وكلُّ الناس مائلون طبعًا إلى أنْ يتعلموا بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم، والمرئي يؤثر أكثر من المقروء والمسموع، ويصدق هذا القول بنوع خاص على الأحداث؛ لأن عيونهم هي الباب الأوسع للمعرفة، فما يرونه يقتدون به وإنْ عن غير قصد، ولذلك تراهم يتمثلون بالذين حولهم، كما أنَّ الحشرات الصغيرة تتلون بلون النباتات التي تقتات منها، وإذا كان الأمر كما ذكرنا فلا شيء أفعل من التربية البيتية؛ لأنه مهما كان تأثير المدارس قويًّا يبقى تأثير البيوت أقوى، وعليه تتوقف صفات رجالنا ونسائنا، البيت جرثومة الهيئة الاجتماعية وأصل الصفات الأهلية، ومن هذا الينبوع تنبثق الآداب والأخلاق المتسلطة على الخاصَّة والعامَّة، وصفاء الدنيا وكدرها يتوقفان على صفاء البيت وكدره، والمحبة العائلية مصدر المحبة الوطنية، ومن هذه الدائرة الصغيرة تتولد دوائر كبيرة تعم العالم أجمع، وبما أنَّ القدوة تؤثر في حياة الناس تأثيرًا بليغًا بهذا المقدار وتميل بهم إلى الصلاح أو الطلاح؛ لذلك هي مهمة جدًّا حتى في الأمور الطفيفة، وصفات الوالدين تظهر في أولادهم، وأفعالهم المختلفة التي يمارسونها يوميًّا كالمحبة والاجتهاد وإنكار الذات وحسن السياسة، تحيا في أولادهم بعد أنْ يكونوا قد نسوا تعاليمهم التي سمعوها منهم بآذانهم من زمان طويل، ونظرة واحدة من الأب قد تبقى مؤثرة في الولد مدى الحياة، وكثيرون قد تجنَّبوا شرورًا كبيرة لئلا يهينوا اسم والديهم، وكلُّ أمر مهما كان طفيفًا يؤثر تأثيرًا بليغًا في أخلاق البشر، قال وست المصور: «إنَّ قبلة واحدة من أمي جعلتني مصورًا.» وعلى هذه الأمور الطفيفة تتوقف سعادة الصغار عندما يصيرون رجالًا. كتب فول بكستن لأمه بعد أنْ ارتقى منصبًا عاليًا يقول: «إنني أشعر على الدوام بنتائج المبادئ التي غرستِها في عقلي.» وكان بكستن هذا يقر بفضل رجل أمي يُسمَّى إبرهيم بلاستو، وكان هذا الرجل من الحكمة والاستقامة على جانب عظيم حتى شبَّه بكستن كلامه بخطب سنيكا وشيشرون، ولما التفت اللورد لنديل إلى قدوة أمه الصالحة، قال: إذا وضعت العالم بأسره في كفة ميزان وأمي في الكفة الأخرى رجحت عليه رجوحًا بليغًا. وكانت إحدى السيدات تذكر في شيخوختها ما كان لأمها من الهيبة في قلوب معارفها، فقالت إنها لم تدخل بيتًا إلَّا طهَّرت ما فيه وجعلت حديث أهله جليلًا قويمًا، وما ذلك إلَّا لاستقامتها التي جعلت لها هذا التأثير في قلوب الجميع.

ومن الأمور المهمة بل الرهيبة جدًّا أنَّ كلَّ عمل يعمله الإنسان وكل كلمة يتفوَّه بها، هي أساس نتائج عديدة لا يعرف نهايتها إلَّا الله وحده، ولكلٍّ منها تأثير في حياتنا وحياة غيرنا، فكل عمل صالحًا كان أو طالحًا يحيا ويثمر، وإنْ لم نرَ ثمره بعيوننا، وأرواح البشر لا تموت ولكنها تبقى حيَّة وتجول بين الأحياء، ولقد أصاب مستر دزرائيلي؛ إذ قال في مجلس العامة عند وفاة رتشرد كبدن: إنَّ هذا الرجل من الرجال الذين وإنْ غابوا عنا لا يزالون بيننا أعضاء في هذا المجلس.

وفي حياة الإنسان شيء من الخلود حتى في هذه الدنيا؛ لأنه ليس فرد من أفراد البشر إلَّا وهو عضو من أعضاء جسد العائلة البشرية، يعمل لزيادة خيرها أو ضَيْرها، وكما أنَّ الحاضر متصل بالماضي وحياة آبائنا لا تزال تؤثر فينا، فكذلك نحن سنؤثر في الأجيال الآتية بسيرتنا وأفعالنا اليومية، وما الإنسان سوى ثمرة أنضجتها القرون السالفة وأوصلتها إلى حالتها الحاضرة، وللجيل الحاضر هذا الفعل نفسه في الأجيال التالية، وهكذا سيرتبط الماضي الدابر بالمستقبل البعيد، وأفعال البشر لا تموت وإنْ ماتت أجسادهم وصارت هباءً منثورًا، بل تحيا إلى الأبد وتؤثر في حياة الأجيال العتيدة، وتثمر إثمارًا من نوعها إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًّا فشر، وقد أظهر ذلك مستر ببادج بعبارات بليغة لا بأس من إيرادها هنا. قال: «إنَّ كل ذرة تتحرك بالحركة التي حرَّكها بها الحكماء الفلاسفة، حتى إنَّ الهواء نفسه يشبه كتابًا كبيرًا، كُتِبَ على صفحاته كلُّ ما تفوَّه به بنو البشر، كل ما قالوه ولم يفعلوه أو وعدوا به ولم يفوه، فهو شاهد أزلي على تقلب إرادة الإنسان، ولكن إذا كان الهواء شاهدًا على أقوالنا فالأرض والبحار والهواء شهود أبدية على أفعالنا، وكما وضع الله القدير على جبهة القاتل الأوَّل علامة ظاهرة لجرمه، فكذلك سنَّ شرائع تُلْزِم كلَّ مذنب أنْ يقر بذنبه؛ لأن كل ذرة من جسده مهما تغيَّر وضعها لا تزال تتحرك بالحركة الأولى التي ارتكب بها ذلك الذنب.» لذلك كل فعل نفعله وكل كلمة نقولها، بل كل عمل نراه وكل قول نسمعه يؤثر في حياتنا تأثيرًا مستمرًّا، ويمتد تأثيره إلى الجنس البشري إجماعًا، ولا نقدر أنْ نتبع هذا التأثير بتفرعاته المختلفة بين أولادنا وأصحابنا ورفاقنا، لكن لا بُدَّ من أنه يتصل إليهم ويدوم امتداده مدى الأيام. ومن هنا نرى أهمية القدوة الحسنة التي هي مهذِّب أخرس — كما قلنا سابقًا — ويقدر عليها أفقر الناس وأحقرهم، ومهما كان الإنسان حقيرًا لا يزال مديونًا لغيره بهذا النوع من التعليم، ولا يُستغنَى عن تعليمه مهما كان حاله دنيئًا؛ لأن المنارة الموضوعة على رأس جبل تنير والموضوعة على سفحه تنير أيضًا، والرجل الحقيقي يُرى في كل أين وآن في أكواخ المزارع وقصور المدائن. ومن يحرث قطعة أرض تُقاس بالشبر يمكنه أنْ يكون قدوة لغيره في الأمانة والاجتهاد كمن يملك الألوف، وأحقر الحوانيت يمكن أنْ يكون مدرسة للاجتهاد والأدب أو وهدةً للشر والجهل. وكل شيء يتعلق على الإنسان واستخدامه للفرص التي يوجدها لنفسه.

ومن ترك لأولاده وللناس سيرة حسنة وقدوة صالحة، فقد ترك لهم إرثًا فاضلًا يردعهم عن الشر، ويحرضهم على الخير، ويغنيهم أدبيًّا وماديًّا، وحبذا من يقدر أنْ يقول كما قال بوب للورد هرفي: حسبي فخرًا أنني لا أخجل بوالديَّ ولم يخجلا بي. ولا يكفينا أنْ نقول للناس اعملوا كذا وكذا، بل علينا أنْ نعمل أمامهم، وما أحسن ما قالته إحدى السيدات وهو: إذا أردنا فعل شيء فعلينا أن نشرع فيه بيدنا. والكلام وحده لا يكفي، فإن كثيرين يحثون غيرهم على فعل هذا الشيء أو ذاك، ولكن كلامهم لا ينفع شيئًا ما لم يعززوه بفعلهم ولو كانوا من ذوي البلاغة والحجة.

إنْ قلتَ وَيْحك فافعل أيها الرجل
فكم رجال لنا قالوا وما فعلوا

وأصحاب الهمة والمروءة لا يقدرون أنْ يحركوا الناس للعمل ما لم يكونوا هم من أهل العمل، فلو قام توما رَيط وتبوأ كلَّ منبر وخطب في إصلاح شأن المجرمين، ولو قام يوحنا بوندس وملأ جرائد البلاد من الحث على إنشاء المدارس للمنقطعين، ولم يفعلا شيئًا ما استفادا شيئًا، ولكنهما لم يتكلما بشيء، بل شرعا في عمليهما بأيديهما، فنجحا وحرَّكا غيرة الناس للاقتداء بهما.

وهاك ما قاله الدكتور كُنري الواعظ المفلق الذي يُدعَى رسول مدارس المنقطعين، قال: «إنَّ رغبتي الشديدة في هذا العمل العظيم تبيِّن كيف أنَّ العناية الإلهية تجعل الأمور الطفيفة تؤثر في حياة البشر ومقاصدهم؛ لأنني انتبهت إلى وجوب إنشاء المدارس للمنقطعين من نظري إلى صورة في برج قديم، فإنني دخلت هذا البرج فوجدت فيه غرفة فيها كثير من الصور، وبينها صورة تمثِّل حانوت إسكاف، والإسكاف جالس وعويناته على أنفه وبين ركبتيه حذاء عتيق، وعلى وجهه أمارات الهيبة والوقار وعلو الهمة، وعيناه شاخصتان إلى جمٍّ من الصبيان والبنات الجالسين أمامه بثياب أخلاق وكتبهم في أيديهم، ثم التفتُّ وإذا بجانب الصورة كتابة يقول فيها: هذا هو يوحنا بوندس الإسكاف، وقد أخذته الشفقة على الأولاد المنقطعين المتروكين من القسوس والحكام والأسياد والسيدات لكي يطوفوا الأزقة في حالة يُرثَى لها، فجمعهم مثل راع صالح وعلَّمَهم وهذبهم؛ لأجل خيرهم ومجد الله، فانتشل من وهدة الهلاك ما ينيف على خمس مائة ولد، وهو يحصل خبزه بعرق جبينه. فعندما قرأت هذا الكلام خجلت من نفسي والتفتُّ إلى رفيقي وقلت له: حقًّا إنَّ هذا الرجل فخر للبلاد ويجب أنْ يقام له نصب من أرفع الأنصاب التي أقيمت في البلاد الإنكليزية، ثم راجعت تاريخ حياته فرأيت أنَّ قلبه كان مملوءًا من الشفقة والحنو، وعقله من الحكمة والدراية في اجتذاب الناس، وأنه كان يطوف الشوارع يستدعي الأولاد المنبوذين ليأتوا إلى مدرسته، ولم يكن يجبرهم على ذلك بقوة الحكومة، بل بإطعامهم قليلًا من الطعام، وإني لإخال عظماء الأرض وأشرافها الذين أطنب الشعراء بمدحهم وأقيمت لهم الأنصاب، قد وقفوا في ساعة الحساب الرهيبة وانقسموا إلى شطرين؛ لكي يجتاز بينهم هذا الرجل الخامل الذكر، وينال ثوابه من ذاك الذي قال: بما أنكم فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم.»

لا شيء يؤثر في الأخلاق مثل القدوة؛ لأن البشر مائلون طبعًا إلى الاقتداء بمن حولهم في العوائد والأخلاق والآراء، وإنْ لم يقصدوا ذلك. نعم، إنَّ الإنذار الحسن يفعل كثيرًا، ولكن القدوة الحسنة تفعل أكثر منه؛ لأنها مهذب عامل، ومن ينذر بكلامه وهو فاسد السيرة كمن يبني بيد ويهدم بأخرى؛ لذلك كان اختيار الرفاق أمرًا ضروريًّا ولا سيما في سن الصبوة؛ لأن في الشبان قوة خفية تجعلهم يتخلقون بأخلاق رفقائهم، ولله در القائل:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي

وهذا الأمر قد أوجب على بعضهم أنْ يقول إمَّا رفقة حسنة وإمَّا الانفراد، وما أحسن ما قاله المثل: اسأل عن جارك قبل دارك، وعن رفيقك قبل طريقك. قيل كتب اللورد كُلِنْود إلى صديق من الشبان يقول: الانفراد خير من مرافقة أدنياء القوم، فلا تصاحب إلَّا من كان مثلك أو أعلى منك؛ لأن الإنسان يُعرَف بأصحابه. وقد آلى السر بطرس لِلي المصور على نفسه ألَّا ينظر إلى صورة قبيحة؛ خوفًا من أنْ يكتسب قلمه منها شيئًا يفسد ذوقه، وكذلك من ينظر إلى شخص فاسد لا يلبث أنْ يكتسب منه شيئًا يضر به. قال الحكيم: المساير الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الجهَّال يُضَر. فعلى الشبان أنْ يعاشروا أفاضل القوم ويقتدوا بهم. وقال فرنسيس هرنر عما استفاده من معاشرته للعقلاء لا يسعني أنْ أنكر أنني استفدت منهم إفادة عقلية أكثر مما استفدت من كلِّ الكتب التي تصفحتها في حياتي. قيل: إنَّ اللورد شلبرن زار، وهو فتًى، الفاضلَ ملشرب واستفاد من هذه الزيارة فائدة كبيرة، حتى إنه قال فيما بعد إنني قد جلت في بلدان كثيرة، ولم أستفد من مخلوق قدر ما استفدت من تذكري مسيو ده ملشرب، وفول بكستون كان من أكثر الناس إقرارًا بفضل عائلة كرني عليه؛ لأنها ربَّت فيه كلَّ صفاته الحميدة، حتى إنَّ نجاحه في حياته توقَّف بنوع خاص على الأخلاق التي اكتسبها مدة إقامته في بيت تلك العائلة.

والالتصاق بالأفاضل يورث الفضل، كما أنَّ المرور بين النباتات العطرية يعطر ثياب السيَّاح، فإن الذين يعرفون يوحنا سترلن مثلًا يقولون إنه لم يجالسه أحد إلَّا استفاد منه. وكثيرون مديونون له؛ لأنهم بواسطته انتبهوا إلى رفع شأنهم، قال فيه مستر ترنتش: إنه لمن المحال أنْ تقترب منه إلَّا وتشعر أنَّ أفكارك قد ارتقت ارتقاءً عجيبًا، وهذا هو فعل العقول العجيب بعضها ببعض.

وبين الموسيقيين والمصورين فعلٌ وانفعال مثل هذا. قيل إنَّ هيدن سمع هندل يغني فاضطرمت في فؤاده رغبة شديدة في الغناء، ولما كان نرثكوت فتًى رأى المصور رينلدز في محفل، فاخترق الجمع المزدحم إلى أنْ وصل إليه، ولَمَس هدبَ ثوبِه، وقال إنه لما فعل ذلك ارتاح باله.

ومن ينكر أنَّ قدوة الأبطال تبث الشجاعة في قلوب الجبناء، حتى إنَّ الرجال المتوسطي القوة قد فعلوا العجائب؛ لأن قوادهم كانوا أبطالًا بُسَّلًا، قيل إنَّ زسكا أوصى بجلده أنْ يصنع طبلًا؛ لكي يحرك شجاعة البوهيميين، ولما مات إسكندر بك أمير أبيروس طلب الأتراك عظامه؛ لكي يحملوها بجانب قلوبهم فتتصل شجاعته إليهم، ولما كان البطل دكلس في إسبانيا رأى واحدًا من فرسانه محاطًا بالمسلمين وقد سدوا عليه طرائقه، فنزع ذخيرة قلب بروس من عنقه وطرحها في وسط العدو صارخًا: حارب وانتصر حسب عادتك فسأتبعك أو أموت. قال هذا وهجم إلى حيث سقطت الذخيرة ولم يرتد حتى قُتِل.

وفائدة ترجمات البشر تخليد ذكر الرجال الذين يحق أنْ يُقتَدى بهم، فإنا نجد فيها آباءنا أحياء في سيَر حياتهم وفي الأعمال التي عملوها نعم، ونراهم يحثوننا على المعروف وينهوننا عن المنكر، ومن مات وترك وراءه مثالًا حسنًا، فقد ترك لنسله وغيرهم أفضل تركة، وستبقى أثمارها مدى الأيام. وأنفع الكتب كتاب يتضمن حياة رجل فاضل، وقلَّ من يقرأ سيرة الرجال الأفاضل إلَّا ويشعر كأن حياة جديدة قد دخلت عقله وقلبه، وكثيرًا ما يحدث أنَّ سيرًا كهذه تنبه القوى الخامدة، فينتبه الإنسان إلى نفسه، ويرى أنَّ فيه موهبة لبعض الأمور وهو غير شاعر بها، كما حدث لكرجيو لما قرأ مؤلفات ميخائيل أنجلو. قال السر صموئيل روملي في تاريخ حياته إنه استفاد كثيرًا من قراءة سيرة الفاضل داكسُّو الفرنساوي، ونسب فرنكلين شهرته إلى قراءته مقالات ماثر، وقال صموئيل درو إنه درَّب حياته على أنموذج فرنكلين. فانظر كيف يتصل فعل القدوة الحسنة بالتسلسل، ولا يمكننا أنْ نحكم أين تكون نهايته إذا كانت له نهاية، لذلك علينا أنْ نختار الكتب الفضلى ونقتدي بالشيء الأحسن فيها، كما أنه علينا أنْ نختار العشراء الأفضلين. قال اللورد ددلي: إنني مغرم بالاقتصار على الكتب المفيدة التي طالعتها وعرفت فائدتها، وأشهد أنَّ قراءة كتاب عتيق مرة ثانية أفضل من قراء كتاب جديد لم يُقرَأ قبلًا، وإنْ لم تكن ألذ منها.

ويحدث أحيانًا أنْ يأخذ إنسان كتابًا لمجرد التسلية، فيرى فيه سيرة تؤثر فيه تأثيرًا بليغًا، وتنبه فيه قوة كانت خاملة، مثال ذلك أنَّ ألفياري مال إلى الإنشاء بقراءة سيرة فلوطرخس. ولويولا لما كان في الجند انجرح جرحًا بليغًا في رجله ونُقِل إلى المستشفى، فطلب كتابًا يتسلَّى به فدفع إليه كتاب حياة القديسين، فتأثر تأثيرًا بليغًا من مطالعته، حتى إنه عزم من ذلك الوقت أنْ ينشئ طغمة دينية جديدة. ولوثر تحرك إلى الإصلاح بقراءة سيرة يوحنا هس. والدكتور ولف تحرك إلى التبشير بقراءة حياة فرنسيس زفير. ووليم كاري انبعث إلى فوائده أول ميل إلى التبشير بقراءة أسفار القبطان كوك. وكان من عادة فرنسيس هُرنر أنْ يذكر في مفكرته ومكاتيبه أسماء الكتب التي استفاد منها أكثر ما يكون، ومن جملة ما ذكره ترجمة هلر لكندُرْسَت، ومحاورات السر يشوع رينلدز، ومؤلفات باكون، وسيرة السر متى هال لبرنت، فهذه الكتب ولا سيما الأخير حرَّكت نشاطه، بل أضرمته غيرة واجتهادًا، ولقد قال عن ترجمة هلر: إنني لا أقرأ سيرة إنسان مثل هذا إلَّا وأشعر بنوع من خفقان القلب، ولا أعلم إلى أي شيء أنسبه إلى الانذهال، أم إلى الطمع، أم إلى اليأس. وقال عن محاورات السر يشوع رينلدز ما من كتاب بعد كتب باكون اقتادني إلى تهذيب نفسي مثل هذه المحاورات، وإني أعدُّ الرجل الذي يظهر للعالم كيفية البلوغ إلى العظمة من أحكم الناس. وهذا شأن هذا المؤلف، وهو يثبت أنَّ البشر قادرون على عمل كل شيء يجتهدون فيه إثباتًا يضطر القارئ إلى الاعتقاد بأن الموهبة الفائقة ليست هبة خاصة ببعض الناس، بل ملكة مكتسبة، وأنَّ الجميع قادرون على نوالها، ومن الغريب أنَّ السر يشوع نفسه تحركت فيه محبة التصوير بقراءته سيرة واحد من مشاهير المصورين، وكذلك تحركت محبة التصوير في هيْدَن بقراءته سيرة رينلدز هذا، فكانت سيرة الواحد شعلة لإضرام قوى الآخر وبعثها في سبيل المجد، وإذا دققنا النظر رأينا في الدنيا سلسلة غير منقطعة من الناس الذين تمثَّلوا بمن قبلهم، وكانوا مثالًا لمن بعدهم.

ومن الأمثلة التي يمكننا أنْ نعرضها على الشبان ليقتدوا بها، مثال العامل المسرور بعمله؛ لأن السرور زيت النفس يسهل حركتها ويزيد مرونتها، وبه تزول المصاعب، ويزداد الرجاء، وتُغتَنم الفرص، والروح الحارة تكون مسرورة دائمًا ونشيطة، وتعمل أعمالها بسرور، وتحرك الغير إلى الاقتداء بها، وترفع شأن أحقر المصالح. وأتم الأعمال ما يعمله الإنسان من قلبه ويعمله بسرور. كان من عادة هيوم أنْ يقول إنه يفضل الطبع الميال إلى السرور على عقارٍ دخله عشرة آلاف ليرة مع طبع ميال إلى الغم. وكان كرنفيل شَرْب يسلي نفسه في وسط أتعابه الشاقة في أمر تحرير العبيد باللعب على آلات الطرب والرسم، وفول بكستن كان دائمًا جزلًا، وكان يشترك مع أولاده في اللعب واللهو وركوب الخيل، والدكتور أرنلد كان يفرح بكل أعماله، وكل ما عمله عمله بكل قلبه، قيل في ترجمته: «إنَّ أغرب ما في للهام حيث كان يعلم نشاطُ من فيها وهمتهم، حتى إنَّ كل من يدخلها يرى أنَّ أهلها عاملون عملًا عظيمًا، وكل تلميذ مشترك فيه، وكل منهم مسرور سرورًا لا يوصف؛ لكونه عاملًا عملًا نافعًا وقلبه مشغوف بعمله الذي علَّمه أنْ يعتبر الحياة والعمل المعيَّن لها، وأساس ذلك كله استقامة أرنلد وحسن إرشاده واعتباره للعمل، ولم يصدر هذا عن هوًى ولا عن ميل لعمل دون آخر، بل عن شعور عميق ثابت بأن العمل من واجبات الإنسان، وهو الغاية من قواه المختلفة، والميدان الذي تتروض فيه طبيعته وتترقَّى فيه نحو السماء.»

لم يقم في هذه الدنيا على ما نظن رجل أفاد أهله وجيرانه بسيرته واجتهاده الممزوج بالسرور، أكثر من السر يوحنا سنكلر. كان لهذا الرجل أملاك متسعة في شمالي اسكتلندا اتصلت إليه بالإرث من أبيه، ولما بلغ الثامنة عشرة أخذ يصلح أملاكه بنشاط لم يسبقه إليه أحد، فامتدت إصلاحاته حالًا في كلِّ اسكتلندا، وكانت الزراعة حينئذٍ في حالة يُرثَى لها؛ لأن الحقول كانت تُغمَر بالمياه مدة طويلة، وكان الفلاحون في غاية المسكنة ولم يمكنهم أنْ يشتروا شيئًا من الدواب، بل كانت نساؤهم تحمل كلَّ الأحمال، حتى إنَّ من احتاج دابة كان يتزوج بامرأة، وكانت البلاد بدون طرق والأنهار بدون قناطر، وكان هناك طريق وعرة في لحف جبل يشرف على البحر، فعزم على فتح طريق أخرى فازدرى به أصحاب الأملاك، ولم يصدقوا أنه يفعل ذلك لكنه جمع نحو ألف ومائتي رجل، واقتادهم إلى هذا العمل العظيم بنفسه، وقبل أنْ خيم الليل فتح طريقًا طوله ستة أميال تسير فيه المركبات بسهولة، مع أنه كان يتعسر سلوكه على المعزى، فانذهلوا منه وانقادوا إلى رأيه، ثم جعل يفتح الطرق ويقيم المطاحن، ويبني القناطر على الأنهر، ويحسن حال الزراعة بزرع الأرض أنواعًا عديدة بالتعاقب، وإعطاء الجوائز تشجيعًا للمجتهدين، فأحيا الهيئة الاجتماعية في كلِّ البلاد المجاورة له، حتى صارت تلك البلاد جنة يُضرَب بها المثل في الخصب وحسن الطرق، ولما كان حدثًا كان البريد يحمل إلى ثرسو مرة واحدة كل أسبوع، فعزم على جعله يحمل كل يوم، وفي أول الأمر لم يصدق أحد بإمكان ذلك، حتى صار قولهم: «متى رأى السر جون البريد في ثرسو يوميًّا.» مثلًا يضربونه للمستحيل أو البعيد الوقوع، ولكنه لم يمت حتى رأى البريد في ثرسو يوميًّا.

ثم اتسع نطاق أعماله المفيدة؛ لأنه لما رأى أنَّ الصوف الإنكليزي الذي هو فرع معتبر من تجارة البلاد قد انحطَّ كثيرًا، عزم أنْ يصلحه، ولم يمضِ عليه إلَّا مدَّة قصيرة حتى أنشأ مجمع الصوف البريطاني، وجلب ثماني مائة رأس غنم على نفقته من البلدان البعيدة، وكانت النتيجة إدخال الجنس الشفيوتي إلى اسكتلندا، وأول ما جاهر بهذا الأمر استهزأ به مربو المواشي، زاعمين أنه لا يمكن لمواشي البلدان الجنوبية أنْ تنمو في الشمال، ولكنه لم يبالِ بهم، بل أصرَّ على إتمام ما قصده، ولم يمضِ إلَّا سنون قليلة حتى صار في البلاد ما ينيف على ثلاث مائة ألف رأس من الغنم الشفيوتية، فارتفعت أسعار الأراضي الجيدة للرعاية ارتفاعًا بليغًا.

ثم انتُحب عضوًا في البرلمنت لمقاطعة كثنس، وبقي في هذا المنصب ثلاثين سنة، فصارت لهُ فرص كثيرة لإظهار فوائده، فإنه لما رأى مستر بت الوزير مواظبته واجتهاده في كل أمر مفيد للجمهور، دعاه وعرض عليه مساعدته في كلِّ ما يريد، فأجابه على الفور: إنني أطلب مساعدتك في إنشاء مجلس وطني للزراعة. ويروى أنَّ أرثر ين تراهن مع السر يوحنا على أنَّ هذا الأمر لا يتم أبدًا، وهذا كلامه حرفيًّا: «إنَّ مجلس الزراعة الذي تحلم به سيكون في القمر.» ولكن السر يوحنا أخذ في هذا الأمر بهمته المعتادة، فحرَّك ميل الجمهور وأكثر أعضاء البرلمنت، ولم ينفك عن عزمه حتى أنشأ هذا المجلس وانتُخب رئيسًا له، ونتائج هذا المجلس وفوائده أوضح من أنْ تُبيَّن وأكثر من أنْ تعدَّد. ولما سمع أنَّ فرنسا عازمة على الحملة على إنكلترا، عرض على مستر بت تجهيز كتيبة من الجند على نفقته، ثم مضى إلى الشمال وجرَّد نحو ألف من المتطوعة واستلم قيادتهم، وكان حينئذٍ مديرًا لبنك اسكتلندا، ورئيسًا لمجمع الصوف البريطاني، وحاكمًا لوِك، ومديرًا لمجمع صيد السمك البريطاني، وعضوًا في مجلس القوائم الدولية وفي البرلمنت لمقاطعة كثنس، ورئيسًا لمجلس الزراعة، وفيما كان يشتغل في هذه الأشغال الكثيرة التي لا يقوم بها رجلان ولا ثلاثة، وجد وقتًا لتأليف كتب تكفي وحدها لتخليد اسمه. قال مستر رش سفير أميركا في لندن إنه سأل مستر كك الهلكهامي: ما أفضل كتاب في الزراعة؟ فأجابه: كتاب السر يوحنا سنكلر، ثم سأل مستر فنسترت: ما أفضل كتاب في مالية الدولة الإنكليزية؟ فهداه إلى كتاب للسر يوحنا في هذا الموضوع، ولكن الكتاب الذي خلَّد ذكره أكثر من غيره هو كتابه في حالة اسكتلندا السياسيَّة والماليَّة في واحد وعشرين مجلدًا، وهو من أفضل ما سمحت به قريحة إنسان في كل أين وآن، وقد قضى في تأليفه ثماني سنوات قرأ في غضونها أكثر من عشرين ألف مكتوب في موضوع هذا الكتاب، ولم يكن له منه فائدة شخصية سوى شرف الاسم؛ لأنه وهب دخله لتهذيب أولاد القسوس الاسكتلنديين، ولقد نتج من طبع هذا الكتاب نتائج كثيرة حميدة، منها إلغاء بعض الامتيازات المضرة بصالح الجمهور، ورفع أجرة القسوس والمعلمين، وترقية شأن الزراعة، ثم قصد أنْ يباشر عملًا أعظم من هذا، وهو جمع كتاب شبه الأول في أحوال إنكلترا السياسيَّة والماليَّة، فلم يوافقه رئيس أساقفة كنتربري؛ مخافة أنْ يتعرَّض لأعشار القسوس.

ومن الأمور الكثيرة التي تظهر علوَّ همته، ومضاء عزيمته الحادثة الآتية، وهي أنه في سنة ١٧٩٣ توقف دولاب الأعمال بواسطة الحرب، فأفلس كثير من تجار منشستر وكلاسكو، وأضحت بيوت كثيرة عظيمة على حافة الإفلاس لا لقلة مقتنياتها، بل لانغلاق باب التجارة والأمانة (كرديتو)، فارتأى السر يوحنا في البرلمنت أنْ تصدر الدولة أوراقًا دولية بقيمة خمسة ملايين ليرة، وتديِّنها للتجار الذين يقدرون أنْ يقدموا كفالة، فقُبِل هذا الرأي وفوِّض إليه مع بعض الأعضاء الذين انتخبهم بنفسه إتمام هذا العمل، وكان الوقت حينئذٍ ليلًا، وبما أنه خافَ من تأجيل الأمر، قام صباحًا ومضى إلى الصيارفة واستقرض منهم بكفالتهِ سبعين ألف ليرة وأرسلها في ذلك اليوم إلى التجار، ثم التقى بهِ مستر بت في المجلس وأخذ يتأوه؛ لأنه لا يمكن أنْ تفرج منسشتر وكلاسكو في وقت قصير كما كان يظن، زاعمًا أنه يلزم عدة أيام لجمع الدراهم اللازمة، فأجابه السر يوحنا أنَّ الدراهم قد مضت من يومين، ثم قصَّ عليه واقعة الحال فانذهل بت كلَّ الانذهال، وما زال هذا الفاضل آخذًا في أعماله باجتهاد وسرور إلى آخر حياته، فصار مثالًا حسنًا لعائلته ولأهل بلاده، بل شامة في وجنة بريطانيا، وقد أحرز الخير لنفسه وهو يطلب خير غيره لا في الثروة، بل بما ناله من السرور والراحة الداخلية، والسلام الذي يفوق كلَّ عقل، وتمَّم واجباته لوطنه، ولم ينسَ واجباته لأهل بيته، وبنوه وبناته ارتقوا في درجات المجد، وأعظم ما كان يفتخر به عندما ناهز الثمانين أنه ربَّى سبعة بنين، وما منهم من استدان مالًا لا يقدر على إيفائه، أو أحزن أباه بعمل شيء وكان تجنبه ممكنًا له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤