الفصل الثالث

المنظر الأول

وادي الأراك

المشهد الأول

(قيس وحدَهُ)
أيا هجْر ليلى قد بلغتَ بيَ المدى
وزدتَ على ما لم يكن بلغَ الهجرُ
عجبتُ لسعْيِ الدَّهر بيني وبينها
فلمَّا انقضى ما بيننا سكنَ الدَّهرُ
فيا حُبَّها زدْني جوًى كلَّ ليلةٍ
ويا سلوة الأحزان مَوعدُكِ الحشرُ
تكادُ يدي تندى إذا ما لمستُها
وتنبتُ في أطرافِها الوَرق الخُضرُ
فيا حبَّذا الأحياء ما دمتِ بينها
ويا حبَّذا الأموات إن ضمَّكِ القبرُ
أما والذي أبكى وأضحك والذي
أمات وأحيا والذي أمرهُ الأمرُ
هجرتكِ حتى قيل لا يعرِف الهوى
وزُرتك حتى قيل ليس لهُ صبرُ
وإني لتَعروني لذكراكِ هزَّة
كما انتفض العصفورُ بلَّلهُ القطْرُ
فما هو إلَّا أن أراك فُجاءةً
فأُبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نكرُ
ولكن قد تأخرَّتْ عن القدوم، فهل في الأمر حِيلة يا ترى؟ (يُخرج كتاب ليلى من جَيبه يتأمَّل به ويقول) الخطُّ خطُّها ولا حِيلة في الأمر. ها قد أقبلت!

المشهد الثاني

(ليلى – قيس)
ليلى (تدخل) : سلامٌ أيُّها الحبيب (يَتصافَحان بالأيدي) فيُنشِد قيس:
أنيري مكان البدْر إنْ أفلَ البدرُ
وقومي مقام الشمس ما استأخَرَ الفجر
ففيكِ من الشمس المُنيرة ضوءُها
وليس لها منكِ التبسُّم والثغرُ
بلى لكِ نور الشمس والبدْر كله
وما حملتْ عينَيك شمس ولا بدرُ
لكِ نظرة اللألاء والبرق طالعٌ
وليس لها منكِ الترائب١ والنَّحر٢
ومن أين للشَّمس المُنيرة بالضُّحى
بمكحولة العَينَين في طرفِها فَتْر٣
ليلى : آه كم أنت جميل يا حبيبي!
قيس : قُربُك أجمل يا حبيبتي، ولكن …
ليلى : لا تقُل ولا تعتِب يا حبيبي.
فلو أن ما ألقى وما بي من الهوى
بأركان رضوى دُكَّ وهو مَشيدُ
تقطَّع من وجدٍ وذاب حديدهُ
وأمسى تراهُ العين وهو عميدُ
ثلاثون يومًا كلَّ يومٍ وليلةٍ
أموت وأحيا إنَّ ذا لشديد
قيس : أنا لا أجهل أنَّ سُلطان الهوى قهَّار عنيد، وقيدهُ أشدُّ من سلاسل الحديد.
فواللهِ لا أدري على ما هجرْتِني
وأي أمور فيك يا ليلَ أركبُ
أأقطَع حبْل الوصْل فالموت دونهُ
وأشربُ كأسًا علقمًا ليس يُشرَبُ
فلو كان لي قلبان عشتُ بواحدٍ
وأبقيتُ قلبًا في هواكِ يُعذَّبُ
رمَتْني يد الأقدار عن قوس محنةٍ
فلا العَيش يَصفو لي ولا الموت يقرُبُ
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يُهينها
تُقاسي عذابَ الموتِ والطفلُ يلعبُ
فلا الطفلُ ذو عقلٍ يرقُّ لحالِها
ولا الطَّير مَطلوق الجناح فيذهبُ
ليلى : لو كنتَ تعرفُ يا مُهجة الفؤاد ما أقاسي لأجلك من العذاب لعذرتَني؛ فعندما رفض والدي طلب أبيكَ كأنَّ الصَّاعِقة انقضَّت عليَّ. أحبُّك يا قيس، ولكنَّ التقاليد تقِفُ بوجهي، فماذا أفعل؟ أنا لا أقترِن بسواك وإن أُرغمتُ على ذلك.
قيس :
أحنَّ إلى لثْمِ الثغور الضَّواحِكِ
وأهوى عِناق البِيض لون السَّنابكِ
وأصْبُو إلى ذاتِ الصِّبا من صبابتي
إذا لم يكن لي في الهوى من مُشاركِ
صرمتِ حِبال الوصْل يا بنت مالكٍ
فيا ليتَ شِعري أيُّ واشٍ وشى لكِ
ملكتِ فؤادي وامتحنتِ صبابتي
ومن دم قلبي قد خضبتِ بنانكِ
فلو كنتُ أدري أنَّ قلبكِ سالمٌ
من الحبِّ ما أحرقتُ قلبي بناركِ
ولو كنتُ أدري أين أنتِ مقيمةٌ
من الأرض لم يبعُد عليَّ مزاركِ
على أنَّهُ لو كان عندك بعض ما
تحمَّل قلبي من هواك لذابكِ
لنا تحت ظلِّ الأيكِ٤ من جانب الحِمى
مواقِف تشكو شرْح حالي وحالكِ
يُسمَّونَني في الحبِّ مجنونَ عامرٍ
ولولا هواكِ كنتُ سيد مالكِ
حكمتِ فلا تَطغَين في دولة الهوى
وإلَّا فرقِّي واصنعي ما بدا لكِ
ليلى : حبيبي، لا تجرَح فؤادي بهذه الأقوال، ولا تزدْ عذابي عذابًا، فيكفيني ما أُلاقيهِ من أهلي. أنا أهواك ولكن دون قُربك أهوال؛ فالوَداع الآن فإنَّني أخاف من العيون.
قيس : وداعًا يا حبيبة القلب (تذهب).

المشهد الثالث

(قيس وحدهُ)
ألا زعمتْ ليلى بأن لا أحبُّها
بلى والليالي العشْر٥ والشَّفْع٦ والوترِ٧
بلى والذي نادى من الطُّور عبدهُ
وعظَّم أيام الذبيحة والنَّحر
لقد فُضِّلت ليلى على الناس مِثلَما
على ألف شهرٍ فُضلت ليلة القدر٨
تداويتُ من ليلى بليلى من الهوى
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
مُفلَّجة الأسنان لو أنَّ ريقها
يداوى بهِ الموتى لقامُوا من القبرِ
هي البدْر حسنًا والنساءُ كواكبُ
فشتَّان ما بين الكواكب والبدْر
يقولون مجنون يَهيم بذِكرها
فوالله ما بي من جنون ولا سحر
إذا ما نظمتُ الشِّعر في غير ذِكرها
أبي، وأبيها، أن يُطاوِعني شِعري
فلا أنعمتْ بعدي ولا عشتُ بعدها
ودامت لنا الدُّنيا إلى مُلتقى الحشرِ
مضى لي زمان لو أُخيَّر بينهُ
وبين حياتي خالدًا أمدَ الدَّهر
لقلتُ ذَروني ساعةً قُربَ مُهجتي
على غفلة الواشين ثم اقصفوا عُمري

المنظر الثاني

(خيمة من الشَّعر)

المشهد الأول

(مهدي – زينب – سعد – بكر)
مهدي : لقد تفاقَم الطلَّاب حول بابنا وفاقوا الجَراد عدًّا وليلى لم ترتَضِ بواحدٍ منهم! لقد جُنَّتْ بحبِّ ذلك المَجنون وأنا لا أُسلِّم بذلك ولو هُدِرت آخِر نقطةٍ من دمي، جاء والدهُ خاطبًا ابنتي فرفضتُ وهيهات أن أرضى.
زينب : إذًا يَحلُّ لنا أن نقتُل هذه الابنة ونطرحها بين براثِن الموت، فهذا لعمري مُنتهى الظلم!
مهدي : إذا كنتِ تُشفِقين عليها فساعِديني على إقناعها وأنا مُستعدٌّ أن أزفَّها إلى أمير عظيم جليل القدْر رفيع المَقام.
زينب : أظنُّها لا ترضى، ولو كان الخليفة ابن مروان.
مهدي : ألا ترضى بالأمير سعد بن منيف؟!
زينب : إنَّها لا ترضى سعدًا بغَير وَجهِ قيس.

(سعد يدخل.)

مهدي (إلى زينب) : هذا هو العريس. أهلًا بالأمير سعد.
سعد : حيَّاك الله أيُّها الأمير.
مهدي : يا بكرُ هات القَهوة. إنَّني أترقَّب قدومك لأُعطيك الجواب النهائي؛ فقد قرَّرتُ أن أزفَّ إليك ابنتي ليلى، وذلك في القريب العاجل، فبعد قليلٍ أخاطِبها بالأمر وأرسل وراءك أحد أعواني وسِيَّان عندي رضيَتْ أم أبَت.

(بكر يقدِّم القهوة.)

سعد : أشكرك أيُّها الأمير فقد أوليتَني شرفًا عظيمًا.
مهدي : فاذهبْ إذًا غير مأمور وجهِّز معدَّات العرس؛ فبعد هُنيهة يُكتب، وقد قُضي الأمر، وعن قريب تدخل ليلى.
سعد : أودِّعكم إذًا (يذهب).
مهدي وزينب : مع السلامة.
زينب : إذًا على هذا عوَّلت؟!
مهدي : نعم، فإذا رضيَتْ جبرَتْ خاطري، وإن رفضتْ قطعتُ حبلَ وريدِها٩ بحدِّ هذا المُهنَّد.

المشهد الثاني

(زينب – مهدي – ليلى)
ليلى (تدخل) : عِمَا صباحًا يا والديَّ.
مهدي : مرحبًا بالابنة العزيزة.
زينب : اجلِسي بقُربي يا عزيزتي.
مهدي : لقد انتَشَر صِيتُكِ يا بُنية في بلاد العرب، وخَطبكِ منِّي السَّادة أصحاب المناصب والرُّتب، وأنا لا أُصغي لخطبة خاطبٍ ولا لطلَبِ طالبٍ حتى خَطبكِ الأميرُ الشريفُ سعد بن مَنيف، وهو كثير المال محمود الخِصال، تحلَّى بالأدب والجمال، واتَّصَف بالهِمَّة والكمال؛ ولهذا زوَّجتُك به دون الرجال؛ إذ لا بدَّ للمرأة من زَوج يَلمُّها ويُفرِّج همَّها.
ليلى : أبي بِحقِّك ارحمْني.
مهدي : لا رحمةَ ولا شَفقة، فإذا فعلتِ كما أقول كنتِ العزيزة عندي وإلَّا فثِقي وتأكَّدي أنكِ مائتة لا مَحالة.
ليلى : هذا أمرٌ لا يتمُّ أبدًا، ولو متُّ قهرًا وكمدًا.
مهدي : اخرَسي يا شقيَّة، فلقد تَماديتِ في قِحَتكِ (يلطُمها على خدِّها).
زينب : مهلًا، فما هذه الأعمال التي تحطُّ من مقامِنا بين العرَب؟!
مهدي : أنا ذاهب وسأبعَث وراء الأمير فإما العرس وإما الرَّمْس (يذهب).
ليلى : آه ما أحلى الرَّمْس! كم في القبر من أُنس!
زينب : ما هذه الحماقة يا بُنيَّة؟! ألأجْل رجلٍ تُضحِّين حياتك، فلو خيَّروني بين كل الرجال وحياتي لقلتُ لهم حياتي.
ليلى : لا يا أُمِّي، فلو كنتِ تَشعُرين بعَذابي وآلامي المُبرِّحة لأزحْتِ عن قلبي هذا الحِمل الثقيل. آه يا قَيس ليتَك ترى!
زينب (تبكي) : ماذا أصنع؟! ألهِمْني يا ربَّاه. (إلى ليلى) سأذهَب يا بُنيَّة لعلَّني أردُّ والدك عن هذا العزم.
ليلى : أجرُكِ عظيم يا أُمَّاه؛ لأنك تُخلِّصين اثنَين من الموت. بحقِّكِ يا أمَّاه ابذُلي جهدكِ وخلِّصينا.
زينب : لا حاجة إلى تشديد عزمي.

المشهد الثالث

(ليلى – بكر)
ليلى :
حُكم المَحبَّة في البريَّة جار
فحذارِ من قتلِ المُحبِّ حذارِ
يا ناس رفقًا فالحياة مَحبَّة
كم للهوى العُذريِّ من أعذار
لله ما أحلى الهوى وأمرَّهُ
تاللهِ ذا من أغربِ الأسرار
يا قيس حُبُّك قد برى جسدي وما
لي راحمٌ في هذه الأمصار
فالوالِدان يُقيِّدان عَواطفي
بسلاسل التقليد والإجبار
فكأنَّ قلبي مِلكهم ودَمِي لهم
قد حلَّلتْهُ مَشيئة الجبَّار
جاروا عليَّ وشاةَ ربِّي أن أكو
ن ضحية لجماعة الأغرار
يا نفس صبرًا واحمِلي جَزعًا ولا
تتذمَّري فكذاك شاءَ الباري
قد أحرقوا قلبي بنار غُرورهم
يا ربِّ فاحرق مُحرقيَّ بناري
بكر (يدخل) : سيدتي، لقد أرسلَني مولاي والدك؛ لكي أقول لك لتكوني على استعداد؛ فهو قادم مع الأمير سعد.
ليلى : وغيرَ هذا ماذا قال؟
بكر : لم يَقُل شيئًا، وقد أمرَني أن أُعجِّل بالرجوع، فالوداع الآن (يخرج).
ليلى : ما أحلى الموت! إلى متى يا ربِّ تظلُّ المرأة مُقيَّدة بسلاسل التقليد؛ يَحكم أبواها على قلبِها يُقيِّدونها بمن يَشاءون لا بمن تشاء! آه ما هذه السُّلطة الجائرة!

المشهد الرابع

(يدخل مهدي وسعد وزينب وزُمرة من الفِتيان.)

مهدي : هو ذا عريسُك يا ابنتي العزيزة، قد اخترتُه لك من بين البشر لتكوني لهُ خاضِعةً ومُحترِمة، فاشكُري الله الذي أولاكِ هذا الحظَّ السعيد.
ليلى : فليكُن ما تشاء يا أبي.
سعد : لي الشَّرَف بأن أكون صهرك أيُّها الأمير العالي المَقام.

نشيد العُرس

(يَختاره جوق المُمثلين ويُنشِدهُ المُمثِّلون المذكورون.)

مهدي : حمدًا لله الذي بارك اجتماعنا، ونسألهُ أن يجعل قِران العروسين مَقرونًا بالصَّفاء والبنين. الآن أرونا أيُّها الفتيان من ألعابكم ورقصِكم ما يُطرِب الفؤاد ويَنفي الهمَّ والكدَر.
الفِتيان : واحد يعزِف على الشبَّابة والباقون يرقُصون ويدبُكون ويُغنُّون حسب العادات العربية. ولجوق المُمثِّلين أن يختاروا ما يَعلمونهُ من هذه الأغاني وأساليب الرقص. وإذا كان مَن يرقُص بالسَّيف والترس فذلك جميل إذا أمكن. وعند النهاية يقول المهدي:
مهدي : شكرًا لمن جمع القلوب بكلمة. والآن يجِب أن نخرج لنقوم بالواجبات الدِّينية الواجِب أن يُحتفَل بها في مِثل هذا المقام.

(الجميع يخرجون يَهزجون بالغناء المعروف عند العامَّة «بالحدو»):

يا مِيرَنا يا مِيرَنا
اليوم كمل سعدنا
نحنا رجالك كلنا
يا مِيرَنا ويا عريسنا
(الستار)

المنظر الثالث

(في بريَّة)

المشهد الأول

(قيس وحده)
تذكَّرتُ ليلى والسِّنين الخواليَا
وأيام لم يعدي على الناس عادِيَا
فيا ليلَ كم من حاجةٍ لي مُهِمَّة
إذا جِئتُكم بالليل لم أدرِ ماهيا
خليليَّ إلَّا تَبكياني فأرتجي
خليلًا إذا أجريتُ دمعي بكا ليَا
فلا أشرف الإيقاع إلَّا صبابة
ولا أُنشِد الأشعار إلَّا تداويا
وقد يجمع الله الشَّتيتَين بعدما
يَظنَّان كلَّ الظنِّ أن لا تلاقِيا
وخَبَّرتُماني أنَّ تيماءَ١٠ منزلٌ
لِلَيلى إذا ما الصَّيفُ ألقى المراسِيا
فهذي شُهور الصَّيف عنَّا قد انقضتْ
فما للنَّوى يرمي بليلى المَرامِيا
إذا ما جلسنا مجلسًا نستلذُّه
تواشَوا بنا حتى أُخلِّي مكانيا
ولو كان واشٍ باليَمامة١١ دارهُ
وداري بأعلى حضرموت١٢ أتانيا
خليليَّ لا والله لا أملك الذي
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغَيري وابتلاني بحُبِّها
فهلَّا بشيءٍ غير ليلى ابْتلانِيا
فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها
يكون كفافًا لا عليَّ ولا ليا
فما سُمِّيتْ عندي لها من سَمِيَّةٍ
من الناس إلَّا بلَّ دمعي رِدائيا
ولا سرتُ ليلًا من دِمشق ولا بدا
سهيلٌ١٣ لأهل الشام إلَّا بدا لِيَا
فإن تمنعوا ليلى وطِيبَ حديثها
عليَّ فلن تَحموا البُكا والقَوافِيا
فأشهدُ عند الله أني أحبُّها
فهذا لها عندي فما عندها لِيَا
أعُدُّ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ
وقد عشتُ دهرًا لا أعدُّ اللياليا
وأخرج من بين البيوت لعلَّني
أحدِّث عنكِ النفس بالليل خاليا
وما زادَني النَّاهُون إلَّا صبابةً
وما زادني الواشون إلَّا تَمادِيا
قضى الله بالمعروف منها لغَيرِنا
وبالشوق منِّي والغرام قضى ليا
تراني إذا صلَّيتُ يَمَّمتُ نحوَها
بِوَجهي وإن كان المُصلَّى ورائيا
أُصلِّي فلا أدري إذا ما ذكرتُها
أإثنين صليتُ العشا أم ثمانيا
أحبُّ من الأسماء ما وافَقَ اسْمَها
وأَشبَههُ أو كان منه مُدانيا
خليليَّ ليلى أكبر الحاجِ والمُنى
فمن لي بِليلى أو فمن ذا لها بِيا
يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ
فيا ليْتَني كنتُ الطبيب المُداويا
يقولون سوداءَ الجبين ذميمةٌ
ولولا سواد المِسك ما كان غالِيا
فوالله ما أرجو من العيش بعدما
أرى حاجتي تُشرى ولا تُشترى لِيا
وتُعرِض ليلى عن كلامي كأنَّني
قتلتُ لليلى إخوةً ومَوالِيا
فلم أرَ مِثْلَينا خليلي صبابةٍ
أشدَّ على رغم العِداةِ تَصافِيا
خَليلَين لا نرجو لقاءً ولا نرى
خليلَين إلَّا يَطلُبان التَّلاقِيا
يقولُ أُناسٌ علَّ مجنونَ عامرٍ
يَروم سلوًّا قلتُ أنَّى لِما بِيا
إذا ما استطال الهجر يا أُم مالكٍ
فشأنُ المَنايا القاضِيات وشَانِيا
فأنتِ التي إن شئتِ أشقيتِ عيشتي
وأنتِ التي إن شئتِ أنعمتِ باليا
وإني لأستَغْشي وما بيَ نَعسةٌ
لعلَّ خيالًا منكِ يَلقى خَيالِيا
إذا سرتُ في أرض الفضاء رأيتُني
أُصانِع رحلي أن ليلى حِذائيا
يمينًا إذا كانتْ يمينًا وإن تكن
شمالًا تنازعتُ الهوى عن شِمالِيا
هي السِّحر إلَّا أنَّ للسِّحر رُقيةٌ
وإنِّيَ لا ألقى لها الدَّهر راقِيا
ألا أيُّها الرَّكب اليَمانون عرِّجوا
علينا فقد أمسى هوانا يمانِيا
أسائلُكم هل سال نَعمان١٤ بعدنا
وحبَّ إلينا بطنُ نَعمان وادِيَا
ألا يا حمامَي بطنِ نعمان هِجْتُما
عليَّ الهوى لمَّا تَغنَّيتُما ليا
وأبكيتُماني وسط صَحبي ولم أكن
أبالي دُموع العين لو كنتُ خالِيا
ألا أيُّها الواشي بليلى ألا ترى
إلى من تَشيها أو لمن أنت واشِيَا
فيا رب إذ صيَّرتَ ليلى هيَ المُنى
فزِدْني بِعَينَيها كما زدْتَها لِيا
على مثل ليلى يقتُل المرء نفسهُ
وإن كنتُ من ليلى على الناس طاوِيا
فأمَّا وقد ضنُّوا بليلى فقرِّبوا
ليَ النَّعش والأكفان واستغفِروا لِيَا

المشهد الثاني

(قيس – الملوَّح – سعاد)
الملوَّح (يدخل) : هو هنا يا بُنية، هو هنا.
سعاد : ما بالهُ يَبكي؟
الملوَّح (إلى سعاد) : قد جنى عليهِ الحبُّ. لهْفي عليك يا وَلَدي.
قيس :
وقد خبَّروني أنَّ ليلى تزوَّجَتْ
ولا بدَّ لي من أن أُلاقي حَليلَها
فإن كان مِثلي لا ألُمْها على الهوى
وإن كان دُوني بئس ما قد قضى لها
وإن كان من أوباش١٥ ما حَوَتِ القُرى
لقد تعِسَت ليلى وأخنتْ خليلها
سعاد : ومن أين عرَف بزواج ليلى؟
الملوَّح : لا أدري. (إلى قيس) مرحبًا يا بُني.
قيس : وألف تحيَّة.
الملوَّح : لقد أشقَيْتَ نفسك وأشقيْتَنا، فدع هذا الغرور.
قيس : خلِّني يا أبي وشأني، فإنك تزيد بكلامك هذا أشجاني، فقد قُضِي الأمر وبلَغَ السَّيل الزُّبى!١٦
متى نلتقي حتى أقول وتَسمَعا
فقد كاد حبلُ الوصْل أن يتقطَّعا
بكتْ عينيَ اليُمنى فلمَّا زجرتُها
عن الجهْل بعد الحِلم أسبَلَتا معَا
أما وجلال الله لو تَذكُرينَني
كذِكراي ما كفكفتِ للعينِ مَدمَعا
بلى وجلال الله ذِكري لو انهُ
تضمَّنهُ صمُّ الصفا لتصدَّعَا
وأذكُر أيَّام الحِمى ثم أنْثني
على كبِدي من خَشيةٍ أن تقطَّعا
فليستْ عشيَّات الحِمى برواجِعٍ
إليك ولكن خلِّ عينَيك تدْمَعا
الملوَّح : وماذا تفعل الآن. ألا تذهب معنا؟
قيس : لا يا أبي؛ فهذه السماء خَيمتي منذ الآن.
الملوَّح : الله من الغرام فهو الوَيل والشَّقاء. سِيري بنا.
سعاد : أبي، أنترُكهُ هنا؟ (إلى قيس) أخي بحقِّك فلنذهَب.
قيس : قلتُ لكُما اترُكاني.
الملوَّح : بل نأخُذك معنا.
قيس : لا، هذا لا يكون (يختبئ).
الملوَّح : فلنذهب يا بُنية؛ فجُرح الهوى ما لهُ دواء (يخرُجان).

المشهد الثالث

(قيس – سعد – غلام – أسد)
قيس (يدخل) :
إليك عنِّي فإني هائمٌ وصبُ
أما ترى الجسم قد أودى به العطبُ
لو أنهم سألوا من بالغرام قضَوا
هل فرَّجت عنكمُ مذ متُّمُ الكربُ
لقال صادِقُهم إن قد بلى جسدي
لكنَّ نار الهوى في القلب تلتهِبُ
ضاقت عليَّ بلاد الله ما رحُبَت
يا للرجال فهل في الأرض مطَّربُ
البَين يؤلِمني والشوق يجرَحُني
والدار نازحةٌ والشمل مُنشعِب
كيف السبيل إلى ليلى وقد حجَبَت
عهدي بها زمنًا ما دونهُ حُجُب
سعد :
ومن عجبٍ جنونك في فتاةٍ
مزوَّجةٍ سواك ولن تراها
أيا مجنون كم تهوى بليلى
كأنَّ الله لم يخلُق سواها
قيس :
وما أكثر الأخبار ليلى تزوَّجت
تُرى هل يوافي بالطلاق بشيرُ؟
ومن أنت يا رجل حتَّى تحدِّثني بمثل هذا الكلام؟
سعد : أنا هو زوجها سعد.
قيس :
بعَيشك هل ضمَمْتَ إليك ليلى
قبيل الصبح أم قبَّلتَ فاها
وهل دارت يداك بمَنكِبَيها
وهل مالت عليك ذؤابتاها١٧
سعد (يضحك) : اللهمَّ إذا حلَّفتَني فنعم.
قيس :
أفي كلِّ يومٍ أنت تحظى بقُربها
وتلثُم فاها أو تضمَّ ثدياها
وتعتنِق الأرداف منها وخصرها
وتنشُق من ليلى العشية ريَّاها
سعد : دع هذا الجنون يا مَفتون، واحذرْ سطوة الأعوان، فقد صدر أمر أمير المؤمنين بهدْر دمك ثانية إذا كنتَ لا تعود عن ذكر هذه الجارية التي فضحْتَها في الأشعار وهتكتَها في سائر الأمصار.
قيس (يُنشِد وهو في اضطرابٍ مزيد) :
عفا الله عن ليلى وإن سفكت دمي
فإني وإن لم تَجزِني غير عاتبِ
عليها ولا مِثلي لليلى شكايةً
وقد يشتكي المُبلى إلى كلِّ صاحب
يقولون تُبْ عن ذكر ليلى وحبِّها
وما خِلتُني عن حبِّ ليلى بتائب
سعد : الجنون فنون (يخرج).
قيس : آه من الدَّهر وأحكامه والليالي وجورها!
غلام : سلام أيُّها الشابُّ الأديب.
قيس : وبعد السلام يا غلام؟
غلام : كتاب من سيِّدتي ليلى (يدفعهُ إليه).
قيس :
إذا جاءَني منها الكتاب بعينهِ
خلوتُ بنفسي حيث كنت من الأرضِ
وإني لأهواها على كلِّ حالةٍ
وأقضي على نفسي بها بالذي تقضي
(يقرأ الكتاب جهرًا):

بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم. اعلم يا بن العم — وقاك الله عاقبة الضَّير والغم — أنهُ قد أوحَشَني فراقُك وآلَمني اشتياقُك، وقد مرَّ عليَّ زمان وأنا مُواظبة على الأحزان، لا أرى طريقًا للمفرِّ ولا قرارًا للمُستقرِّ إلى أن ضاق صدري وقلَّ صبري وتواترت عليَّ الأسقام من كثرة البكاء وقلَّة الطعام، ولا شكَّ بأنَّ حياتي في هذه الدُّنيا صارت قصيرة، وأيام إقامتي يَسيرة؛ حيث لم يعُد لي صبر على الفراق، واكتوى قلبي بنِيران الوَجْد والاشتياق، وما بَقِي في الأمر إلَّا التسليم والانقِياد على ما قدَّرهُ علينا رب العباد.

(يهزُّ رأسه) آه من الزمان! ما أقساه! وما أتعَسَ حظَّ العاشِقين بين البرابرة الذين لا يفهمون لُغة القلوب! (يا غلام أمهِل لتأخُذ لها الجواب) يكتب هنيهة، ثم يدفع الكتاب إلى الغلام قائلًا لهُ: سرْ بأمان الله.
غلام : يذهب مُبدِيًا إشارة الخضوع.
قيس :
أحنُّ إلى ليلى وإن شطَّتِ النَّوى
بليلى كما حنَّ اليَراع المُشطبُ
يقولون ليلى عذَّبتْك بحبِّها
ألا حبَّذا ذاك الحبيب المعذِّب
فلو تلتقي في الموت رُوحي ورُوحها
ومن دون رَمْسَينا من الأرض منكب
لظلَّ صدى رَمْسي وإن كنتُ رمَّةً
لرَمْس صدى ليلى يهشُّ ويطربُ
أسد : يمرُّ بالمرسح كعابر طريق على ظهره جراب وبيده عصًا غليظة يتوكَّأ عليها.
قيس : إلى أين يا عابر الطريق؟
أسد : إلى حي بني عامر.
قيس : ناشدْتُك الله قِف، فَلِي كلمة أُحمِّلك إيَّاها.
أسد : قلْ ما تشاء يا أديب.
قيس : متى وصلتَ إلى تلك المنازل والأعلام أقْرِ ليلى منِّي السلام وأنشِدْها:
حلفتُ يمينًا لم أخنكِ مودَّةً
وإني بكم حتى المَمات ضنينُ
تُخبِّرني الأحلام أني أراكمُ
فيا ليتَ أحلام المَنام يقينُ
وإنَّ فؤادي لا يَلين إلى هوى
سواكِ وإن قالوا بلى سيلينُ
أسد : وهل أنت مُضنًى بها إلى هذا الحد؟
قيس : نعم، فلقد:
أتاني هواها قبل أن أعرِف الهوى
فصادَفَ قلبًا كان قبل الهوى خُلوَا
ألا حبَّذا أطلال ليلى على البِلا
وما بذلتْ لي من نوالٍ وإن قلَّا
فلا يتمادى العهد إلَّا تجدَّدت
مودَّتُها عندي وإن زعمت ألَّا
أسد : ناشدْتُك الله عُد عن هذا الحبِّ فهو يُرْديك.
قيس :
ألا قلْ لمن أمسيت مضنًى بحبها
ومن هي رجاء النفس بالبُعد والقُرب
أناخ هواها في فؤادي فصادَني
ومن ذا يُطيق الصبر عن مُجمِل الحب
فلا غروَ أنَّ الحبَّ للمرء قاتلٌ
يُقلِّبهُ ما عاش جنبًا إلى جنْب
ويَسقيهِ كأس الموت قبل أوانه
ويُورِدهُ قبل المَمات إلى التُّرب
فإن كان ذَنْبي حبَّ ليلى وأهلِها
فلا غفر الله المُهيْمِن١٨ لي ذنبي
١  الترائب: جمع تريبة، وهي أعلى الصَّدر، أو موضع القِلادة.
٢  النَّحر: أعلى الصدر، مُرتكز العُنق على الجِذْع.
٣  فتر الطرف: سكن واطمأن. طَرْف فاتر: ليس حاد البصر. وفتور الطرف صِفة مُستحبَّة في أُعين الفَتَيات.
٤  الأيك: الشَّجَر العالي المُلتف.
٥  الليالي العشر: الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان.
٦  الشَّفْع: الزَّوج من العدد، وهنا يومُ الأضحى.
٧  الوتر: الفردُ من العدد. وهنا يوم عرفة.
٨  ليلة القدر: ليلة مُباركة أُنزل فيها القرآن، وهي إحدى الليالي الوتر من العشر الأخيرة في رمضان. ويُقال: إنها السابعة.
٩  الوريد: عِرق في العُنق ويُقال له: حبل الوريد، وهما في العُنق وَريدان ينبِضان أبدًا بالحياة. وقطعتُ حبل وريدها: ذبحتُها.
١٠  تيماء: واحة في شمالي جزيرة العرب، جنوبي دومة الجندل، بالقُرب منها «الأبلق» حصن السَّموءل.
١١  اليمامة: من مُقاطعات نجد، وهي اليوم واحة في المملكة العربية السعودية تُدعى العارض.
١٢  حضرموت: منطقة جنوبي شِبه الجزيرة العربية على خليج عدَن وبحر عمان. والشاعر هنا يُشير إلى بُعد المسافة.
١٣  سهيل: نجمٌ يمانيٌّ قيل عند طُلوعه تنضَجُ الفواكه وينقضي القَيظ. وهناك قول: وأنَّى يلتقي سُهيل والسُّهى. والسُّهى نَجم آخر صغير يَختفي بين بنات نعْش، وهو من النجوم الشامية، لذلك لا يَلتقِيان.
١٤  هو نَعْمان الأراك، وادٍ ينبُت فيه الأراك يصبُّ إلى «ودان» بين مكة المكرمة والطائف، بين أدناه ومكة نِصف ليلة، ونَعمان أيضًا وادٍ قريب من الفُرات على أرض الشام، ولكن الأول هو المَعنيُّ هنا.
١٥  الأوباش: الأخلاط، والسِّفلة. والمُفرَد وَبَشْ.
١٦  بلغ السيل الزُّبى: مَثَل يُضرَب عند بلوغ الأمر أقصاه. والزُّبى جمع زُبْية وهي ذُروة الرابِية التي لا يَصِلها ماء، وهي كذلك حُفرة في مكانٍ عالٍ يُصاد بها الذئب أو الأسد.
١٧  الذُّؤابة: ناصية شَعر الرأس، أو مَنبت الناصية من الرأس، وذؤابتاها: خصلتان من شعرها، أو جديلتاها.
١٨  المُهَيمِن: الحافظ، وهي من أسماء الله تعالى، في معنى المؤمن من آمن غيرَهُ من الخوف، فتكون المهيمن بمعنى المُؤتمَن على خلقِه والقائم بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤