النفس الإنسانية

١

لم يتخذ ابن خلدون النفس الإنسانية موضوعًا لبحث خاص، غير أنه تطرَّق إلى بعض المسائل النفسية بصورة عَرَضِيَّة، وبمناسبات شتى؛ ولهذا السبب قد دوَّن في ثنايا بعض الفصول كثيرًا من الآراء والمعلومات عن النفس وقوى النفس.

يُفْهَم من استعراض هذه الآراء والمعلومات أن ابن خلدون كان من الروحيين Spiritualistes، الذين يعتقدون بوجود روح منفصل عن البدن.

«إن الإنسان مركَّب من جزءين؛ أحدهما جسماني، والآخر روحاني ممتزج به، والمدرك فيهما واحد، وهو الجزء الروحاني» (ص٥١٧).

وهذا الجزء الروحاني «يدرك تارةً مدارك روحانية، وتارةً مدارك جسمانية، إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته وبغير واسطة، والمدارك الجسمانية يدركها بواسطة آلات الجسم، من الدماغ والحواس» (ص٥١٧).

إن الجزء الروحاني من الإنسان هو ما يُعْرَف باسم «النفس»:

«هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان، وآثارها ظاهرة في البدن، فكأنه وجميع أجزائه — مجتمعةً ومتفرقةً — آلات للنفس ولقواها» (ص٩٦).

إن الأهم من بين هذين الجزءين من الإنسان هو النفس.

«إن الفلاسفة كلها مدحت النفس، وزعمت أنها المدبرة للجسد، والحاصلة له، والدافعة عنه، والفاعلة فيه» (ص٥٠٦).

ومما يبرهن على ذلك: «أن الجسد إذا خرجت منه النفس مات وبرد، ولم يقدر على الحركة والامتناع من غيره؛ لأنه لا حياة فيه ولا نور» (ص٥٠٦).

يظهر من ذلك أن الحياة قائمة بوجود النفس في الجسد، والموت ما هو إلا نتيجة افتراق النفس عن الجسد» (ص٤٩٥).

إن هذه النفس مصدر الإدراك والفكر والفعل في وقت واحد، مما يدل على أنها ذات قوًى عديدة ومتنوعة.

يذكر ابن خلدون في موضع «القوى الإدراكية» و«القوى النزوعية»، ويتكلَّم في موضع آخر عن «القوة المدركة والقوة المحركة والقوة المفكرة»، ويستعمل في بعض الأحيان تعابير؛ «النفس المدركة، والنفس الفاعلة، والنفس الناطقة»، ويسمِّي أحيانًا القوة المحركة والفاعلة باسم «الفاعلية»، والقوة المفكرة باسم «الناطقية»، ويعرِّف ويوضِّح كل واحدة من هذه القوى على حِدَة:

إن آثار الفاعلية هي؛ «البطش باليد، والمشي بالرِّجْل، والكلام باللسان، والحركة الكلية بالبدن متدافعًا» (ص٩٦).

وأمَّا الإدراك فهو «شعور المدرك في ذاته بما هو خارج عن ذاته» (طبعة كاترمير، ص٣٦٤).

إن هذا الإدراك على نوعين؛ إدراك بالظاهر (أي بواسطة الحواس الخمس)، وإدراك بالباطن (أي بواسطة القوى الدماغية) (ص١٥٤).

الحواس الخمس هي؛ البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس. وأمَّا القوى الباطنة فهي؛ الحس المشترك، والمخيلة، والواهمة، والحافظة، والمفكرة.

الحس المشترك هو «جامع الحواس الظاهرة»، والنفس تدرك بواسطته «المحسوسات مبصرةً ومسموعةً وملموسةً وغيرها في حالة واحدة» (ص٩٧).

وأمَّا المخيلة فهي «قوة تمثِّل الشيء المحسوس في النفس كما هو، مجردًا عن المواد الخارجية» (ص٩٧).

والواهمة قوة تدرك «المعاني المتعلقة بالشخصيات» (ص٩٧).

وأمَّا الحافظة فهي قوة «تخزن المدركات كلها متخيلة لوقت الحاجة إليها» (ص٩٧).

إن الأصل في الإدراك إنما هو «المحسوسات بالحواس الخمس» (ص١٨٦ و٤٨٩).

والفكر يتناول هذه المحسوسات والمدركات بالتركيب والتحليل (ص١٤٠)، ويتمثَّل صورًا خياليةً مُنْتَزَعَةً من المدركات المتعاهدة، فيتوصل بذلك إلى الكليات والمعقولات.

«إن المعاني الكلية تتكوَّن في الذهن عن طريق الانتزاع والتجريد من المحسوسات» (ص٤٨٩).

والمعقولات الذهنية تتولَّد عن طريق التجريد من «الموجودات الخارجية الشخصية» (ص٥١٦).

«الخيال ينتزع من الصور المحسوسة صورًا خيالية، ثم يدفعها إلى الحافظة تحفُّظها إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال، وكذلك تجرِّد النفس منها صورًا أخرى نفسانيةً عقلية، فيترقَّى التجريد من المحسوس إلى المعقول» (ص٤٧٦).

إن إدراك الكليات والمعقولات على هذا المنوال من الأمور التي يختص بها الإنسان دون سائر الحيوانات.

فإن الحيوانات تحس وتدرك مثل الإنسان، ولكن الإنسان يتميَّز منها بإدراك المعاني الكلية، بالإضافة إلى إدراك «المحسوسات الخارجية الشخصية» (ص٤٨٩).

«إن الحيوانات إنما تُدْرَك بالحواس، ومدركاتها خلية من الربط؛ لأنه لا يكون إلا بالفكر» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٦٤).

«إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والسكن وغير ذلك، إنما تميَّز (الإنسان) منها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيئ لذلك التعاون، وقَبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أخراه، وهو مفكر في ذلك كله، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين. بل إن اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع» (ص٤٢٩).

«وذلك لأن الفكر الإنساني تارةً يكون مبدءًا للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب، وتارةً يكون مبدءًا لعلم ما لم يكن حاصلًا» (ص٥٣٥).

يتكلَّم ابن خلدون عن «الفكر الإنساني» في فصل خاص من الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية، ومما يقوله في ذلك الفصل:

«اعلم أن الله سبحانه وتعالى ميَّز البشر عن سائر الحيوانات بالفكر الذي جعله مبدأ كماله ونهاية فضله وشرفه؛ وذلك أن الإدراك — وهو شعور المدرك بذاته بما هو خارج عن ذاته — خاص بالحيوان فقط من بين سائر الكائنات والموجودات. فالحيوانات تشعر بما هو خارج عن ذاتها بما رَكَّب الله فيها من الحواس الظاهرة (السمع والبصر والشم والذوق واللمس)، ويزيد الإنسان من بينها أنه يدرك الخارج عن ذاته بالفكر الذي وراء حسه، وذلك بقوى جُعِلت له في بطون دماغه، ينتزع بها صور المحسوسات، ويجول بذهنه فيها، فيجرد منها صورًا أخرى. والفكر هو التصرُّف في تلك الصور وراء الحس، وجَوَلَان الذهن فيها بالانتزاع والتركيب» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٦٤).

إن الفكر الإنساني هذا على ثلاث مراتب؛ كل مرتبة منها تدل على نوع خاص من العقل؛ العقل التمييزي، والعقل التجريبي، والعقل النظري.

العقل التمييزي: يدرك الأشياء الخارجية وخواصها، ويضمن جلب منافعها ودفع مضارها.

والعقل التجريبي: يميِّز لصالح من الفاسد في معاملة أبناء الجنس، ويقرِّر «ما يجب وما ينبغي فعلًا وتركًا» خلال تلك المعاملات.

والعقل النظري: يفيد «العلم أو الظن بمطلوب وراء الحس، لا يتعلق به عمل»، ويضمن «تصوُّر الموجودات» على ما هي عليه «غائبًا وشاهدًا». وأمَّا «غاية إفادته» فهي «تصوِّر الوجود على ما هو عليه، بأجناسه وفصوله وأسبابه وعلله.»

«إن «الحقيقة الإنسانية» إنما تتمُّ بهذا النوع من العقل وبهذه المرتبة من الفكر» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٦٤).

٢

هذه هي الخطوط الأساسية لنظرية «النفس الإنسانية» التي تلوح للأنظار من ثنايا الفصول المختلفة في مقدمة ابن خلدون.

يلاحَظ أنها لا تخرج — من حيث الأساس — عن نطاق الآراء الشائعة بين مفكري الإسلام في عهد ابن خلدون، ومن المعلوم أنها تنحدر من نظرية أرسطو في النفس.

فنستطيع أن نقول إن ابن خلدون قد اقتدى بأسلافه واتبعهم في هذا الأمر، وقَبِلَ كل ما كان يقول به معاصروه في هذا الصدد، وكلما احتاج إلى «دليل نفسي» في أبحاثه الاجتماعية؛ رجع إلى الآراء التي كانت منتشرةً في زمانه، واقتبس منها ما شاء اقتباسه من الحجج والبراهين.

ومع هذا كله فقد توصَّل ابن خلدون — بنظره الثاقب وحدسه العبقري — إلى بعض الملاحظات القيِّمة في الحوادث النفسية، ودوَّن بعض الآراء الطريفة داخل نطاق هذه النظرية القديمة.

إن طائفةً من هذه الآراء تظهر منفردةً ومتفرقة، غير أن بعضها ينسجم في سلك نظريات عامة مبتكرة.

ولعل أطرف هذه الآراء هي النظرية التي وضعها ابن خلدون عن «عمل الفكر واليد» في حياة الإنسان.

يتكلَّم ابن خلدون في عدة مواضع من المقدمة عن خصائص الإنسان، ويمعن النظر في الفروق التي تميِّزه من الحيوان.

إن الإنسان من «جنس الحيوان»، ولكنه يمتاز عن سائر الحيوانات بعدة خصائص، منها؛ «الفكر والنطق»، و«العلوم والصنائع» (ص٤٠)، ومنها «الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر، ومنها السعي في المعاش والاعتمال لتحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه، ومنها العمران، أي التنازل والتساكن في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات» (ص٤٠).

يلاحظ ابن خلدون أن هذه الفروق لم تكن مطلقةً كل الإطلاق؛ لأن الاجتماع والحكم من الأمور التي تشاهَد عند بعض الحيوانات العجم أيضًا؛ مثلًا يوجد عند النحل والجراد نوع «من الحكم والانقياد لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه» (ص٤٣)، غير أن ابن خلدون يلاحظ في الوقت نفسه أن ذلك موجود «لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية، لا بمقتضى الفكرة والسياسة» (ص٤٣)، وأن كل ذلك يحصل للحيوانات المذكورة «بطريق إلهامي لا بفكر ورويَّة» كما يحدث للإنسان (ص٤١).

ومن الواضح الجلي أن ما يقصده ابن خلدون من «الفطرة والهداية والإلهام» في هذا المقام، يقابل تمامًا ما نسميه اليوم تارةً باسم «الغريزة»، وطورًا باسم «سوق الطبيعة»، كما أن ما يعانيه من «الفكرة والسياسة والروية» في هذا المضمار يقابل ما نسميه باسم العقل والذكاء.

يظهر من ذلك أن ابن خلدون يميِّز العقل من الغريزة، والأفعال المفكورة الإرادية من الأفعال الانسياقية الاضطرارية، فنجده يقرر — لذلك — «أن أفعال الإنسان تصدر بالفكر والروية لا بالطبع» (ص٣٩٠)، ويرد — بهذه الصورة — الفروق التي تلاحَظ بين الإنسان والحيوان من جهة «الاجتماع والحكم» أيضًا إلى عامل «الفكر».

هذا ويقرِّر ابن خلدون من جهة أخرى «أن العلوم نتيجة الفكر، و«أن الصنائع محصول اليد في خدمة الفكر.»

ولذلك نستطيع أن نقول إن جميع الفروق التي تميِّز الإنسان من الحيوان ترجع — في نظر ابن خلدون — إلى هذين العاملين الأساسيين؛ الفكر واليد؛ الفكر الذي يدرك الكليات ويتناولها بالتحليل والتركيب، واليد التي تعمل في خدمة الفكر.

يتتبَّع ابن خلدون بهذه الصورة عمل الفكر واليد في حياة الإنسان بكل اهتمام، ويُظْهِر الفرق الموجود بين الإنسان والحيوان بوضوح تام.

إن الحيوانات تعمل بتأثير الإلهام والهداية، وتستخدم خلال أفعالها هذه جوارحها الطبيعية وحدها، ولكن الإنسان يعمل بالفكر والروية، ويستخدم خلال أعماله هذه الآلات التي يصنعها بيديه، عوضًا عن الجوارح الطبيعية التي يستعملها الحيوان.

«لما كان العدوان طبيعيًّا في الحيوان، جعل (الله سبحانه) لكل واحد منها عضوًا يختص بمدافعته ما يصل ليه من عادة غيره، وجعل للإنسان — عوضًا عن ذلك كله — الفكر واليد. فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدَّة في سائر الحيوانات للدفاع، مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة، والتراس النائبة عن البشرات الجاسية، إلى غير ذلك» (ص٤٢).

إن الملاحظات التي يُبْدِيها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على نظرة فلسفية هامة.

في الواقع إن امتياز الإنسان بالفكر كان من الأمور التي قال بها المفكرون منذ الأزمنة القديمة، كما أن اختصاص الإنسان باليد كان من الحقائق التي انتبه إليها العلماء منذ عهد أرسطو، غير أن الحكيم المشار إليه كان قد اعتبر «اليد» كوصف من الأوصاف البدنية التي تميِّز نوع الإنسان عن سائر صنوف الحيوان، ولم ينظر إلى «عمل اليد في الحياة النفسية والاجتماعية، بمثل هذا النظر الدقيق الشامل أبدًا.»

وأمَّا ابن خلدون فقد قرن «الفكر باليد» بكل وضوح، وأظهر «عمل اليد الأساسي» في خدمة الفكر، وفي صنع الآلات التي تنوب عن الجوارح بكل اهتمام.

إن ملاحظات ابن خلدون في هذا المضمار ترفعه إلى مصاف مفكري القرن العشرين؛ فإن البحَّاثة الإنجليزي «توينبي»، عندما استعرض عمل اليد في الحياة — في المجلد الثالث من دراسته القيِّمة — قد ذكر رأي الفيلسوف الشهير «برغسون» Bergson في هذا الصدد، وقرَّر في الوقت نفسه أن نظرية برغسون هذه كانت مسرودةً في مقدمة ابن خلدون بكل وضوح (هامش الصفحة ٨٦ من المجلد الثالث).

وفي الواقع لقد كتب برغسون في الكتاب الذي نشره سنة ١٩٣٢ بعنوان «ينبوعَا الأخلاق والدين» العبارات التالية:

«إن الحياة إنما هي بعض الجهد للحصول على بعض الأشياء من الطبيعة الخام، والغريزة والذكاء — في حالتهما المكتملة — إنما هما واسطتان تُستخدَمان آلةً لهذا الغرض»؛ ففي الغريزة تكون الآلة المستعملة جزءًا من الكائن الحي، وفي الذكاء تكون الآلة من الجمادات (الأجنبية على الكائن الحي)، وهذه الآلة الجامدة كان لا بد من اختراعها وصنعها وتعلُّم استعمالها» (ص١٢٢ من كتاب برغسون).

إذا قارنَّا هذه الفقرات التي نقلناها عن كتاب برغسون بالفقرات التي أدرجناها آنفًا نقلًا عن مقدمة ابن خلدون؛ وجدنا أن مضمون الأولى لا يختلف عن مضمون الثانية من حيث الأساس، وأن كل واحدة منهما تعبِّر عن نظرية واحدة، ولكن بأسلوب خاص بها.

وإذا تذكَّرنا أن برغسون كَتَبَ ما كتبه في هذا الصدد قبل مدة تقل كثيرًا عن نصف قرن، في حين أن ابن خلدون كتب ما كتبه في هذا المضمار قبل مدة تناهز ستة قرون؛ اضطُررنا إلى القول بأن نظرية ابن خلدون في هذه القضية كانت من نوع «حدس العبقرية» تمامًا.

٣

إذا تتبعنا فصول المقدمة — من وجهة مباحثها النفسية — وجدنا فيها نظريةً واسعة النطاق عن «الملكات»، تتناول كيفية تكوُّنها من جهة، وعملها في حياة الإنسان العقلية والعملية من جهة أخرى.

  • (١)

    المَلَكَة — التي يتكلَّم عنها ابن خلدون — هي «الصفة الراسخة» التي تكتسبها النفس من جرَّاء التكرار والممارسة، والتي تؤدي إلى حصول الأعمال الفكرية والجسدية بسرعة وسهولة، إذ تجعلها بمثابة «الجبلَّة والفطرة».

    «المَلَكَة صفة راسخة في النفس، تحصل عن استعمال الفكر وتكرُّره مرةً بعد أخرى» (ص٤٠٠).

    «الصناعة مَلَكَة في أمر عملي فكري» (ص٣٩٩).

    «اللغة مَلَكة في اللسان. الخط صناعة مَلَكتها في اليد.»

    «اللغات كلها مَلَكات شبيهة بالصناعة؛ إذ هي مَلَكات في اللسان للعبارة عن المعاني» (ص٥٥٤).

    «إن الحذق في العلم والتفنُّن فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول مَلَكةً في الإحاطة بمبادئه وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه على أصوله. وما لم تحصل هذه المَلَكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناوَل حاصلًا. وهذه المَلَكة هي غير الفهم والوعي؛ لأننا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركًا بين من شَدَا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدئ فيه، وبين العامي الذي لم يَعْرِف علمًا، وبين العالم النحرير. والمَلَكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما» (ص٤٣٠).

    «المطلوب من التكاليف كلها (أي التكاليف الدينية) حصول مَلَكة راسخة في النفس، يحصل عنها علم اضطراري للنفس وهو العقيدة الإيمانية» (ص٣٦١).

    «إن مَلَكة الإيمان إذا استقرت؛ عسر على النفس مخالفتها، شأن الملكات إذا استقرت؛ فإنها بمثابة الجبلة والفطرة» (ص٤٦٢).

  • (٢)

    إن نظرية ابن خلدون في الملكات تستند إلى ملاحظة مبدأ نفسي عام؛ إن كل فعل — ماديًّا كان أو معنويًّا، فكريًّا كان أو بدنيًّا — لا بد من أن يترك أثرًا في النفس، فإذا تكرَّر الفعل، وتكرَّر أثره في النفس؛ تولَّد من ذلك صفة، ثم رسخت تلك الصفة فكوَّنت مَلَكَة، والمَلَكَة التي تحدث — على هذا المنوال — من جرَّاء تكرُّر الفعل تنمو شيئًا فشيئًا تبعًا لهذا التكرُّر كأنها تتغذى به.

    يعبِّر ابن خلدون عن ذلك بعبارات واضحة تمامًا:

    «إن الأفعال لا بد من عَوْد آثارها على النفس» (ص٣٩٩).

    «إن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرُّره» (ص٥٣٤).

    «الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولًا، وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرَّر فتكون حالًا. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون مَلَكَة، أي صفةً راسخة» (ص٥٥٤).

    «تنمو قوى المَلَكة بتغذيتها» (ص٥٧٥).

    «إن المَلَكات إذا استقرت ورسخت في محالِّها؛ ظهرت وكأنها طبيعة وجبلَّة لذلك المحل» (ص٥٦٢).

  • (٣)

    لا يكتفي ابن خلدون بتقرير هذه الأمور، بل يعلِّلها بردِّها إلى قانون نفسي عام؛ إن النفس الإنسانية — وقواها المختلفة — لا تظهر دفعة، ولا كاملة، بل إنها تخرج من القوة إلى الفعل شيئًا فشيئًا، فتنمو وتنشأ تدريجًا:

    «إن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات» (ص٤٣٣).

    «إن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة، وإن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدُّد العلوم والإدراكات» (ص٤٢٨).

    «الفكر يُخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئًا فشيئًا على التدريج حتى تكمل، ولا يحصل ذلك دفعة، وإنما يحصل في أزمان وأجيال. إن خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، ولا سيما في الأمور الصناعية» (ص٤٠٠).

    «إن النفس وإن كانت في جبلَّتها واحدةً بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات، واختلافها إنما هو باختلاف ما يَرِدُ عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيِّفها من خارج؛ فبهذه يتمُّ وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها» (ص٥٧٨).

  • (٤)

    يتتبَّع ابن خلدون كيفية تكوُّن الملكات في شتى الميادين من الأخلاق إلى العلوم والصنائع والعبادات:

    «المَلَكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، ومَلَكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوُّفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخَلْوَة والانفراد عن الخلق ما استطاع» (ص٥٧٨).

  • (٥)

    يلاحظ ابن خلدون «أن الصنائع والملكات لا تزدحم» (ص٥٦٩)، ويعلِّل ذلك بما يلي: إن الملكات صفات للنفس، والنفس إذا اتصفت بصفة ما؛ يصعب عليها أن تتصف بصفة أخرى، ولا سيما إذا كانت هذه الصفة مخالِفَةً للأولى، وبتعبير آخر: إن النفس تتلوَّن بالملكات، فإذا تلوَّنت بلون من الألوان؛ يصعب عليها قَبول لون آخر غير اللون الأول.

    ويستنتج ابن خلدون من هذه الملاحظة الأساسية القاعدة الجوهرية التالية: «من كان على الفطرة كان أسهل لقَبول الملكات، وأحسن استعدادًا لحصولها» (ص٤٠٥).

    ويقول بالاستناد إلى ذلك: «إن من سبقت له إجادة في صناعة، فقَلَّ أن يجيد في أخرى، أو يستولي فيها على الغاية» (ص٥٦٩).

    و«إن من حصلت له مَلَكة في صناعة، قلَّ أن يجيد بعدُ في مَلَكة أخرى» (ص٤٠٥).

    يخصِّص ابن خلدون فصلًا كاملًا لشرح هذه القضية وتعليلها:

    «مثال ذلك الخياط، إذا أجاد مَلَكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه؛ فلا يجيد من بعدها مَلَكة النجارة أو البناء، إلا أن تكون الأولى لم تَسْتَحْكِمْ بعدُ ولم ترسخ صبغتها.»

    «والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان، فلا تزدحم دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقَبول الملكات وأحسن استعدادًا لحصولها. فإذا تلوَّنت النفس بالمَلَكة الأخرى وخرجت عن الفطرة؛ ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه المَلَكة، فكان قَبولها للمَلَكة أضعف. وهذا بيِّن يشهد له الوجود، فقلَّ أن تجد صاحب صناعة يُحْكِمها، ثم يُحْكِمُ من بعدها أخرى، ويكون فيهما معًا على رتبة واحدة من الإجادة» (ص٤٠٥).

    إن هذا المبدأ لا يختص بالصنائع العملية وحدها، بل يشمل الأعمال الفكرية؛ ولذلك يعقِّب ابن خلدون على العبارة الأخيرة بقوله:

    «حتى إن أهل العلم الذين مَلَكتهم فكرية، فهم بهذه المثابة، ومن حَصَلَ منهم على مَلَكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقلَّ أن يجيد مَلَكَة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصِّرًا فيه إن طلبه، إلا في أقل النادر من الأحوال» (ص٤٠٥).

    يطبِّق ابن خلدون هذا المبدأ على شئون اللغة والأدب أيضًا، فيقرِّر في أحد فصول الباب السادس «أن الذوق لا يحصل غالبًا لمستعربين من العجم» (ص٥٦٢). كما يقرِّر في فصل آخر من الباب المذكور «أن أهل الأمصار قاصرون في تحصيل مَلَكة اللسان المضري» (ص٥٦٤). وفي فصل آخر: «ولا تتفق الإجادة في فنَّي المنظوم والمنثور معًا إلا للأقل» (ص٥٦٨).

    ويقول كذلك في أحد الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية: «إن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي» (طبعة كاترمير، ج٣، ص٢٧٤–٢٨٧). ويستند في شرح وتعليل ذلك كله إلى القاعدة التي ذكرناها آنفًا.

    وزِدْ على ذلك أنه يطبِّق المبدأ المذكور على قضايا الأخلاق أيضًا في بعض الأحيان:

    «إن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس؛ فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء، وأفعال الشر تعود بضد ذلك، فتتمكَّن وترسخ إن سبقت وتكرَّرت، وتنقص خلال الخير إن تأخَّرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة من النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال» (ص٣٩٩).

    «إن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئةً لقَبول ما يَرِدُ عليها وينطبع فيها من خير وشر.»

    «وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر، ويصعب عليها اكتسابه؛ فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت لها مَلَكته؛ بَعُدَ عن الشر، وصعبت عليه طريقه. وكذا صاحب الشر، إذا سبقت إليه أيضًا عوائده» (ص١٢٣).

  • (٦)

    لا شك أن نظرية ابن خلدون هذه تنطوي على ملاحظات صائبة وهامة جدًّا، غير أنها لا تنطبق على الحقائق تمامًا إذا أُطْلِقت إطلاقًا.

    ويظهر لنا أن ابن خلدون نفسه كان قد لاحظ بعض الأمور التي تنافي هذه القاعدة بعض المنافاة، فتستوجب تقييدها ببعض القيود.

    لأنه قد قرَّر أن «كل صناعة مرتبة، يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلًا جديدًا، تستعد به لقَبول صناعة أخرى، يتهيَّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف» (ص٤٣٣).

    ولا شك أن في هذه القضية ما يقيِّد ويتمِّم القاعدة الآنفة الذكر؛ إن إجادة صناعة من الصناعات قد تحول دون الإجادة في الصناعات الأخرى، غير أنها قد تكون مرحلةً تُعِدُّ النفس لقَبول صناعة أخرى. ومن الطبيعي أن ذلك يختلف باختلاف أنواع تلك الصناعات.

    هذا ولا بد لنا من أن نشير في هذا المقام إلى ما يقرِّره ابن خلدون عن زيادة العقل من جرَّاء كثرة العلوم والصنائع:

    «إن حسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية، يزيد الإنسان ذكاءً في عقله، وإضاءةً في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس؛ إذ قدَّمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كَيَسًا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية» (ص٤٣٣).

    إننا نعتقد أن هذه الملاحظة أيضًا تقيِّد وتتمِّم القاعدة المذكورة آنفًا.

    فيجب علينا أن ننظر إلى هذه الأبحاث كملاحظات متمِّمة لنظرية الملكات بوجه عام، ونظرية «عدم ازدحام الملكات» بوجه خاص.

    ولا نرانا في حاجة إلى القول بأن نظرية الملكات التي لخَّصناها آنفًا لهي من أهم الأسس التي يبني عليها ابن خلدون آراءه في التربية والتعليم.

٤

وأمَّا الملاحظات النفسية المتفرقة المبثوثة في مختلِف فصول المقدمة فكثيرة ومتنوعة؛ ولذلك رأينا أن نكتفي باستعراض أهمها، كما يلي:
  • (أ)

    يلاحظ ابن خلدون أن النفس تبتهج من الإدراك:

    «كل مدرك له ابتهاج بما يدركه، واعتبره بحال الصبي في أوَّل مداركه الجسمانية، كيف يبتهج بما يبصره من الضوء، وبما يسمعه من الأصوات» (ص٥١٧).

  • (ب)

    يقرِّر ابن خلدون تأثير «التشيُّع» في المحاكمات الذهنية، ويعتبر عن هذا التأثير بكل وضوح:

    «إن النفس إذا كانت في حالة الاعتدال في قَبول الخبر؛ أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تتبيَّن صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيُّع لرأي أو نِحْلَة؛ قَبِلَتْ ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيُّع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص» (ص٣٥).

  • (جـ)

    يلاحظ ابن خلدون تأثير الأحوال النفسية في الأفعال البدنية عن طريق «الإيحاء الذاتي» حسب تعبير علماء النفس الحاليين:

    «إن الماشي على حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهُّم السقوط سقط بلا شك؛ ولذلك نجد كثيرًا من الناس يعوِّدون أنفسهم ذلك، حتى يذهب عنهم هذا الوهم، فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب، فلا يخافون السقوط. إن ذلك من آثار النفس الإنسانية وتصوُّرها للسقوط من أجل الوهم» (ص٥٠١).

    لا يغفل ابن خلدون عن حوادث «الإيحاء الخارجي» أيضًا؛ لأنه يتكلَّم في فصل السحر والطلسمات عن تأثير المشعوذين في القوى المتخيلة تأثيرًا يشبه تأثير الإيحاء في التنويم شبهًا تامًّا.

    إن أحد أنواع السحر يتأتى من تأثير الساحر في القوى المتخيلة؛ «يعتمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة، فيتصرَّف فيها بنوع من التصرُّف، ويلقي فيها أنواعًا من الخيالات والمحاكاة، وصورًا مما يقصده من ذلك، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظر الراءون كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك. كما يُحكى عن بعضهم أنه يرى البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك» (ص٤٩٨).

  • (د)

    يقرِّر ابن خلدون العلاقة القوية التي تربط العمل بالفكر:

    إن «وجود الصنائع دون الفكر ممتنع؛ لأنها ثمرته وتابعة له» (ص٤١١).

    «الفعل الصناعي مسبوق بتصوُّرات» (ص٥٢٧).

    «التصوُّر والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصوُرات سابقة يتلو بعضها بعضًا» (ص٤٥٨).

    «من شروط الصناعة أبدًا تصوُّر ما يقصد إليه بالصنعة، فمن الأمثال السائرة للحكماء: إن أول العمل آخر الفكرة، وآخر الفكرة أول العمل» (ص٥٢٨).

    يتكلَّم ابن خلدون عن هذه القضية بتفصيل أوفى في فصل خاص، وهو من الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية:

    «فصل في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٦٤–٣٦٧).

    ومما يقرِّره ابن خلدون في الفصل المذكور؛ أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة وأفعال، والأفعال البشرية تمتاز عن أفعال سائر الحيوانات بكونها «منظمةً ومرتبة»؛ فإن الفكر يدرك الترتيب الطبيعي الموجود بين الحوادث، ويراعي ذلك الترتيب في أعماله، فإذا قَصَدَ المرء إيجاد شيء من الأشياء تتبَّع سلسلة الأسباب التي تؤدي إلى حدوث ذلك الشيء، وسلسلة الشروط التي يتوقَّف عليها تكوينه، وإذا وصل إلى السبب الأخير والشرط الأصلي؛ بدأ العمل منه.

    «مثلًا لو فكَّر في إيجاد سقف يكنه؛ انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط، فهو آخر الفكر، ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف وهو آخر العمل، وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٦٤).

  • (هـ)

    يميِّز ابن خلدون العلم النظري البحت من العلم المقرون بالنزوع والدافع إلى العمل (ص٤٦١)، كما يميِّز بين معرفة صناعة من الصنائع علمًا، وبين إحكامها عملًا (ص٥٦٠).

    «إن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه المَلَكة ومقاييسها، وليست نفس المَلَكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علمًا، ولا يُحْكِمها عملًا، مثل أن يقول بصير بالخياطة غير مُحْكِم لمَلَكتها في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن يُدْخِلَ الخيط في خرت الإبرة، ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم يردها إلى حيث ابتدأت، ويخرجها قدَّام مَنْفَذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل. ويعطي صورة الحبك والتثبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طُولِبَ أن يعمل ذلك بيده لا يُحْكِم منه شيئًا.»

    «وكذا لو سُئِل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتُمْسِك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر، وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرَّسة الممددة تقطع ما مرَّت عليه ذاهبةً وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طُولِب بهذا العمل أو شيء منه لم يُحْكِمْه» (ص٥٦٠).

    يطبِّق ابن خلدون هذا المبدأ على مسائل الأخلاق والسلوك، ويميِّز العلم من الاتصاف من هذه الوجهة أيضًا، ويقول: «إن الفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين العلم والاتصاف»، ويوضِّح ذلك بما يلي:

    «إن كثيرًا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى، مندوب إليها، ويقول بذلك ويعترف به، ويذكر مأخذه من الشريعة، وهو لو رأى يتيمًا أو مسكينًا من أبناء المستضعفين لفرَّ عنه واستنكف أن يباشره، فضلًا عن المسح عليه للرحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنو والصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم، ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف» (ص٤٦٠-٤٦١).

    «ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول، وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها، فمتى رأى يتيمًا أو مسكينًا بادر إليه ومسح عليه، والتمس الثواب في الشفقة عليه، لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دُفِع عنه، ثم يتصدَّق عليه بما حضره من ذات يده» (ص٤٦١).

    «وليس الاتصاف بحاصل مجرد العلم، حتى يقع العمل ويتكرَّر مرارًا غير منحصرة، فترسخ المَلَكة، ويحصل الاتصاف.»

    «إن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع، والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة» (ص٤٦١).

  • (و)

    يتكلَّم ابن خلدون عن كيفية تكوُّن الطبائع والسجايا من جراء الأُلْفَة والمران:

    «الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه» (ص١٢٥).

    «إن تكوُّن السجايا والطبائع إنما هو من المألوف والعوائد» (ص١٣٨).

    «إن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن عوائده لا ابن نسبه» (ص٣٨٤).

    «إن النفس إذا أَلِفَتْ شيئًا صار من جِبلتها وخِلقتها» (ص٩٠).

    «إذا أَلِفَ الإنسان بعض الأحوال صار ذلك له خلقًا ومَلَكَةً وعادةً تنزل منزلة الطبيعة والجِبلَّة» (ص١٢٥).

    «إن القريحة مثل الضرع؛ تزيد بالامتراء، وتجف بالترك والإهمال» (ص٥٧٥).

  • (ز)

    يقدِّر ابن خلدون أهمية التجريد في الحياة الفكرية، ويعتبر النظر في الكليات من أهم ميزات الإنسان، ومع هذا يرى أن استرسال الذهن في ذلك، واعتياده له، لا يخلو من بعض المحاذير في الأمور العملية والسياسية؛ ولذلك يقرِّر في فصل خاص «أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها» (ص٥٤٢)، ويعلِّل ذلك بالملاحظات التالية:

    «والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري، والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن أمورًا كليةً عامة؛ ليحكم عليها بأمر العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس. ويطبِّقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات»، كما أنهم «يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي،١ ولا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة (أي لا تطبق على الخارج المحسوس) إلا بعد الفراغ من البحث والنظر، ولا تصير بالجملة إلى المطابقة، وإنما يتفرَّع ما في الخارج عمَّا في الذهن من ذلك، كالأحكام الشرعية، فإنها فروع عمَّا في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب من صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعوِّدون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية، لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور. فيكون العلماء — لأجل ما تعوَّدوه من تعميم الأحكام، وقياس الأمور بعضها على بعض — إذا نظروا في السياسة؛ أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم، فيقعون في الغلط كثيرًا» (ص٥٤٢).
  • (ﺣ)

    يميِّز ابن خلدون الحوادث النفسية الاطلاعية عن الانفعالية في فصل علم التصوُّف، ويوضِّح كلًّا منها على حِدَة:

    «إن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميَّز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان؛ إدراك للعلوم والمعارف، من اليقين والشك والظن والوهم، وإدراك للأحوال القائمة، من الفرح والحزن، والقبض والبسط، والرضا والغضب، والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يميَّز بها الإنسان، وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم والمتلذَّذ به، والنشاط عن الجمام والكسل عن الإعياء» (ص٤٦٨).

  • (ط)

    يدوِّن ابن خلدون عدة ملاحظات هامة عن «اللذة» وعن «الحسن والجمال» في فصل الغناء:

    «إن اللذة — كما تقرَّر في موضعه — هي إدراك الملائم، والمحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسِبةً للمدرك وملائمةً كانت ملذوذة، وإذا كانت منافيةً له منافِرَةً كانت مؤلمة؛ فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم في الملموسات وفي الروائح، ما ناسَبَ مزاج الروح القلبي البخاري؛ لأنه المدرك وإليه تؤديه الحاسة؛ ولهذا كانت الرياحين والأزهار والعطريات أحسن رائحة، وأشد ملاءمةً للروح لغلبة الحرارة فيها — التي هي مزاج الروح القلبي — وأمَّا المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمةً لها. فإذا كان المرئي متناسبًا في أشكاله وتخاطيطه — التي له بحسب مادته — بحيث لا تخرج عمَّا تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع — وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك — كان ذلك حينئذ مناسبًا للنفس المدركة؛ فتلتذ بإدراك ملائمها؛ ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله، وهو اتحاد المبدأ وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحادًا في البداءة، يشهد لك به اتحادكما في الكون. ومعناه من وجه آخر؛ أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتود أن يمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون.»

    «ولمَّا كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، كان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبةً لا متنافرة، وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر، والرخاوة والشدة، والقلة والضغط، وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجِب لها الحسن» (ص٤٢٤-٤٢٥).

  • (ي)

    يلمح ابن خلدون مبدأ نسبية الإدراكات، ويعبِّر عن هذه النسبية بأصرح العبارات في فصل علم الكلام:

    «إن الوجود كله عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه، لا يعدوها، والأمر في نفسه خلاف ذلك، والحق من ورائه؛ ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات؟ وكذلك الأعمى أيضًا يسقط عنده صنف المرئيات.»

    «ولو سُئِل الحيوان العجم ونطق؛ لوجدناه منكرًا للمعقولات، وساقطةً لديه بالكلية» (ص٤٥٩).

    يلاحظ ابن خلدون آثار هذه النسبية حتى في أنواع الرؤيا وأحلام المنام، ويصرِّح بها في فصل تعبير الرؤيا:

    «إن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه، فإنما يصوِّره في القوالب المعتادة للحس، وما لم يكن الحس إدراكه قط، فلا يصوَّر فيه؛ فلا يمكن من وُلِد أعمى أن يصوَّر له السلطان بالبحر، والعدو بالحية، ولا النساء بالأواني؛ لأنه لم يدرك شيئًا من هذه، وإنما يصوِّر له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه، التي هي المسموعات والمشمومات» (ص٤٧٧).

٥

لا يكتفي ابن خلدون بملاحظة الحوادث النفسية المتعلقة بالأفراد وحدها، بل يتطرَّق إلى «النفسيات الاجتماعية والمعشرية» أيضًا في بعض الأحيان، ويسعى لتعليل الأمور الاجتماعية بالنزعات النفسية في عدة فصول.

فإنه عندما يقرِّر: «إن الظلم مؤذن بخراب العمران» (ص٢٨٦)، وحينما يقول: «إن المغلوب مولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» (ص١٤٧)، يدعم رأيه في هذا الصدد ببعض الملاحظات المتعلقة بالنفس الإنسانية.

وكذلك في كثير من الفصول؛ فإنه عندما يقرِّر «أن البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر» (ص١٢٣)، وأقرب إلى الشجاعة منهم (١٢٥)، وأن معاناة أهل الحضارة للأحكام مُفْسِدَة للبأس فيهم، وذاهبة بالمنفعة منهم (ص١٢٥)، وأن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية (ص١٥٤)، وحينما يقول إن الدولة إذا تمهَّدت واستقرت فقد تستغني عن العصبية (ص١٥٤)، وعندما يشرح تأثير الدين في تكوين الدولة العظيمة (ص١٥٧)، وحينما يقول «إن من طبيعة الملك الترف والدعة والسكون» (ص١٦٧)؛ يستند إلى ملاحظات نفسية خاصة.

وكذلك حينما يبيِّن تأثير التجارة (ص٣٨٦)، والصناعة (ص٢٨٠)، والحضارة (ص٣٨٣) في الذكاء والأخلاق، يشرح ويعلِّل الآراء التي يُبْدِيها في هذا الصدد بمباحث نفسية، كما أنه يدوِّن كثيرًا من الملاحظات النفسية الاجتماعية في أبحاث الحروب والعصبية، والتعلُّم والتعليم أيضًا.

١  يلاحَظُ أن ابن خلدون يعني بالعلماء في هذا الفصل علماء الدين والفقهاء وحدهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤