الفصل الثامن والثلاثون

السريالية

حاولتُ أن أُومئَ برأسي وأبتعدَ في الوقت نفسه، ولكن ركبتيَّ كانتا ترتعدان بشدةٍ لدرجة أنني بدلًا من أن أتَّجه إلى السلَّم، دنوتُ أكثرَ فأكثر من القصعة كأنني أبو جلمبو، ولما أصبحت في متناولها، قامَت فجأةً برشقِ السكين المدبَّبة في ظهري، فقفزتُ وأنا أصرخ من الألم إلى الشوربة التي تغلي وتصلَّبتُ في لحظة من الألم الدافق مع رفاق محنتي، جزرة وبصلتان.

هديرٌ قويٌّ تَتْبعه قرقعاتٌ، وها أنا ذا واقفة خارج القصعة أقلِّب الشوربة التي أستطيع أن أرى فيها لحمي، مرفوعة القدمين، وأنا أغلي مثلي مثل أي قطعة من لحم البقر، وأضفتُ ذرَّة ملح وبعض الفلفل ثم غرفتُ قدرًا إلى طبقي الجرانيتي، ولم تكن الشوربة في جودة الحساء المتبَّل بالبهارات، ولكنها كانت يخنة جيدة ومناسِبة تمامًا للجو البارد.

ومن الناحية النظرية البحتة، تساءلتُ: أي واحدة منَّا نحن الاثنتين هي أنا، ولما كنتُ أعرف أن عندي قطعةً مصقولة من الزجاج البركاني الأسود في مكان ما من الكهف فقد بحثتُ عنها كي أستخدمَها كمرآة. أجل، كانت هناك، معلَّقةً في ركنها المعتاد بالقرب من عشِّ الوطواط، وتطلَّعتُ إلى المرآة. ورأيتُ بادئ الأمر وجهَ رئيسة دير «سانتا باربارا دي تارتاروس» يُكشر في وجهي على نحوٍ ساخر، واختفَت ثم رأيتُ العينَين الهائلتَين وزبانات ملكة النحل التي غمزَت بعينها ثم حوَّلت نفسَها إلى صورة وجهي، الذي بدَا أقلَّ تشويهًا ربما بسبب السطح القاتم للزجاج البركاني.

ليونورا كارينجتون: بوق السمع (١٩٧٦)

تُعرَف السريالية على نحوٍ أفضل وتُحدَّد بصورة أسهل في الفنون المرئية عنها في الأدب؛ فدالي وديشامب ومارجريت وإرنست، كلُّهم شخصياتٌ راسخة في تاريخ الفن الحديث، بَيْد أن هناك فرعًا أدبيًّا للحركة السيريالية، ظهر في العشرينيات والثلاثينات من القرن العشرين، من بين تجارب الحداثيِّين والدادائيِّين، وكان المُنظِّر الرئيسي للسريالية شاعرًا، هو «أندريه بريتون»، الذي أعلن أن الحركة تقوم على «إيمان بالصفة الأسمى لبعض أشكال الترابط بين الأشياء، وهي أشكال كانت مهملةً حتى الآن، إيمان بقوة الحلم المطلقة، وبدَور الفكر النزيه».

و«ليونورا كارينجتون» مثالٌ نادر للفنان السريالي الملتزم بالأشكال المرئية وبالألفاظ على حدٍّ سواء. وقد أثار معرضٌ استرجاعيٌّ للوحاتها، أُقيم مؤخرًا في صالة «سربنتاين» بلندن، اهتمامًا واسعًا؛ كما أن رواياتها وقصصها التي نُشرت في صمتٍ إلى حدٍّ ما، بعدة لغات، وفي فترات متباعدة عبر عدة عقود، قد بدأَت تجذبُ انتباهَ النقَّاد، خاصة أولئك المهتمين بالنزعة النسوية، وهي قد وُلدت في إنجلترا، وكانت جزءًا من عصر السيريالية البطولي في باريس ما قبل الحرب؛ حيث كانت تعيش مع «ماكس إرنست» سنواتٍ عديدة قبل أن ترحل إلى المكسيك والولايات المتحدة. ويُنظر الآن إلى أعمالها بوصفها رائدة من رواد التجريب ما بعد الحداثي، خاصة من قِبَل الفنانات والكاتبات، مثل أنجيلا كارتر وجانيت ونترسون، اللواتي يستخدمن عناصر سيريالية، كيما يهدمنَ الافتراضاتِ الثقافيةَ التي تركِّز على هيمنة الرجل.

والسيريالية ليست هي تمامَ الواقعية السحرية، التي ناقشتُها مُسبقًا (الفصل الرابع والعشرون)، رغم أن هناك أوجهَ شبهٍ كثيرة تجمع بينهما؛ ففي الواقعية السحرية، توجد دائمًا رابطةُ توتُّر بين الواقعي والخيالي؛ فالحادثة المستحيلة الوقوع هي نوعٌ من الاستعارة التي تُصوِّر مفارقاتِ التاريخ الحديث الحادة، أما في السيريالية، فالاستعارة تُصبح هي الواقع، فتطمس عالمَ العقل والإدراك العام، ويفضِّل السيرياليون أن يُشبِّهوا فنَّهم، بل ويُحددوا مصدرَه بعالمِ الأحلام التي يعمل فيها اللاوعي، كما يبيِّن فرويد، على كشفِ الرغباتِ والمخاوف الدفينة على هيئة صِوَر حيَّة وسياقٍ سردي مثيرٍ للدهشة، لا يحدُّه المنطق الذي يسودُ حياتَنا الواعية، ويمكن الدفع بأن أول رواية سيريالية عظيمة في اللغة الإنجليزية، هي «أليس في بلاد العجائب»، وهي قصة حلم، وتأثيرُها واضح في هذه القطعة المقتبسة من رواية كارينجتون «بوق السمع»؛ في الخلط بين الصور القاسية والمتنافرة، وبين الصور العادية والطبيعية، وفي السرد الواقعي لأحداث خيالية، وفي رُؤَى الوجوه المتعاقبة التي تنعكس في المرآة المصنوعة من الزجاج البركاني الأسود.

والذي يقصُّ الروايةَ سيدةٌ إنجليزية في التسعين من عمرها تُدعَى «ماريون ليذربي»، وهي على ما يبدو تعيش في المكسيك مع ابنها «جالاهاد» وزوجتِه «مورييل»، وماريون صمَّاء تمامًا، ولكن في ذات يومٍ تُعطيها صديقتُها كارميلا بوقَ أذنٍ ذا حساسية فائقة، وتستطيع بواسطته أن تسترقَ السمع على ابنها وزوجته، وهما يُخططان لنقلها إلى منزل للمسنَّات، وهذا الجزء من أوائل الرواية مكتوب بطريقة مسلية جدًّا، وبأسلوب مليء بالنزوات والغرابة، يمكن أن يكون «طبيعيًّا»، بوصفه الأفكارَ الخاصة لعجوز ذكية وإن كانت مضطربة:

الزمن، كما نعرف كلُّنا، يمرُّ، أما إذا كان يعود على الحال نفسه، فذلك أمرٌ فيه شكٌّ، وثَمة صديق لم أذكره حتى الآن لأنه غائب، قال لي إن عالَمين: ورديًّا وأزرق يتقابلان في ذرَّاتٍ كسِرْبَين من أسراب النحل، وحين يصطدم زوجٌ من اللآلئ المختلفة اللون أحدهما بالآخر، تقع معجزات. وكل هذا له علاقةٌ بالزمن، بالرغم من أنني أشكُّ أن باستطاعتي أن أشرح ذلك على نحوٍ صحيح.

بَيْد أنه حالما تَدْلِف ماريون إلى منزل المسنَّات، تَتَّخذ الأحداث طورًا يتزايد خيالية؛ فمثلًا في حجرتها:

كان الأثاث الحقيقي الوحيد فيها كرسيًّا من الخيزران ومنضدة صغيرة، والباقي كله مرسوم، أعني أن الجدران كانت مرسومةً بالأثاث غير الموجود، كان الرسم دقيقًا لدرجة أنني خُدعتُ به لأول وهلة. وحاولتُ أن أفتحَ الدولاب المرسوم، وخزانة بها الكتب وعناوينها، وثَمة نافذةٌ مفتوحة وعليها ستارةٌ تهفُّ في مسار الهواء، أو بالأحرى، كانت ستهفُّ لو أنها كانت ستارةً حقيقية … وكان كلُّ هذا الأثاث ذي البُعد الواحد، له أثرٌ يغمر النفسَ بالكآبة على نحوٍ غريب، كما لو اصطدم أنفُ المرء ببابٍ من زجاج.

وتُدير المؤسسةَ امرأةٌ متسلطة من طائفة المسيحيِّين الجدد، والتي تتمرَّد عليها الراويةُ وصديقاتُها في النهاية، بعد أن شجعتهنَّ على ذلك لوحةٌ لراهبة تغمز بعينَيها على نحوٍ غامض، كانت معلَّقةً على جدار غرفة الطعام، وهذه الراهبة معروفةٌ بأنها كانت رئيسةَ ديرٍ في القرن الثامن عشر، تمَّت رسامتُها قديسة، ولكنها في الواقع كانت تعبد الأم الأولى، أو إلهة الخصب، المرتبطة بنِحلة أفروديت، والتي تظهر للقاصَّة في صورة ملكة النحل، وتتطور القصة لتُصبح إعادة سرد على النحو الوثني الجديد، والنزعة النسوية لأسطورة الكأس المقدَّسة، تحفُّ بها أحداثٌ طبيعية عن نهاية العالم، وعصرٌ جليدي جديد وزلزال، وثَمة برج ينشقُّ ليُظهرَ سُلَّمًا تهبط عليه الراوية، لتدخلَ العالم الأرضي، حيث تُصادف مثيلةً لها تُحرك قصعة، وتمرُّ بالتجربة الواردة في القطعة المقتبسة من الرواية. وإن قسمة الموضوع إلى راصد ومرصود، إلى «اللحم» والطباخ، هو عاملٌ يتصف بإضفاء الأثر الحلمي، كما في المقابلة بين عبارة «أضفتُ ذرةً من الملح وبعض الفلفل»، وبين صورة أكل اللحوم البشرية العنيفة الرهيبة، ومثل هذه اللمسات الفكاهية، هي من صفات الفنون السيريالية الفُضلَى، التي بدونها يُصبح العملُ الفنيُّ طنانًا فارغًا، ومُطلَق العنان على نحوٍ مزعج، ومن حسن الحظ، أن «ليونورا كارينجتون» لها من اللماحية قدر ما تتمتع به من ذكاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤