النبذة الثانية: محمد بن عبد الوهاب والوهابية

وُلد سنة ١١١٥ﻫ/١٧٠٣م، تُوفِّي سنة ١٢٠٦ﻫ/١٧٩١م

من مؤلفاته

  • التوحيد فيما يجب من حقِّ الله على العبيد.

  • السيرة المختصرة.

  • كشف الشبهات.

  • كتاب الكبائر.

  • أصول الإيمان.

  • فضائل الإسلام.

  • أحاديث الفتن.

  • مختصر زاد المعاد.

  • مختصر صحيح البخاري.

  • مسائل الجاهلية.

  • مجموع الحديث.

  • استنباط القرآن.

  • رسائل عدة ذكرها ونقل بعضها حسين بن غنام في تاريخه.

نسَب محمد بن عبد الوهاب

إن الدعاء كلَّه لله، يكفر مَن صَرَف منه شيئًا لسواه.

محمد بن عبد الوهاب

محبة الأولياء والصالحين إنما هي اتباع هديهم وآثارهم والاستنارة بضياء أنوارهم.

محمد بن عبد الوهاب

المشاهد التي بُنِيت على القبور التي اتُّخذت أوثانًا تُعبَد من دون الله، والأحجار التي تُقصَد للتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته.

من رسالته إلى عبد الله بن سُحَيم

محمد بن عبد الوهاب والوهابية

في وادي حنيفة ظهر مُسَيلمة الذي حارب النبيَّ والإسلام فكان مدحورًا، قتله خالد بن الوليد في وقعة الروضة. وفي وادي حنيفة، بعد ألف ومائة سنة ظهر محمد بن عبد الوهاب الذي كافح البِدَع والخرافات فكان من الفائزين.

قبل ظهور هذا المُصلِح النجدي كان العرب في نجد، بل في الشطر الشرقي من شبه الجزيرة، منغمسين في عقائد وعباداتٍ جاءتهم من النجف ومن الأهواز، أو بالحري من بلاد فارس، فكان لا يزال لإباحات القرامطة أثَرٌ في الأحساء، وكانت للقبور شفاعة لا شفاعة فوقها، فأحلَّها الناس المحلَّ الأعلى في العبادة والتوسُّل. والحق يُقال: إن هذه البِدَع أو هذه الخرافات القديمة أبعدت العرب باديةً وحاضرةً عن حقيقة الدين الكبرى وجوهره الأزليِّ الحي.

أبعدتْهم عن الإسلام الذي جاء يُبطِل عبادةَ الأوثان وكلَّ ما فيه رائحة العبودية لغير الله، فعادوا إلى ما كان فيه أجدادهم وأمعنوا أكثر منهم في الخزعبلات والأضاليل، فلم يتوسلوا فقط إلى قبور الأولياء بل تعدَّدت القِباب فوق القبور فصارت الشفاعة الكبرى للأحجار، بل كانوا يعبدون حتى الأشجار، فيعلِّقون على أغصانها الرقاع ويقدمون لها النذور. ومن هذه الأشجار في نجد خصوصًا في كهوف جبل طويق ووادي حنيفة، ما كانت تفوق سواها شهرة، وتمتاز اسمًا وفعلًا في نظر عبَّادها الذين كانوا يجيئونها من أقصى نواحي الجزيرة متبرِّكين متوسِّلين.

قلت: إن هذه العبادات أبعدت العرب عن الإسلام بل أنستْهم حقائقه وأركانه، فقلَّ منهم مَن كانوا يقرءون القرآن ويفهمون، قال المؤرخ النجدي: «أهمل الناس الصلاة والزكاة والحج وكانوا لا يعرفون حتى مركز الكعبة.» وبكلمة أوضح عادوا إلى الوثنية، فجاء ابن عبد الوهاب يُعيدهم إلى الإسلام، فكان منذ نشأته إلى يوم وفاته يدعو للرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، وقد انتشرت دعوته في نصف قرن بين الحاضرة والبادية، وعمَّت في عهد سعود الكبير البلاد العربية جمعاء.

نعم قد كان في نجد علماء يتَّبعون الإمام أحمد بن حنبل في المذهب والأحكام، ولكن علمهم لم يخلُ ممَّا يشوب طريقة المجتهدين والمتصوفين، فكانوا من هذا القبيل يُشبِهون علماء الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى.

ومن كبار أولئك العلماء النجديِّين جدُّ صاحب الترجمة محمد بن سليمان بن علي التميمي. قد كان الشيخ محمد رجلًا فاضلًا كريمًا، تولَّى منصب الفتوى في نجد، ودرس علمَي التفسير والحديث، وكان لحبِّه العلم يُنفق على الطلبة من ماله الخاص ناهيك بأنَّ بيته كان على الدوام مفتوحًا للفقراء والمظلومين اللاجئين إلى برِّه وإحسانه.

وكان ابنه عبد الوهاب مثله من رجال العلم والحِجا، تولَّى القضاء في بعض بلدان العارض فكان عادلًا حكيمًا، وألَّف رسائل عدة في الفقه والتفسير، ولقَّن ابنَه محمدًا شيئًا من العلوم التي كان يُحسِنها، أما سجيَّته الكبرى تلك التي تُميِّز العالم الحقيقي عن سواه من الناس إنما هي الوداعة والاتضاع. وناهيك بها من سجية تحمل صاحبها على الإقرار بالفضل حيثما كان في ولد صغير أو في خصم كبير. فقد طالما استعان الشيخ عبد الوهاب بابنه محمد في حلِّ المعضلات الفقهية والدينية، وهو القائل: «قد استفدت من ولدي محمد فوائد شتَّى في الأحكام.»

كانت ولادة محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن سليمان بن علي التميمي في السنة الخامسة عشرة والمائة بعد الألف (١٧٠٣م) في العُيَينة بوادي حنيفة، وقيل: في حُرَيملة، على أن المؤرخ ابن بشر يُزيل، على ما أرى، الريب في الرواية الأولى؛ إذ يقول: «وُلد في العُيَينة قبل أن يُنقَل أبوه إلى حُرَيملة.» فكأن عبد الوهاب نُقل يوم كان ابنه صغيرًا فتضاربت بعدئذٍ الآراء في أيَّة البلدتين مسقط رأسه، والأقرب إلى الصحة رواية ابن بشر.

وُلِد محمدٌ على شيءٍ من الشذوذ، وكان سبَّاقًا في عقله وفي جسمه، سريعَ البلوغ في الاثنين، متوقِّد الذهن، حادَّ المزاج. فقد أظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وبلغ الاحتلام قبل إكمال الاثنتي عشرة سنة، قال أبوه: «ورأيتُه أهلًا للصلاة في الجماعة وزوَّجتُه في ذاك العام.» وما عَتَم بعد ذلك أن حجَّ وأدَّى المناسك على التمام وأقام شهرين في المدينة، ثم عاد إلى بلده وأخذ في القراءة على والده ولكنه لم يكتفِ بذلك فرحل طالبًا المزيد. زار الحجاز والأحساء والبصرة مرارًا، وكان الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف النجدي والشيخ محمد حيوة السندي المدني من أساتذته. فغُرِسَت في ذهنه مذاهب دلَّت في نموِّها الضئيل على ما تأصَّل فيه بمسقط رأسه تحت سقف والده من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

وقد كانت أكثر إقامته في البصرة، حيث قرأ الكثير من كتب اللغة والحديث على الشيخ محمد المجموعي، ولم ينحصر جهدُه في الدرس بل شرع يبشِّر هنالك بما تجلَّى له من حقائق التوحيد. إنما هو القائل: «كان أناسٌ من مشركي البصرة يأتون إليَّ بشبهات يُلقونها عليَّ فأقول، وهم قعود لدي: لا تصلح العبادة كلُّها إلا لله، فيبهت كلٌّ منهم فلا ينطق فاه.»

أما النفوذ الأكبر في البصرة في تلك الأيام فكان لا يزال للشيعة، مكبِّرة الأولياء، ولكن ابن عبد الوهاب الشاب لم يحجم عن القول الحق حسب اعتقاده، فأدهش الناس وأثارهم عليه؛ فأخرجوه ذات يوم من البصرة. مشى في الهجيرة مطرودًا يقصد إلى الزبير، وكان في نيته أن يزور الشام، ولكنه لضيق زادِه انثنَى عن عزمه وعاد إلى نجد فأقام ووالده عبد الوهاب في حريملة، ثم شرع يبثُّ مبدأ التوحيد وينادي بإخلاص العبادة لله وحده، فكان شديدَ اللهجة قويَّ الحجة، وكان في حريملة قبيلتان لإحداهما رهطٌ من العبيد كثيري الفساد والفسق، فحاول الشيخ محمد أن يردعَهم فأغضبهم، فقاموا عليه ذات ليلة يريدون قتْلَه ففرَّ هاربًا إلى العُيينة.

بعد عودته الثانية إلى مسقط رأسه يبدأ فعلًا نشْر الدعوة، بل قد شبَّث هناك نيران حربها، فرُفعت بين الأنصار أعلامُ التوحيد، ولمعت سيوفُ الحق المسلولة. ارْدَعُوا المعاندين والمعارضين! وكان الشيخ محمد يزداد شدةً يومًا فيومًا، فاشتهر أمرُه في جميع بلدان العارض، في حريملة والعيينة والدرعية والرياض والمنفوحة، وتعدَّدت أتباعه وأعداؤه، بل ظهرت الأنصار وكان ثنيَّان بن سعود وأخوه مشاري في طليعتهم.

ولكن النصير الأول الكبير هو عثمان بن معمر الذي كان يومئذٍ أمير العيينة، وقد اتفق ابن معمر وابن عبد الوهاب على العمل الأول الخطير في نشر الدعوة، العمل الذي أَضرم نار الحماس ونار العداء في الناس.

قلت: إن عرب نجد كانوا يومئذ يقدِّسون القبور، بل كانوا يعبدون القِباب فوق القبور، والأشجار التي يزرعونها في ظلِّ القِباب، فأول ما باشره الشيخ محمد هو أنه أمر الأمير عثمان تلميذه الأول من الأمراء الحاكمين بهدْم القباب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، وبقطع الأشجار التي كانت تتوسَّل إليها الناس.

قبل الأمير، وخرج والشيخ وجماعة من الأنصار إلى الجبيلة فهدموا قباب القبور، قبور الصحابة هناك، ثم تناول الشيخ محمد الفأس بيده، وانهال به على الشجرة التي كانت مشهورة في وادي حنيفة بعجائبها، شجرة «الذيب» ولية الفتاة طالبة الحبيب، والأرملة ذات القلب الكئيب، والزوجة حاملة الطِّيب، تبغي الابن الحبيب.

صاتت الشجرة العجيبة وهي تهوي إلى الأرض، فكان لصوتها الرهيب صدًى تردَّد في شِعاب الوادي وفي جبال سدير، ثم اقتدى التابعون بأمرائهم فشرعوا يهدمون القباب ويجعلون القبور مُسنَّمة كقبور الصحابة.

هذا هو الحادث الأول الخطير في تاريخ الدعوة، أما الحادث الثاني فهو أشد منه خطورة؛ لأن فيه قطعَ امرأةٍ لا قطع شجرة، أنت تعلم أن الشرع الإسلامي يوجب قتْلَ الزانية رجمًا، ودعوة الشيخ إنما هي الرجوع إلى الشرع — إلى القرآن قبل كلِّ شيء. الزانية، هي ذي في العيينة. وقد ثبت زناها بإقرارها وبشهادة أربعة أعيان١ فجيء بها إلى الساحة وأمر الشيخ أن تُشَدَّ عليها ثيابُها وتُرجَم. رمَى الأمير عثمان بن معمر الحجر الأول، وتبعه الراجمون ليتمَّ الحكم المشروع بالسُّنَّة والإجماع. لم يذكر التاريخ أختًا لهذه الفاجعة، فكأن الشيخ رأى فيها الإرهاب الكافي.

رُجِمت الزانية! فسرَى خبرُها سيْرَ البرق في البوادي والحضر، ووقع وقْع الصاعقة في القلوب الأثيمة والقلوب الطاهرة، فسكت أُناس وصاح آخرون، ومن هؤلاء أهل الحساء الذين قاموا يحتجون؛ فقد كانوا كما قلت مستمتعين بأشياءَ من الإباحات القرمطية، فكتب أميرُهم سليمان آل محمد رئيس بني خالد الذي كان يحكم يومئذٍ حتى في العارض، وكان ابن معمر عاملًا له، يهدد الشيخ المصلِح بالقتل إذا كان لا يرجع عن غيِّه «في تخريب قلوب المسلمين وإفساد دينهم».

لم يرجع الشيخ المصلِح عن دعوته، فأرسل الأمير سليمان إلى عامله الأمير عثمان يأمره بقتل محمد بن عبد الوهاب، فرأى الأمير أنَّ خير طريقة لحفظ منصبه وخلاص صاحبه، هي أن يغادر الشيخ العيينة.

رحل المصلِح إلى الدرعية٢ فكانت الهجرة الثالثة وهو في الثانية والأربعين من سنِّه، وقد نزل هناك ضيفًا على أحد تلاميذه أحمد بن سويلم، فتهافت عليه الأنصار وبالغوا في إكرامه، إلَّا أن محمد بن سعود أمير الدرعية تردَّد في مقابلته، فألحَّ عليه بذلك أخواه ثنيان ومشاري، فظلَّ متردِّدًا، ثم لجأَا إلى زوجته٣ وكانت من النساء العاقلات النبيهات، فأخبراها بما يدعو الشيخُ إليه وبما ينهَى عنه، فارتاحت إلى ذلك ووعدتْهما خيرًا. إنما عملها يدل على ما للمرأة حتى داخل الحريم ووراء الحجاب من التأثير الطيب، اللهم إذا كانت عاقلة وعالمة بشئون الأمة، قالت هذه «الخديجة» الفاضلة لأميرها ابن سعود: «إن هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة، فاغتنم ما خصَّك الله به.»

قَبِل الأمير قولها «وقذف الله في قلبه محبة الشيخ ومحبة ما دعا إليه.» فأراد أن يدعوه للمقابلة، فقال أخوه مشاري: «سِرْ برجلك وأظهر تعظيمه وتوقيره ليَسْلم من أذى الناس.» فسار محمد بن سعود إلى بيت ابن سوَيلم ورحب بابن عبد الوهاب قائلًا: «أبشر ببلدٍ خير من بلادك وبالعزِّ والمنَعة.» فقال الشيخ: «وأنا أبشرك بالعزِّ والتمكين إذا عاهدتَني على كلمة التوحيد التي دعَتْ إليها الرُّسُل كلُّهم.»

وفي ذاك اليوم عُقِد العهد الذي جمع بين عقيدة المُصلِح وسيادة الأمير — بين المذهب والسيف — فتعهد ابن سعود بنشر دين التوحيد في البلاد العربية، وتعهَّد ابن عبد الوهاب بأن يُقِيم في الدرعية معلِّمًا، وأن لا يُحالفَ أميرًا آخر من أمراء العرب.

ولا يزال هذا العهد مرعيًّا بين البيتين؛ بيت سعود وبيت الشيخ٤ حتى اليوم.

كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العقد الرابع من العمر عندما بايع ابن سعود (١١٥٧ﻫ / ١٧٤٤م) على أن يكون إمامًا يتبعه المسلمون، وتعاهد الاثنان على كلمة التوحيد ونشْرِها بين العرب.

ولما علم الأمير عثمان بن معمر بذلك جاء يسترضي صديقَه ويسأله الرجوع إلى العيينة فلم يَفُز ببغيته؛ ذلك لأن الشيخ عاهد ابن سعود على أن يُقيمَ في الدرعية، فجعلها مقرَّه الدائم، فأصبحت في الشطر الثاني من حياته قطب دين التوحيد، ومطلع أنوار العلم التي كانت تنبثق من شمسه المشرقة. فقد تخرَّج عليه أناسٌ كثيرون كان يُرسلهم إلى البلدان القاصية والدانية مُبشِّرين معلِّمين مرشدين منذرين.

كانت الدرعية يومئذٍ بلدة صغيرة قليلة أسباب الرزق والثروة. ولما كثر الوافدون على الشيخ ضاق بهم العيش فكانوا يحترفون في الليل ويتعلمون في النهار. وما دنا القرن الثاني عشر من الزوال حتى أصبحت أكبر مدينة في البلاد العربية، يقيم فيها العرب من اليمن وعمان ومن الحجاز والعراق والشام.

قد رأى ابن بشر الدرعية في زمن سعود بن عبد العزيز، فدُهِش ممَّا شاهده من مظاهر الثروة والعمران. وقد وصف موسمها فقال: «نظرت إلى موسمها وأنا في مكانٍ مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن بين منازلها الغربية التي لآل سعود المعروفة بالطريف، وبين منازلها الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء٥ في جانب آخر، وما فيهما من الذهب والفضة، والسلاح والإبل والأغنام، وكثرة ما يتعاطَون من البيع والشراء والأخذ والعطاء. وهو مدُّ البصر لا تسمع فيه إلَّا كدَويِّ النحل الأصوات، والدكاكين إلى جانبَيه الشرقي والغربي وفيها من الثياب والقماش وأنواع الألبسة والسلاح ما لا يُوصَف.»

عمَّرت كلمة التوحيد الدرعية، فأضحت في أيام سعود الكبير عاصمة البلاد العربية، وصار الشيخ محمد فيها المرجع الأعلى في العلوم والأحكام، على أنه ظلَّ مع ذلك يُعلِّم يُبشِّر ويؤلف ويراسل ويناقش نشرًا لمذهبه ودفاعًا عنه. حتى إن أولاده الخمسة حسن وحسين وعلي وعبد الله وإبراهيم كانوا عونًا له في التعليم، قال ابن بشر: «قد رأيت لهؤلاء الخمسة مجالس ومحافل للتدريس في بلد الدرعية، وعندهم الطلبة الكثيرون من سائر نواحي نجد ومن أهل صنعاء وزبيد وعمان وغيرها من الأقطار.»

أما التعليم فقد كان مجانًا، بل كان للطلبة نفقة جارية من بيت المال، وللأذكياء منهم جوائز فوق ذلك من مال وكسوة. هناك تَلَأْلأتْ أنوار الدين والفقه والحديث، فكانت الدرعية في تلك الأيام مثل رومة في العهد المسيحي الأوسط، وكانت مدارس الشيخ محمد وأولاده مثل المدرسة الكبرى برومة لنشر الإيمان. وُلِد هذا النجدي الكبير ونشأ في بيت العلم والزهد فأشرب روحه بنيه، وأخذ أحفادُه وأبناؤهم العلمَ عنهم وعنه، فهم لا يزالون حتى اليوم محافظين على هذا الإرث الثمين، إلَّا أنه ينقصهم شيءٌ من المرونة العقلية والروحية، فلا يغادون عبثًا سُنَّة التطور والعمران.

لم يتدخل الشيخ محمد في شئون الملك المدنية، ولكن الأمير محمدًا وابنه عبد العزيز كانَا يستشيرانِه في الأحكام الشرعية، وكانت له الكلمة الأولى في المبايعة على الإمامة.

figure
الجامع الكبير في الرياض.

ظلَّت الدرعية قطبًا للعلم والتعليم إلى يوم دمَّرها إبراهيم باشا المصري، وبعد أن استوطنها الشيخ شرع يكاتب الرؤساء والمشايخ يحذرهم من الشرك ويدعوهم لدين الله دين التوحيد. وكان آنئذٍ سليمان آل محمد أمير الحساء، وابن مُفلق أمير القطيف، وابن تويني أميرًا في البصرة، وابن دواس حاكمًا مستقلًّا في الرياض، وكلهم أعداءٌ لمذهب التوحيد. هم الأمراءُ المعادون. وهناك العلماء السنيُّون والشيعيون الذين سخروا منه، وافترَوا عليه، وشرعوا يتهمونه بكلِّ ما اتُّهِمَ به الخوارج من قبل. حتى إن بعضهم سعى لدى الحكَّام في قتْله.

أول مَن ضلَّله وكفَّره، سعى إلى العلماء في البصرة والأحساء والحرمين في مقاومته وقتْله؛ اثنان من مطاوعة الرياض هما محمد بن سحيم وابنه سليمان، فقالَا: إن ابن عبد الوهاب خارجي، بل من أقبح المضلِّلين والكفار، وأشر الخوارج والفجَّار، ومن جملة مَن رفض دعوته وردَّ عليه في بادئ الأمر أخوه سليمان بن عبد الوهاب الذي كان متولِّيًا القضاء في حريملة. ولكنه اهتدى بعدئذٍ وتاب، فأقرَّ بخطئه، وقال: إن كتابه لم يُكتَب لوجه الله.

حارب المصلحُ العلماء أعداءَه بالعلم، ولكن الجهلة؛ أي عامة الناس الذين أثارهم العلماء عليه لا يقرءون وقلَّما يفهمون، فلا يميِّزون بين الزيارة والعبادة مثلًا، وبين الإكرام والتوسُّل. قيل لهم إن ابن عبد الوهاب يُنكِر كرامة الأولياء، وهو لا يُنكر غير الدعوة لهم، وقيل إنه يُحرِّم زيارة القبور وهو لم يحرِّم غير عبادتها والتشفُّع بها. ولكن العربان لا يقرءون وقلَّما يفهمون غير لغة العنف والقوة. وقد أحرز المصلِح في تحالُفه وابن سعود سيفًا بتَّارًا، فالذي لا يفهم بالقلم يُفهَّم بالسيف، والذي لا يرتدع بالحسنى يُردَع بابن عمِّها.

استلَّ محمد بن سعود الحُسامَ وراح يُنهِي الأعراب عن أفعال الجاهلية، ويدعوهم لدين الحق الذي هو الإسلام المجرد من الخرافات، ويأمرهم بالعمل بالكتاب والسُّنَّة. وكان أتباع ابن عبد الوهاب يدعون أنفسهم بالمسلمين وأعداءَهم بالمشركين.

أُشهِرت الحرب على المشركين في السنة الأولى (١١٥٧) من العهد الوهابي السعودي، فكانت الوقعة الأولى في الرياض بين رجال ابن سعود ورجال دهام بن دواس. ودهام هذا عصامي دون فضيلة أخرى له تُذكَر إلَّا الثبات. اغتصب الإمارة وهو من خدَّام القصر واستمر أميرًا ثلاثين سنة في زمن الزعازع الدينية والفتن والحروب.

كان دهام خادمًا لعبد يُدعَى خميس قتَل قاتل أمير الرياض زيدَ بن موسى أبا زرعة وتولَّى مكانه، ثم فرَّ هاربًا فتولَّى الإمارة دهام خادمه، فقامت عليه الأهالي فاستنجد بابن سعود فأنجده وأقرَّه في مركزه، ولكن العبيد مناكيد فكيف بخدامهم؟!

دعا ابن سعود صديقَه ابن دواس لدين التوحيد فأبى، ثم أنذره فاستكبر وقال: ومَن هو ابن مقرن ليحمل مفاتيح الجنة ويُنذر الناس بالنار؟ شبت الحرب، وكان ابن دواس فيها أشد أعداء التوحيد وآل سعود، حاربهم في الدور الأول عشر سنين وهو يحتل اليوم بلدًا ويُخلِيه غدًا، وحاربهم كذلك بالدسائس والفتن، فقد ظهرت الردَّة في سنة ١١٦٧ في بعض بلدان العارض التي كانت في حوزة ابن سعود وكان هو من عواملها الخفية.

ولكن المصلِح غلب المفتن. بادر الشيخ محمد إلى نجدة ابن سعود في تأديب المرتدين. جاءت الكلمة النارية تشحذ السيف وتعضده. فقد دعا الشيخ الرؤساء والزعماء من جميع البلدان إلى الدرعية، وخطب فيهم باسم الله، فأعاد إلى قلوبهم قبس الإيمان، وأضرم فيهم ثانية نار الجهاد.

ومع ذلك فقد استمر ابن دواس يحارب ابن سعود عشرين سنة، يحاربه بالمقاتلة والمخاتلة. والاه ثم عاداه مرارًا، عاهده أربع مرات حبًّا بدين الله والسلم ونكث أربع مراتٍ عهده. حتى إنه انضم مرة إلى جيشه وحارب المشركين. على إنه بعد تعدُّد الوقعات والهدنات والمعاهدات والخيانات دُحِر في سنة ١١٨٧ﻫ/١٧٧٣م الدَّحْرة التامَّة النهائية، دحره الأمير عبد العزيز بن محمد الذي دخل الرياض ظافرًا، لكنه لم يَفُز بدهام الدواس الذي فرَّ هاربًا إلى بلاد الخرج وتُوفِّي هناك.

وكان للموحدين عدوٌّ آخر لدود يُدعَى عُريعر، خلف الأمير سليمان رئيس بني خالد في الحساء. فقد جاء بجيش جرار من العربان، وفيهم جنود من عنزى كبيرهم ابن هذال،٦ وبمدافع حملتها الجمال فاجتازت بها الدهناء، نُصِبت المدافع وحُوِصرت الدرعية، وانضمَّ إلى العدو كثيرون من أصحاب الردة، ومن أهل الوشم وسدير الذين تردَّدوا في قبول التوحيد.

وقد كان عريعر صاحب مكر وحيلة بل كان مُخترِعًا، فبعد أن حاصر الدرعية شهرًا دون نتيجة يُشكَر عليها اخترع آلة جديدة للحرب سُمِّيت الزحَّافة، وهي صندوق من خشب يسير محمولًا على دراريج، يجلس فيه من العشرة إلى العشرين رجلًا، وهم في أمن من رصاص العدوِّ، فيسوقونه إلى السور يريدون هَدْمه. وما أشبه زحافة عريعر بدبابة اليوم، ثم حاول عريعر أن يصبَّ مدفعًا كبيرًا يدمِّر به الدرعية فأمر بجمع الحديد والنحاس لهذه الغاية وباشر العمل. شبت النيران ونفخت المنافخ، وذابت في المراجل المعادن، ولكنها في النهاية صدت الطالب، وعصت القالب، قال مؤرِّخ ذاك الزمان: «كلما أفرغها في القالب أبَتْ.»

وكان لعريعر ابنٌ اسمه سعدون لم يرغب مثله في التوحيد فحمل على أهله في الجنوب. اجتاز الدهناء بجيشه ومعه المدافع أيضًا، وهو يبغي اليمامة لينجد أهلها على الموحدين، ولكنه بعد أن جاء اليمامة بمدافعه عاد منها بدونها مثلما عاد أبوه من الدرعية. ولا تزال هذه المدافع محفوظة في بُريدَة.

كُسِر الأب وكسر الابن، فجاءَا للمرة الثالثة موحِّدين قواهما — لا بد من التوحيد على الأقلِّ في القتال — وحاصرَا بُريدَة، فاستمر الحصار أربعة أشهر واستُخدمت فيه الزحافات التي لم تخفِّف عن الأب والابن وجيوشهما ذلَّ الخيبة والاندحار.

ولكن أهل التوحيد لم يستفيدوا من هذه الغلبات المتوالية؛ لأن وجود العدوِّ في نجد كان يشجِّع على العصيان أولئك الذين أُكرِهوا في دينهم، وأولئك الذين تخاذلوا؛ لذلك تعدَّدت الردَّات في الشمال وفي الجنوب. فكان الموحدون إذا أمسكوا القصيم يتفلَّت من أيديهم الخرج، وإذا وُحِّدت المجمعة تعود اليمامة إلى شركها القديم.

أول مَن باشر الجهاد في سبيل الدعوة الأمير محمد بن سعود وإخوانه، ولكن بطل التوحيد الأول هو عبد العزيز بن محمد الذي كان يغزو في الجزيرة شمالها وغربها وشرقها وجنوبها ست غزوات في بعض الأعوام، فوصل إلى الجنوب الغربي إلى وادي الدواسر، وفي الشمال الشرقي إلى السماوة بالعراق. باشر الغزو في سبيل التوحيد وهو شابٌّ، وباشره كذلك ابنه سعود — سعود الكبير فاتح الجزيرة.

قد عاش محمد بن عبد الوهاب ليسمع بهذا النصر المبين ويشاهد ثمار دعوته فيمَن كانوا يؤمُّون الدرعية من سائر الأقطار ليسلموا عليه، ولكنه لم يَعِش ليسمع بفتح الحجاز ودخول سعود ظافرًا إلى مكة المكرمة؛ فقد كانت وفاته قبل ذلك باثنتي عشرة سنة؛ أي في السنة السادسة والمائتين والألف (١٧٩٢م) يوم كان سعود يحارب عربَ المنتفق خارج البصرة، ويوم كانت جيوش الشريف غالب زاحفة من الحجاز لمحاربة أهل نجد.

إن في الصفحة الثالثة من كتاب٧ يتضمَّن عدة رسائل لمحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية، ما يلي:
اعلم — رحمك الله — أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّم هذه الثلاث مسائل والعمل بها:
  • أولًا: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هَمَلًا بل أرسل إلينا رسولًا، فمَن أطاعه دخل الجنة ومَن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى:
    إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا.
    (سورة المزمل: آية ١٥-١٦)
  • الثانية: إن الله لا يرضى أن يُشرَك معه في عبادته أحدٌ، لا ملك مقرَّب، ولا نبي مرسَلٌ، والدليل قوله تعالى:
    وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا.
    (سورة الجن: آية ١٨)
  • الثالثة: أن مَن أطاع الرسول ووحَّد الله لا يجوز له موالاة مَن حادَّ الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى:
    لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.
    (سورة المجادلة: آية ٢٢)

إنك ترى إذن أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثل ابن تيمية والإمام أحمد بن حنبل، يعود في هذه الأصول إلى المصدر الأول الأعلى — إلى القرآن. فكلُّ ما هو مبنيٌّ عليه من العقائد والأحكام لا يُرَدُّ ولا يُنتقَد، ولكنَّ الحنابلة والوهابيين لا يختلفون في هذا والأئمة الآخرين. إنما الخلاف في التفسير والاجتهاد، فالجعفريون؛ أي علماء الشيعة، وهم على جهة الاجتهاد في التطرُّف يفتحون الباب على مصراعَيه. والحنابلة وهم على الجهة الأخرى المناقضة يقفلونه. يقرأ الجعفريون بين سطور الكتاب وفي تلافيف الآيات ما يبنون عليه الأحكام، وما لا يخلو في بعض الأحايين من إبهام، فيتخذون التفسير وسيلةً للفرار من معنى الآية الحرفي. ويقول العلماء الحنابلة: أن لا باب بعد الخلفاء الراشدين للاجتهاد، إن كلَّ ما في الكتاب واضح جليٌّ، وهناك بين الفريقين علماءُ المذاهب الأخرى؛ أي الحنفيون والشافعيون والمالكيون الذين يُثبتون حق التفسير ولا يغالون في استخدامه.

بعد الكتاب تجيءُ السُّنَّة وهي محترمة مُتبعة عند الحنابلة والوهابيِّين، ولكن الإسناد في السنة لا يكون دائمًا محققًا فيُثبِت بعضُ المحدثين بعضَ أعمال النبي وأقواله، ويثبت كلُّ المحدثين بعضَها ويختلف المحدثون في جملةٍ منها، هو ذا منشأ الاختلاف بين الشارحين والمفسِّرين.

ولكن الإمام أحمد بن حنبل اهتدى، على ما أرى، إلى الطريق التي فيها العلم الوضعي الواضح الجليِّ فيما هي السنة. وكأنه غربَل الأحاديث ونبذ كلَّ ما ليس عليه الإجماع، فلا يقبل إلَّا ما يُثبِته كلُّ الأئمة، وقد توصَّل والحال هذه إلى أصحِّ الطرائق العملية وجاء بمذهب في الانتخاب، ولنا أن نقول في التفسير يصحُّ أن يُدعَى بالمذهب العقلي الوضعي.

هي القاعدة التي وضحها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قوله: «الحق والصواب ما جاءَت به السُّنَّة والكتاب، وما قاله وعمل به الأصحاب، وما اختاره الأئمة الأربعة المقلدة في الأحكام المتبعة، فقد انعقد على صحة ما قالوه الإجماع.» ثم قال: «والسُّنَّة في عُرْف العلماء المتأخرين هي السالمة من الشبهات في الاعتقادات.»

وقد قام ابن تيمية في القرن الثامن للهجرة ينصر ابن حنبل وينشر مذهبه، بل ينصر ما رآه حقًّا ويبيِّن أن مذاهب الأئمة كلَّها لا تختلف في الحق بعضها عن بعض، فألَّف الرسائل في الحديث والعبادات، وفي زيارة القبور، وكان للأئمة مثل الرسول بولس للمسيح.

قد أسلفت القول إن أهل نجد على ما كانوا فيه من سخيف العبادات هم أصلًا حنابلة. وقد كان جدُّ الشيخ محمد وأبوه وغيرهما من القضاة يستخرجون الأحكام على مذهب الإمام أحمد، أما الشيخ محمد نفسه فقد طالما تمثَّل بهذه الأبيات:

بأيِّ لسان أشكر الله إنَّه
لذو نعمةٍ قد أعجزَتْ كلَّ شاكِر
هداني إلى الدين القويم تفضُّلًا
عليَّ وبالقرآن نور البصائر
وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل
عليه اعتقادي يوم كَشْف السرائر

قد كان الشيخ محمد مُعجَبًا أيضًا بابن تيمية مكثِرًا من مطالعة كتبه، وهو القائل: «لست أعلم أحدًا يجاري ابن تيمية في علم الحديث والتفسير بعد الإمام أحمد بن حنبل.» إنك ترى إذن أن المذهب الوهابي هو في أصوله المذهب الحنبلي، وأزيدك علمًا أن كثيرين من أهل نجد — من أهل التوحيد — يدعون أنفسهم حنابلة ويؤثرون هذا اللقب على سواه.

ما فضلُ ابن عبد الوهاب إذن؟ إن فضله بالرغم عمَّا ذكرت لعظيم. ليس من الواجب أن يكون المُصلِح مبتكِرًا طريقته أو مكتشِفًا لناموس جديد في الكون أو في الحياة. إن المصلِح لمخلِص أولًا في يقينه لا يهاود فيه ولا يحابي، وهو مخلص في عمله لا يخرج فيه عن يقينه. وإنه إذا ما بلغ هذه الدرجة من الإخلاص لمتعصب. والمتعصب مقاتل حتى يستقيم المُعْوج وتصفو موارد العبادة واليقين.

أما مواد العمل وأسباب الإصلاح فقد يجدها مدفونة في زوايا النسيان، في ظلمات الماضي، مكفَّنة بالغبار والصداء والعنكبوت، ولا يزال الرَّمَق فيها، لا تزال رغم ما أُثقِلت به من الخزعبلات والخرافات على شيء من الحياة. إن المصلح لَيجد ها هنا دعوته ومصدر العمل والإلهام. أجل حيثما الحياة هناك أيضًا بذورها، وحيثما البذور هناك النشوء والنمو والخلود.

إننا نقول إذن: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الذي أنقذ المذهب الحنبلي ممَّا كان يكتنفه في نجد من أسباب الفساد والاضمحلال. هو الذي اكتشف بذور الحياة فيه فأعاد زرعها وجدَّد موسمها. فهل ندعوه مجدِّدًا؟ إنه لكذلك وفوق ذلك. هل ندعوه مُصلِحًا؟ قد كان ولا شك الباعث الأكبر لإصلاحٍ كبير في نجد، ولكنه قصر، إذا توسعنا بمعنى الكلمة، دون الإصلاح الأكبر في الإسلام. عاد الشيخ محمد إلى الكتاب والسُّنَّة فجاء في حملاته على الشبهات والخرافات شيءٌ من الشدة في التحريم لا نظنُّها تدوم. هل ندعوه معلِّمًا؟ نعم هو معلمٌ كبير، وقد تجاوز في رسالته التعليم، فقد علَّم أهل نجد دين التوحيد الذي كانوا قد نسُوه، ونفخ فيهم فوق ذلك روحًا قومية عظيمة، تلك الروح القومية التي مكَّنتهم، وهم محصورون ببوادٍ من الرمال في قلب البلاد العربية من التوسُّع والاستيلاء، فقلَّدتهم من القوة سيفًا نبويًّا، ومن التفوُّق رمحًا حنفيًّا، ومن التقشُّف والصبر والثقة بالنفس — بعد الثقة بالله — دِرعًا من دروع الصحابة. هو ذا الفضل الأكبر للشيخ محمد بن عبد الوهاب. إن دعوته في نتائجها سياسية كما ترى ودينية معًا. وما كانت كذلك لولا تمسُّكه في أكثر الأحايين بمعاني الكتاب والأحاديث الظاهرة؛ أي بمعانيها الحرفية.

خذُ لك مثلًا مسألة مَن أدَّى الشهادتين ولم يُصلِّ ولم يُزَكِّ. فإن الإمام الشافعي وأبا حنيفة لا يحكمان بكفره إذا كان لا يجحد الصلاة وغيرها من أركان الإسلام، وحجتهما في ذلك حديث رواه عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله يقول: «خمسٌ كتبهن الله على العباد مَن أتى بهنَّ كان له عند الله عهد أن يُدخله الجنة، ومَن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند الله عهدٌ، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له.» أما الإمام أحمد فيحكم بكفره، ويحتج بأحاديث منها: «بَين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.» ومنها: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة …»

وهناك مسألة أخرى في الصلاة والعبادة، يقول العالم الوهابي: مَن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو مُقِيم على شِرْكه؛ يدعو الموتى ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكُرُبات، فهذا مشرك كافر حلال الدم والمال، أما إذا وحَّد الله تعالى ولم يُشرِك به شيئًا ولكنه ترك الصلاة والزكاة تكاسُلًا فقد اختلف العلماء في كفره، ولا عصمة للعلماء إلَّا في الإجماع. كلُّ واحد من الناس يُؤخَذ من قوله ويترك إلا رسول الله. جاء في الكتاب: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ. وقال العلماء: الردُّ إلى الله هو الردُّ إلى كتابه.

العود إذن إلى الكتاب وما فيه من آيات يلزمها شرح أو تفسير، وغيرها ما هي واضحة جليَّة إلَّا أنها أُنزِلت لغرض معلوم في وقت معلوم. فمَن عاد إلى التاريخ ولجأ إلى مفاتح التفسير، رَحُب لديه ولدى أتباعه مجال الفكر وضاق غالبًا مجال اليقين. ومَن تمسَّك بالمعنى الظاهر كانت النتيجة عنده وعند أتباعه عكس ما ذكرت. أما اليقين فقد يضيع أو يضعف في تعدُّد الشروح والتفاسير، والعزم يضعف في ضياع اليقين، ونشر المذهب إذا ضعُف العزم في رجاله لا يتمُّ وقد يستحيل.

لم يكن محمد بن عبد الوهاب خَشِن الطبع قاسي القلب عتيًّا، بل كان في حياته الخاصة والعامة لطيفًا، مُحسِنًا، شفوقًا، حليمًا. على أنه في يقينه شأن كبار المصلحين، لم يكن ليهاوِدَ أو يلين. علَّم الناس معرفةَ الله ومعرفة النبي ومعرفة الدين بالأدلة القرآنية، والأحاديث النبوية، على طريقة الصحابة، خلافًا لعلماء المسلمين في الأمصار الذين يعلِّمون هذه المواضيع الثلاثة على طريقة المتكلمين. قد ناله من الجهلاء وأدعياء العلم ما نال كلَّ مصلح كبير. لا سيما وقد جاء يردعهم عن عادات الآباء الأسلاف الذين درجوا على حبِّ البدع والخرافات. على أنه لم يكفِّر أحدًا من هؤلاء، بل كان يقول: «معاذ الله أنْ أكفِّر مَن قال لا إله إلا الله.» ولكنه في رجوعه إلى الكتاب والسُّنَّة اصطدم بآيات وأحاديث نبَّهت فيه نعرة الأقدمين فحرَّض على الأعمال التي شوَّهت في الماضي كلَّ دين.

على أن الإصلاح في بادئ أمره لا يكون بغير الهدم، ولا يقوم بغير شيء من الإرهاب.

قد جدَّ الشيخ محمد واجتهد في نفع الناس، ولكنه رآهم، وأكثرهم من البدو، لا يفقهون دقيق الكلام، ولا يُساقون بالبرهان، فقال بالجهاد، خصوصًا والكتاب يقدم السلاح والسُّنَّة تقدم الذخيرة.

وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا.

(سورة الجن: آية ١٨)
«أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة …» (الحديث).

قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

(سورة الزمر: آية ٤٥)
عليهم إذن! فإنهم وإن قالوا: لا إله إلا الله، وهم يرجون شفاعة غيره، أو يُشركون بالشفاعة غيره، إنهم لمشركون. قد أُمِرت أن أقاتل … إلخ. هو ذا مصدر الشدة ومبرِّر القتال. وقد كتب الشيخ محمد إلى عبد الله بن سحيم مطوع الرياض يقول:

الغلو في علي بن أبي طالب مثل الغلو في المسيح. مَن غالى في نبيٍّ، أو صحابي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الألوهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فهذا كافر يُستَتاب، فإن تاب وإلَّا قُتِل.

ومن كتاب إليه أيضًا:

المشاهد التي بُنِيت على القبور التي اتُّخذت أوثانًا تُعبَد من دون الله، والأحجار التي تُقصَد للتبرُّك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاءُ شيءٍ منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته.

وقد قال النبي: «خيرُ القبور الدوارس …» إن الشيخ محمد ليستشهد إذنْ بالكتاب والحديث، وبأقوال الصحابة والأئمة الأربعة على قتل الكفار والمشركين، ولكنه في بعض رسائله يشكو ويعتذر، فقد جاء في واحدة منها:

ولا يخفاكم أن الذين عادونا في هذا الأمر هم الخاصة لا العامة؛ فكاتبناهم وخاطبناهم بالتي هي أحسن وما زادهم ذلك إلا نفورًا.

وفي كتاب إلى عبد الرحمن السويدي في العراق يقول:

أما القتال فلم نقاتل أحدًا إلى اليوم إلَّا دون النفس والحرمة؛ وهم الذين أتَونا في ديارنا ولا أبقَوا ممكنًا. ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة. وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلُها.

إن ها هنا شيئًا من الغلبة للطبع الإنساني، ولكنها غلبة لا تُثمر دائمًا، خصوصًا إذا اصطدمت بالنزعات والنعرات، فتقوم الآيات مقام الحسنات، فلا يرى المُصلِح إذ ذاك غير مشركٍ حلال الدم والمال، وقبورٍ ذي قباب لا تصلح لغير الهدم، ولكن الإشراك درجات، وفي الآيات معانٍ ظاهرة أو باطنة يتسلَّح بها مَن قاوموا الشيخ وضلَّلوه.

وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (الآية).

(سورة سبأ: آية ٢٣)

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (الآية).

(سورة البقرة: آية ٢٥٥)

قال المقاومون: ورسول الله مأذون، وبالتالي ملائكته، فتوسَّع المتطرِّفون في المسألة، وقالوا: والمقربون كذلك من رسول الله وملائكته؛ أي الأولياء مأذونون، فجرَّ ذلك إلى الشرك العميم، والكفر الذميم.

هي ذي حجة ابن تيمية وابن عبد الوهاب الكبرى. ليس للملائكة ولا لأحد من المخلوقات منهم سهمٌ واحد في مُلْك الله، وليس له أعوان تعاونه كما تكون للملوك أعوان.

ولكن وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (الآية).

إذن هناك شفاعة، وهي تنفع إذا كان المُتشفَّع به مأذونًا له. وها هنا اختلف العلماءُ والمفسرون. كيف السبيل إلى معرفة مَن أَذِن له الله بالشفاعة؟ قد أجاب ابن تيمية على هذا السؤال وأحسن التخلُّص، فقال: «وفي كلِّ حالٍ الإذنُ من الله، فالأمر إذن كلُّه له تعالى.» لا نزال في الدائرة التي لا نهاية لها. أنت تردُّني إلى الكتاب وأنا أردُّك إلى الله، وإذا رددتني إلى الله أردك إلى كتابه تعالى وسُنَّة رسوله.

أما الدعاء وهو نوع من التشفُّع، فقد حلَّله ابن تيمية في قوله ما معناه: إن كلَّ ما لا يستطيعه إلَّا الله لا يجب أن يُطلَب إلَّا منه تعالى،٨ ولا يجوز أن يقول الإنسان لملك أو لنبيٍّ أو لشيخ، سواء كان حيًّا أم ميتًا: اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي … إلخ. ومَن سأل ذلك فهو من المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والصور والتماثيل، ولكنَّ هناك نوعًا من الدعاء يجوز، كأن تقول لجيرانك عند ارتحالك عنهم: ادعوا لنا بالخير والسلامة. هذا ما يسميه العلماء إجابة غائب لغائب، ثم توسَّعوا فيه، فقالوا: إن الناس لما أجدبوا سألوا النبي أن يستقِيَ لهم، فدعا اللهَ لهم فسُقُوا. وفي الصحيحين أيضًا أن عمر بن الخطاب استسقَى بالعباس، فدعا فقال: اللهم إنا كنَّا إذا أجدبنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فأسقنا، فسُقوا.

هي ذي حجة أصحاب الأولياء. فإذا استجاب الله طلْبة النبي وعم النبي أفلا يستجيب كذلك طلْبة صهرِه وابنته وابنَيها والصالحين من سليلتَيهما؟ ولكن ابن تيمية وابن عبد الوهاب يردَّان عليهم في قولهما: إن هذا من باب طَلَبِ الإنسان الحيِّ ما يقدر عليه، فإن حقيقة التوسُّل بالنبي وبعمِّه هو طلب الدعاء منهما في حياتهما وذلك جائز، أما الميت فلا يستطيع أمرًا.

قد نهى النبي حتى عن التعظيم؛ لذلك لا يقبِّل أهلُ نجدٍ يدَ سلطانهم، ولا يخضعون أمامه أو يطأطئون له الرأس. لا يجوز السجود والتعظيم لغير الله، وقد نهى النبي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فتُصلَّى صلاة الفجر قبل الشروق وصلاة المغرب بعد الغروب؛ ليُبعد المسلمين عن العقائد التي كانت شائعة في الجزيرة خصوصًا في اليمن وفي الأحساء؛ أي عقائد عبدة الشمس والكواكب، المجوس والصابئين، فلا يسجدون مثلهم للشمس.

أما زيارة القبور فمشروعة شائعة عند الوهابيين، والدعاء للميت هي بمنزلة الصلاة على جنازته. فأهل نجد الذين يواظبون على هذه العادة يقولون: سلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنَّا بعدهم.

هو دعاء جميل. وأجمل منه جواب النبي لرجل قال له: ما شاء الله وشئت. فقال النبي: «أجعلتَني لله ندًّا، بل ما شاء الله وحده.» وقد قال أيضًا: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد.» وهذي هي القاعدة التي يجري عليها اليوم أهل نجد، فيقولون مثلًا: ما شاء الله ثم ما شاء ابن سعود، نسأل الله ثم ابن سعود، لولا الله ثم ابن سعود لهلكنا.

أما التوسُّل فهو على ثلاث درجات:
  • الأولى: أن يأتيَ المرء إلى قبر النبي أو ولي أو ما يعتقد أنه قبر نبيٍّ أو رجل صالح ويسأله حاجتَه فيما لا يقدر عليه إلَّا الله، فهذا شرك صحيح يجب أن يُستَتاب صاحبه، فإن تاب وإلَّا قُتِل.
  • الثانية: أن يطلب المرء من النبي أو الولي أو الشيخ الصالح أن يدعوَ له كما يقول للحي: ادعُ لي كما كان الصحابة يطلبون من النبي الدعاء. هذا مشروع في الحي لا في الميت من الأنبياء والصالحين. دليل ذلك أن الناس في زمن عمر استسقَوا بالعباس عمِّ النبي ولم يجيئوا قبر النبيِّ مُستغيثِين به. وقد قال النبي: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني.»٩
  • الثالثة: أن يقول المرء: اللهم بجاه فلان عبدك أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان، أسألك كذا وكذا. هذا شائع بين الناس ولكن لم يُنقَل عن أحد من الصحابة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء. وإنهم إذا أجازوا التوسُّل بحق أحد الصالحين أو بشفاعته فيجب أن يكون ذلك في حياته وحضوره.

هذي هي درجات التوسُّل الثلاث، ومنها واحدة فقط فيها الشرك الصحيح، فيحلِّل ابن تيمية وابن عبد الوهاب قتل صاحبه إن لم يَتُب، أما الدرجتان الثانيتان فالذنب فيهما شبيه بالخطيئة العرضية عند المسيحيين، ولا يجوز قتلُ مَن عُدَّ توسُّله منهما.

١  وقيل: إن امرأةً بغيًّا جاءت إلى الشيخ تلتمس التوبة على يده فردَّها أولًا وثانيًا وثالثًا، ثم حكم عليها بالرجم.
٢  في كتابي «ملوك العرب» الفصل ١٤ ص١٠٢ وما يلي من القسم الخامس (الجزء الثاني)، وصفٌ لوادي حنيفة وبلدانه.
٣  هي موضى بنت أبي وهطان من آل كثير.
٤  في نجد يُعرف محمد بن عبد الوهاب بالشيخ، وتُدعَى سليلته ببيت الشيخ.
٥  للنساء حتى اليوم في نجد سوقٌ خاصٌّ بهنَّ يبعْنَ ويشترينَ فيه.
٦  كانوا ولا يزالون من أعداء التوحيد وآل سعود، وكبيرهم اليوم فهد بك الهذال شيخ العمارات، فخذ من عنزى.
٧  طُبِع هذا الكتاب في مطبعة المنار بمصر على نفقة عيسى بن رميح من أهالي نجد، وهو يُوزَّع مجانًا، وكذلك «التحفة السنية» التي طُبِعت على نفقة الإمام جلالة الملك عبد العزيز.
٨  قد ذكر ابن تيمية شفاء الأمراض — أمراض الآدميين والبهائم — والنصر على الأعداء وغفران الذنوب، وتعلُّم القرآن، وإصلاح القلوب، كلها من الأمور التي لا يجوز أن تُطلَب من غير الله.
٩  ليس في المذهب الوهابي أو الحنبلي ما يمنع المسلم عن الحج أو يُوجِب هدم قبر النبي، ولكن الحنابلة والوهابيين يختلفون عن سواهم من المسلمين في أنهم يزورون القبور للسلام، كما قلت، والدعاء لا للتوسُّل والاستغاثة. وقد كان الصحابة إذا زاروا قبر النبي يسلِّمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء ينحرفون عنه ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده. وكانوا ينهون عن التمسُّح بالقبر والتقبيل. قال ابن تيمية: «ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلَّا الحجر الأسود.» وقد ثبت في الصحيحين أن عمر — رضي الله عنه — قال: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤