الفصل الثاني والأربعون

التضمين

«ألَا تعتقد أنه يحسن بك الابتعاد عن النافذة يا عزيزي؟»

«لماذا؟»

«ليس عليك أيُّ ملابس.»

«أحسن وأحسن …» واحترامًا لرقَّتِها، أغلقتُ النافذة بدون أن أعرفَ نهاية العبارة التي كنت أقولها.

كانت تبتسم لي. وتوجهتُ إليها ووقفتُ إلى جوارِها. كانت تبدو فاتنةً، تستندُ إلى أحدِ مرفقَيها، وشعرُها الفاحم يغمر كتفَها العاري الناعم. وتطلَّعتُ من أعلى إلى قمة رأسها.

وفجأة، نفثَت.

قالت: «ألبرت العظيم».

ولي أن أذكر أن اسمي ليس «ألبرت». اسمي جو. جولان.

ونظرَت «ميرتل» نحوي في تساؤل ماكر.

وأعتقد أنني ابتسمتُ.

وتوقفتْ بعد برهة.

قالت في نبرة تفكير عميق: «الرجال محظوظون». ولم أَقُل أنا شيئًا: فقد اعتبرت أن هذا الوقت ليس وقتَ ملاحظات فلسفية. وحملقتُ في الجدار المقابل.

وتوقفتْ آخر الأمر.

«والآن؟» ونظرتُ إليها في الوقت الذي استرخَت فيه وقد بدا على وجهها تعبيرُ الدهشة.

قلت: «سيتعيَّن عليكِ الآن انتظار الشاي مرة أخرى.»

فأطلقَت ميرتل زفرةً ثقيلة لامبالية، وكانت عيناها مغلقتَين. وتناولنا الشاي في الوقت المحدد.

وليان كوبر: مشاهد من الحياة في الأقاليم (١٩٥٠)

من المستحيل كتابةُ وصفٍ شامل جامع لأيِّ حدث، ومن ثَم فإن كلَّ الروايات بها فراغاتٌ وإغفالات، ويتعين على القارئ ملءُ تلك الفراغات والإغفالات من أجل «إخراج النص» (كما يقول نقَّاد ما بعد البنيوية)، بَيْد أنه في بعض الحالات، تكون هذه الفراغات والإغفالات، نتيجة مراوغات أو كتمان غير شعوري من جانب المؤلف (وهذا ما يزيد الأمر أهمية)، بينما تكون في حالات أخرى استراتيجية فنية واعية، للدلالة الضمنية بدلًا من التصريح المباشر.

والتضمين تكنيكٌ مفيد بصورة خاصة عند معالجة الأمور الجنسية. ولقد كانت الرواية دائمًا مهتمةً بصورة رئيسية بالجاذبية والرغبة الإيروسيتين، ولكن الوصف الصريح للسلوك الجنسي في القصص الأدبي، كان، إلى وقت قريب، ممنوعًا. والتلميح كان أحد الحلول.

سألَت أمي: «يا عزيزي، هل نسيتَ أن تملأ الساعة؟» … فصاح أبي: «يا إله السماوات …» «هل قاطعَت امرأةٌ ما منذ خلق العالم رجلًا بمثل هذا السؤال السخيف.» معذرة، ماذا كان أبوك يقول؟

… لا شيء.

ولنا أن نستنتج من هذا الحديث بين «تريسترام شاندي» وقارئه المختلق، أن أباه كان «يفعل» شيئًا ما، أي إنجاب تريسترام.

وفي الفترة الفيكتورية المعروف عنها شدة التزمُّت، كان التحفظ الشديد هو طريقة تناول الجنس؛ فالروايات كانت للقراءة العائلية، ولا يمكن أن تتضمن أيَّ شيء قد يعمل، كما قال مستر بود سناب «شخصية ديكنز»، «على بعث حمرة الخجل في خدِّ أيٍّ من الشباب». والمشهد الذي ظهر في إعداد تليفزيوني حديث ﻟ «ال. بي. بي. سي» لرواية «آدم بيد» ويمثِّل «آرثر دونثرون» راقدًا على أريكة مع «هتي سوريل» وهي نصف عارية، لا يوجد أصلًا في رواية جورج إليوت، مما قد يُوحي للقُرَّاء السُّذَّج للرواية، بأن «هتي» قد حملَت عن طريق قُبلة بينها وبين آرثر، كما أن عدم إنجاز الزواج بين دوروثيا و«كازوبون» في رواية «مدل مارش» للمؤلفة نفسها، يُنقل إلى القارئ الفطن عن طريق أدقِّ التلميحات، ومعظمها استعارات مجازية، وحتى عام «١٩٠٨»، في رواية «حكاية الزوجتَين العجوزَين»، يمرُّ المؤلف آرنولد بينيت على ليلة زفاف «صوفيا» مرَّ الكرام، ولكنه يُلمح إلى أنها كانت تجربةً غير سارة ومحبِطة عن طريق تقديمها في سياق مختلف: مشهد إعدام علني بالجيلوتَين، كلُّه دماءٌ ورمزٌ لعضو الرجل، يحمل جيرالد صوفيا على مشاهدته في شهر العسل.

وفي الزمن الذي نشَر فيه وليام كوبر روايتَه «مشاهد من الحياة في الأقاليم»، كانت حدود المسموح به قد اتسعَت اتساعًا كبيرًا؛ إذ إنه ليس من المحتمل، أن يصفَ النشاط المعيَّن الذي يُمارسه العاشقان هنا، على نحوٍ واضح في عام «١٩٥٠»، دون أن يؤديَ ذلك إلى ملاحقة قضائية، ويذهب كوبر إلى أقصى حدود الصراحة، داعيًا قرَّاءَه إلى استنتاج ما يحدث، عن طريق تقديم مشهد بارع وإيروسي على السواء.

كان الراوي وصديقتُه قد أويَا إلى الفراش، في البيت الريفي الذي يشترك فيه مع صديقه «توم»، وكان على وشك أن يعرض أن يقوم بإعدادِ قدحٍ من الشاي، حين يسمع ما يعتقد أنه صوتُ سيارة توم، وينهض من الفراش كيما يستطلعَ الأمر. وتُخبرنا الملاحظة التي تقولها ميرتل إنه عارٍ. وبوسعنا أن نُكملَ ردَّه «أحسن وأحسن …» بسهولة؛ إذ إنه فيما يبدو، مبنيٌّ على ملاحظات الذئب التي يُوجهها إلى ذات الرداء الأحمر، ولأننا نعلم أن بقيةَ العبارة غير لائقة، وتسمح لنا الفقرة التالية أن نتصور الراوي العاري، وهو يقف على مستوًى أعلى يُشرف على عشيقته المتكئة على الفراش، والعارية أيضًا، «وفجأة، نفثت». وهذا الفعل ينحو دائمًا، إذا استُخدم مع شخص، إلى أن يكون له مفعول، وأحيانًا بعد حرف من الحروف مثل «في»؛ ولكن علينا هنا أن نخمن المفعول. «قالت: ألبرت العظيم»، ولما كانت الفقرة التالية تُزيل أيَّ شبهة فيما يتعلق بشخصية ألبرت، فإننا نُصبح على يقين بأن هذا الاسم هو الكُنية المألوفة لمفعول «نفثت» (ومما يزيد من متعة القارئ، أن هذا يوفر مناسبة للراوي لتقديم نفسه رسميًّا بالاسم)، ولا يُقال لنا عن ماذا «توقفت» ميرتل، ولكن، كما هو الحال مع مستر شاندي، لم يكن توقفها عن الكلام؛ إذ إنها تتكلم بعد التوقف. وهكذا، وتؤكد الفقرات القصيرة قِصَرًا غير طبيعي، أن هناك الكثير مما يحدث أكثر مما يُقال أو يُوصف.

وكوبر، مثله مثل ستيرن، مؤلف تريسترام شاندي، لا يستخدم التضمينَ كذريعةٍ مناسبة فحسب، بل لأنه يحمل نكهةً فكاهية مبدعة، ومع ذلك، فبعد حوالي عقد من الزمان على صدور تلك الرواية، اقتلعَت محاكمة رواية «عشيق الليدي تشاترلي» كلَّ المحرمات، التي كانت تجعل اللجوءَ إلى تلك الحِيَل الفنيَّة أمرًا لازمًا، مما أَسِف له الكثيرُ من القرَّاء، وكذلك بعضُ الكتَّاب. ﻓ «كنجزلي إيميس»، مثلًا، على الرغم من أن قصصَه تهتمُّ اهتمامًا عظيمًا بالسلوك الجنسي، حرَّم على نفسه محاولة تصوير العمل الجنسي ذاته، وهناك قطعة في روايته الصادرة مؤخرًا، «الناس الذين يعيشون على التل»، تُبرر وجهةَ نظره وتُصور كذلك كيفية استخدام التضمين في الكلام العادي للإشارة إلى الجنس:

قالت ديزيريه: «سيكون رائعًا أن نأويَ إلى الفراش مبكرًا هذه الليلة.» وكان لهذا الاقتراح المباشر في ظاهره عدةُ مستويات من المعنى. فكلمة، مبكرًا، وحدها تعني ما هي عليه وحسب، تعبير زمني أساسًا، تُعلن أنه لن يكون هناك امتدادٌ للمساء، لا إطالة أو زيارة اجتماعية … أما أنه سيكون رائعًا الإيواء إلى الفراش مبكرًا، فهو يعني لا إقصاء أي نشاط اجتماعي فحسب، بل وتضمين ما هو طبيعي، ما هو محتوم بالفعل، ما معناه النشاط الجنسي، وهذا من الأحسن … من الأحسن جدًّا تخمينه عن وصفه.

ومن المؤكد أن المعالجة الصريحة للعمل الجنسي، تشكِّل تحدِّيًا آخرَ للصنعة الفنية الروائية في كيفية تجنُّب استعمال لغة المواد الإباحية، وكيفية إزالة الألفة عن قائمة الأفعال الجنسية؛ المحدودة بطبيعتها، بَيْد أنني لا أنوي تناولَ هذا الموضوع في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤