مؤلف المقدمة

١

لقد اشتُهر مؤلف المقدمة بين الناس وفي بيئات العلم والأدب باسم «ابن خلدون»، ولكن اسمه كان عبد الرحمن، واسم والده محمد، وأمَّا تلقيبه بلقب «ابن خلدون» فكان بالنسبة إلى اسم أحد أجداده القدماء، وهو الجد الذي كان دخل الأندلس مع جند اليمانية، قبل ولادة مؤلف المقدمة بمدة لا تقل عن أربعة قرون.

وقد عرَّف المؤلف نفسه في بداية المقدمة نفسها بالعبارة التالية:

«يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.»

وأمَّا معاصروه فقد أضافوا إلى ذلك سلسلةً طويلةً من الأسماء، والألقاب والنعوت، مثلًا: إن الوقفية المسطورة على غلاف نسخة تاريخه المهداة إلى مكتبة جامع القرويين بفاس، ذكرته بالألقاب والنعوت التالية:

«قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد ابن خلدون الحضرمي المالكي.»

ولا شك في أن كنية «أبو زيد» اقترنت به بالنسبة إلى اسم ابنه الأكبر، ولقب ولي الدين خُلِع عليه بعدما تولَّى منصب قاضي القضاة المالكية في مصر، كما أن نعته بالمالكي كان تمييزًا له عن قضاة سائر المذاهب وعلمائها.

ومما يلفت النظر أنه نعت نفسه بالحضرمي، مشيرًا بذلك إلى اتصال نسبه بقبائل حضرموت، وأمَّا معاصروه في مصر فكثيرًا ما نعتوه بالمغربي أو التونسي؛ إشارةً إلى مجيئه من بلاد المغرب.

وفضلًا عن ذلك كله، كان اقتران اسم ابن خلدون في بعض الكتابات والخطابات المعاصرة له ببعض الألقاب والنعوت الأخرى حسب أنواع المناصب التي تولاها في مختلِف أدوار حياته، من جملة ذلك؛ الوزير، الرئيس، الحاجب، الصدر الكبير، الفقيه الجليل، علامة الأمة، إمام الأئمة، جمال الإسلام والمسلمين.

غير أن هذه الأسماء والألقاب والنعوت الكثيرة والمتنوعة أُهْمِلَت بمرور الزمان الواحد بعد الآخر، إلى أن أصبح مؤلف المقدمة يُعْرَف ويعرَّف باسم «ابن خلدون»، مجرَّدًا عن سائر الأسماء والنعوت.

وذلك على الرغم من أن التاريخ يذكر عددًا غير قليل من الرجال الذين كانوا يحملون مثله لقب «ابن خلدون»، وعلى الرغم من أن بعضهم كان قد نال شهرةً كبيرةً في السياسة، وبعضهم الآخر في العلم.

ويظهر من ذلك أن شهرة عبد الرحمن ابن خلدون فاقت شهرة جميع هؤلاء على اختلاف عهودهم، فارتبط اسم ابن خلدون في الأذهان بمؤلف المقدمة وحده، كما أن المقدمة نفسها صارت تُعْرَف باسم «مقدمة ابن خلدون» على وجه الاختصار.

وهذه الحالة أدت إلى توريط بعض الكُتَّاب في أخطاء فادحة:

فقد خلط بعضهم بين مؤلف المقدمة وبين أخيه الأصغر يحيى ابن خلدون، ونسب إليه كتاب التاريخ المعنون بعنوان «بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد»، مع أن الكتاب المذكور من تأليف «أبو زكريا يحيى»، لا «أبو زيد عبد الرحمن».

وخلط بعضهم بين مؤلف المقدمة وبين عمر بن خلدون، فذهب إلى أنه حلَّق في العلوم الرياضية والفلك، مع أن التحليق في هذه العلوم يعود إلى «عمر بن خلدون»، الذي تُوفي قبل ولادة مؤلف المقدمة بمدة تقرب من ثلاثة قرون.

٢

وُلِد ابن خلدون في تونس سنة ١٣٣٢ / ٧٣٢، وتُوفي في القاهرة سنة ١٤٠٦ / ٨٠٨، وعاش بهذه الصورة مدةً لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن إلا سنةً واحدة.

إن هذه السنوات الطويلة كانت زاخرةً بنشاط خارق للعادة، وحيوية محيِّرة للعقول.

كان نشاط ابن خلدون عديد الجوانب، شمل ميادين الإدارة والسياسة، الخطابة والقضاء، الدرس والبحث، والتدريس والتأليف.

وكانت حيويته عنيفةً صاخبةً لا تعرف معنًى للهدوء، ولا تبالي بالأخطار والأهوال؛ ولذلك صارت حياته سلسلةً طويلةً من حوادث النجاح والفشل، إنه وصل إلى أعلى مناصب الحكم في عهود ملوك عديدين في دول عديدة، ولكنه في الوقت نفسه تعرَّض إلى محن ونكبات متنوعة مرات عديدة.

إنه تنعَّم بنعم القصور، ولكنه ذاق مرارة الاعتقال والسجن أيضًا، حضر حربًا انتهت بانهزام الجماعة التي ينتسب إليها؛ فاضطرته إلى الهيام في الصحاري مدةً من الزمن، كما أنه تعرَّض إلى غزوة جرَّدته من كل ما كان له من أمتعة، حتى الثياب.

دخل غمار الحياة العامة قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وقام بمهمة سياسية خطيرة بعدما وصل إلى عتبة السبعين أيضًا، وبين وظيفته الأولى ومهمته الأخيرة تولَّى كتابة السر وخطة المظالم، وصار وزيرًا، وحاجبًا، وسفيرًا، ومدرسًا، وقاضيًا، وخطيبًا، وكل ذلك بين سلسلة من الحوادث والمشاكل، وبين ضروب من المنافسات والمخاصمات.

ولم يتمتع ابن خلدون خلال عمره الطويل ﺑ «حياة الهدوء» بمعناها التام إلا نحو أربعة أعوام؛ وذلك بين أوائل سنة ١٣٧٥ وأواخر سنة ١٣٧٨، عندما اعتزل الحياة العامة وانزوى في قلعة ابن سلامة بعيدًا عن شواغل المدن وبهارجها.

ولكن مما يلفت النظر أن هذه السنين القليلة التي اعتزل خلالها ابن خلدون الحياة العامة، وتمتع بنعم الهدوء، كانت أثمن وأخصب سني حياته، من حيث النشاط الفكري والإنتاج العلمي؛ لأن المقدمة التي ضمنت له الخلود بين أعاظم رجال الفكر في العالم كانت من نتاج هذه الحياة المنزوية في تلك القلعة النائية.

٣

إن مسرح حياة ابن خلدون ونشاطه لم ينحصر بمسقط رأسه تونس، ومثوى رفاته القاهرة، بل شمل معظم أقطار العالم العربي المترامي الأطراف.

غادر ابن خلدون مسقط رأسه تونس وهو في سن العشرين، ولم يَعُد إليها إلا بعد ستة وعشرين عامًا، تنقَّل خلالها بين مختلِف مدن المغرب الأدنى والأقصى والأندلس، لم يمكث فيها بعد هذه العودة إلا أربعة أعوام، انتقل بعدها إلى مصر، وبقي فيها حتى آخر حياته، إلا أنه لم ينقطع عن التنقل بتاتًا خلال وجوده في مصر أيضًا؛ ذهب مرةً إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ومرةً إلى القدس لزيارة المقامات المباركة، ومرةً إلى دمشق للاشتراك في الدفاع عن المدينة عندما أخذ تيمور يغزو بلاد الشام.

وخلاصة القول: قضى ابن خلدون ٢٤ سنةً من حياته في تونس، و٢٦ سنةً منها في المغرب الأوسط والأقصى والأندلس، و٢٤ سنةً منها في مصر والشام والحجاز.

ولم يُبقِ خارج مسارح حياته ومجالات نشاطه قُطرًا عربيًّا غير قلب الجزيرة العربية والعراق.

ولتقدير مبلغ اتساع هذه الأقطار التي عاش وعمل وتنقَّل فيها ابن خلدون تقديرًا صحيحًا، يجب علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار حالة «وسائط المواصلة» التي كان يلجأ إليها في ذلك العهد للانتقال من مدينة إلى مدينة، ومن قُطر إلى قُطر. يتبيَّن مما ذكره ابن خلدون نفسه في ترجمة حياته أن رحلته من تونس إلى الإسكندرية كانت استوجبت بقاءه على ظهر المركب أربعين ليلة، وانتقاله من الطور إلى ينبع، خلال رحلته إلى الحجاز استغرق شهرًا كاملًا، كما أن مجيئه من قوص إلى القاهرة — داخل القطر المصري نفسه — خلال عودته من الحج تطلَّب مدةً مماثلةً لذلك.

٤

إن ظروف حياة ابن خلدون التي لخَّصناها آنفًا ساعدت على توسيع ملاحظاته وتنمية معلوماته مساعدةً كبيرة، كما أنها أثَّرت في تكوين أسلوب تفكيره تأثيرًا عميقًا.

إنه كتب المقدمة سنة ١٣٧٧ / ٧٧٩، بعد أن وصل إلى منتصف العقد الخامس من العمر، وبعد أن شاهد كثيرًا من الانقلابات السياسية، واشترك اشتراكًا فعليًّا في عدد غير قليل منها، ومما لا شك فيه أن الأمور التي لاحظها خلال هذه السنين الطويلة في هذه الأقطار المختلفة، وبين تلك الانقلابات المتتالية، كانت من أهم العوامل التي أثارت تأملاته، ووجَّهت نظرياته عندما أَقْدَمَ على كتابة المقدمة.

كما أن الحياة التي عاشها ابن خلدون بعد ذلك، ولا سيما المهام التي تولاها بعد انتقاله إلى مصر، لعبت دورًا هامًّا في توسيع مباحث المقدمة وتحويرها.

فيجدر بنا أن نُلْقِيَ نظرات سريعة:
  • أولًا: على خصائص البيئة العائلية التي نشأ وترعرع فيها.
  • ثانيًا: على أحوال العصر الذي عاش وعمل وفكَّر خلاله.
  • ثالثًا: على أهم الحوادث التي تعرَّض إليها خلال حياته العامة.

وذلك لكي نفهم جيدًا أهم العوامل التي أثَّرت في تكوينه الفكري العام من ناحية، والتي ألهمته النظريات التي دوَّنها في مقدمته المشهورة من ناحية أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤