التشبيهات المادية

إذا أردنا أن نستدلَّ على عقلية ابن خلدون من دراسة مقدمته، نستطيع أن نقول: إن أبرز صفات تلك العقلية هي شدة التشوُّف، ودقة الملاحظة، ونزعة البحث والتعميم، وقدرة الاستقراء.

فإننا نجد في المقدمة كثيرًا من الاستقراءات المستندة إلى ملاحظة الواقعات، وقَلَّما نعثر على آثار الاندفاع وراء المجرَّدات، والاسترسال في سبيل الاستنتاجات.

ولعل من أبرز الأدلة على استقرائية ابن خلدون ومشخصية تفكيره؛ كثرة التشبيهات المادية والأمثلة الحسية المنبثة في أبحاث مقدمته.

يصرِّح ابن خلدون بفوائد الأمثلة الحسية في الكتاب الثاني من تاريخه؛ إنه يشرح الطريقة التي اختارها لعرض «الأنساب» في المقدمة الثانية من الكتاب المذكور، قائلًا:

«اخترنا — بعد الكلام على أنساب الأمة وشعوبها — أن نضع ذلك على شكل شجرة، نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب، ومن له التقدُّم عليهم، فنجعل عمود نسبه أصلًا لها، ونفرِّع الشعوب الأخرى على جانبه من كل جهة، كأنها فروع لتلك الشجرة، حتى تتصل تلك الأنساب عمودًا أو فروعًا بأصلها الجامع لها، ظاهرةً للعيان في صفحة واحدة، فتُرسم في الخيال دفعة، ويكون ذلك أَعْوَن على تصوُّر الأنساب وتشعُّبها.»

«فإن الصور الحسية أقرب إلى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة» (تاريخ ابن خلدون، ج١، ص٢١، طبعة محمد مهدي الحبابي).

لم يلجأ ابن خلدون في المقدمة إلى مثل هذه الصور الحسية، لكنه كثيرًا ما لجأ إلى التشبيهات المادية التي تقوم مقام الصور الحسية، وتكون «أَعْوَن على تصوُّر» القضية وفهمها.

إن هذه التشبيهات المادية تدل — في نظرنا — على خصيصتين من خصائص عقلية ابن خلدون؛ إنها تدل أولًا على دقة الملاحظة وتنوُّعها، وثانيًا على واقعية التفكير واستقرائيته.

ولذلك نستعرض فيما يلي أهم هذه التشبيهات:

•••

يتكلَّم ابن خلدون في فصل التصوُّف عن «الكشف»، ويقول إنه «لا يكون صحيحًا كاملًا إلا إذا كان ناشئًا عن الاستقامة»، ويشبِّه ذلك بما يحدث في المرآة، قائلًا:

«ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدَّبةً أو مقعرة، وحُوذي بها جهة المرئي؛ فإنه يُشكَّل فيها معوجًّا على غير صورته، وإن كانت مسطحة؛ تشكَّل فيها المرئي صحيحًا.»

«فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال» (ص٤٧٠).

•••

يشبِّه ابن خلدون قوة العصبية إلى سائر القوى الطبيعية، ويقول إن أثرها في مركز الدولة أشد منه في أطرافها، ويمثِّل ذلك بحادثتين طبيعيتين تتعلَّق إحداهما بقوانين التموُّجات، وتحوم الثانية حول قوانين انتشار النور:
  • (أ)

    «شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز.»

  • (ب)

    «والدوائر المتفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص١٦٠).

•••

حينما يتكلَّم ابن خلدون عن النبوة يلتجئ إلى تشبيه مادي يستند إلى حوادث الضوء، فيقول:

«النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب، كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس» (ص١٠١).

حينما يتكلَّم عن هرم الدول وانقراضها يشبِّه ذلك بأحوال الشعلة: «وهي تتلاشى إلى أن تضمحلَّ، كالذبال في السراج إذا فني زيته» (ص٢٩٧).

إنه لا يكتفي بهذا التشبيه الأولي، بل يمضي في سبيل التشبيه إلى أكثر من ذلك أيضًا:

«ربما يحدث في أواخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها، ويومض ذبالها إيماضة الخمود، كما يقع في الذبال المشتعل؛ فإنه عند مقاربة انطفائه، يومض إيماضةً توهم أنه اشتعال، وهو انطفاء» (ص٢٩٤).

•••

يلاحظ ابن خلدون الآثار التي تتركها الوقائع والأحوال الماضية، ويشبِّه ذلك مرةً بالصبغ الراسخ في الثوب، ومرةً بأثر الخط الممحو في الكتاب.

«إذا تقدَّمت الحضارة واستحكمت الصنائع في الأمصار؛ بقيت صبغتها ثابتةً هناك، حتى عندما يتراجع عمرانها ويتناقص، لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب» (ص٤٠٢).

وبعد أن يتتبَّع الآثار التي تبقى من عهود ازدهار سابقة على هذا المنوال يقول:

«كذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد، أثرًا باقيًا من ذلك، وإن كانت هذه كلها اليوم خرابًا أو في حكم الخراب، ولا يتفطَّن إليها إلا البصير من الناس، فيجد من هذه الصنائع آثارًا تدله على ما كان بها، كأثر الخط الممحو في الكتاب» (ص٤٠٣).

•••

يشبِّه ابن خلدون — في عدة مواضع — الدولة والسلطان بالسوق، والعلوم والصنائع بالسلع والبضائع، ويقول:

«إن الدولة والسلطان سوق للعالم، تُجْلَب إليه بضائع العلوم والصنائع.»

كما أنه يشبِّه الروايات والأخبار أيضًا بالبضائع في بعض الأحوال، حيث يقول:

«إذا تنزَّهت الدولة عن التعسُّف والميل والأفن والسفسفة، وسلكت النهج الأمم، ولم تَحِدْ عن قصد السبيل؛ نفق في سوقها الإبريز الخالص، واللجين المصفَّى. وإن ذهبت مع الأغراض والحقود، وماجت بسماسرة البغي والباطل؛ نفق البهرج والزائف» (ص٢٣).

•••

في الفصل الباحث عن صناعة النَّظْم والنثر، حينما يتكلَّم ابن خلدون عن عمل الألفاظ فيها، يلجأ إلى تشبيه مادي طريف:

«الكلام بمثابة القوالب للمعاني؛ فكما أن الأواني التي يُغترف بها الماء من البحر؛ منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها، لا باختلاف الماء، وكذلك جودة اللغة وبلاغتها» (ص٥٧٧).

•••

يتكلَّم ابن خلدون في عدة محلات عن القريحة، ويشبِّهها بالضرع قائلًا:

«القريحة مثل الضرع، تدرُّ بالامتراء، وتجف بالترك والإهمال» (ص٥٧٠).

ويكرِّر هذا التشبيه عندما يتكلَّم عن العيون أيضًا:

«إن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء، الذي هو بالعمل الإنساني، كالحال في ضروع الأنعام. فما لم يكن إنباط ولا امتراء؛ نضبت وغارت بالجملة، كما يجف الضرع إذا تُرِك امتراؤه» (ص٣٨٢).

حينما يتكلَّم عن علاقة الحضارة بالدول يقول بوفور العمران في مركز الدولة والمدن المجاورة، ويحاول توضيح رأيه هذا بتشبيه مادي:

«ما ذلك إلا لمجاورة السلطان لهم، وفيض أمواله فيهم، كالماء يخضرُّ ما قرب منه من الأرض، إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البُعْد» (ص٣٦٩).

•••

يشرح ابن خلدون كيفية توصُّل الذهن إلى معرفة الأسباب والمسببات في الفصل الذي يقرِّر «أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر»، ويقول:

«فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست، فتكون إنسانيته أعلى.»

ثم يؤيد هذا الإيضاح بتشبيه مادي: «اعْتَبِرْ ذلك بلاعب الشطرنج؛ فإن في اللاعبين من يتصوَّر الثلاث حركات أو الخمس — التي ترتيبها وضعي — ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه» (طبعة كاترمير، ص٣٦٧، ج٢).

•••

في الفصل الذي يقرِّر «أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها، إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة»، يشرح ابن خلدون كيف «أن كثرة المكاسبة تسهِّل «البذل والإيثار لمبتغيه»»، ثم يلجأ إلى تشبيه مادي لتأييد رأيه في هذا الصدد وتقريبه إلى الأذهان، قائلًا:

«مَثِّلْه بشأن الحيوانات العجم من بيوت المدينة الواحدة، كيف تختلف أحوالها في هجرانها وغشيانها.»

«فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها تكثر بساحتها وأفنيتها، بنثر الحبوب وسواقط الفتات، فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش، وتحلِّق فوقها عصائب الطيور، حتى تروح بطانًا وتمتلئ شبعًا وريًّا. وبيوت أهل الخصاصة والفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب، ولا يحلِّق بجوها طائر، ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة، كما قال الشاعر:

يسقط الطير حيث يُلتقَطُ الحبُّ
وتُغشى منازلُ الكرماء

فتأمَّل سر الله تعالى في ذلك، واعْتَبِرْ غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات، وفُتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها؛ لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم» (ص٣٦٢).

•••

في الفصل الذي يقرِّر «أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها» (ص٣٧٤)، يشرح ابن خلدون الأسباب التي تؤدي إلى انحطاط العاصمة القديمة وازدهار العاصمة الجديدة، ويستعين في هذا الشرح بتشبيه مادي طريف:

«إنما ذلك بمثابة «من له بيت على أوصاف مخصوصة، فأظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصاف»، وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه، فيخرِّب ذلك البيت، ثم يعيد بناءه ثانيًا» (ص٣٧٦).

(إن العبارات المحصورة بين قوسين وردت في طبعة كاترمير على الشكل التالي: «من يملك بيتًا داخَله البلى، والكثير من أوضاعه في مرافقه، لا توافق مقترحه وله قدرة على تغيير تلك الأوضاع») (ص٢١٤، ج٢).

•••

حينما يتكلَّم ابن خلدون عن صناعة الشعر يشبِّه الأسلوب بالقالب أو المنوال قائلًا: «إن الذهن ينتزع من أعيان التراكيب وأشخاصها صورةً ذهنية، يصيِّرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرصُّها فيه كما يفعل البنَّاء في القالب، والنسَّاج في المنوال» (ص٥٧١).

يكرِّر ابن خلدون هذا التشبيه عدة مرات، فيقول:

«إن مؤلف الكلام هو كالبنَّاء أو النسَّاج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يُبنى فيه، أو المنوال الذي يُنسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه، أو عن المنوال في نسجه؛ كان فاسدًا» (ص٥٧٢).

•••

في الفصل الذي يقرِّر «أن العلماء من البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها»، يشرح ابن خلدون كيف أن العلماء وأهل الذكاء يعتادون الأنظار الفكرية، ويطيلون التفكير في الأمور المجردة والكلية، ويسترسلون في تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض، وكيف أنهم يتباعدون عن الحقائق الواقعة، في حين أن العامي المتوسط الذكاء لا يبتعد كثيرًا عن المواد المحسوسة. ثم يوضِّح رأيه هذا بتشبيه مادي:

«العامي السليم الطبع المتوسط الكيس — لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه — يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يُعدِّي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة، ولا يجاوزها في ذهنه.

كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:

فلا توغلنَّ إذا ما سبحت
فإن السلامة في الساحل

فيكون مأمونًا من النظر في سياسته، ومستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه» (ص٤٥١–٥٤٣).

•••

في فصل علم الكلام يشبِّه ابن خلدون العقل بالميزان، ويقول:

«العقل ميزان صحيح، غير أنك لا تطمح أن تزن به أمور التوحيد والآخرة؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزَن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال» (ص٤٦٠).

•••

في الفصل الذي يقرِّر «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها» (ص١٧٧–١٨٢)، يتكلَّم ابن خلدون عن الرحَّالة ابن بطوطة، وعمَّا رواه عن أحوال الهند، ويحذِّر قُرَّاءه عن استنكار تلك الروايات، وتأييدًا لرأيه هذا يذكر حكايةً سمعها من الوزير فارس بن وردار:

«قال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم ترَه، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن؛ وذلك أن وزيرًا اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين، ربَّى فيها ابنه في ذلك المحبس، فلمَّا أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذَّى بها، فقال له أبوه: هذا لحم الغنم. فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها، فيقول: يا أبت، تراها مثل الفأر؟ فيُنكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر؟ وكذا في لحم الإبل والبقر؛ إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر، فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر» (ص١٨٢).

•••

إنني أعتقد أن كثرة هذه التشبيهات المادية وتنوُّعها تدل دلالةً واضحةً على نزعة من النزعات التي كانت تتصف بها عقلية ابن خلدون، كما ذكرناه في مستهلِّ هذه الدراسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤