البيئة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري

في نحو سنة ٣٢٤ﻫ (٩٣٥م) أُصيب العالم الإسلامي بانقسام كبير، حتى كأنه عقد انفرط، أو صخرة تفتَّتت.

نعم، كان قد انفصل قبل ذلك عن العالم الإسلامي خراسان والمغرب، ولكن لم يتمزق هذا التمزق إلا في نحو هذا العام، فكأن المماليك قد لاحظت هذه الفرقة فقلَّدتها، وربما دعاهم إلى ذلك أيضًا أنهم رأوا بغداد قد صارت في يد الأتراك الظالمين، يظلمون ويعسفون، فكيف يخضعون لهم، ويسلِّمون أنفسهم لظلمهم، فاستقلوا؛ فصارت فارس والري، وأصبهان والجبل في أيدي بني بُويه، وكرمان في يد محمد بن إلياس، والموصل وديار بني ربيعة، وديار بكر وديار مضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن محمد بن طغج الإخشيد، والمغرب وإفريقيا في يد الفاطميين، والأندلس في يد عبد الرحمن الناصر، وخراسان في يد نصر بن أحمد الساماني، والأهواز وواسط والبصرة في يد البريديّين، واليمامة والبحرين في يد القرامطة، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، ولم يبق للخلافة العباسية إلا بغداد، ولكن ما أسَّسه أبو جعفر المنصور والمهدي من خلق وسائل تحمل الناس على تقديس الخلافة العباسية جعل كثيرًا من ولاة هذه الأقطار المستقلة يطلبون مسالمة الخليفة العباسي، والطاعة الاسمية له؛ مع أنهم أقدر منه.

ولكن — والحق يقال — كانت المملكة الإسلامية كلها وطنًا للمسلمين جميعًا يرحب بهم حيثما رحلوا، وكان العالم ينقسم عندهم إلى قسمين: دار إسلام، ودار حرب. فالعلماء والمحدثون، والجغرافيون يرحلون في البلاد الإسلامية بسهولة كما يشاءون، كالذي نرى في رحلة ابن بطوطة، وابن جبير في القرون الوسطى، وبين الأقطار الإسلامية المختلفة من صلة وثيقة، وكلها وطن للمسلم.

ولئن عُدَّ هذا ضعفًا من الناحية السياسية، فإنه لا يعد ضعفًا من الناحية العلمية، فالمملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري كانت أعلى شأنًا في العلم من القرون التي كانت قبلها، ولئن كانت الثمار السياسية قد تساقطت في القرن الرابع، فالثمار العلمية قد نضجت فيه، والسبب في ذلك أن الإمارات الإسلامية المختلفة كانت تتبارى في تجميل موطنها بالعلماء والأدباء، وتتفاخر بهم، وهذا أكسبهم التحبب إلى العلماء، والإغداق عليهم. وسبب آخر، وهو أن انفصال هذه الإمارات عن الدولة العباسية جعلها مستقلة في مالها لا ترسله إلى بغداد؛ بل تغدقه على أهلها، والعلم دائمًا متأثر بالمال؛ فهذا جعل كثيرًا من العلماء ينعمون في ظل هذا الاستقلال أكثر مما كانوا ينعمون في ظل الوحدة؛ فقد كان الشاعر مثلًا لا يظهر اسمه إلا إذا رحل إلى بغداد، فصار يلمع اسمه في بلده، أو على العموم خارج بغداد، كالمتنبي ونحوه، بل كان علماء بغداد أنفسهم يرحلون إلى مصر وغيرها كما فعل عبد الوهاب المالكي، وكما فعل أبو نواس وأبو تمام.

وفي هذا العصر نبتت فكرة جديدة ظلَّ المسلمون يعتنقونها قرونًا طويلة، وهي أنه مَن ملك مكة والمدينة — أو بعبارة أخرى الحرمين الشريفين — فهذا أحق الناس بالخلافة.

فنحن نستنتج من هذا أن العلم والسياسة لا يتمشيان جنبًا إلى جنب، حتى إذا ارتقى هذا ارتقى ذاك، بل قد يكون الأمر على العكس، قد يكون الضعف السياسي متمشيًا مع زهو العلم؛ وهذا يسلمنا إلى أن القول بتقسيم تاريخ المملكة الإسلامية إلى عصور، يجعل لكل عصر مميزات من قوة أو ضعف، لا ينطبق تمام الانطباق على الحياة العلمية؛ فقد تنتهي دولة ما سياسيًّا، وتبدأ دولة جديدة، على حين أن الحياة العلمية مستمرة، لم تنته ولم تذبل، فالتقسيم التاريخي إلى دولة أموية، ودولة عباسية أولى، ودولة عباسية ثانية لا ينطبق إلا على السياسة؛ وهذا الانقسام كان له أثر حسن في إمكان المسلمين صد غارات الصليبيين، ولو أتى الصليبيون والبلاد كلها في يد العباسيين الضعفاء ما استطاعوا ردَّهم، ولكنهم أتوا والدولة الحمدانية في قوتها، والدولة الصلاحية في ذروتها، فاستطاعوا ردَّهم.

•••

أمَّا بغداد، فكانت في يد الخلفاء العباسيين اسمًا، وفي يد جبابرة الأتراك فعلًا، فكان هؤلاء الأتراك يختارون من بني العباس من أنسوا منه صغر السن، أو ضعف الشخصية، فيجعلونه خليفة حتى لا يشاركهم في سلطانهم، وأحيانًا يخيب ظنُّهم فيشاركهم في سلطانهم، أو يتمرَّد عليهم، فينكلون به، وينقمون منه.

وعلى الجملة، فقد كان الخلفاء العباسيون آخر الأمر بالنسبة لأبي جعفر المنصور مثلًا، وعبد الملك بن مروان، ومعاوية كأقزام بجوار عمالقة. وفي هذا العهد مثلًا قد تولى الخلافة المقتدر، وكانت أمه رومية، وفيها المهارة الرومية، فوضعت يدها على الدولة، ودبَّرت أمور البلاد بقوة وحزم؛ تولِّي وتعزل، وتربِّي ابنها تربية طيبة، وتمنع مؤنسًا التركي من التدخل، فلما ضاق ذرعًا بذلك دبَّر مؤامرة لقتل المقتدر؛ فذُبح بالسيف، ونُزعت عنه ثيابه حتى سراويله، حتى مرَّ عليه رجل من العامة، فستر عورته بالحشيش، ثم تولى أخوه من أبيه القادر، وتحروا أن يختاروه ممن ليس له أم قوية كأم المقتدر. ومع ذلك قامت ثورة أريد بها خلع القادر، فلم تنجح، فقضى القادرُ على مؤنس، فطلب أصحاب مؤنس منه أن يخلع نفسه فأبَى، فخُلع، وسملت عينه لأول مرة في تاريخ الإسلام، وشوهد بعد ذلك يسأل الصدقة على باب الجامع، ثم عُين الراضي ابن أخي القادر، وكان أديبًا معروفًا.

ثم ارتقى عرش الخلافة بعده أخوه المتقي، فغدر به توزون التركي، وسمل عينه أيضًا، ثم خلفه المستكفي — وكانت أمه رومية أيضًا — فأراد البُوَيهيُّون أن يخلعوه، فخلع نفسه؛ ولكنه اشترط عليهم ألا يقطعوا شيئًا من أعضائه، ولكن أخاه المطيع أبى إلا أن تُسمَل عينه أيضًا.

وانتهي الأمر أخيرًا إلى أن يتخلى الخلفاء عن السلطة الفعلية، ويكتفوا بالمظهر.

•••

ومن مظاهر هذا العصر الخلاف الشديد بين الفقهاء بعضهم مع بعض، وبين السُّنية والشيعة، حتى جروا البلاد إلى الخراب، فكل مملكة تقسَّمتها المذاهب المختلفة، وكان النزاع شديدًا بين بعضهم وبعض، وكان الشافعية مشهورين بالشغب، والتألب على خصومهم؛ ومن مثل ذلك ما حكى بعض المؤرخين من أن الحنابلة قد بنوا مسجدًا ببغداد، واستعانوا بالعميان الذين كانوا يأوون في هذا المسجد، فإذا مرَّ بهم شافعي ضربوه بعصيِّهم حتى يكاد يموت.

وانتشر مذهب الشافعي في مكة والمدينة، واشتهر مذهب أبي حنيفة في العراق، وكان أكثر الفقهاء في مصر من أتباع مالك، وكذلك انتشر مذهب مالك في المغرب والأندلس. ويحكون أنه لما توفي ابن جرير الطبري — المؤرخ الكبير — دُفن بداره ليلًا سرًّا؛ لأن العامة اجتمعت، ومنعت دفنه نهارًا؛ لتألب الحنابلة عليه؛ إذ ألَّف كتابًا في اختلاف الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، ولم يذكر فيه خلاف الحنابلة، فلما سُئل عن أحمد ابن حنبل قال: إنه محدِّث لا فقيه.

ويحكي لنا ياقوت في «معجم البلدان» أن بلادًا كثيرة خُرِّبت بسبب الخلاف في المذاهب، وتعصب كل لمذهبه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان الخلاف شديدًا بين الشيعة والسُّنية، فالخلفاء العباسيون، ومن تبعهم سنيون يتعصَّبون للسنية، والفاطميون في مصر والشام والمغرب، والحمدانيون في ديار ربيعة وبكر ومضر، وبنو بُوَيه في العراق، وغيرهم يتشيَّعون، وكانت الكوفة وبها قبر عليّ أكبر مركز للشيعة، حتى قال بعضهم: «من أراد الشهادة فليدخل دار البِطّيخ بالكوفة، وليقل: رحم الله عثمان». وروي أن أبا بكر الثوري المتوفى سنة ٣٣٠ﻫ روى خبرًا يمسُّ الإمامَ عليًّا، فطُلب ليقتل فاستتر. واشتهرت «قُمْ» في إيران بالغلوِّ في التشيع، حتى ليحكون أن واليًا سُنيًّا ولِّي عليهم، فعجب من أنه لا يسمى فيهم أحد أبا بكر أو عمر، وكان يناهضهم أهل أصبهان؛ إذ يتعصّبون للسنية، فثارت مرة فتنة بين أهل أصبهان وأهل قُمْ؛ لأن رجلًا من أهل قُمْ سَبَّ الصحابة إلخ.

وعلى العموم، فقد كان الخلاف بينه السنية والشيعة خلافًا شديدًا، والسبب فيها اختلافهم في النظر إلى الخلافة، وهي مسألة سياسية صُبغت باللون الديني، فالشيعة يرون أن عليًّا ونسله لهم الحق في الخلافة دون غيرهم، فخلافة الأمويين والعباسيين خلافة باطلة. والخليفة رئيس المسلمين، وله وظيفة أخرى؛ وهي أنه معلِّم المسلمين؛ لأنه معصوم، ويتلقَّى العلم بطريق الوراثة، وما أودع فيه من الروحانية. وقد خصَّهم الله بمزايا غير مزايا الإنسان، وأن الخلافة لهم وراثة، تنقلت من آدم إلى أن وصلت إليهم، وأن النور انقسم إلى قسمين: قسم نزل على عبد الله والد النبي، وقسم نزل على عبد المطلب، ثم انتقل إلى أبي طالب، ثم إلى عليّ، ومن عليّ إلى ذريته. وهذا النور الموروث يجعل إمام كل عصره معصومًا، فتجعل له قوة روحانية لا نظير لها في البشر، ومن أجل ذلك أنكروا الخلافة لغير هؤلاء.

فهذا الخلاف بين أتباع المذاهب من جهة، وبين الشيعة والسُّنَّة جعل البلاد الإسلامية نارًا مشتعلة؛ فكل يوم نسمع هياجًا من السُّنيين؛ لأن شيعيًّا سبَّ الصحابة، ونسمع هياجًا من الشيعة؛ لأن أحدًا مسَّ عليًّا أو أحد الأئمة، حتى إن بعض العلماء الكبار — من علماء بغداد — حرَّم على نفسه المشي بالكرخ؛ لأنه كان يسمع فيها سبَّ الصحابة، وعاقب أحد الفاطميين رجلًا أشد عقوبة؛ لأنه وجد عنده كتاب «الموطأ» للإمام مالك، وهذا مما كان سببه ضيق العقل.

وأراد الفاطميون أن يمدوا ملكهم إلى العراق وما حولها، فكان القتال الشديد، والخصومة الشديدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وليس بعجيب أن يكون الخلاف بين الشيعة والسنية، والمذاهب المختلفة في تلك العصور المظلمة، إنما العجيب أن يبقى هذا الخلاف على مدى التاريخ إلى اليوم.

•••

وكان من أكبر مظاهر هذا العصر القول بسدِّ باب الاجتهاد، ولم يكن سده بناء على مجلس اجتمع فيه الفقهاء، وقرروا فيه إقفال باب الاجتهاد، وعمل بذلك محضر وزِّع على الأمصار، إنما كان شعورًا عامًّا بالضعف والنقص، ونوعًا من التقديس للفقهاء السابقين، ومن ذلك الحين — أعني القرن الرابع الهجري — وقف سير التشريع الإسلامي، ومضى عصر الابتكار، وبدأ عصر التحجُّر، وأصبح أصحاب المذاهب الأولون كأنهم معصومون، وأصبح الفقيه لا يستطيع الحكم في مسألة إلا إذا كانت مسألة جزئية تطبيقًا على قاعدة كلية، قالها إمامه من قبله، وهذا هو الذي يسمى اجتهاد مذهب، أما قبل ذلك فكان الاجتهاد مباحًا، ولم يكن مقصورًا على المذاهب الأربعة: فكان هناك مذهب سفيان الثوري، ومذهب الأوزاعي، ومذهب الظاهرية، وغيرها من عشرات المذاهب، بل حكي أن بعض العلماء كان لا يرضى أن يتبع مذهبًا من المذاهب، بل يجتهد لنفسه، ففي أوائل القرن الرابع تجمدت المذاهب، واقتصر فيها على المذاهب الأربعة، وأبطل كما قيل نحو خمسمائة مذهب؛ ولذلك وقف التشريع تقريبًا من هذا التاريخ، ورُمي الإسلام بالجمود.

بل إن ذلك أعدى العلوم والفنون الأخرى؛ حتى كأن الاجتهاد الذي مُنع هو الاجتهاد في كل علم وفن، فلم يكن أدب غير الأدب القديم، ولا لغة غير الألفاظ القديمة، حتى كأن العالم الإسلامي كله أُصيب بالعقم.

وعُدَّ من ينتقل من مذهب إلى مذهب مرتكبًا لجريمة، ومن يرى رأيًا غير رأي إمامه خارجًا عن المألوف، حتى طُلب أخيرًا مرة من العلماء أن يتخيروا مذهبًا من المذاهب المختلفة للقضاء بمقتضاه، فرفضوا، فكانت النتيجة اللجوء إلى القانون الفرنسي.

ثم كانت الحالة الاقتصادية على أسوأ ما يكون، فثروة الأُمَّة ليست موزَّعة توزيعًا عادلًا، ولا شبه عادل، أموال تتدفَّق على الملوك والأمراء، ومن يلوذ بهم؛ وفقر مُدقع لباقي أفراد الشعب.

وكلُّ دَخل الدولة هو الجزية تؤخذ على رءوس أهل الذِّمَّة ومن الزكاة، ومما يؤخذ على الأراضي الزراعية، ومما يفرض من ضرائب جديدة غير هذه. وكثرت المصادرات عند احتياج الخلفاء والأمراء للأموال؛ ولذلك شاعت عادة خزن الأموال، وإخفائها في غير مظانها، كالدفن في الأرض، ونحو ذلك، حتى حكوا أنه من حسن حظ أمير من بُوَيه أن احتاج إلى مال كثير يصرفه على الجند، وإلا شغبوا، فصادف أن رأى ثعبانًا يختبئ في السقف، فأمر بالبحث عنه، فوجدت غرفة فوق السقف، وفوقها دور آخر علوي، ووجدت هذه الغرفة مملوءة بالذهب المخزون في الخفاء؛ ففرَّج ذلك كربه، وأزال شدَّته، وكم وجد في الحيطان وتحت الأرض من أموال مخزونة في القدور!

وقد ألَّف أحدُ الظرفاء كتابًا سماه «الفلاكة والمفلوكين»، أي: الفقر والفقراء، حكى فيه أمثلة لكثير من العلماء الذين أصيبوا بالفقر، من ذلك ما حكاه عن التبريذي الأديب المشهور من أنه أراد عالمًا يشرح له كتابًا معجمًا، فوُصف له أبو العلاء المعري — وكان بعيدًا عنه — فحمل الكتاب في خُرْج على ظهره، ومشى طويلًا، حتى بلَّل العرقُ الكتابَ وأتلفه، وكان يظن بعد ذلك أنه أصابه مطر، ووجدت أشعار كثيرة في هذا العصر من جرَّاء هذا يذكرون فيها: أن الفقر يلازم العقل، والغنى يلازم الجهل، مثل الذي يقول:

أنَّي رأيت الدهر في حكمه
يمنح حظَّ العاقِل الجاهلا
وما أراني نائلًا ثروةً
كأنَّه يحسبني عاقلا

ومثل قوله:

وقائلةٍ ما بالُ مثلك خاملًا
أأنت ضعيفُ الرأي أم أنت عَاجِزُ
فقلتُ لها: ذنبِي إلى القوم أنَّنِي
لِمَا لم يحُوزُوهُ من المجدِ حائزُ
وما فاتني شيء سِوى الحظ وحده
وأما المعالي فهي عِندي غَرائِزُ

إلى كثير من أمثال ذلك.

وشاع بين الناس في ذلك العصر مصادرة المواريث، فقال ابن المعتز في أرجوزته:

وويلُ من مات أبوه مُوسرًا
أليس هذا محكَمًا مشَهَّرا
وطال في دار البلاء سَجنُه
وقيل من يدري بأنك ابنه
فقال: جيراني ومن يَعرِفُنِي
فنتفوا سبَالَه حَتَّى فَنِي
وأسرفوا في لَكمِهِ ودفعه
وانطلقت أكفَّهم في صَفعِه
ولم يَزَل في أضيَقِ الحبوسِ
حتى رَمَى لهم بالكيسِ

وعُيِّن أبو حُسَين الرقِّي قاضيًا على حلب، فكان يصادر التركات، ويقول: التركة لسيف الدولة؛ وليس لأبي الحسين إلا أخذ الجُعَالة.

وشاع بين الناس: «من هَلَك، فلسيف الدولة ما ملك»؛ ولذلك اجتهد الحكام أن ينكروا الوراثة، ويجعلوا من مات مات عن غير وارث؛ ليستولي على تركته.

وكثيرًا ما كان يدعي على التجار الكبار أن عندهم ودائع للسلطان، حتى قال ابن المعتز في هذه الأرجوزة:

وتاجر ذي جواهر ومال
كان من الله بأحسَن حالِ
قيل له عندك للسلطان
ودائعٌ غاليةُ الأثمانِ
فقال: لا والله ما عندي له
صغيرةٌ من ذا ولا جليلَة
وإنما ربحتُ في التجارة
ولم أكُن في المال ذا خسارة
فدخنوه بدُخان التِّبن
وأوقدوه بثِفَالِ اللبن١
حتى إذا ملَّ الحياةَ وضجَر
وقال ليت المال جَمعًا في سَقَرْ
أعطاهُم ما طلبوا فأطلِقَا
يستعملُ المَشي ويمشِي العَنَقَا٢

ويحكون أن الإخشيد صاحب مصر كان يصادر خاصته، وعماله، وأصحابه في هدوء وبرود، وكان يأخذ غلمانهم بسلاحهم، ودوائهم، وثيابهم، فإذا سَلِمَ أحد من مصادرته حيًّا أُخذ ماله بعد وفاته.

وقد توفي عفَّان بن سليمان — أكبر تاجر في مصر في زمانه — فأخذ الإخشيد من تركته مائة ألف دينار، ولما مات الصاحب بن عباد بعد أن خدم فخر الدولة البُوَيهي أرسل الأمير من أحاط بتركته، ومن ذلك كان كثير من الأغنياء يودعون أموالهم خفية عند الفقراء؛ حتى يجدوا ما يعيشون به إذا صودروا، وبعضهم كان يدفن المال في الصحراء، وبعضهم كان يستعمل حيلة لطيفة؛ فكان يضع الرجال في صناديق على البغال، ويخرج إلى الصحراء، ثم يفتح الصناديق، ويخرج مَن فيها، ويأمرهم بالحفر، ويضع في الحفر الذهب، ثم يدخلهم في الصناديق، ويعود بهم لئلا يعلموا موضع الذهب فيسرقوه، وبعض الحكام كان يستعمل العسف في الجمارك، وفي مال الخراج إلى غير ذلك من وسائل ظالمة؛ حتى إن صمصام الدولة سنة ٣٧٥ﻫ أراد أن يفرض ضريبة قدرها عُشر الثمن على الثياب الحريرية، فاجتمع الناس في جامع المنصور، وعزموا على قطع الصلاة، وكاد البلد يفتتن، فأُعْفوا من ذلك، ولم يقتصروا في الضرائب على الكماليات، بل أرادوا أن يفرضوها على الضروريات كالملح.

ومن سوء هذه الحالة الاقتصادية فشا في الناس أمران متناقضان: الأمر الأول: التصوف؛ فإن كثيرًا من الناس لما عزَّ عليهم أن ينالوا ما يطلبون قلَّلوا مطالبهم فتصوَّفوا، وعلَّموا أنفسهم الزهد، والورع، والكبت، فكثر التصوف من هذا الباب جريًا على قولهم: «إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون».

والأمر الثاني: ما شاع في هذا العصر من لصوص سموا «الشطَّار» كانوا يقطعون الطريق على الناس، ويفرضون ضرائب معينة على البيوت، من لم يدفعها هوجم، وأخذ ماله، وحكى لنا الطبري كثيرًا من ذلك، وأن فرقة سميت «المتطوعة» ندبت نفسها للقضاء على هؤلاء الشطار.

أمَّا من الناحية العقلية وانتشار الثقافة، فقد كان العصر متقدمًا حقًّا، تَمَّ فيه امتزاج الثقافات، هؤلاء الفرس والهنود يتثقَّفون الثقافة العربية، وينتجون فيها، وهؤلاء وثنيو حرَّان، والسوريانيون يغرقون البلاد بالثقافة اليونانية، وهؤلاء الخلفاء يشجِّعون الطبَّ والتنجيم أولًا لحاجتهم إليهما، ثم ينفُذُ العلماء منهما إلى أبواب الفلسفة الأخرى؛ من طبيعيات، ورياضيات، وإلهيات، ويعكُفُ العالم الإسلامي على دراستها في صدق وإخلاص، ويقتبس علماء كل علم من الفلسفة اليونانية ليفلسفوه من دين، ونحو، وصرف، وبلاغة، وغير ذلك، هذا عدا الفلسفة نفسها، ونشطت حركةُ الترجمة من اليونانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية نشاطًا غريبًا، حتى إن ثبتَ الكتب المترجمة عن اللغات المختلفة، وعن اليونانية خصوصًا، وهو الذي قدَّمه لنا ابن النديم في «الفهرست»، وصاحب كتاب «التمدن الإسلامي»؛ ليأخذ عجبنا، هذا ابن المُقفَّع وأمثاله يقدم لنا بلغة عربية فصيحة الثروة الفارسية، وهذا حنين بن إسحاق مثلًا يقدم لنا الثروة اليونانية، وهذه كلها كانت بدائية في العصر الأموي، والعباسي الأول، ثم نضجت في القرن الرابع، وأخذ العلماء يقتبسون منها ما حلا لهم؛ ومما زاد الحاجة إلى الفلسفة اليونانية أن النصارى في تلك البقاع كانوا ينقسمون إلى جملة طوائف: يعاقبة، ونساطرة، ومَلكانية، وكان هناك جدل في هذه المذاهب حول طبيعة المسيح، وحول القضاء والقدر، وهل الإنسان مجبور أو مختار؟ وكل طائفة تسلحت بالفلسفة اليونانية لدعم مذهبها، وكان هذا سببًا في انتشار الفلسفة اليونانية، ثم كان من طبيعة بعض الأفراد أن تفلسفوا أولًا لغرض من الأغراض، ثم أبوا إلا أن يتفلسفوا للفلسفة ذاتها، كما قال الغزالي: «طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله». ولما جاءت الدولة الشيعية نصرت الفلسفة — والحق يقال — نصرًا مؤزَّرًا، أكثر من أهل السنَّة؛ لأنها أعانتهم على فكرتهم في مسألة الظاهر والباطن، ولأن المتفلسف عادةً أطوعُ للاقتناع بالحجة الفلسفية، ولأنَّ الفلسفة تُليّنُ الجمود، وتُفتِّح الذهن لقبول الجديد؛ ولذلك كثيرًا ما نرى فلاسفة هذا العصر يحتضنهم الشيعة: كالفرابي، وإخوان الصفاء، وابن سينا، وغيرهم. فإذا قلنا: إن الفلسفة لم تزهر في عصر، ولم تستثمر في عصر كهذا العصر، لم نكن بعيدين عن الصواب.

وكان الناس في هذا القرن ثلاث طبقات متميزة: الطبقة الأولى: طبقة الأرستقراطيين من خلفاء، ووزراء، وتجار كبار، وأشراف، والطبقة الوسطى: من تجار متوسطين، ومُلَّاك متوسطين، ونحوهم، وطبقة فقيرة، وهي عامة الشعب من صغار الفلاحين، وصغار العمال، والعلماء الذين بعدوا عن الخلفاء والأمراء. فأمَّا الطبقة الأولى، فكان المال يتدفق عليهم، وهم ينفقونه في إسراف، هم ونساؤهم وأتباعهم، هذه ميزانية الدولة في هذا العصر بلغت حدًّا كبيرًا، فالخليفة مع ضعفه كان يعد الرئيس الديني حتى للبلاد المفصولة، فكان يجبي خراجًا من هذه البلاد، ثم يسرف فيه هو ونساؤه، يحكون أنه كان بين رياش أم الخليفة المستعين بساط أنفقت على صنعه ١٣٠ مليون درهم، فيه نقوش على أشكال الحيوانات والطيور، أجسامها من الذهب، وعيونها من الأحجار الكريمة. ومدح شاعر امرأة من البيت المالك؛ فحشت فمه درًّا باعه بعشرين ألف دينار، وامتلأت بيوت هذه الطبقة بالجواري، والغلمان من سود وبيض، حتى قالوا: إنه بلغ عدد خدم المقتدر أحد عشر ألف خصي من الروم والسودان، إلى غير ذلك من القصور الفسيحة، والغرف العديدة، حتى إن المعز بنى دارًا في بغداد أنفق عليها ثلاثة عشر مليون درهم، ثم كان هذا الترف يستتبع عددًا كثيرًا من المغنِّين والمغنِّيات، تصرف عليهم الأموال الكثيرة؛ ومع ما كان يجبى إليهم من الأموال الكثيرة، كانوا يضطرون أحيانًا إلى الصرف على الجند، فلا يجدون ما ينفقون، فيضطرون إلى مصادرة الأموال بكل طريق، وأكثر ما يصادرون كان الأغنياء، وقد حكوا أن ابن الجَصَّاص كان تاجرًا للجواهر كبيرًا في مصر، فصودرت أمواله كلها، حتى إنه وجدت عنده الدراهم بالكلية، وهذا مثل من أمثلة التجار الكبار الذين يعدون من الأغنياء.

زد على ذلك كثرة النفقة على العمال، وعلى القضاء والكتاب، فقد حكوا أن راتب أحد الكبار في هذا العهد كان ثلاثة وثلاثين دينارًا وثلثًا في اليوم؛ أي ما يقرب من ألف دينار في السنة، وهو ما يساوي خمسة آلاف جنيه اليوم.

وحكوا أن الحسين بن علي المادرَاني العامل على مصر في أوائل القرن الرابع الهجري كان مرتبه ثلاثة آلاف دينار في الشهر، وحكوا أن كاتبًا من كتاب مصر في عهد الدولة الفاطمية كان يقدم له في اليوم الواحد من البقول، والحلوى، والأثمار، والفاكهة، والعطريات، ومن الألبسة والأفرشة، ما يستغرق تعداده صفحتين أو ثلاثًا من القطع الكبير، وكان الوزراء يتقاضون أكثر من ذلك، فقد حكوا أن راتب الوزير في العهد الفاطمي كان خمسة آلاف دينار في الشهر، عدا ما يجري عليه، وعلى أهله من مأكولات وملبوسات، فأين يأتون بهذه الأموال كلها من غير المظالم التي ذكرناها؟ وكان الاعتقاد السائد أن الغنى والفقر من السماء، عكس ما نعتقد الآن أنه نتيجة للنظام الاجتماعي، وعلى هذا الاعتقاد وضع قانون تحديد الملكية، ونظام الضرائب التصاعدية؛ ولذلك نجد في هذا العصر الأتراك في بغداد، والبويهيين يعسفون بالناس ويظلمون، ورأينا سيف الدولة ابن حمدان ينهب كثيرًا، ويهب كثيرًا، فيهب المال الكثير للمتنبي؛ لأنه يمدحه، ويبخل على ابن عمه أبي فراس بفدائه من الأسر؛ إذ كان أسيرًا في القسطنطينية. ونرى خمارويه بن أحمد بن طولون يخرِّب مصر عندما زوَّج بنته قطر الندى للخليفة العباسي، ويصنع الهواوين من الذهب الخالص، ويبني لها دارًا من مصر إلى بغداد في كل مرحلة، ويأتي بعد الحاكم بأمر الله، فينفق المال بالهيل والهيلمان على من يريد، ويمنع من يريد، فالفرق بين الطبقة العليا والدنيا فرق كبير. هذا أبو حيان التوحيدي على علمه وفضله يضطر إلى أن يأكل الحشائش من الصحراء، وهذا أستاذه أبو سليمان المنطقي لا يجد أجرة مسكنه، حتى يعطيه عضد الدولة البويهي مائة دينار، وهذا الميداني صاحب كتاب «الأمثال» مع علمه، وفضله، ونبله مقتَّر عليه في رزقه بسبب عفته. ومن أجل هذه المظالم اضطر الفلاحون على أن يسلكوا سبيلًا اسمه «الالتجاء»، وهو أن يكتبوا أملاكهم صوريًّا للأمراء والأعيان، حتى يخفف عنهم الخراج بمقدار النصف أو الربع؛ لأنَّ الضريبة لم تكن عادلة، وكثيرًا ما ضاعت أملاكهم من هذا الطريق، فادَّعى الأغنياء ملكيتها، أو ادَّعاها ورثتهم من بعدهم، ومثل هذا ما يحدث اليوم من بيع الشركات بعض الأراضي لأصحاب الجاه بثمن بخس، حتى يمد إليها الماء والكهرباء بسبب جاههم، فترتفع الأثمان أضعافًا مضاعفة، وسميت هذه الطريقة بالالتجاء؛ لالتجاء الفلاحين إلى الأغنياء.

•••

من أجل هذا كله انحلَّت الأخلاق، فقلَّ أن تجد رجلًا نبيلًا فاضلًا؛ لأن الذي يكوِّن الأخلاق البيئة الخارجية، والبيئة الداخلية، وكلتاهما كانت فاسدة، فقد رأيت البيئة الخارجية — وأعني بها الحكَّام — وما كان يجري على أيديهم من المظالم عن طريق المصادرات والرُّشا.

فقد حكوا أن واليًا عيَّن في يوم واحد سبعة عشر عاملًا على بلد واحد في يوم واحد؛ لأنه كان يأخذ من العامل الجديد كل مرة أكثر مما يأخذه من العامل المعزول، فاجتمع هؤلاء العمال السبعة عشر، وتشاوروا فيما بينهم ماذا يفعلون، وبعد التفكير استقر رأيهم على أن العامل الأخير لم يعزل بعامل غيره، وله السلطان الشرعي، فطلب الآخرون منه أن يعين كل واحد منهم واليًا على ناحية من نواحيه، ففعل وحلَّت المشكلة.

فلما رأى الناس هذه المفاسد، فسدوا هم أيضًا؛ لأنهم رأوا المثل من رؤسائهم، والسبب الأهم من ذلك البيئة الداخلية — وأعني بها البيت — وما يجري فيه، فقد كان في البيت الواحد عدد من النساء الحرائر، ومئات من الجواري ملك اليمين، والرجل يحق له أن يصل على هؤلاء وهؤلاء، وينسل من هؤلاء وهؤلاء، وقد كان هذا معقولًا يوم كثرة حروب المسلمين مع غيرهم، ولكن لم يعد معقولًا، وقد قلَّت الحروب فتفرغ الرجال للشهوات الجنسية، وأنسلوا من هؤلاء وهؤلاء. ولا يخفى أن بيتًا كهذا يكون مملوءًا بالدسائس والمؤامرات، وينسل أولادًا يعادي بعضهم بعضًا؛ لأن أمهاتهم أرضعتهم الغيرة والكراهية، فكثيرًا ما كانت خصومة بعضهم مع بعض، فإذا كانت المفاسد داخلية وخارجية، فكيف يصلح الشعب؟

وقد سبَّبت الحروب الصليبية من عهدها الأول كثرة الجواري البيض المأسورات في الحروب، فكانت توزَّع على البيوت، ومن أجل هذا كثر العنصر الفرنجي فيها، وهن عادة يثرن على تعدد الزوجات، وعلى ملك اليمين؛ ولذلك يجعلن البيت جحيمًا.

وإذا كانت الصناعات الجيدة لا تروج إلا عند هؤلاء الأغنياء، ولا يدفع ثمنها العالي إلا منهم، كانت الصناعات قسمين فقط: قسمًا فاخرًا لبيوت الأغنياء، وقسمًا وضيعًا للشعب، وانصرف العمال عن الصناعات الوسطى، فكنتَ تجد العمال الماهرين يصنعون الملابس الجميلة جدًّا المزركشة في مصانع تنّيس، وما إليها، والخزف الجيد، والصدف، والطرف الباهرة، وصناع الشعب يصنعون الأشياء العادية، وربما كان ذلك متسلسلًا إلى اليوم.

وشجع على هذه الفكرة أنه كان يرسل إلى الخلفاء والأمراء مع أموال الخراج بعض الهدايا الثمينة المصنوعة صناعة فائقة تسترعي النظر، وربما كانت المدن أحسن حالًا من القرى؛ فإن المدن بما يصب فيها من مال الأمراء والولاة كانت أكثر ترفًا ونعيمًا، فهذا جوهري بالكرخ، يساومه أحد البرامكة على سَقَطٍ من الجوهر بمبلغ سبعة ملايين من الدراهم فيأبى، وهاك ابن الجصاص — تاجر الجواهر في مصر — يصادر على مال تزيد قيمته على عشرين مليونًا من الدنانير كما ذكرنا. وكان في بغداد شريف يسمى محمد بن عمر، بلغت غلَّة أملاكه مليونين ونصفًا من الدراهم، وكان في إصطَخر بيت ينتسب إلى آل حنظلة ابتاع بمبلغ مليوني درهم مصاحف فرَّقها على الفقراء. أما القرى فيعملون في الأرض، ويبتز أموالهم الملَّاك، ويقتنعون بالحصول على ما يسد أودهم، وربما كان إذا عثر أحدهم على مال كثير مات من الفرح، كالذي يحكي أن صيادًا وهب مالًا في أيام أحمد بن طولون، فلما عاد ابن طولون بعد ما مرَّ عليه وجده ميتًا، وابنه يبكيه، فقال له: خذ مال أبيك، فقال: إن أخذتُه مِتُّ موتته، فأشار بأن يشتري له بيت بخمسمائة دينار، وقال: إن الغنى يحتاج إلى تدريج، وإلا قتل صاحبه، وكان يجب أن يدفع إلى مثل هذا دينار إلى دينار.

وقد اشتهر من هذه الطبقة العليا جماعة كانوا أرستقراطيي النسب، كانتسابهم إلى عليّ وفاطمة، أو كالبكريّين والعمريّين، أو انتسابهم إلى بيوت اشتهرت بالمجد، كانتسابهم إلى الأبناء، ويعنون بالأبناء من كانوا من أبناء الجند الذين أسَّسوا الدولة العباسية، وهكذا، فهؤلاء كانوا أرستقراطيين في نسبهم، وإن لم يكونوا أرستقراطيين في أموالهم.

•••

وقد اشتهر في هذا القرن الرابع عدد كبير من الأرستقراطيين، نذكر من بينهم على اختلاف أنواع أرستقراطيتهم إبراهيم بن هلال الصابي، معز الدولة بن بويه، جحظَةَ البرمكي، المتنبي، بديع الزمان الهمذاني، أحمد بن طباطبة، الصاحب بن عباد، أبا علي القالي، عز الدولة بن بويه، جوهر الصِّقلي، أبا علي الفارسي، ابن خالويه، ابن الحجاج، ابن نباته، عبيد الله المهدي الفاطمي، الأشعري، عماد الدولة بن بويه، سيف الدولة، فاتكًا الرومي، عضد الدولة، كافورًا الإخشيدي، الوزير ابن بقية، ابن جرير الطبري، ابن دريد، ابن العميد، ابن سكرة، الجُبَّائي، الصولي، ابن الأنباري، العزيز بالله بن المعز، ابن جني، وغيرهم، ولكن إن أكثرنا من الكلام في ظلم الحكام وعسفهم، فلن يفوتنا أن قليلٌا منهم كان عادلًا: كعلي بن عيسى، وقليل غيره.

وشاعت كثرة المجالس، فكان بعض الأمراء والوزراء يعقدون مجالس يجري فيها الأدب والعلم، وأحيانًا الشراب، وأحيانًا هما معًا. ويروي لنا التاريخ مجالس كثيرة من هذا القبيل، وربما تنافس الأمراء في ذلك بعد استقلالهم؛ فخرًا بسلطتهم، ومن يتَّصلون بهم، فكم روي لنا عن الوزير المهلبي من مجالس عظيمة فيها شعر، وفيها قصص أدبية، كان من نتيجتها كتاب «الأغاني»، ويحكى لنا أن سيف الدولة كان له من الشعراء وغيرهم مثل ما كان للرشيد، ومن خرِّيج مجالسه المتنبي، وأبو فراس، والفيلسوف الفارابي، وابن خالويه النحوي، وغيرهم. وكذلك في مصر كان يعقوب بن كلس وغيره.

هذا عدا مجالس العلماء أنفسهم، كمجلس أبي سليمان المنطقي، وابن أبي عامر، وغيرهما، كل هذه كانت مَرَاد الناس، يستنشقون منها العلم والأدب، ويتسامرون فيها السمر اللذيذ، وإذا راجعنا الكتب المؤلفة التي كانت نتيجة هذه المجالس استكثرناها.

ومن مظاهر هذا العصر فشو اللحن، وخصوصًا في البيوت والشوارع؛ وذلك لكثرة الجواري الأعجميات، وغلبة الأتراك حتى على القصور، فانتشرت الياء في آخر الكلمات، وأبدلوا جمع فعاليل بفعالل، وقالوا: أخيرُ وأشرُّ، بدل: خيرٌ وشرٌّ. ولم يفرِّقوا بين فَعلة للمرة، وفِعلة للهيئة، ولم يفرِّقوا تفرقة تامة بين الفعل المتعدي، والفعل اللازم، وقالوا: إن لغة البحتري أحط من لغة أستاذه أبي تمام، وقد قال عنه أحد معاصريه: إنه لاحنٌ جاهلٌ، فقال مثلًا:

يا مادح الفتح ويا آمِله
لست امرأ خاب ولا مثنِ كذب

بدل مثنيًا.

وعابوه في قوله:

ولو أنصف الحساد يومًا أمَّلوا
مساعيك هل كانت بغيرك أليقا

بدل مساعيَك.

فإذا وصلنا إلى عصرنا كان اللحن أفشى حتى بين العلماء، وحتى عدوا من يتكلم باللغة الفصحى متكلمًا على النمط البدوي القديم، وقالوا: إن ثعلبًا النحوي الشهير كان يتكلم في مجالسه فيلحن، ويقول قدامة بن جعفر: إن الفصاحة الكاملة، وصحة الإعراب لا تتم إلا لأعرابي بدوي نشأ حيث لا يسمع إلا الفصاحة؛ بل يرى أنه يجب استعمال اللحن، وأن يتعمَّد له عند الرؤساء والملوك الذين يلحنون، فإن الرئيس أو الملك لا يجب أن يرى أحدًا من أتباعه فوقه.

ومتى رأى أن أحدًا منهم قد فَضَلًه في حالٍ من الأحوال نافسه وعاداه؛ كالذي رُوِي أن رجلًا تكلم في مجلس بعض الخلفاء الذين كانوا يلحنون فَلَحَن، فعوتب على ذلك، فقال: لو كان الإعراب فضيلة لكان أمير المؤمنين إليها أسبق. وقال: إن اللحن قد يُستملَح من الجواري والإماء، وذوات الحداثة من النساء؛ لأنه يجري مجرى الغرارة منهن، وقِلة التجربة.

وربما كان هذا هو السبب الذي دعا بعض العلماء المتزمِّتين إلى وضع كتب في ألحان العوام كما فعل الحريري وغيره، ومثل كتاب «فعلتُ وأفعلتُ» الذي حوى كثيرًا من أغلاط العامة، وبهذا أيضًا تكوَّنت اللهجات العامية في الأقطار المختلفة، وأصبح لكل قطر لغةٌ عاميةٌ، ومن أجل هذا أيضًا نشأ الخلافُ بين الأحرار الذين لا يتبعون قواعد النحو بدقة، وبين المتزمتين من النحويين، وفي ذلك يقول الشاعر:

ماذا لقيتُ من المستعمرين ومن
قياس نَحوِهِمُ هذا الذي ابتدعوا
إن قلتُ قافية بِكرًا يكونُ بِها
بيت خلاف الذي قاسوه أو ذَرَعوا
قالوا لحنت، وهذا ليس منتصبًا
وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق
وبين زيد، فطال الضرب والوَجَعُ

وطعن الصاحب بن عباد على المتنبي؛ لتفاصحه، واستعماله الألفاظ النادرة الشاذة؛ فيجمع مثلًا رُكب الإبل على صيغة ركبات.

ولا ننكر أن هؤلاء المتزمتين كان لهم فضلٌ كبيرٌ في المحافظة على اللغة الفصحى على مدى الأزمان.

وجاء ابن حجاج، وابن سُكّرَة فاستعملا كثيرًا من الألفاظ العامية، والأساليب العامية، والعادات العامية، فكثيرًا ما نجِدُ ابن حجاج يستعمل كلمات فارسية مثل: كلمة «هم» الفارسية بمعنى «أيضًا»، وكان يستعمل «شوَّشَ» بمعنى «أزعج»، و«رأسمال» إلى غير ذلك.

ولا يقلُّ ابن سُكرَة شيئًا عنه في ذلك، وظلت اللغة العامية تنفصل عن اللغة الفصحى، وتتسع بينهما هوة الخلف على مرُ الأزمان، وفي كل الأقطار، حتى كوَّنت اللغة العامية لها أدبًا خاصًّا من موشحات، وأزجال، وأمثال، وجرؤت فيما بعد حتى هزأت النحو على النحو الذي ذكره الشربيني في كتابه «هزُّ القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»، وتبعه في ذلك غيره.

وفي العصر الحاضر رقيت اللغة العامية، وقربت من الفصحى بفضل الإذاعات والجرائد والمجلات، ولم يعقهما عن الاتصال ثانية إلا ما في اللغة العامية أحيانًا من الحرفشة — على حد تعبير ابن خلدون — وما في اللغة العامية من وقف، وعدم إعراب.٣

وكانت المعيشة في الأوساط الفقيرة تتطلَّب نحوًا من ثلاثمائة درهم، أي نحو مائة وعشرين جنيهًا في السنة لرجل متزوِّج وله ولد، أما المعيشة العالية، فلا حدّ لنهايتها. ويحدثنا كتاب «الفرج بعد الشدة» أن رجلًا كان يغنّي لسيدة؛ فأورث ابنًا له أربعين ألف دينار، ولما بلغ رشده صرف منها ألف دينار، اشترى بها بيته القديم، وسبعة آلاف أصلح بها أثاثًا فخمًا للبيت، من سجاجيد وملابس، وإماء، وعبيد، وغير ذلك. وخصص ألفين لتكون رأس مال للتجارة، ودفن عشرة آلاف ليوم الحاجة، وخصص عشرين ألفًا لشراء ضيعة يستعين بها على الأيام.

وكان من مظاهر نعمة الأغنياء السكنى في السراديب صيفًا، والثلج لشرب الماء البارد يستحضرونه حتى من الأماكن البعيدة، كما استعملوا في البيوت المراوح المبلولة بالماء من الخيش، يحرِّكها بعض الخدم، وكان هذا هو النظام المتَّبع للتبريد في ذلك العصر.

واتخذوا في بيوتهم الأماكن الواسعة توضع فيها الأرائك يجلسون عليها ليلًا لسماع الغناء، وللشراب، وللحديث اللذيذ.

وبعضهم يُعني بالأزهار، يشتريها بالمال الوفير، ويستحضرها في المجالس، كل زهور في مواسمها، وإذا قرأنا ما خلَّفته الدولة الفاطمية في القاهرة، رأينا مقدار الترف الذي كانوا يعيشون فيه.

وقد عُني الأغنياء بالبرك، وبالأشجار في قصورهم، وبالصناعة الخشبية، كالمشربيات، وتزيين الأبواب والحمامات؛ كما عُنوا بإنشاء الحمامات العامة للشعب، أخذًا من العادات الفارسية، وعرفوا «الإسفَلتَ»، وأخذوه من مكان بين الكوفة والبصرة، وقالوا: إنهم مهروا في صناعته، فكانوا يجعلونه كأنه مرمر أسود، ويغطون به بعض الحيطان.

وبالغ المترفون في كل شيء في الحياة وفي الممات، حتى إن قريبًا من أقرباء سيف الدولة الحمداني مات فغُسِّل تسع مرَّات، بأنواع مختلفة من العطور السائلة، وبهذه المناسبة نذكر أنه كان من المعتاد في هذا العصر المبالغة في مظاهر الحزن على الميت، وكان بعض العلماء يسمح لأهلهم أن يدفنوا في بيوتهم.

وانتشرت مجالس الشراب، وأسرف أهلها في الاستعداد لها، من أزهار، وفاكهة، وصِحاف، وأنوار، حتى كان بعضهم من إسرافهم يأكل بملعقة، ويغيِّرها في كل لعقة كما يحكى عن الوزير المهلبي، واعتادوا غسل أيديهم قبل الأكل وبعد الأكل.

ووجدت بيوت النخَّاسين يبيعون فيها القيان، وأحيانًا تقام فيها حفلات الرقص والغناء، ويصب فيها أولاد الأغنياء أموالهم، ويبتز فيها الشابات المغنيات أموال الأغنياء، كالحال اليوم، كما يحكي صاحب «الظرف والظرفاء».

وانتشر للتسلية ألعاب النَّرد والشطرنج، ولابن الرومي وصف بديع للاعب شطرنج ماهر، وكثرت الضرائب، وتنوعت لمَّا احتاج الخلفاء إلى المال، فضرَبوا الضرائب على المغنيات، وعلى الحوانيت، وعلى السفن، وغير ذلك.

واختلفت المدن، وتنَّوع نَمَطُها إلى أربعة أنواع: مُدُنٍ يغلب عليها الطابع اليوناني، كمدن البحر الأبيض المتوسط؛ ومدن يغلب عليها الطابع العربي كمدن الحجاز، ومدن اليمن؛ ومدن يغلب عليها الطابع الفارسي كمدن العراق؛ ومدن يغلب عليها الطابع الروماني كبعض مدن الشام.

وكل مدينة لا بدَّ أن يشوبها بعض من الأنماط الأخرى.

•••

وقد حلَّى الشعب عيشته بالأعياد الكثيرة تقام من حين إلى حين، وانتهزوا هذه الفرص ليتمتعوا بملاذِّ الحياة، لا يمنعهم عن ذلك ما إذا كانت الأعياد نصرانية الأصل، أو فارسية الأصل، فيكاد كل دير الأديار يُقام لِقديسه عيد ميلاد، يستمتعُون فيه بشرب النبيذ المعتَّق، والنساء، والعزف، ونحو ذلك.

ويحدثنا الشابشتي في كتابه عن الأديار، وابن المعتز في بعض قصائده عن كثير من هذه الأعياد، كما ورد كثير من ذكر «عيد الشَّعَانين»، وقد اتخذوه عيدًا عامًّا، وكانوا يسمونه في مصر «عيد الزيتون»، ويحمل كلٌّ من الشبان والأطفال خوص النخل، ويسيرون به في الشوارع، كذلك كانوا يحتفلون كما نفعل اليوم بيوم السبت الذي قبل شمِّ النسيم، بأكل البيض، وصبغته ألوانًا، وكانوا يحتفلون في بغداد مسلمُهم ونصرانيهم بآخر سبت في سبتمبر عند دَير يسمونه دير الثعالب. وفي الثالث من أكتوبر كانوا يحتفلون في دير يسمى «دير أشمُونة»، وكان عيدًا كبيرًا من أعياد البغداديين، وهكذا، وهكذا مما يطول شرحه.

وفي هذه الأعياد كانوا يحتفلون في البحر، كما يحتفلون في البر، فيركبون مراكب تسمى السَّمَرِيات، تحمل فتيات ونبيذًا، ويفرحون ويصيحون؛ فترى من هذا كثرة الأعياد التي ينتهزونها فرصة للأفراح. ومن الأعياد الفارسية المشهورة كان عيد النيروز، وهو عيد السنة الجديدة، فكانت تُهدى فيه الهدايا، ويُخرج إلى المتنزهات، هذا عدا الأعياد الإسلامية، كاحتفالهم في رمضان، وإطعامهم الفقراء، والتصدق على المساكين، وعيد الفطر، وعيد الأضحى.

وعلى الجملة فكانت هذه الأعياد — النصرانية، والفارسية، والإسلامية، والطبيعية التي يشترك فيها الكافة — متنفسًا للشعب يجدون فيها راحتهم، وينسون فيها غمومهم وهمومهم من ظلم الحكام، ومصائب الزمان.

ولدينا وثيقتان تدلان على فساد هذا العصر وحواشيه؛ إحداهما أرجوزة الخليفة عبد الله ابن المعتز، نظمها في وصف دهره، وقد ذكرنا منها وصف اغتيال المواريث، ومنها:

والعَلَوِيُّ قائدُ الفسَّاق
وبائعُ الأحرار في الأسواق

ويقول في الشيعة:

يدعون للإمام كل جُمعة
ولا يردُّون إليه قِطعَة
وهم يجورون على الرَّعِيَّة
فسادَ دِين وفسادَ نيَّة
ويأخذون مالهم صُرَاحَا
ويخضبون٤منهم السلاحا

ويقول في نبيل عذب:

فكم وكم من رجلٍ نبيل
ذي هيبة ومَركبٍ جليل
رأيتُهُ يُعتلُ بالأعوانِ
إلى الحُبوسِ وإلى الديوان
وجعلوا في يده حِبَالا
من قِنَّب يُقطِّع الأوصالا
وعلقُوه في عُرى الجدار
كأنه برادة في الدّار
وصفقوا قفاه صفق الطّبل
نصبًا بعين شامتٍ وخِل
وحمَّرُوا نقرته بين النقر
كأنها قد خجلت مِمَّن نظر
إذا استغاث من سعير الشمس
أجابه مستخرج برفس
وصبَّ سَجَّانٌ عليه الزيتا
فصار بعد بِزة كُمَيتا
حتى إذا طال عليه الجهد
ولم يكن مما أراد بُدُّ
قال ائذنوا لي أسأل التجَّارا
قرضا وإلا بعتهم عقارا
وأجِّلوني خمسة أياما
وطوقوني منكم إنعاما
فضايقوا وجعلوها أربعة
ولم يؤمل في الكلام منفعهْ
وجاءه المعيَّنون الفَجَرَه
وأقرضُوه واحدًا بعشرَهْ
وكتبوا صَكَّا بيع الضيعة
وحلفوه بيمين البيعهْ
ثم تأدَّى ما عليه وخرج
ولم يكن يطمع في قرب الفَرَج

ويصف نهب الأعراب في الطرقات فيقول:

وتاجر مع حجّه وعمرته
يطلبُ رِبحَ ماله في سَفرَتِه
مقدر في الربح أضعاف الثمن
مِن قاصد صنعا إلى أرض عَدَن
فهم كذاك سائرون ظُهرًا
أو تحت ليل أو ضُحًى أو عَصرًا
إذ قال قد جاءكم الأعرابُ
وكثَُر الطِّعانُ والضِّرابُ
وصار في حجِّهمُ جهادُ
واحمرَّت السيوفُ الصّعَادُ٥

ويقول في وصف الكوفة:

واستمع الآن حديث الكوفة
مدينة بعينها معروفة
كثيرة الأديان والأئمة
وهَمُّها تشتيتُ أمر الأمَّة
وهم بنَوْا للجور صرحًا محكمًا
فاتَّخذوا إلى السماء سُلَّما
أخَذُوا وقَتَلوا عَليًّا
العادلَ البرَّ التقيَّ الزكيَّا
وقتلوا الحُسين عند ذاكَا
فأهلكوا أنفسهم إهلاكا
وجَحدوا كتابهم إليه
وحرَّفوا قرآنهم عليهِ
ثم بكَوا من بعده وناحُوا
جَهلًا كذاك يفعل التمساحُ

•••

ويصف بعض الناس يتفلسف ولا يتعرَّبُ فيقول:

ثم إذا ما قام عن غذائه
وفرغت قهوته بمائه
تناول الريشة والطنبورا
فأضحك الصغير والكبيرا
وضاعت الأمورُ عند ذاكا
وأظهر التعطيل والإشراكا
ومدح أفلاطون والفلاسفة
وساعدته في هواه طائفة
وذكر السعود والنحوسا
والجوهر المعقود والمحسوسا
وذرع طولِ الأرض والأفلاكِ
وكم بلادُ الصين والأتراكِ
واستثقَلوا مَن قام للصَّلَاةِ
فكيف من طول في القِرَاةِ
وطعنُوا في الفِقهِ والحديثِ
وعجِبُوا من ميت مبعوث

ويقول في المشاغين من الجند:

وكل يوم ملكٌ مقتُولُ
أو خائِفٌ مروَّعٌ ذليلُ
أو خالع للعَقدِ كيما يغنَى
وذاكَ أدنى للرَّدَى وأدنى
وكم أمير كان رأسَ جَيشِ
قد نغَّصُوا عليه كلَّ عيشِ
وكل يوم شَغَبٌ وغَصبُ
وأنفسٌ مقتولةٌ وحَربُ
وكم فتى قد راح نهبَا رَاكبا
إمَّا جليسَ ملكٍ أو كاتِبا
فوضعوا في رأسه السِّياطا
وجَعَلُوا يردونه شَطَاطَا
وكم فتاة خرجَت من منزلِ
فغصبوها نفسها في المَحفِلِ
وفضحُوها عندَ من يعرفُها
وصَدَّقُوا العشيق كي يقرفها
وحصَل الزوجُ لضعف صِلَتِه
على نُوَاحِه ونتفِ لحيته
ويطلبون كل يوم رزقا
يرونه دينا لهم وحقّا
كذاك حتى أفقروا الخلافهْ
وعوَّدُوها الرعب والمخافهْ

وهذه أرجوزة طويلة مملوءة بالفضائح ووسائل الفساد، وهي مثبتة في ديوان ابن المعتز.

والثانية لزوميات أبي العلاء، وفيها العجب العجاب من وصف فساد ذاك الزمان.

فأمراء:

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها، وهم أُجراؤها

•••

يسوسون الأنام بغير عقلِ
فينفذ أمرهم ويقال ساسَهْ
فأفّ من الحياة وأفّ منِّي
ومن زمن رئاسته خسَاسَهْ

•••

واخش الملوك وياسرها بطاعتها
فالملْك للأرض مثل الماطر السَّاني
إن يظلموا فلهم نفعٌ يعاش به
وكم حَمَوك برجلٍ أو بفُرسان
وهل خلت قبلُ من جور ومظلمة
أربابُ فارسَ أو أربابُ غسَّانِ

•••

يكفيك حزنا ذهابُ الصالحين معًا
ونحن بعدهُم في الأرض قُطَّانُ
إن العراق وإن الشَّام مُذ زمن
صِفرَان ما بهما للمَلكِ سلطانُ
ساسَ الأنامَ شياطينٌ مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطانُ
مَن يحفِل حُمْض الناسِ كلهمُ
إن بات يشربُ خمرًا وهو مِبطَانُ

•••

لعمرُك ما في عالَم الأرض زاهدٌ
يقينًا، ولا الرهبَانُ أهلُ الصَّوَامِعِ
أرى أمراء الناس يمسُون شرهم
إذا خطفوا خطف البزاةِ اللوامع
وفي كل مصر حاكم فموفَّق
وطاغ يحابي، في أخسّ المطامع
يجورُ فينفي الملك عن مستحقه
فتسكب أسرابُ العيون الدوامع
ومن حوله قوم كأن وجوهَهَُم
صفًّا لم يلين بالغيوثِ الهوامعِ

وسواء في ذلك ملوك أهل السنَّة، والإمام الذي يدعى معصومًا عند الشيعة:

يرتَجِي الناسُ أن يقومَ إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ
كذَبَ الظنُّ لا إمام سوى العقـ
ـل مشيرًا في صبحهِ والمساء

•••

وما صَحَّ للمرء المحصل أنه
بكوفان قبرٌ للإمام يزار
أخو الدين من عادى القبيح وأصبَحَت
لهُ حُجزيَةٌ من عِفَّة وإزارُ

والشعراء لا ينصحون الأمراء، ولكن يتملَّقون:

وما شعراؤكُم إلا ذئابٌ
تلصَّصُ في المدائح والشَّباب
أضرُّ لمن تود من الأعادي
وأسرقُ للمقال من الزَّبابِ

والوعاظ ينافقون، فيقولون ما لا يفعلون:

رويدكَ قد غُررتَ وأنت حُرّ
بصاحبِ حيلة يعظُ النساءَا
يحرِّم فيكم الصهباءَ صبحا
ويشربُها على عمدٍ مساءا

•••

لعلَّ أناسا في المحاريب خوَّفُوا
بآي كناس في المشارب أطربُوا
إذا رَامَ كيدًا بالصلاةِ مُقيمها
فتاركها عمدًا إلى الله أقربُ
طَلَبَ الخسائسَ وارتَقَى في منبر
يَصفُ الحساب لأمَّة ليَهولَهَا
ويكون غير مصدق بقيامةٍ
أمسَى يمثِّل في النفوسِ ذهولها

والمنجمون يضحكون على عقول النساء:

سألت منجِّمَها عن الطفل الذي
في الَمهدِ كم هو عائشٌ من دهره
فأجابها مائة ليأخذ درهما
وأتى الحمامُ وليدَها في شهره

•••

لقد بكرت في خُفها وإزارِهَا
لتسأل بالأمر الضرير المنجِّما
وما عنده علمٌ فيخبرها به
ولا هو من أهل الحِجَا فيُرجّما
ويوهم جهَّال المحلَّة أنَّما
يظل لأسرار الغيوب مترجما
ولو سألوه بالذي فوق صَدرِه
لجاء بمَين أو أرمَّ وجمجما

وقد ذكر في اللزوميات أيضًا النساء وتبرُّجهن، وغشيانهن الحمامات للهو والفساد.

وعلى الجملة، فالناس كلهم أجناس، وهم كلهم أنجاس:

لو غُربل الناسُ كيما يعدموا سقَطا
لما تحصَّل شيء في الغرابيل
أو قيلَ للنَّار خُصِّي من جَنَى أَكَلَت
أجسادهم وأبت أكل السَّرابيل
أغشى الأنام تقيُّ من ذرى جبل
يرضَى القليلَ ويأبى الوشي والتاجا
وأفقرُ الناسِ في دنياهمُ مَلِكٌ
يُضحِي إلى اللَّجبِ الجرَّار مُحتَاجا

وهكذا وهكذا من فساد جعله يصب جام غضبه على أهل زمنه، ويصرخ فيقول:

الناس صنفان: ذو دِين بلا
عَقلٍ، وآخرُ دَيِّنٌ لا عقل له

وقد صوَّر لنا أبو حيَّان التوحيدي مجالس العلماء، وموضوعات أبحاثهم في كتبه، فحكى لنا المجلس الذي كان يعقد في بيت أبي سليمان المنطقي من بحث كل يوم في مسألة تارة لغوية، وتارة أدبية، وكثيرًا ما تكون فلسفية.

وكان يحضر المجلس أبو الحسن العامري، وغلامُ زُحل وغيرهما، ودوَّن محاضر الجلسات في كتابه المسمَّى «بالمقابسات»، كما حكى لنا نوع المشاكل التي كانت تجري في زمنه، في كتابه «الهوامل والشوامل»، وصوَّر لنا أيضًا ما كان يدور بينه وبين الوزير ابن سعدان من مسائل كثيرة؛ ألَّف له من أجلها رسائل كثيرة، ووصف لنا وصفًا شنيعًا قبيحًا الوزيرين ابن العميد، وابن عباد في كتابه «مثالب الوزيرين»، الذي ذكر منه نبذة ياقوت الحموي في «معجم الأدباء».

ومما يؤسف له أن علماء الدين والأدباء لم يرفعوا صوتًا لاستنكار هذه الأحداث، بل كانوا يؤيدونهم في ظلمهم؛ فهذا قاضي سيف الدولة يجمع له مال الرعية ظلمًا وعدوانًا. وهذا أبو الطيب المتنبي يمدحه حتى تقرأ، فكأن سيف الدولة ملك كريم، وعادِل رحيم؛ عكس تاريخه. ويأتي المتنبي إلى كافور، فيُعلي شأنه، ويرفع من مقامه، ولا يغضب عليه، ولا ينقده، إلا لأنه لم يمنحه ضيعة أو ولاية، فإن كان قد مُنِحَها، كان قد أضفى عليه من الألقاب والصفات ما لا قولَ بعده لقائل.

نعم، إن بعض الطوائف أرادت أن تمحو الظلم كالفدائية، وهم المسمون بالإسماعيلية، أو الحشيشية، وعلى رأسهم كان الحسن الصبَّاغ، فهؤلاء تعاقدوا على قتل الظلمة، وتحت تأثير هذه الدعوة قد شنَّعوا على الخلفاء والحكام، وكبروا مظالمهم، واغتالوا نظام الملك الوزير السلجوقي المشهور مؤسِّس المدرسة النظامية، ألَّفوا مؤامرات دقيقة لوضع نظم القتل، ولكن مع الأسف كانت طائفة فاطمية حزبية، تقتل السنيين، ولا تقتل العلويين، وحتى في قتلها السنيين لم تكن موفّقة، فنظام الملك هذا من أحسن الرجال عدلًا وعطفًا على العلماء، وتشجيعًا للعلم، ولم يقتلوا أحدًا ظاهرًا من الفاطميين، بينما كان فيهم من لا يقل فسادًا عن السنيين، وإنما كان المسلمون في حاجة على فدائيين ليسوا متعصِّبين لمذهب دون مذهب، على أن الفدائيين أنفسهم لم يكونوا حَسَنِي السيرة، ولا طاهري الأخلاق.

يضاف على هذا الفساد نوع آخر منشؤه ضعف العقلية، وانتشار الخرافات والأوهام، فكم من الناس من أضاعوا ثرواتهم في قلب المعادن ذهبًا، حتى مسكويه العالم المشهور وقع في هذا الخطأ، والإيمان بالمغيبات، والاعتقاد في النجوم والمنجِّمين، وتدجيل بعض الصوفية، وغير ذلك مما أشار إليه أبو العلاء في اللزوميات، هذا إلى انقسام الناس إلى عصبيات كثيرة كفيلة بأن تتلف أي أمة، فعصبيات الدم، كالفرس، والأتراك، والعرب، والأكراد، وعصبيات للبلاد كبصريين، وكوفيين، ودمشقيين، ومصريين إلخ. هذا عدا عصبيات دينية كشافعية، ومالكية، وحنفية، وسنية، وشيعة، وكل منها يتفرَّع إلى جملة مذاهب، إلى إسراف في الشهوات بسبب ما أغدق على السكان من رقيق مختلف الأنواع، سود وبيض.

وقد كان النَّحََّاسون يجعلون بيوتهم مواخير يقصدها الشبان، فقد حكى لنا الوَشّاء في كتابه «الظرفاء» صفة هذه المواخير، وكيف أن الشبان تتحبب الفتيات إليهم استنزافًا لأموالهم، حتى إذا أتلفوها أعرضن عنهم، وكيف كان تتدفق فيها الخمور، ويلعب القواد دورالوسيط، إلى كثير من أمثال ذلك.

ويصف لنا أبو المطهّر الأزدي منافقًا كان يجلس بين أدبيين، فيلتفت إلى اليمين ليستمع من صاحبه شعرًا، ويقسم الأقسام المغلظة أنه شعر بديع لم يقل قائل مثله في بلاغته، وروعته، وألفاظه، ومعانيه؛ ويلتفت إلى من بيساره فيذم له هذا الشعر الذي سمعه، ويسمع منه شعره هو فيُطريه أيما إطراء، ويقسم على ذلك أيما قسم، ثم يلتفت إلى من باليمين ثانية فيذم له من باليسار، وهكذا دواليك. ولعلَّ هذا المنافق لم يكن إلا واحدًا من المنافقين الكثيرين، وهل مُدَّاح الخلفاء والأمراء مع علمهم بظلمهم إلا من هذا القبيل؟

فليس عجيبًا أن تتدهور البلاد وتنحط الأخلاق؛ إنما قد يكون عجيبًا أن تبقى بعد ذلك وهذه حالها.

•••

نتعرَّض بعد ذلك إلى بعض أشياء أخرى كانت في المملكة الإسلامية في هذا العصر، من هذا العيّارون، فهم قوم من اللصوص كانوا يتخذون لهم لبسًا خاصًّا، ويقول فيهم الشاعر:

خرَّجت هذه الحروبُ رجالًا
لا لقحطان ولا لِنزَارِ
معشرٌ في جَوَاشنِ المِصر يعدُو
ن إلى الحَربِ كالليُوثِ الضَّوَارِي
ليس يدرون ما الفِرَادُ إذ الأ
بطالُ عارُوا في القنا للفرار
واحدٌ منهم يشُدُّ على ألفَيـ
ـنِ، عُريانُ مَا لَهُ مِن إزَارِ
ويقولُ الفت إذا طعنَ الطَّعـ
ـنَةَ خُذْها من الفتى العَيَّارِ

•••

ويقول ابن الأثير: إن العيّارين ظهروا في سائر المدن الإسلامية، وعظم شأنهم، وكثيرًا ما كان الوزراء، وغيرهم من أرباب الحل والعقد يقاسمونهم، ويسكتون عنهم، وقد يسمَّون أحيانًا شطارًا، وكانوا يمتازون أيضًا بملابس خاصة، وسمَّاهم ابن بطوطة في أيامه بالفتَّاك، وبعضهم كان يزعم أن الأغنياء لما امتنعوا عن دفع الزكاة أخذوها هم قسرًا.

وكان من محاسنهم — ولا شك — الكرم، وخصوصًا تحبب الخلفاء والأمراء للعامة بأساليب السخاء كالضيافة، ونصبهم الموائد للطعام، يتجمَّع عليها الألوف من الناس، ثم إنهم تفنَّنوا في الأثاث والرياش والمجوهرات، وشاعت بينهم المسكرات، وزادت بعد أبي نواس من طول ما تغزَّل بها، وكانوا يشربون النبيذ بالأرطال، وانتشر الشراب في العامة، وقد حكي عن الحاكم بأمر الله الفاطمي، أنه أمر بإراقة الخمور، وبإراقة العسل حتى لا تصنع منه.

وكان من عادة الخلفاء والأمراء اهتمامهم بالخروج للصيد، وعده من الرياضة البدنية.

ويحكى عن السلطان مسعود السلجوقي أنه بالغ في ترفيه كلاب الصيد حتى ألبسها الجلال الموشاة، وسوَّرها بالأساور من الذهب. وكان من عادة الخلفاء جمع السباع، وتربية الحيوانات الداجنة، وتأنيس الغزلان، وقالوا: إنه اجتمع عند العزيز الفاطمي صاحب مصر من غرائب الحيوان ما لم يجتمع عند غيره.

هذه صورة حاولنا بها توضيح هذا العصر بقدر الإمكان؛ اعتقادًا منا بأنها ذات أثر كبير في حالة العلوم والآداب والفنون في ذلك العصر.

وقد كان صحيحًا ما ذهب إليه «تين» الفرنسي من أن كل هذه الأشياء متأثرة لدرجة كبيرة بالبيئة؛ وقد عنى بالبيئة ما يشمل البيئة الاجتماعية.

ونعتقد أنه لولا هذه البيئة ما كان التصوف بهذا الشكل، ولا نبعت المقامات في الأدب، ولا غرق الأدب العربي في المديح. ولولا انتشار الشيعة في هذا الزمان ما كانت رسائل إخوان الصفاء على هذا النحو، ولا كان ما يحكى لنا من تحف نفيسة رائعة، ولا مبان ضخمة، ولا عمارات فخمة، ولولا هذه البيئة التي وصفنا ما كان إخفاء الكنوز، ولا كثرة الصعلكة في جانب، والترف والنعيم الكبيران في جانب آخر، ولا كان أبو العلاء يصرخ صرخته المعروفة في «اللزوميات».

وإذ قد فهمنا هذه البيئة كما وصفنا وتكلَّمنا في الجزء الأول من «ظهر الإسلام» عن حركة العلوم إجمالًا، أمكننا الآن أن نبدأ في الكلام عنها في هذا العصر تفصيلًا، والله الموفق.

هوامش

(١) الثفال: جلد يبسط تحت الطاحون ليسقط عليه الدقيق.
(٢) العنق: الإسراع في السير.
(٣) انظر كتاب «العربية» للأستاذ برهان فك، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار.
(٤) أي: يصبغون بالدم.
(٥) الصعاد: الرماح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤