نقد كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية

كتب الدكتور طه حسين أطروحةً باللغة الفرنسية عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» عندما كان يدرس في باريس، ونشرها سنة ١٩١٨، وقد نُقِلت الأطروحة المذكورة إلى العربية بقلم الأستاذ المحامي عبد الله عنان، ونُشِرت في مصر القاهرة سنة ١٩٢٦.

إن الكتاب المذكور يكاد يكون المؤلَّف الوحيد الذي يشرح نظريات ابن خلدون في الفلسفة الاجتماعية والتاريخ، بشيء من التفصيل، باللغة العربية.

في الواقع إن الأستاذ عبد الله عنان نشر مؤخرًا — سنة ١٩٣٣ — كتابًا بعنوان: «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري»، وتوسَّع فيه بوجه خاص في شرح صفحات حياته المختلفة، كما اهتم بنقل وتلخيص ما قيل عنه في بلاد الغرب، وأدَّى بذلك إلى قُرَّاء العربية خدمةً كبيرة، غير أنه التزم جانب الاختصار فيما يتعلَّق بآراء ابن خلدون في التاريخ والاجتماع، وحصر كلامه عن ذلك كله في فصل صغير لا يتجاوز عدد صفحاته العشرة؛ لأنه رأى أن يحيل قُرَّاءه إلى كتاب الدكتور طه حسين، قائلًا: «يستطيع من يريد شرحًا وافيًا لمقدمة ابن خلدون ونظرياته الفلسفية والاجتماعية أن يرجع إلى رسالة صديقي الدكتور طه حسين «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، التي نقلتها إلى العربية» (ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، ص١١٠).

ولهذا السبب نستطيع أن نقول إن أطروحة الدكتور طه حسين لا تزال «المرجع الوحيد» لمن يريد الاطلاع على فلسفة ابن خلدون في التاريخ والاجتماع من مصادر عربية.

وممَّا يؤسَف له كل الأسف أن الدكتور طه حسين كان قد كتب الأطروحة المذكورة، عندما كان حديث عهد بدراسة علم الاجتماع، فلم يكن قد أحاط علمًا — عندئذ — بنظريات علم الاجتماع وتاريخه الإحاطة الكافية. كما أنه لم يكن قد وجد متسعًا من الوقت للتعمُّق في دراسة مقدمة ابن خلدون التعمُّق اللازم.

ويظهر أنه كان مدفوعًا — في الوقت نفسه — بروح انتقاد عنيفة، حملته على نقد العلماء الغربيين الذين قد «بهرتهم طرافة ابن خلدون» — حسب تعبيره — وجعلتهم يرون فيه فيلسوفًا حديثًا (ص١٠٠).

لقد أخذ الدكتور طه حسين على عاتقه نقد آراء هؤلاء الغربيين المفتونين بابن خلدون وبمقدمة ابن خلدون.

فقد اعتقد جماعة منهم أن ابن خلدون كان «أول من أراد أن يجعل من التاريخ علمًا»، غير أن الدكتور اندفع في الاعتراض عليهم صائحًا: «كلا، إن ابن خلدون لم يفكر في ذلك مطلقًا.»

وكذلك «كان قد خلع جماعة منهم على ابن خلدون لقب «العالم الاجتماعي»، واعتبروا عمله «باكورةً لما نسميه اليوم علم الاجتماع»، غير أن الدكتور انبرى للرد عليهم قائلًا: «كلا، إن ذلك يكون مبالغةً كبيرة.»

فيجدر بنا أن نُقْدِمَ على تمحيص الآراء التي أدلى بها الدكتور طه حسين في كتابه الآنف الذكر بشيء من التفصيل.

١

  • (١)

    لقد اعتقد عدد من العلماء — ما بين مستشرقين وفلاسفة — أن ابن خلدون «ذلك المفكر الذي ظهر في القرون الوسطى، قد سبق منذ القرن الرابع عشر المذاهب الحديثة التي ترمي إلى جعل التاريخ علمًا لا فنًّا أدبيًّا» (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص٣١).

    غير أن الدكتور طه حسين اعترض عليهم بشدة، وزعم أن طريقة ابن خلدون في التاريخ خاطئة من أساسها.

    وأمَّا الأدلة التي يحاول الدكتور أن يدعم بها رأيه في هذا الصدد، فيمكن أن تُلخَّصَ في الأمور الثلاثة التالية:
    • (أ)

      أن «فررو» كان أول من اعتقد أن ابن خلدون أراد أن يجعل من التاريخ علمًا. لا ريب في أنه خُدِع بعبارة وردت في المقدمة يسمِّي بها ابن خلدون التاريخ علمًا. وإلى نفس هذا الخطأ يجب أن يُنْسَب تقدير الأستاذ فلينت الذي اعتمد على ترجمة دو سلان الفرنسية (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص٣٤).

      وهذا خطأ محض؛ لأن كلمة العلم في العربية لا تقابل كلمة Science بمعناها الغربي الحالي، بل إنها تدل على «المعرفة» بوجه عام.

      «فليس ثمة شك في تلك النقطة، وهي أن ابن خلدون لم يفكر مطلقًا في أن يجعل من التاريخ علمًا بمعنى الكلمة. ويظهر ذلك ظهورًا كافيًا من خطته، وأكثر منه في مقدمته» (ص٣٥).

    • (ب)

      «وبعدُ، فما قيمة طريقة ابن خلدون التاريخية؟ إن المسألة الأساسية في التاريخ قد فاتته؛ فهو لا يُعنى بالبحث عن المصادر ولا يفحصها، مع أن ذلك أول ما يجب على المؤرخ، ولا يهتم للشكل الذي يجب أن يعرض به المؤرخ الوثائق المستكشفة بعد استيفائها، مع ما لذلك من كبير أهمية» (ص٤٨).

      «إن ابن خلدون يرى أن قواعد الفحص والتحقيق ترجع إلى أصل واحد، وهو وجوب البحث بطريقة نظرية عمَّا إذا كانت واقعة من الوقائع ممكنةً في ذاتها، وعمَّا إذا لم تكُ مناقِضَةً لطبائع العمران، وأمَّا أن يستكشف الأثر المادي للوقائع، ثم يمتحنه ويستجوبه، فإن ابن خلدون لا يفكر في ذلك، وربما لا يعتقد أن ذلك في حيِّز الإمكان» (ص٣٢).

    • (جـ)

      فهذه الخطة التي يضعها ابن خلدون لم تكن ناقصةً وغير وافية بالمرام فحسب، بل هي خطة تنطوي على شيء من الدور الباطل والتناقض المنطقي أيضًا.

      «إن التاريخ بحث اجتماعي، وتجب لكتابته وفهمه معرفة المجتمع البشري. وكيف يُدرس المجتمع البشري، أبالتاريخ الذي هو ملاحظة سطحية للوقائع؟ أم بالاستعانة بعلم آخر يتكوَّن من ملاحظتها بطريق مباشر؟ يجيب ابن خلدون أن الوسيلة هي الطريقة الأولى. ولكن كيف يمكن الخروج من هذا الدور؟ إنه لا يحاول ذلك، ولو أنه حاول لما استطاع الفوز» (ص٤٩).

      وكل ذلك يدل دلالةً قطعية — على رأي الدكتور طه حسين — أن طريقة ابن خلدون التاريخية كانت خاطئةً من أساسها.

  • (٢)
    فلْندرس بإمعان كل واحد من هذه الأدلة التي بنى عليها الدكتور طه حسين حكمه البتَّار في هذا المضمار:
    • (أ)

      لا شك في أن استعمال كلمة «العلم» وحدها لا يبرِّر اعتبار ابن خلدون محاولًا لتأسيس علم التاريخ، غير أنه لا مجال للشك أيضًا في أن العلماء الذين يشير إليهم الدكتور لم يستندوا في حكمهم لابن خلدون في هذا الصدد إلى تعبير «علم التاريخ» وحده؛ فقد اشتغل الأستاذ فلينت — مثلًا — أكثر من ربع قرن بدرس تاريخ فلسفة التاريخ وعلم التاريخ، فاستعرض ونقد كل ما كُتِب في هذا الصدد في مختلِف اللغات، من عهد أرسطو وأفلاطون، حتى أواخر القرن التاسع عشر. فهل يُعْقَل أن يكتب مؤرخ مفكر مثل فلينت ما كتبه عن ابن خلدون مستندًا إلى تعبير علم التاريخ وحده، ويقول ما قاله في هذا الصدد مخدوعًا بكلمة العلم وحدها؟! فكيف يسوغ لنا أن نزعم بأنه كان مخدوعًا بترجمة دو سلان الذي لم ينتبه إلى معنى كلمة «العلم» العام؟

      إنني لا أشك في أن من يدرس مؤلفات فلينت — من تاريخ فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا، إلى تاريخ فلسفة التاريخ العام — ويطَّلع على انتقاداته المختلفة، لا يتردَّد في القول بأن ما كتبه عن ابن خلدون لا يمكن أن يكون مستندًا إلى كلمة واحدة، بل لا بد من أن يكون مستندًا إلى مجموع آراء ابن خلدون، ومجموع ما جاء في مقدمته المشهورة.

      فلْنترك «فلينت» وما قاله جانبًا، ولْننظر في القضية مباشرة؛ بماذا يمتاز العلم عن المعرفة؟ وبتعبير آخر: ما الفرق بين «المعرفة العلمية» وبين «المعرفة العادية»؟

      من المعلوم أن «العلم» يتألَّف من معارف منسَّقة تنسيقًا يربط الأسباب بالمسبَّبات، ويُظْهِر القوانين الترافقية أو التعاقبية١  Iois de succession et de coexistence التي تتجلَّى في الحادثات، والنظرة العلمية للحادثات إنما هي النظرة التي لا تكتفي بملاحظة الوقائع وتسجيلها، بل تسعى لاكتشاف القوانين المتعلقة بتلك الوقائع، وإظهار عللها الموجبة أيضًا.

      فلْنتأمل في رأي ابن خلدون في التاريخ من هذه الوجهة؛ نجد أنه يعتقد بوجود علل وأسباب تؤدي إلى حدوث وقائع التاريخ، كما يعتقد بوجود قوانين عامة تشمل الأمم المختلفة في جميع الأقطار والأعصار، ونجد أيضًا أنه يحاول — في مختلِف فصول المقدمة — إظهار هذه القوانين العامة وتبيين تلك الأسباب الموجبة. ولا مجال للشك في أن كل ذلك إنما هو من الصفات الأساسية التي تميِّز «الأبحاث العلمية» من «المعارف الاعتيادية».

      إن العلماء الذين قالوا إن ابن خلدون أراد أن يجعل من التاريخ علمًا، بنوا قولهم هذا على ما شاهدوه في المقدمة من الملاحظات والمحاولات التي استهدفت اكتشاف تلك القوانين، وبيان تلك العلل والأسباب، لا على معنًى واحد من معاني كلمة واحدة، فمهما كان مدلول كلمة «العلم» التي استعملها ابن خلدون في هذا الصدد، فممَّا لا مجال للشك فيه أن المقدمة — بهيئتها العامة — كانت محاولةً صريحةً لبحث الوقائع التاريخية بحثًا علميًّا، مهما كان حظ هذه المحاولة من النجاح والإصابة.

      وهذا يبرِّر تمامًا قول القائلين بأن ابن خلدون كان أول من حاول جَعْل التاريخ علمًا.

    • (ب)

      لا شك في أن طرائق البحث التي لجأ إليها ابن خلدون كانت محدودةً وناقصة، ومن الثابت أنه كان زعم أن المعلومات التاريخية تأتي من الأخبار — المكتوبة أو المروية — وحدها، وأنه كان بقي جاهلًا لطريقة استنتاج التاريخ من الآثار.

      غير أن كل ذلك لا ينزع صفة «العلمية» عن الأبحاث التي قام بها ابن خلدون، ولو كان في نطاق محدود، وبطريقة غير كاملة.

      وممَّا لا يجهله أحد أن علماء الفلك يستفيدون الآن من وسائل رصدٍ متنوعة، وطرائق بحث مختلفة، ما كان يعرف أسلافهم شيئًا منها، بل ولا كانوا يحلمون بها؛ إنهم يبحثون في السماء وفي الأجرام السماوية تحت قبب مراصد مجهزة بجميع الوسائط الميكانيكية والآلات الرصدية، مستفيدين من التلسكوبات القوية والكرونومترات الدقيقة، ومن وسائل التصوير الضوئي، ومن اكتشافات التحليل الطيفي. ولا شك في أن علماء الفلك القدماء الذين خلَّدوا أسماءهم في تاريخ العلوم — مثل كوبرنيكوس وكبلر — كانوا يجهلون جميع هذه الطرق جهلًا تامًّا. ولا نعدو الحقيقة أبدًا إذا قلنا إنهم ما كانوا يتصورون قط أنه سيأتي يوم يتمكَّن فيه العلماء من مشاهدة العوارض الموجودة على سطح القمر، ويتوصَّل فيه البشر إلى معرفة المواد الموجودة في تركيب الشمس والكواكب والسدم. فهل يخطر على بال أحد أن يقول: «إن كبلر كان بعيدًا عن فهم الفلك فهمًا علميًّا؛ لأنه كان يرى أن قواعد الفحص والبحث في الفلك تنحصر في مشاهدة الأجرام السماوية وتتبُّع حركاتها؟! وأمَّا أن يحلِّل أنوار الأجرام السماوية، ويمتحن تلك الأنوار ويستجوبها لمعرفة المواد التي تتركَّب منها تلك الأجرام، فإن كبلر لا يفكر في ذلك أبدًا، بل لم يعتقد بأن ذلك في حيِّز الإمكان.»

      ونحن نقول بلا تردُّد — قياسًا على ذلك — إن عدم توصُّل ابن خلدون إلى طريقة معرفة التاريخ من الآثار المادية، لا تجرد عمله من صبغته العلمية بوجه من الوجوه.

      إن الأمر الذي يترتَّب علينا في هذا الصدد ليس أن نبحث فيما «إذا كان ابن خلدون قد عرف جميع طرائق البحث في التاريخ أم لم يعرفها»، بل هو أن نبحث فيما إذا كان «قد سار على طريقة علمية في الساحة التي لاحظها والوسائل التي اهتدى إليها، أم ظل بعيدًا عن الطرائق العلمية حتى في تلك الساحة وتلك الوسائل نفسها.»

      ونحن لا نشك في أن كل تفكير في هذا الاتجاه يضطر الباحث إلى التسليم بأن مقدمة ابن خلدون تستحق مكانًا ممتازًا جدًّا في تاريخ علم التاريخ أو تاريخ فلسفة التاريخ.

    • (جـ)

      وأمَّا الدليل الثالث الذي يسرده الدكتور طه حسين، فهو أهم وأخطر الدلائل التي يمكن تصوُّرها في مثل هذه الأمور؛ لأنه يدَّعي بوجود تناقض منطقي في طريقة ابن خلدون، فلو صح وجود هذا التناقض؛ لنَفَى عن عمل ابن خلدون كل صفة علمية بطبيعة الحال.

      غير أن ما يزعم الدكتور في هذا الصدد لا ينطبق على آراء ابن خلدون بوجه من الوجوه، كما أنه يخالف الحقائق التاريخية والاجتماعية أيضًا من كل الوجوه.

      فأولًا: يدَّعي الدكتور طه حسين بأن ابن خلدون يرى أن الوسيلة لدرس المجتمع البشري هي ملاحظة الوقائع التاريخية؛ ولهذا السبب لا يفهم كيف يمكن الاستفادة من علم العمران في درس التاريخ، ما دام هذا العلم نفسه يستند إلى التاريخ!

      غير أن ابن خلدون لم يقل أبدًا إن وسيلة دراسة علم العمران هي درس الوقائع التاريخية، بل إنه قال بصراحة تامة إن الوسيلة المذكورة هي درس المجتمعات الحالية والوقائع المشهودة؛ لأنه تكلَّم في عدة مواضع من الديباجة والمقدمة عن شهادة الحاضر (ص١٠)، وعند الاستدلال بالماضي المشاهَد والقريب المعروف (ص١١)، وعن قياس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب (ص٩)، وعن التفطُّن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال (ص٢١). كما أنه كتب في معظم فصول الكتاب الأُول نفسها أبحاثًا كثيرةً مستندةً إلى ملاحظة المجتمعات الحالية وتطوُّراتها الحديثة.

      في الواقع إن ابن خلدون — خلال أبحاثه المتنوعة — تطرَّق إلى الماضي البعيد أيضًا، غير أن أساس تفكيره في هذا الصدد استند — قبل كل شيء — إلى ملاحظة الحال المشاهَد، أو الماضي القريب.

      ولهذا السبب نحن نرى أن الدكتور طه حسين عندما ادَّعى بأن ابن خلدون يستند في علم العمران إلى التاريخ، قد عزا إليه رأيًا لم يقل به أبدًا، وخطةً لم يسلكها قطعًا، كما أنه قد تباعد عن الحقيقة تباعُدًا كُليًّا، عندما توصَّل من ذلك إلى القول بأن ابن خلدون دخل في مأزق فكري، ووقع في شباك دور باطل غير منطقي.

      ونحن نعتقد بأن رأي ابن خلدون في هذه القضية يدل — بعكس ذلك — على عبقرية فذة؛ لأن الرأي المذكور يرفعه إلى مصافِّ علماء التاريخ والاجتماع الحديثين مباشرة.

      ذلك لأن علاقة التاريخ بعلم الاجتماع من المسائل التي اهتم بها العلماء والمفكرون اهتمامًا شديدًا منذ أوائل القرن الحاضر. إنها صارت مِرارًا موضوع أبحاث هامة في مؤتمرات التاريخ من جهة، وفي مؤتمرات علم الاجتماع من جهة أخرى. وقد خصَّص لها الكثيرون من علماء التاريخ والاجتماع مقالات كثيرة، وفصولًا كبيرةً في الكتب والمجلات. نحن لا نرى لزومًا لاستعراض وشرح ما كُتِب في هذا الشأن، فنكتفي بالإشارة إلى ما كتبه في هذا الصدد أحد مشاهير علماء الاجتماع «سيميان» Simiand، وأحد مشاهير علماء التاريخ «سنيوبوس» Seignobos؛ فإن الأول نشر مقالًا في مجلة «التركيب التاريخي» تحت عنوان «الطريقة التاريخية وعلم الاجتماع»، والثاني كتب مقالًا في مجلة الجامعة بعنوان «علاقة علم الاجتماع بالتاريخ».
      هذا وقد أشار سنيوبوس إلى هذه المسألة في الكتاب المشهور الذي ألَّفه بالاشتراك مع الأستاذ «لانغلوا» Langlois بعنوان «مدخل إلى دراسة التاريخ» Introduction à I’étude de L’histoirs قائلًا: «لأجل أن نتصوَّر الشروط والظروف التي حدثت تحتها وقائع الماضي، يجب أن نبحث عن الشروط والظروف التي تحدث تحتها الوقائع المماثلة لها في الحالة الحاضرة، وذلك بدرس الأحوال البشرية الحالية.»
      كما قال «هانري سه» Henri Sée في كتابه عن «فلسفة التاريخ» هذا القول الصريح:

      «إن المؤرخ لا يمكن أن يفهم الماضي حق الفهم من غير أن يأخذ الحال بنظر الاعتبار.»

      أليس من الغريب — والحالة هذه — أن يعتبر الدكتور طه حسين محاولة ابن خلدون للاستفادة من علم العمران بالتاريخ محاولةً فاشلة، تنطوي على الدور الباطل والضلال المبين؟!

      هذا وأستطيع أن أذكر في هذا الصدد دليلًا أَحْسَم من كل ذلك أيضًا؛ إن كليات التاريخ التي تُنْشَر في فرنسا بعنوان «تطوُّر البشرية» L’évolution de I’humanitè، تحت رئاسة المؤرخ المفكر «هانري بر» Henri Berr خصَّصت أحد مجلداتها لدرس وشرح أوائل تاريخ الشرق القديم تحت عنوان «من القبائل إلى السلطنات» Des clans aux empires، وقد اشترك في كتابة هذا المجلد عالم اجتماعي هو الأستاذ «داوي» Davy، ومؤرخ اختصاصي هو الأستاذ «موره» Moret. يبدأ المجلد المذكور بمدخل اجتماعي يتكلَّم عن خدمة علم الاجتماع في فهم التاريخ، ويعطي لذلك مثالًا حيًّا من تاريخ مصر القديم، ونحن نجتزئ بالعبارة التالية من المدخل المذكور:
      «إن تكوُّن الملكية المصرية كان من المسائل التي تظهر على شكل لغز غامض يصعب تفسيره وتعليله، غير أن هذه المسألة تنوَّرت في السنين الأخيرة بنور كشاف، بفضل المعلومات التي توصَّل إليها علماء الاجتماع عن نظام الطوتمية Totemisme من دراسة المجتمعات البدائية الحالية.»

      أفلا يحق لنا أن نقول لذلك إن رأي ابن خلدون في وجوب الاستفادة من علم العمران في التاريخ كان من إلهامات العبقرية، بعكس ما ذهب إليه الدكتور طه حسين تمامًا؟

      إننا نعتقد أن ابن خلدون دلَّ في هذه القضية على بصيرة فائقة، وعبقرية خارقة؛ إذ ابتدع طريقةً جديدةً في درس التاريخ وتفسيره، طريقةً لم يقدِّر أهميتها علماء الغرب ومفكروه، إلا بعد مرور مدة تقرب من ستة قرون.

٢

  • (١)

    لقد اعتقد بعض العلماء الغربيين — ما بين مؤرخين واجتماعيين — أن ابن خلدون قد سبق المفكرين الذين أسَّسوا علم الاجتماع في القرن الأخير؛ ولذلك منحوه لقب «العالم الاجتماعي»، واعتبروا المقدمة التي كتبها في القرن الرابع عشر باكورةً لما نسميه اليوم علم الاجتماع.

    وأمَّا الدكتور طه حسين فقد اعترض على آراء هؤلاء أيضًا بشدة وقطعية، فلم يسلِّم باستحقاق ابن خلدون لقب العالم الاجتماعي، حتى إنه لم يوافق على اعتبار مقدمة ابن خلدون باكورةً لعلم الاجتماع الحالي.

    وأمَّا الأدلة التي يسردها الدكتور في أطروحته لدعم رأيه في هذا المضمار، فيمكننا أن نصنِّفها ونلخِّصها كما يلي:
    • (أ)

      نرى من قراءة المقدمة أن ابن خلدون لا يشير إلا إلى شكل اجتماعي واحد، هو الدولة المنظمة التي يسميها أحيانًا بالشعب، وأحيانًا بالأمة.

      فموضوع بحثه هو الدولة، وهو أضيق من أن يصلح موضوعًا لعلم الاجتماع، فهو جزء منه، وأبعد من أن يكون كلًّا له (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص٦٣).

    • (ب)

      يرى ابن خلدون أن الظواهر الاجتماعية لا تختلف عن الظواهر الفردية، وأن من الممكن دائمًا أن تُرَدَّ إليها (ص٦٨).

      وهو لأجل أن يدرس المجتمع يعتمد على درس الفرد، وبالأخص على درس النظريات التي جاءت بها مباحث ما وراء الطبيعة، والمباحث الكلامية عن الروح البشرية (ص٦٠).

    • (جـ)

      يدرس ابن خلدون المجتمع ليشرح التاريخ، ولأجل أن يوصَف الاجتماع بأنه علم؛ يجب أن يكون مستقلًّا (ص٦٠).

      في الواقع إن ابن خلدون يعتبر علم الاجتماع مستقلًّا، ومع ذلك يعترف بأنه ليس تام الاستقلال؛ إذ يقول إنه ليس ثمة باعث لوجوده «إلا إيضاح الوقائع التاريخية وتحقيقها» (ص٥٦).

    • (د)

      إن واجب الاجتماعي هو أن يفهم المجتمع في حد ذاته مستقلًّا عن علاقاته بالزمن (ص٦٥)، فكل الأبحاث التي تنظر إلى المجتمع من خلال التاريخ — الذي يمثِّل الأزمنة الماضية — لا يمكن أن تكون علمًا اجتماعيًّا، فلا تخوِّلنا حق منح صاحبها لقب العالم الاجتماعي.

  • (٢)

    إن هذه الأدلة تَظْهَر لنا مكثفةً ومركزةً في العبارات التالية التي يلخِّص بها الدكتور طه حسين رأيه في مقدمة ابن خلدون من وجهة علم الاجتماع:

    «المجتمع في أحد أشكاله فقط يُفْهَم على أشد الطرق سذاجة، ويُدرس لأجل التاريخ، طبقًا لمنهج شديد الاختلال في بعض المواطن، على أنه جم البراعة أيضًا. هذه خلاصة ما تحتويه مقدمة ابن خلدون بصفة عامة» (ص٦٢).

    يقول الدكتور طه حسين كل ذلك، على الرغم مما قاله عدد كبير من علماء الغرب الذين «افتتنوا بمقدمة ابن خلدون افتتانًا كبيرًا»، ولم يتردَّدوا في تلقيب مؤلفها بلقب «العالم الاجتماعي»، بل ورأوا وجوب تلقيبه بلقب «مؤسِّس علم الاجتماع» أيضًا.

  • (٣)
    فعلينا أن ننعم النظر في انتقادات الدكتور طه حسين؛ لنرى مبلغ حظها من الحق والصواب:
    • (أ)

      إن ما يدَّعيه الدكتور من أن موضوع بحث ابن خلدون هو الدولة، ومن أنه لا يشير إلا إلى شكل اجتماعي واحد هو الدولة المنظمة، يخالف الواقع مخالفةً صريحة.

      ذلك لأن أبحاث «الدولة المنظمة» في مقدمة ابن خلدون تنحصر في باب واحد من أبوابها، وأمَّا الأبواب الأخرى من المقدمة، فتتضمَّن أبحاثًا كثيرةً وشائقةً عن القبائل والعشائر، والمدن والأمصار، ووسائل الرزق والمعاش، والعلم والتعليم. فالقول — والحالة هذه — إن ابن خلدون لا يبحث إلا عن الدولة، ولا سيما الدولة المنظمة، لا ينطبق على الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه. إن نظرةً منصفةً إلى فهرست فصول المقدمة تكفي لتفنيد هذا الزعم بصورة لا تترك مجالًا لأدنى ريب في هذا الشأن.

    • (ب)

      وكذلك الأمر فيما يدَّعيه الدكتور من أن ابن خلدون يرى أن الظواهر الاجتماعية لا تختلف عن الظواهر الفردية، وأن من الممكن أن تُرَد إليها.

      فإنني أعتقد أن هذا الادعاء أيضًا يخالف الواقع مخالفةً صريحة؛ فإن أبرز الانطباعات التي يحصل عليها علماء الاجتماع عندما يدرسون مقدمة ابن خلدون، هو اهتمام مؤلفها بالمظاهر الاجتماعية اهتمامًا بارزًا، وإهماله العوامل الفردية إهمالًا كليًّا. إن الدراسات التي كتبناها عن آراء ابن خلدون في القسر الاجتماعي من جهة، وطبائع الأمم من جهة أخرى، تبرهن على ذلك بكل وضوح وجلاء.

      وأمَّا القول بأن ابن خلدون لأجل أن يدرس المجتمع يعتمد على الفرد، وبالأخص على درس النظريات التي جاءت بها مباحث ما وراء الطبيعة والمباحث الكلامية عن الروح البشرية، فهو أيضًا يخالف الحقائق الراهنة مخالفةً كلية؛ لأن ابن خلدون لا يلتجئ إلى شيء من ذلك إلا في الأبحاث المتعلقة بالنبوة والخلافة والإمامة. ومن البديهي أنه لا يحق لأحد أن يحكم على مجموع المقدمة، قياسًا على سياق تلك الأبحاث التي ترتبط بالأمور الدينية والأحكام الشرعية، بطبيعتها وموضوعها ارتباطًا مباشرًا، ولا سيما بعد أن يرى في المقدمة عشرات وعشرات من الأبحاث التي تسير على منهج يخالف ذلك مخالفةً قطعية. عشرات من الأبحاث التي تحوم حول «العوائد» التي تتحكَّم على سلوك الأفراد، و«الأطوار» التي لا تتأثَّر بإرادات الأفراد، بل تحدث بمقتضى «طبيعة العمران».

      إن الدراسة التي كتبناها عن «ابن خلدون وعلم الاجتماع» في هذا الكتاب تشرح ذلك بتفصيل وافٍ، وتكفي لتفنيد رأي الدكتور في هذه المسألة.

    • (جـ)

      أمَّا قضية تبعية أم عدم تبعية علم الاجتماع للتاريخ، فممَّا يحتاج إلى تأمُّل بإمعان، في الواقع إن ابن خلدون فكَّر في «علم العمران» خلال أبحاثه التاريخية، ودوَّن مسائل هذا العلم عندما تهيَّأ لكتابة التاريخ، غير أن ذلك لا يبرِّر القول بأن «ابن خلدون جعل علم العمران تابعًا للتاريخ». فإن كل ما قاله وفعله في هذا المضمار يُعْلِمُنَا بسلسلة الأفكار والملاحظات التي دفعته إلى دراسة علم العمران، ولكنه لا يجعل علم العمران تابعًا للتاريخ في حدِّ ذاته؛ لأن المؤلف قد صرَّح بأن علم العمران مستقل بنفسه، كما أنه جمع مباحث هذا العلم في كتاب خاص منفصل عن مباحث التاريخ الأصلية. إن كل من يدرس هذا الكتاب — الذي عُرِف باسم المقدمة — يُضطر إلى التسليم بأنه لا يرتبط بالكتابين الثاني والثالث من التاريخ ارتباطًا فعليًّا، وبأن فصل الكتاب الأول المذكور عن الكتابين الثاني والثالث، لا يغير شيئًا من وضعه أبدًا.

      فلا يحق لأحد أن ينفي عن علم العمران صفة علم الاجتماع؛ بحجة أنه يكون جزءًا من «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر»، طالما صرَّح واضع العلم المذكور بأنه مستقل بنفسه، وطالما عالج مسائل هذا العلم ومواضيعها أيضًا بصورة مستقلة عن مباحث التاريخ.

      يلوح لنا أن الدكتور طه حسين قد تأثَّر في هذه القضية تأثُّرًا خاصًّا من عبارة وردت في المقدمة عن ثمرة علم العمران. قال ابن خلدون: إن ثمرة هذا العلم هي تصحيح الأخبار. واستشهد الدكتور بهذه العبارة عدة مرات، واستنتج منها النتيجة التالية: «علم العمران في نظر ابن خلدون ليس إلا واسطةً لتصحيح الأخبار.»

      إننا نعتقد أن الدكتور طه حسين تجاوز حدود الحق والحقيقة كثيرًا بهذا الاستنتاج؛ لأن ابن خلدون كتب العبارة المذكورة خلال تكلُّمه عن ابتكار علم العمران. لقد صرَّح بأنه لم «يقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة»، وأظهر استغرابه لعدم تفكير الحكماء في مسائل هذا العلم قبله، وحاول أن يعلِّل ذلك من وجوه عديدة، فقال أولًا: «لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه فلم يصل إلينا.» ثم قال بعد ذلك: «لكن الحكماء لعلهم لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات، وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت، وإن كانت مسائله في ذاتها واختصاصها شريفة، ولكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة؛ ولهذا هجروه والله أعلم» (مقدمة ابن خلدون، ص٣٨).

      يظهر من مطالعة هذه الفقرة بإمعان أن ابن خلدون أشار فيها إلى الفائدة العملية المتوخَّاة من علم العمران — نقول الفائدة العملية؛ لأننا نجده يستعمل كلمة الثمرة بهذا المعنى في عدة مواضع من المقدمة مثل هذا الموضع — وقال: إن هذه الفائدة العملية هي تصحيح الأخبار التاريخية، وزعم أن هذه الفائدة البسيطة لم تكن كافيةً لحمل الحكماء على التفكير في مسائل العمران والاجتماع، مع أن هذه المسائل «شريفة في ذاتها واختصاصها».

      فكيف يمكن أن يُستنتج من ذلك أن ابن خلدون اعتبر علم العمران جزءًا من التاريخ وواسطةً للتاريخ؟

      من الواضح الجلي أن مسائل العلم شيء، وثمراته شيء آخر. ومن البديهي أن القول بضعف الثمرة لا يستلزم القول بعدم استقلال الموضوع، فما قاله ابن خلدون عن أسلافه من أنهم «لاحظوا العناية بالثمرات»، لا يجوز أن يُتَّخَذَ حجةً عليه، على الرغم من اعتنائه بعلم العمران، وتصريحه باستقلال هذا العلم.

    • (د)

      أمَّا زَعْم الدكتور طه حسين بأن «واجب الاجتماعي هو أن يفهم المجتمع في حد ذاته، مستقلًّا عن علاقاته بالزمن»، فممَّا يعود بنا إلى مسألة «التاريخ وعلم الاجتماع» التي أشرنا إليها آنفًا، عندما انتقدنا رأي الدكتور في طريقة ابن خلدون في درس التاريخ. فنكرِّر القول مرةً أخرى بأن رأي الدكتور في هذا الصدد لا يتفق مع الحقائق العلمية الاجتماعية الحديثة بوجه من الوجوه.

      فإن واجب العالم الاجتماعي هو عكس ما يدَّعيه الدكتور طه حسين تمامًا؛ إن علماء الاجتماع الحديثين لا يدرسون «المجتمع» بصورة عامة مجردة من الزمان والمكان، بل إنهم يدرسون «المجتمعات» المختلفة كما هي موجودة الآن، وكما كانت وُجِدت في الأزمنة الماضية المختلفة، مع جميع الظروف التي تلابس كل واحد منها، سواء كان من وجهة الزمان أو من وجهة المكان. والمجتمع في وقت معين ومكان معين تحت ظروف معينة، هو الذي يكون موضع دراسة العالم الاجتماعي، وأمَّا القوانين الاجتماعية العامة — التي تشمل عددًا كبيرًا من المجتمعات من أزمنة وأمكنة مختلفة — فلا يتوصَّل العلماء إلى اكتشافها إلا بعد دراسة المجتمعات دراسةً علميةً تامة، على النحو الذي ذكرناه آنفًا.

      فإذا كان ابن خلدون لم يجرِّد بعض المجتمعات التي درسها تجريدًا تامًّا عن زمانها، فلا يسوغ لنا أن نعدَّ ذلك منقصةً عليه، بل يجب علينا أن نعتبر هذه الخطة مزيَّةً عقليةً تزيده تقرُّبًا من ناحية الأبحاث العلمية الحديثة، بعكس ما زعمه الدكتور طه حسين.

٣

إن ما قلناه عن رأي الدكتور طه حسين في هاتين القضيتين الأساسيتين — في قضية «ابن خلدون وعلم التاريخ» من جهة، وقضية «ابن خلدون وعلم الاجتماع» من جهة أخرى — يكشف لنا صفتين من الصفات التي تتميَّز بها الأطروحة التي كان نشرها سنة ١٩١٨ عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية:
  • أولًا: عدم التعمُّق في درس المقدمة درسًا حياديًّا.
  • ثانيًا: عدم ملاحظة تطوُّرات علم الاجتماع ملاحظةً شاملة.

يظهر أن الدكتور طه حسين كان قد تمسَّك برأي واحد من الآراء المتضاربة التي قال بها علماء الاجتماع، واعتبر كل ما يخالف ذلك خارجًا على العلم، ومنافيًا لروح علم الاجتماع، من غير أن يلاحظ أن ذلك الرأي قد يكون مخالفًا لآراء جماعات أخرى من علماء الاجتماع الحديثين، ومن غير أن يلاحظ أن استحقاق ابن خلدون لقب «العالم الاجتماعي» لا يتبع موافقته أو عدم موافقته لمذهب واحد من مذاهب علم الاجتماع الحديث.

إن مقارنةً بسيطةً بين المفكرين الذين يُلقَّبون عادةً بلقب العالم الاجتماعي — من «أوكوست كونت» الذي عمَّد علم الاجتماع باسم السوسيولوجي، إلى «إميل دوركهايم» الذي أوصل نظرية استقلال الواقعة الاجتماعية إلى أقصى حدودها، مارًّا ﺑ «هربرت سبنسر» الإنجليزي، «وغبرييل تارد» الفرنسي، و«هنري بر» الألماني، و«جيدينس» الأمريكي، و«فيلفر دوباره تو» الإيطالي — إن مقارنةً بسيطةً بين هؤلاء العلماء تكفي لإقناعنا بأنه لا يحق لأحد أن ينكر هذا اللقب على ابن خلدون، مستندًا إلى الملاحظات التي أبداها الدكتور طه حسين في أطروحته.

هذا ونحن نجد في كتاب الدكتور طه حسين عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» مآخذ كثيرةً مماثِلَةً لما ذكرناها آنفًا، ولكننا لا نرى لزومًا لسردها وتفنيدها جميعًا، بعد الانتقادات التي سردناها في هاتين القضيتين الأساسيتين؛ قضية ابن خلدون وعلم التاريخ من جهة، وقضية ابن خلدون وعلم الاجتماع من جهة أخرى.

ومع هذا نرى من الضروري أن نقف قليلًا على ما جاء في الكتاب المذكور حول قضية المصادفة والمعجزة.

فقد قال الدكتور طه حسين بعد أن شرح رأي ابن خلدون في المصادفة:

«ولئن لم يقر المصادفة فإنه يقر بمبدأ آخر، أبلغ تقويضًا لقانون السبب من المصادفة، ويريد بذلك التأثير الخارق للعادة» (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص٤١).

صحيح أن ابن خلدون كان يعتقد بالمعجزات، وكان يقر بتأثيرها «الخارق للعادة»، ولكننا — مع اعترافنا بذلك — لا نوافق الدكتور على قوله: «إن إقرار هذا المبدأ هو أبلغ تقويضًا لقانون السبب من المصادفة.»

لأن المصادفة — حسب المعنى المفهوم منها — قد تحدث في كل حين؛ ولذلك تناقض قانون السببية على خط مستقيم، ولكن المعجزة — حسب المعنى المتعارَف عنها — لا تحدث إلا في بعض الأدوار، وفي أحوال نادرة جدًّا، فلا تنفي قانون السببية نفيًا باتًّا، وإن خرجت عليه وشذَّت عنه.

فإن القول بالمصادفات يعني إنكار وجود قانون السبب من أساسه، ولكن القول بالمعجزات لا يعني إنكار هذا القانون، إنما يعني وجود «شواذ» تخرج عن نطاق شموله.

فإذا راجعنا تواريخ العلوم المختلفة؛ نجد فيها أمثلةً كثيرةً على ذلك؛ إن قانون السببية لم يتقرَّر — في ساحة من ساحات البحث والنظر — إلا بعد استبعاد مبدأ المصادفة من تلك الساحة. وأمَّا فكرة المعجزة فقد عاشت بجانب قانون السببية في مختلِف ساحات الطبيعة لمدد غير يسيرة.

إذا ألقينا نظرةً عامةً إلى تاريخ تقدُّم الأفكار البشرية؛ وجدنا أن المفكرين عندما قالوا بمبدأ السببية، وحاولوا أن يستكشفوا قوانين الطبيعة على ضوء هذا المبدأ، لم يعتبروه جاريًا على كل شيء بدون أي استثناء في أي حال من الأحوال، بل إنهم قرَّروا هذا المبدأ تدريجيًّا، ووسَّعوا ساحة شموله شيئًا فشيئًا، حتى إن علماء الفلك أنفسهم عندما اكتشفوا قانون الجذب العام، وحاولوا تعليل وتفسير حركات الأجرام السماوية بهذا القانون — بعد ابن خلدون بعدة قرون — لاحظوا بعض الشذوذ في حركات الأجرام السماوية، ولمَّا لم يستطيعوا تفسير هذه الحركات بمقتضيات قانون الجذب العام؛ ذهبوا إلى أن نظام العالم يسير إلى الاختلال لو لم تتعهَّده «قدرة خارقة» تنظِّمه وتشدُّه من جديد من وقت إلى وقت، وبالأحرى من دهر إلى دهر، كما ننصب نحن ساعاتنا ونشدُّها؛ لضمان سيرها بدون توقُّف. إن «نيوتن» العظيم نفسه أبدى هذا الرأي إتمامًا لقانون الجذب العام الذي اكتشفه بعبقريته الفذة. فهل رأى الدكتور طه حسين من يقول إن نيوتن اكتشف قانون الجذب العام، غير أنه قرَّر نظريةً تقوِّض هذا القانون؟

وكذلك علماء الكيمياء الذين اكتشفوا قوانين التفاعلات الكيماوية، وتتبَّعوا علل تلك التفاعلات، ظنوا — في بادئ الأمر — أن حدود تلك القوانين والعلل تقف عند عتبة الحياة، وبتعبير آخر: اعتقدوا أن الحياة تخرق قوانين الكيمياء، وأن القوى الحيوية لا تتقيَّد بقيود تلك القوانين. فهل رأينا من يقول إن هؤلاء العلماء كانوا يقرون بمبدأ يقوِّض قانون السببية؟

إن المفكرين والعلماء الذين اكتشفوا علل الحادثات الطبيعية لم ينفوا المعجزات نفيًا باتًّا، حتى خلال القرن التاسع عشر؛ فإن «تقويض قانون السببية شيء»، وقَبول مبدأ «المعجزة التي تشذ عن قوانين الطبيعة في أحوال فوق العادة، بإرادة الخالق ومشيئته» شيء آخر.

إنني لا أقول بوجوب قَبول هذا المبدأ وهذا الرأي، غير أنني أود أن أشير إلى هذه الحقيقة الراهنة؛ إن علماء الطبيعة أنفسهم لم يتخلَّصوا من مثل هذه الاعتقادات والاستثناءات مدة قرون طوال، فلا يحق لنا أن نلوم ابن خلدون على اعتقاده بالمعجزات، إلى درجة اتهامه بقَبول مبدأ «يقوِّض قانون السببية».

٤

هذا ونرى من الواجب علينا أن نناقش كتاب الدكتور طه حسين من وجهة نظره إلى أخلاق ابن خلدون السياسية أيضًا.

من المعلوم أن حياة ابن خلدون السياسية حياة معقَّدة مليئة بالمغامرات والتقلُّبات، والدكتور طه حسين يصف تلك الحياة بتعبيرات قاسية جدًّا، ويمضي في هذا السبيل إلى درجة القول: «إن الوطن في نظره (أي في نظر ابن خلدون) هو حيثما استطاع العيش في رغد واعتبار.»

إننا نعتقد أن قياس أخلاق رجال القرون الماضية — من وجهة السلوك السياسي والشعور الوطني — بمقاييسنا الحالية لا يتفق مع مقتضيات البحث العلمي بوجه من الوجوه؛ لأن مفهوم الوطن من المفهومات التي تطوَّرت تطوُّرًا كبيرًا على مر الأزمان، تبعًا لتطوُّر الأحوال السياسية والاجتماعية. فإن مفهوم الوطن في المدن اليونانية مثلًا كان يختلف اختلافًا كليًّا عمَّا صار إليه في القرون الوسطى، كما أن مفهوم الوطن الحالي يختلف اختلافًا جوهريًّا عمَّا كان عليه خلال تلك القرون، وعمَّا كان عليه في تلك المدن في وقت واحد.

ومن المفيد لنا أن نتذكَّر — في هذا الصدد — ما كان يحدث في أوروبا نفسها خلال العصور التي عاش فيها ابن خلدون؛ من المعلوم أن البلدان والأقطار كانت تنتقل عندئذٍ من حكم إلى حكم، ومن مملكة إلى مملكة؛ من جرَّاء زواج الملوك ومصاهرة الأمراء والبيوت المالكة. وكانت المقاطعات ينضم بعضها إلى بعض، أو يفترق بعضها عن بعض، كما تنضم أو تفترق الأموال المنقولة أو غير المنقولة تبعًا لحقوق الملوك والأمراء في الإرث من جهة الآباء أو من جهة الأمهات تارة، ومن جهة الأزواج أو من جهة الزوجات طورًا. ومن الطبيعي أن هذه الحالة ما كانت تترك مجالًا لتكوين «الروح الوطنية» بالمعنى الذي نفهمه الآن؛ ولذلك كان الأمراء يحاربون تحت أعلام مختلفة في خدمة ملوك مختلفين حسب ما تقتضيه الظروف، فكانوا يحاربون اليوم من كانوا يدافعون عنهم بالأمس، ويعادون من كانوا حاربوا تحت لوائهم قبل مدة وجيزة.

إن المؤرخ المعاصر «لويس هالفين» Louis Halphen يذكر مثالًا بارزًا على ذلك في سلوك «الكونت دو فلاندر» Comte de Flandre، ويعلمنا بأنه كان تابعًا لملك فرنسا، ومع هذا كان قد حارب تحت راية إمبراطور ألمانيا فردريك بارباروس، كما أنه قدَّم يمين الطاعة إلى ابن ملك إنجلترا هانري الشاب، واشترك في بعض المؤتمرات والمؤامرات مع أمراء الألمان تارة، ومع أمراء الإنجليز طورًا.

إن المؤرخ المومأ إليه عندما يذكر ذلك يقول: «إن في ذلك العهد، ما كان لأحد أن يستفظع هذا السلوك، حتى ولا أن يستغربه.»

L’essor de l’Europe, par Louis Halphen, page 237.

يقول لويس هالفن ذلك؛ لأنه يدرك أن تلك الحالة كانت من خصائص عهد بأجمعه، لا من سوء خلق رجل خارج عن أخلاق عصره.

ويجدر بنا أن نذكر — كذلك — حياة مؤرخ أوروبي عاش في نفس العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، نعني بذلك «فرواسار» Froissart الذي يُعَد من أشهر الإخباريين Chroniqueur الأوروبيين، ومن كبار الأدباء والشعراء الفرنسيين.

هناك موازاة غريبة بين حياة فرواسار وبين حياة ابن خلدون؛ لقد وُلِد فرواسار بعد ولادة ابن خلدون بخمس سنوات (١٣٣٧)، ومات بعد موت ابن خلدون بأربع سنوات (١٤١٠)، وكتب «أخباره» عندما كان ابن خلدون يكتب «تاريخه». أتم فرواسار الكتاب الأول من «الأخبار» سنة ١٣٧٨، وأتم الكتاب الرابع والأخير منها سنة ١٣٩٠. فيحق لنا أن نقول لذلك إن فرواسار كان معاصرًا لابن خلدون معاصرةً تامةً وإن لم يتعرَّف إليه، حتى ولو لم يسمع باسمه؛ بسبب الانفصال الكلي الذي كان قد حدث عندئذٍ بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي.

فلْنلقِ نظرةً عامةً على حياة هذا الشاعر الإخباري الذي عاش وكتب في أوروبا، في نفس القرن الذي عاش وكتب فيه ابن خلدون في أفريقيا؛ نجد أن فرواسار كان قد تقلَّب في خدمة عدة بلاطات، وعاش تحت رعاية عدة أمراء من أجناس متحالفة ومتعادية؛ إذ كان بين الملوك والأمراء الذين خطب عطفهم وتملَّقهم وامتدحهم الإنجليزي والبافاري والبلجيكي والفرنسي. كما نجد في حياة المومأ إليه ما هو أخطر من ذلك أيضًا؛ إنه كتب الكتاب الأول من الأخبار متشيِّعًا للإنجليز في بادئ الأمر، ولكنه بعد خمس سنوات — أي بعدما تظلَّل بحماية أمير «نامور»، وعلى الأخص أمير «بلووا» — أعاد النظر فيها، وجعلها أكثر ملاءمةً لأعداء هؤلاء!

إن الذين يكتبون ذلك في حياة فرواسار، يقولون إن في ذلك العهد ما كان في استطاعة أي كاتب ومفكر أن يعيش من غير أن يتظلَّل برعاية أحد من رجال الجاه والنفوذ.

ولا حاجة للبيان أن البيئة التي عاش وعمل فيها ابن خلدون، كانت أردأ بكثير من البيئة التي عاش وكتب فيها فرواسار، ولا حاجة للبرهان على أن مثل تلك البيئات ما كانت تساعد على تكوين شعور قومي وطني بالمعنى الذي نألفه الآن.

إن الشعور الوطني — في عهد ابن خلدون — كان ينصرف بطبيعته إلى أحد الأمرين التاليين؛ الوطن الأصغر الذي ينحصر في مسقط الرأس وموطن الأسرة ومسرح الصبا وحده، والوطن الأكبر الذي يشمل ديار الإسلام بأجمعه. وأمَّا مفهوم الوطن الذي يتحدَّد بالوحدة القومية والوحدة السياسية، فما كان من الممكن أن ينشأ ويتكوَّن خلال تلك العصور؛ نظرًا لكثرة الأسر المالكة وقصر أعمارها، ونظرًا لعدم استقرار حدود الممالك وسرعة تفكك أوصالها.

فإذ قلنا إن الوطن كان في نظر ابن خلدون «حيثما استطاع العيش في رغد واعتبار»، لا نكون قد تعدَّينا عليه تعديًا فادحًا فحسب، بل نكون في الوقت نفسه قد سهونا عن أهم الحقائق التاريخية والاجتماعية في تطوُّر مفهوم الوطن.

يجب علينا ألا ننسى أن البلاد التي تنقَّل ابن خلدون فيها وتقلَّب بين حكوماتها، كانت كلها إسلاميةً عربية، فإذا وجدناه لا يفرِّق بين هذه الحكومات المختلفة؛ فلا يجوز لنا أن نعتبر ذلك دليلًا على أنه ما كان يرمي إلى شيء غير العيش في رغد واعتبار.

وربما كان من الضروري أن نشير في هذا الصدد إلى ما حدث له عند سفره إلى إشبيلية؛ إن ملك القشتاليين طلب إليه أن يبقى في خدمته، ووعده بإعادة أملاك أسرته، ولكن ابن خلدون أبى الإجابة على هذا الطلب. ابن خلدون الذي لم يتردَّد في الانتقال من خدمة أسرة إلى أخرى من فاس إلى القاهرة، أَبَى أن ينتقل إلى خدمة ملوك قشتالة في إشبيلية، على الرغم من المنافع المادية التي عُرِضت عليه لإغرائه.

وذلك يدل دلالةً واضحةً على أن الوطن في نظر ابن خلدون لم يكن حيثما استطاع العيش في رغد واعتبار، وإن لم يكن أيضًا ما نفهمه من هذه الكلمة الآن.

٥

يوجِّه الدكتور طه حسين إلى ابن خلدون تهمةً خطرةً جدًّا من وجهة «الأمانة العلمية» أيضًا. فيجدر بنا أن ندرس هذه التهمة بإنعام، ونناقشها باهتمام:
  • (١)

    لقد ذكر ابن خلدون في سيرة حياته العلوم التي تلقَّاها والكتب التي درسها في حداثته وصباه، ولكن الدكتور طه حسين يرتاب في صحة ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد، ويعتقد «أن ابن خلدون لم يعرف من بعض الكتب التي ذكرها إلا أسماءها»، ويدَّعي بأنه إنما ذكرها بقصد التمدُّح والتفاخر؛ «لكيلا يبدو أقل شأنًا من منافسيه أساتذة الأزهر.»

    يحاول الدكتور البرهنة على رأيه هذا بما جاء في مقدمة ابن خلدون من جهة، وفي ترجمته من جهة أخرى عن كتابين؛ أحدهما في الأدب، والثاني في الفقه.

    فلْنقرأ أولًا ما كتبه الدكتور في هذا الصدد بكل إمعان:

    «يذكر لنا (ابن خلدون) في ترجمته أن الكتب التي درسها في حداثته وصباه كانت نادرةً في تونس، وهذا هو السبب في أن عدَّدها بالتفصيل، لا سيما وأنه كتب ترجمة حياته في القاهرة، حيث كان من المحتوم عليه ألا يبدو أقل شأنًا من منافسيه أساتذة الأزهر. وقد أمدَّنا ابن خلدون نفسه بداعي ذلك الريب، وهو يقرِّر لنا مثلًا أن مختصر ابن الحاجب (١١٧٥–١٢٤٥) كان من بين الكتب التي يقول إنه درسها في تونس، ويعدُّه ضمن كتب الفقه المالكي في ترجمته وفي مقدمته، مع أن مختصر ابن الحاجب ليس كتاب فقه، بل هو كتاب في «أصول الفقه»، وهو مؤلَّف جم الانتشار، لا يزال يُدرَّس في الأزهر حتى يومنا هذا، ومؤلفه مالكي المذهب، ولكنه لم يقتصر على الكلام على الفقه المالكي، بل شرح مبادئ التشريع في المذاهب كلها، وهو علم خاص …»

    «وفي وسعنا أن نرتاب أيضًا في ما يقرِّره المؤلف بشأن كتاب الأغاني الشهير؛ فإنه في ترجمته يزعم أنه استظهر جزءًا منه، وفي مقدمته يندب استحالة الحصول على نسخة منه. وعلى هذا فإنَّا نعتقد أن ابن خلدون لم يعرف منه سوى الاسم» (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ١٢).

    يظهر من ذلك أن نظرية الدكتور طه حسين في هذا الصدد تستند إلى القضيتين التاليتين:
    • أولًا: يزعم ابن خلدون أن مختصر ابن الحاجب كتاب في الفقه المالكي، في حين المختصر المذكور كتاب في أصول الفقه.
    • ثانيًا: يندب ابن خلدون في مقدمته استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني، وذلك يناقض ما قاله في ترجمته من أنه استظهر جزءًا من الكتاب المذكور.

    فلْنرجع إلى المقدمة لنرَ مبلغ وجاهة ملاحظات الدكتور في هاتين القضيتين:

  • (٢)

    لقد كتب ابن خلدون في فصل علم الفقه من المقدمة — بعد أن استعرض أمهات الكتب المتعلقة بالفقه بوجه عام، وبالفقه المالكي بوجه خاص — ما يأتي:

    «جمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر، فاشتمل على جميع أقوال المذاهب، وفرَّع الأمهات كلها في هذا الكتاب، ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدوَّنة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة وقيروان، ثم تمسَّك بها أهل المغرب بعد ذلك، إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخَّص فيه طرق أهل المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة؛ فجاء كالبرنامج للمذهب.»

    «وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشر …»

    «ولم أدرِ عمَّن أخذها أبو عمرو بن الحاجب، لكنه جاء بعد انقراض دولة العُبيديين، وذهاب فقه أهل البيت، وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولمَّا جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة؛ عكف عليه الكثير من طلبة المغرب، وخصوصًا أهل بجاية، لمَّا كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب، فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر، ونسخ مختصره ذلك فجاء به، وانتقل بقطر بجاية في تلاميذه، ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية. وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه؛ لما يؤثَر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام، وابن رشد، وابن هارون» (ص٤٥٠-٤٥١).

    يلاحَظ من هذه الفقرات أن ابن خلدون يدوِّن تفصيلات وافيةً عن كتاب ابن الحاجب؛ يذكر تاريخ وصول الكتاب إلى البلاد المغربية، ويشرح كيفية ذيوعه فيها، حتى إنه لا يسهو عن ذكر اسم الشيخ الذي أتى به من مصر وعمل على نشره في المغرب، كما يذكر أسماء الذين شرحوا الكتاب المذكور من مشايخ تونس.

    فنحن نستبعد جدًّا أن يكتب ابن خلدون كل هذه التفاصيل عن كتاب لم يقرأه، كما أننا نلاحظ أن ابن خلدون لا يذكر الكتاب المذكور بين أمهات الكتب، بل يصرِّح بأنه من المختصرات التي يتدارسها طلبة العلم في جميع أنحاء المغرب. فلا نفهم ما هو وجه «التفاخر» الذي يمكن أن يرمي إليه ابن خلدون من القول بأنه «درس الفقه المالكي في كتاب مختصر معروف ومتداوَل بين طلبة العلوم في المشرق والمغرب؟!»

    ولذلك نرى من الضروري أن نتعمَّق في درس هذه القضية قبل أن نبتَّ في نظرية الدكتور طه حسين؛ فنتساءل أولًا: ألم يكتب أبو عمرو بن الحاجب كتابًا غير هذا الكتاب الذي عرفه الدكتور، وقال عنه إنه جم الانتشار بين طلبة الأزهر، وإنه لا يزال يُدرَّس حتى يومنا هذا؟

    إن هذا السؤال البسيط يُلْقِي على القضية نورًا كاشفًا، ويزيح عنها جميع دواعي الشكوك.

    إننا نجد جوابًا شافيًا لهذا السؤال في فصول المقدمة نفسها؛ فقد قال ابن خلدون في فصل أصول الفقه، بعد أن استعرض أمهات الكتب المعلقة بها:

    «ثم لخَّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتابه المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الإحكام.»

    «أمَّا كتاب الإحكام للآمدي فهو أكثر تحقيقًا للمسائل، فلخَّصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعُنِي أهل المشرق والمغرب به، وبمطالعته وشرحه» (ص٤٥٥-٤٥٦).

    يظهر من ذلك أن ابن خلدون ذكر أبا عمرو بن الحاجب مرةً في عداد مؤلفي الفقه، ومرةً في عداد مؤلفي أصول الفقه؛ لأن المؤلِّف المومأ إليه ألَّف كتابًا في الفقه، وآخر في أصول الفقه!

    وممَّا يزيد القضية وضوحًا وغرابة، أن ابن خلدون ذكر ابن الحاجب في المقدمة في أربعة مواضع أخرى — غير الموضعين السالفَي الذكر — (ص٥٢١ و٥٣٢ و٥٤٧ و٥٧٩). ومن المهم جدًّا أن ننعم النظر فيما قاله ابن خلدون في الموضع الأخير.

    يعترف ابن خلدون في فصل «مَلَكة الشعر» أنه «يجد استصعابًا في نَظْمِ الشعر متى يرومه»، مع «بصره به وحفظه للجيِّد من الكلام في القرآن والحديث وفنون من كلام العرب»، ثم يعلِّل ذلك بتأثير ما سبق وحفظه من «الأشعار العلمية والقوانين التأليفية»، ويقول في سياق كلامه:

    «حفظت قصيدتَي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات، وتدارست كتابَي ابن الحاجب في الفقه والأصول» (ص٥٧٩).

    نفهم من كل ذلك بصراحة تامة أن ابن خلدون درس كتابين لأبي عمرو بن الحاجب؛ أحدهما في الفقه، والثاني في أصول الفقه، وقد أشار في فصل علم الفقه إلى الكتاب الأول، وفي فصل أصول الفقه إلى الكتاب الثاني، وحينما تكلَّم عن مباحث الكتاب الأول قال: «لا أدري عمَّن أخذها ابن الحاجب.» في حين أنه صرَّح في صدد البحث عن الكتاب الثاني بأنه «مُلخَّص من كتاب الآمدي».

    إن هذه النتيجة التي وصلنا إليها من دراسة مقدمة ابن خلدون نفسها تتأيَّد وتتأكَّد لدينا عندما نراجع كتب التراجم وقواميس الأعلام؛ لأنها تُعْلِمُنَا بأن أبا عمرو بن الحاجب خلَّف لنا كتابًا في الصرف، وكتابًا في النحو، وكتابًا في العَرُوض، وكتابًا في الفقه المالكي، وكتابًا في أصول الفقه، وكتابًا مختصرًا من الكتاب الأخير. إن ابن خلدون قد أشار في مقدمته إلى أربعة من الكتب المذكورة.

    وأمَّا الدكتور طه حسين فلم يلاحظ ما ورد في مقدمة ابن خلدون عن أبي عمرو بن الحاجب إلا في موضع واحد، ولم يفكِّر في احتمال وجود كتاب لابن الحاجب غير «المختصر» الذي اطَّلع عليه هو؛ فتسرَّع في اتهام ابن خلدون بالكذب من غير أن يتعمَّق في درس مباحث المقدمة، ومن غير أن يتوسَّع في البحث عن مؤلفات ابن الحاجب!

  • (٣)

    أمَّا ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في قضية كتاب الأغاني، فهو أشد خطرًا وأوضح خطأً من ذلك أيضًا.

    إن مقدمة ابن خلدون تذكر الكتاب المذكور في ثلاثة مواضع مختلفة. إننا لم نجد في المواضع المذكورة فقرةً تؤيِّد ما يدَّعيه الدكتور من «أن ابن خلدون يندب استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني»، ويبرِّر زعمه بأن ابن خلدون لم يعرف من الكتاب المذكور سوى الاسم.

    وللتأكُّد من ذلك ننقل فيما يلي كل ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد:
    • (أ)

      في فصل علم الأدب يكتب ابن خلدون التفاصيل التالية عن كتاب الأغاني:

      «وقد ألَّف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد. ولعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنَّى له بها؟» (ص٥٥٤).

    • (ب)

      في الفصل الباحث عن «المَلَكة اللسانية التي تُستفاد بالتعليم»، يشير ابن خلدون إلى حال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية، ويذكر شأنهم «في تمام هذه المَلَكة وإجادتها»، ويستشهد على كل ذلك بكتاب الأغاني قائلًا:

      «وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نَظْمِهِم ونَثْرِهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم، وأخبارهم، وأيامهم، وملتهم العربية، وسيرتهم، وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم، وغناؤهم، وسائر معانيهم له. فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب» (ص٥٦٦).

    • (جـ)

      في فصل صنعة الشعر ووجه تعلُّمه، يحدِّد ابن خلدون معنى الشعر وحقيقته، ثم يتكلَّم عن كيفية عمله، فيقول ما يلي:

      «اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطًا؛ أولها الحفظ من جنسه — أي من جنس شعر العرب — حتى تنشأ في النفس مَلَكة ينسج عن منوالها. ويتخيَّر المحفوظَ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلاميين — مثل ابن أبي ربيعة، وكُثَيِّر، وذي الرُّمَّة، وجرير، وأبو نُوَاس، وحبيب، والبحتري، والرَّضِيِّ، وأبي فِراس — وأكثره شعر كتاب الأغاني؛ لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية» (ص٥٧٤).

يلاحَظ من مطالعة هذه الفقرات بإنعام أنه لا يوجد فيها ما يؤيد الزعم القائل بأن ابن خلدون يندب استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني، وبأنه يتكلَّم عنه من غير أن يعرف منه شيئًا سوى الاسم.

بل بعكس ذلك، إن جميع هذه الفقرات تدل دلالةً قطعيةً على أنه كان مطَّلعًا على كتاب الأغاني تمام الاطلاع، كما أنه كان يعلم أن الكتاب المذكور كان جمَّ الانتشار في المشرق والمغرب؛ ولولا ذلك لما استطاع التوسُّع في وصفه كل هذا التوسع، ولما قال: «لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه»، ولما استشهد به قائلًا: «وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نثرهم ونظمهم»، وفي الأخير لما أوصى بحفظ شعر كتاب الأغاني لمن أراد إجادة الشعر وإحكامه؛ إذ ليس من المعقول أن يستشهد ابن خلدون بكتاب لم يقرأه هو، ولا يعرفه قُرَّاؤه، وليس من المعقول أن يوصي بحفظ الأشعار المدوَّنة في كتاب «يندب استحالة الحصول على نسخة منه»!

إنني تأمَّلت كثيرًا لمعرفة السبب الذي حَدَا بالدكتور طه حسين إلى القول بأن «ابن خلدون يندب في مقدمته استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني»، وبعد إطالة النظر في الأمر؛ لاحَ لي أن ذلك قد نشأ من سوء تفسير العبارة التي تنتهي بها الفقرة الأولى «أ»:

«وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنَّى له بها؟» (ص٥٥٤).

ولكني اعتقدت أن مطالعة هذه الفقرة بقليل من الانتباه تكفي للتأكُّد من أن عبارة «أنَّى له بها؟» لا تعني استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني، إنما تعني استحالة الوصول إلى الغاية التي وصل إليها كتاب الأغاني؛ لأن لفظة بها لا يمكن أن تعود إلى «الكتاب»، بل تعود بصراحة إلى «الغاية».

فاستبعدت كل الاستبعاد أن يخطئ الدكتور طه حسين في فهم مضمون مثل هذه الفقرات، وخطر ببالي أن أراجع الترجمة الفرنسية، وعندئذٍ توصَّلت إلى معرفة مصدر هذه الغلطة؛ إن المترجم الفرنسي لم يفهم معنى هذه الفقرة كما يفهمها كل عربي متمرِّن على أساليب لغته الخاصة، فترجمها كما يلي: «ولكن كيف يمكن الحصول عليه؟»

Mais cemment pourra-t-on se le procurer? (vol 3. p. 331).

ومن أجل ذلك صرت أظن ظنًّا قويًّا بأن الزعم بوجود تناقض بين ما جاء في مقدمة ابن خلدون، وبين ما ورد في ترجمته عن كتاب الأغاني، قد بدا لأحد الغربيين الذين يدرسون المقدمة من ترجمتها الفرنسية، وانتقل هذا الزعم منه إلى الدكتور طه حسين حينما كان مشغولًا بكتابة أطروحته. والدكتور أَدْخَلَ هذا الرأي في كتابه من غير أن يراجع نصوص المقدمة وينعم النظر في معانيها، ومن غير أن ينتبه إلى غلطة المترجم في هذه القضية.

ولذلك وجَّه إلى ابن خلدون هذه التهمة الجائرة، التي تخالف الحق والحقيقة كل المخالفة.

ذيل

بين المعرِّي والخيَّام

يثير الدكتور طه حسين في مقدمة الكتاب الذي اتخذناه موضوعًا لهذه الدراسة الانتقادية، مسألةً استطراديةً لا تمت بصلة ما إلى مقدمة ابن خلدون، ولا إلى فلسفته الاجتماعية، ولا إلى الفلسفة الاجتماعية بوجه عام، وهذه المسألة الاستطرادية هي مسألة علاقة الخيَّام بالمعري.

من البديهي أن هذه المسألة خارجة عن موضوع أبحاثنا، مع هذا إننا رأينا أن نقف قليلًا عليها؛ لأننا وجدنا فيها مثالًا بارزًا لأسلوب النظر الذي كثيرًا ما يتجلَّى في كتاب «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية».

يقول الدكتور طه حسين في المقدمة القصيرة التي كتبها إلى كتابه المذكور، إنه كان قد تقدَّم إلى الجامعة المصرية بأطروحة عن المعري، إنه يقول ذلك بقصد شرح الأسباب التي حملته على اختيار موضوع دراسته الجديدة، غير أنه لا يكاد يذكر اسم المعري بهذه المناسبة، إلا ويسرع إلى كتابة التعليق التالي في ذيل الصفحة:

«اعتقد بعضهم أن شعر عمر الخيام شاعر الفرس ينمُّ عن تأثير أبي العلاء، ولكن ليس ثمة من دليل يؤيِّد أن عمر قرأ شعر أبي العلاء، هذا فضلًا عن أنه بينما نجد تشاؤم الفلسفة العربية مظلمًا، إذا تشاؤم الفرس طروب بهيج، ولئن تشابهت كتاباتهما من بعض الوجوه، فإن أَوْجُهَ اختلافهما واضحة، لا تسمح لنا بالإفاضة في المقارنة بينهما.»

فلْننظر ما هو مبلغ إصابة الرأي الذي يُبْدِيه الدكتور في هذا الصدد؟

ولْنجمع أولًا الحقائق الراهنة التي من شأنها أن تُلْقِي نورًا كشَّافًا على ساحة هذا البحث، وتسهِّل علينا حل المسألة المذكورة:
  • (أ)

    مات المعري سنة ١٠٥٨، ومات الخيام سنة ١١٣٢، فالمدة التي انقضت بين موت الأول وبين موت الثاني عبارة عن ٧٤ سنةً فقط.

  • (ب)

    من المؤكَّد أن الخيام عاش أكثر من خمسة وسبعين عامًا، ويظهر أنه كان في العقد الثاني من عمره عند موت المعري؛ لأنه قد اشترك في لجنة إصلاح التقويم سنة ١٠٧٤، أي بعد مرور ١٦ سنةً فقط على موت المعري، وعلى كل حال إن شباب الخيام يقع في العهد الذي كانت ذكريات المعري وصيته في أوج قوتها ورفعتها.

  • (جـ)

    إن الشعر العربي كان شديد التأثير في الأدب الفارسي، وجم الانتشار بين شعراء الفرس خلال العهد الذي نشأ فيه عمر الخيام. كان شعراء الفرس يقرءون الأشعار العربية ويحفظونها، ويحاولون قرض الشعر على منوالها، حتى إنهم كثيرًا ما كانوا يُظْهِرون براعةً فائقةً في «الشعر الملمع» حسب تعبيرهم؛ يشطرون الأشعار العربية، ويضمِّنون عددًا غير قليل من أبياتها في قصائدهم الفارسية.

  • (د)

    ومن أبرز الأدلة على هذا التأثير الشديد والانتشار الكبير، أن أساطين شعراء الفرس — مثل سعدي وحافظ — خلَّفوا دواوين شعر بالعربية، بجانب دواوينهم الفارسية.

  • (هـ)

    من الحقائق الثابتة أن عمر الخيام كان يعرف العربية ويتقنها، وقد كتب كتبه العلمية والرياضية المشهورة باللغة العربية.

  • (و)

    ومن الثابت أن عمر الخيام كان متمكنًا من الشعر العربي أيضًا، وقد نَقَلَتْ كتب التراجم نماذج عديدةً من أشعاره وقصائده العربية.

فهل من حاجة إلى إقامة الدليل — بعد تثبيت هذه الحقائق الراهنة — على أن عمر الخيام قرأ المعري؟

إذ كيف يستطيع أحد أن يدَّعي — بصورة معقولة — أن الخيام لم يقرأ المعري بعد أن يلاحظ أنه كان يعرف العربية معرفةً تامة، تمكِّنه من الكتابة بها، وقرض الشعر على منوال شعرائها؟ وبعد أن يلاحظ أنه نشأ عقب جيل المعري مباشرة، في إبان انتشار أشعار ذلك الشاعر الحكيم، وذيوع صيته الكبير؟

هذا وإذا تركنا جانبًا هذه «الدلائل القَبلانية»، والتجأنا إلى «الأبحاث البَعدانية»، مستندين إلى مقارنة شعر الخيام بشعر المعري، لا نلبث أن نجد فيها أيضًا دلائل قطعيةً على هذه العلاقة الوثيقة:
  • (أ)

    لقد جاء في إحدى رباعيات الخيَّام ما ترجمته حرفيًّا:

    «احذر، وضَعْ قدمك على التراب بخفة؛ لأن ذلك كان حدقة عين غادة جميلة.»

    يلاحظ أن مفهوم هذا البيت يمتُّ بصلة قوية إلى قول المعري:

    خفف الوطء، ما أظن أديم
    الأرض إلا من هذه الأجساد

    فالفكرة التي يتضمَّنها المصراع الأول من البيت الفارسي هي عين الفكرة الواردة في أول البيت العربي، ولا نغالي إذا قلنا إنها ترجمة حرفية للعبارة العربية؛ فإن عبارة «ضع قدمك على التراب بخفة»، ألا تعني تمامًا «خفف الوطء على الأرض» بالأسلوب العربي الوجيز؟

    وأمَّا التعليل الذي يتلو ذلك في شعر الخيام فهو أيضًا محصول فكرة مشابِهَة لفكرة المعري تمام الشبه، وإن اختلف عنه شكلًا؛ فالتعليل عند المعري تعليل متفكر متفلسف، في حين أنه عند الخيام تعليل شاعر متغزل، المعري يبرِّر قوله «خفف الوطء على الأرض» بفكرة فلسفية بحتة؛ «لأن أديم الأرض من هذه الأجساد»، يقول ذلك من غير أن يلتفت إلى جمال تلك الأجساد أو عدم جمالها. في حين أن الخيام يرمي إلى غاية غزلية، فيقول «إنها كانت حدقة عين غادة حسناء.» ولكن على الرغم من هذا الاختلاف الشكلي — الناشئ من اختلاف المزاج — لا مجال للإنكار أن فكرة الخيام منقولة من فكرة المعري نقلًا، مع شيء من الزخرفة الشعرية والغزلية.

  • (ب)

    هذا وقد قال الخيام في إحدى رباعياته ما ترجمته حرفيًّا:

    «لو أعطيت نقدًا القدح والخمر والساقي، وتجرَّعت الصهباء بشفتي؛ لتركت لك الفردوس الموعود، لا تصغِ إلى قول أحد في الجنة وجهنم؛ إذ من ذهب إلى الجنة؟ ومن جاء من جهنم؟»

    ومن الواضح الجلي أن هذه الرباعية تشبه تمام الشبه قول المعري، من حيث الفكرة والمعنى:

    أتترك ها هنا الصهباء نقدًا
    لما وعدوك من لبن وخمر؟
    حياة ثم موت ثم حشر
    حديث خرافة يا أم عمرو

    وممَّا يستلفت النظر أن كلمة «نقدًا» موجودة في شعر الخيام أيضًا، بشكلها العربي التام.

    فهل من حاجة إلى دليل أقوى من الأدلة والأمثلة التي ذكرناها على «تأثر الخيام من المعري»؟

    لا ننكر أن شعر الخيام يختلف عن شعر المعري بعض الاختلاف، من حيث النزعة الروحية، على الرغم من اتفاقه معه في أسلوب التفكير، غير أننا نرى أن هذا الاختلاف متولِّد من اختلاف المزاج، ومن اختلاف النظر إلى الحياة؛ المعري يُعْرِض عن بهارج الحياة، ويدعو إلى التباعد عن الملذات، في حين أن الخيَّام يتغنَّى بملذات الحياة، ويدعو إلى التمتُّع بها. إن الفكرة الواحدة تولِّد نزعتين مختلفتين في أشعار الشاعرَين المذكورَين.

    ومن البديهي أن وجود مثل هذا الاختلاف في المزاج لا ينفي «التأثُّر الفكري العميق» بوجه من الوجوه.

١  ابن خلدون يؤدي هذا المفهوم بقوله: «أسباب تزاحمها وتعاقبها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤