الفصل الثاني والثلاثون

مأساة بيت الرشيد

لا بدَّ لكلِّ مأساة من حالق تهوي منه، لا بدَّ من ذروة تملكها الحياةُ المجيدة أو السعيدة، ثم تفقدها فتهبط منها إلى الدرك الأقصى.

ينبغي إذن أن نصل والقارئ إلى ذروة بيت الرشيد قبل أن نبدأ بالمأساة فيه. ولا بدَّ قبل التصعيد من الوقوف عند سفح الجبل — عند الأساس — فنتعرف إلى المؤسِّس الكبير وإلى المشيِّد الأكبر.

آل رشيد من آل خليل، وآل خليل من آل جعفر، وهؤلاء فخذ من عبدِه أكبر قبائل شمَّر. وفي الفتوحات السعودية الأولى كان أمير الجبل واحد من هذه القبيلة يُدعَى الجربا، حاربَ آل سعود فغُلب، وأُجليَ وعشيرته إلى العراق، ثم أمَّر سعود الكبير واحدًا من آل عليٍّ في حائل، وقرَّب منه رجال هذا البيت، فكان جبر أخو رشيد — جد عبد الله — كاتبًا في ديوانه بالدرعية.

ولكنه لم يظهر في آل رشيد — على ما نعلم — أكبر من عبد الله الذي اختلف والأسرة الحاكمة يومئذٍ، فرحل إلى الرياض وانضم إلى جيش فيصل ابن الإمام تركي. وعندما قُتل تركي جاء فيصل بجيشه من الحساء ليثأر لأبيه، وكان عبد الله في ذاك الجيش، بل في مقدمة مَن هجموا على القصر، وقتلوا قاتل الإمام، فجازاه فيصل، بعد أن تولَّى الإمارة، بأن جعله أميرًا على حائل.١

وعبد الله بن علي بن رشيد — مؤسس هذا البيت — هو من أولئك الأفراد المتقدمين بفضلهم في الناس، أولئك الذين يَسودُون الناس بما يزين أعمالهم من الشجاعة، والعدل، والإحسان.

كان أميرًا في حائل يوم جاءها المستشرق الأسوجي جورج والن٢ سنة ١٨٤٥؛ أي بعد عودة الإمام فيصل بثلاث سنوات. وقد كان محمد علي باشا غيرَ راضٍ عن حكم فيصل، فأرسل هذا المستشرق إلى حائل ليسبُرَ غَور بيت الرشيد علَّه يجد فيهم مَن يصلُح لمناصبة آل سعود، ولكن الأمير عبد الله كان يسعى في سبيل استقلال الجبل، في استقلاله عن الرياض وعن مصر، وما راقه قط أن يكون سيفًا بيد محمد علي على ابن سعود. عاد جورج والن إلى مصر، ثم جاء حائل بعد سنتين للمرة الثانية، فكانت النتيجة شبيهة بالتي تقدَّمتْها. لم يُفلح العالم الأسوجي بمهمته السياسية، ولكنه كان معجبًا بالأمير عبد الله، وقد قال فيه كلمة نقلها هوغرث لا أرى أحسن منها، وهي من أجنبي، في تقدير هذا الأمير العربي، قال والن:

لم يكن نفوذ عبد الله ناشئًا عما كان له من الثروة والسيادة فقط، بل عمَّا امتاز به أيضًا من السجايا الشريفة كالشجاعة والعدل، وكرَم الأخلاق والوفاء، وحب الفقراء. فقد كان في إحسانه مثله في عدله كبيرًا، ولم يُسمَع عنه أنه أخلف مرَّة بوعده … هذه الفضائل هي مصدر تلك القوة قوة عبد الله، وذاك النفوذ نفوذه.

وكان لعبد الله أخٌ اسمه عُبيد امتاز عنه بثلاثة أمور، بغلوِّه في المذهب الوهابي، وبخشونة طبعه، وبنزعةٍ فيه شديدة إلى القتال في سبيل الله والتوحيد. كان عبيد رسولَ الوهابية الأكبر في الجبل، وكان بيته محطَّ رحال الوهابيين في حائل، ومرجعهم الأعلى والصلة بينهم وبين الرياض.

لم يكن في أولاد عبد الله أكرم من طلال، ولكنه نُكِب في عقله وكان منتحرًا. أما متعب أخوه فقد كان من الوسط في الناس عقلًا وخُلُقًا وسياسة، ولم يحكم غير سنتين؛ لأن بندرًا وبدرًا — ابنَي أخيه طلال — طمعَا بالإمارة وانتزعاها منه بالسيف. قتل بندرٌ وبدرٌ متعبًا، وتولَّى الحكمَ بعده أحدهما بندر. وكان محمد بن عبد الله يومئذٍ عند الإمام عبد الله بن سعود الذي وفق بعد سنة، كما أسلفت القول، بينه وبين ابن أخيه الأمير الجديد.

عاد محمد إلى حائل فتولَّى إمارة الحاج العراقي، ثم في السنة التالية قتَل بندرًا بيده دفاعًا عن نفسه كما قال. وقد أمر بقتل أبناء طلال الآخرين فذُبِحوا في القصر كلُّهم إلَّا واحدًا هو بدر الذي فرَّ إلى البادية، فتأثَّره العبيدُ وقتلوه، فغضب الأمير محمد؛ لأنه أمرهم بالقبض عليه فقط، وقتَل بسيفه العبد الذي قتل بدرًا.

سيف الأمير محمد! قد رُوِي عن صاحبه أنه قال: «لا يُغمَد سيف ابن الرشيد حتى يقتل أهل البيت أجمعين.» وما كان فيما قال واهمًا. فقد مشى هو نفسه إلى عرش الإمارة على خمسة أرواح من بيت أبيه. وكان ذاك العرش لا يزال مقيَّدًا بشيء من إرادة آل سعود — مقيدًا بخيط رفيع قطعه الأمير محمد بسيفه. وظلَّ هذا السيف مستلًّا في سِنِي إمارته كلِّها، فكان صاحبه فاتحًا، وكان مستبدًّا، وكان عادلًا، لكن نفسية الأمير لم تخلُ من أثرٍ لغدر الزمان، ظلَّ باديًا في خلقه حتى في أيام النصر والمجد، فكان هذا المستبد العادل مُقْتديًا في بعض أعماله بالزمان؛ كان إذا أراد محاربة البدو مثلًا يهجم عليهم في الصيف، وهم على المياه في المضارب.٣ إن في ذلك شيئًا من الغدر، ترفَّع عنه مَن خَلَفه مثلًا من بيت أبيه؛ أي عبد العزيز بن متعب.

أما أنَّه كان سرَّ أبيه في المرونة النفسية التي تلتوي ولا تنفصم فممَّا لا ريب فيه. وقد أُعجِب به كلُّ مَن قابله من السياح والمستشرقين الذين أمُّوا حائل والقصيم في عهده الذي هو عهد شمَّر الذهبي. أجل قد حاز الأمير محمد من السيادة في نجد ما حازه ابن سعود الكبير، فرفع بيت الرشيد إلى الذروة التي طاح منها مجد بيت الرشيد. هي الذروة التي تبدأ عندها المأساة موضوعنا الآن، وهذه المأساة هي ذات أربعة فصول، وفاتحة وخاتمة.

  • الفاتحة: شمَّر تندب الأمير محمدًا وتقلِّد سيفه عبد العزيز ابن أخيه متعب فيخرج إلى الحرب، وشمَّر تحدو أمامه ووراءه. وفي الوقت نفسه يخرج سميُّ ابن الرشيد عبد العزيز بن سعود من الكويت غازيًا فيلتقي العزيزان ويحتربان سبع سنوات، فيخسر العزيز الرشيدي نصف الملك الذي كان لعمِّه محمد. وبالرغم عن مساعدة الأتراك لأمير شمَّر قبل الحرب العظمى، ومساعدة الأتراك والألمان أثناء تلك الحرب، ومساعدة الملك حسين بعدها، زلَّت شمَّر وهي على قمة الجبل، فطاحت واستمرت طائحة.
  • الفصل الأول: يبدأ بقتل عبد العزيز في روضة مهنَّا وينتهي بذبح أولاده الثلاثة.
    • المشهد الأول: سوق في بُريدَة يدخله جنودُ ابن سعود وهم يُعلنون موت عبد العزيز الرشيد وينشدون: حِنَّا أهل العوجا مروية السنين! (أسنة الرماح).
    • المشهد الثاني: في القصر بحائل، وقد عُقِد مجلس حضره أولاد عبد العزيز متعب ومشعل ومحمد فوُلِّيَ متعب الإمارة.
    • المشهد الثالث: في قصر آخر بحائل، قصر آل عُبيد. أبناء حمود الثلاثة وهم فيصل وسعود وسلطان يتآمرون.

      قد ذهب يومُ عبد الله وجاء يومُ عُبيد. هؤلاء الصبيان أولاد عبد العزيز لا يستحقون الإمارة وسيتنازعونها، فيذلُّونها، ويفقدونها. علينا إذن أن ننقذها فتظل في بيت الرشيد، علينا أن نريح الصبيان منها ونريحها منهم.

    • المشهد الرابع: في العراء خارج المدينة، فيصل وسعود وسلطان آل عبيد ورجاجيلهم وعبيدهم ومعهم متعب ومشعل ومحمد أبناء عبد العزيز، وقد دُعوا ليوم صيدٍ فلبُّوا الدعوة.

    كوكبة من الخيل خرجت من حائل، وكل خيَّال يبغي الصيد ينشد الطريدة في الآفاق ووراءها، إلَّا أن طريدة آل عبيد كانت قريبة، غافلة، غير شاردة. طريدتهم؟ هاكها على الخيل أمامهم.

    فبعد أن خفيت أسوار المدينة، عندما غدَوا في الفلاة، لمزَ كلٌّ من الإخوان أبناء حمود حصانَه وساقه على واحد من أبناء عبد العزيز، فتناوله من السرج بقرونه (شعره) وغمد خنجرًا في صدره. طاح الثلاثة إخوان إلى الأرض مُضرَّجين بالدماء، ولم يحرِّك أحد من الحاشية يدَه دفاعًا عنهم. وما دخل العبيد؟ رشيدي قتل رشيدي، ولكنهم وهم عبيد آل عُبيد هتفوا قائلين: والحمد لله هذه آخرة آل عبد الله.

  • الفصل الثاني: مشهد كلي. يُرفَع الستار وسلطان بن حمود بن عبيد مُتصدِّر في مجلس الإمارة، وإلى جانبه أخوه فيصل البسَّام صاحب البسمة الإبليسية الناعمة، وفي مخدعٍ وراء المجلس الأخ الثالث سعود يشحذ سيفه.

    لم يكن سعود العبيد على شيء عظيم من الصبر. فقد حنَّ إلى الإمارة حنين الحبيب إلى الحبيب، ولم يأذن لأخيه سلطان بغير سبعة أشهر منها. وعندئذٍ جاءت الساعة ولم يكن سعود متأهِّبًا، أو إنه شحذ سيفه حتى انقصم، فبادر إلى حبلٍ خنق به سلطانًا، ودفنه في حفرة بالقصر.

    مشهد جزئي لينصبَ عمالُ المسرح عرشًا جديدًا وراء الستار. ونحن أثناء ذلك نخبر عن ابن عبد العزيز الرابع — الصغير — الذي فرَّ به خالُه ابن السبهان من القصر يوم الصيد المُفجِع. إن هذا المشهد في سوق من أسواق المدينة المنورة، وفيه يسير ابن السبهان وابن أخته سعود بن عبد العزيز وحاشيتهما مُسرِعين، وقد اتصل بهم خبرُ قتل سلطان بن حمود.

    – «وغدًا يا وليد (ابن السبهان يخاطب وليَّ العهد الشرعي لعرش حائل) دور سعود، ثم دور فيصل. سنرجع إلى حائل، إلى حائل يا وليد، والإمارة لآل عبد الله إن شاء الله.»
    • المشهد الثالث في حائل: ابن السبهان يدخل المدينة بجيش من العربان فيضرمون فيها نيران الثورة، ثم يهجمون على القصر فيقبضون على سعود بن حمود بن عبَيد، ويقتلونه في الغرفة التي قُتل فيها أخوه سلطان. فتُصفِّق حائل استحسانًا: مرحى مرحى! وتُقلِّد سعود بن عبد العزيز سيفَ الإمارة.

      مشهد جزئي نختم به هذا الفصل (وقد يعترض أربابُ الفن على ختم فصل من فصول المأساة بمشهد جزئي، ولكنهم يتغاضَون لأهميته عن إخلالنا بإحدى قواعد الدراما).

      المشهد الجزئي الذي أبغيه هو لفيصل المِبسام، ثالث الإخوان، الذي اجتمعت به في الرياض. ذاك الذي كان يبسم ويذنب ولا يغيظ. فقد اختلف وأخاه سلطانًا، فأمَّره على الجوف ليُبعدَه عن العرش، وكان ذلك رحمة منه. وكان فيصل مسرورًا بذي الإمارة الصغيرة وذاك البعد، خصوصًا عندما علم بقتل أخيه الأول، ثم بقتل أخيه الثاني.

      ولكنه عندما علم برجوع آل عبد الله إلى عرش الإمارة لم يرَ السلامة حتى في الجوف، فهجر عرشه هناك ورحل شرقًا ثم جنوبًا. رحل مُسرِعًا ولم يقف في ترحاله حتى وصل إلى الرياض، ورمى بنفسه بين يدي عبد العزيز بن سعود، فرحَّب به، وأكرمه، واتخذه لخفَّةٍ في روحه خِدْنًا ونديمًا، وقد حزن عبد العزيز جدًّا عندما وافَى الموتُ فيصلًا في الرياض سنة ١٣٤٢.

      الفصل الثالث من مأساة بيت الرشيد يبدأ بالولد سعود بن عبد العزيز على عرش الإمارة، ووراء ذاك العرش امرأة هي فاطمة السبهان جدة الأمير، وحول ذاك العرش عبيدُ القصر الطامعون بالسيادة. قد يكون هذا التوازن بين المرأة والعبيد السبب في دوام العرش سنوات عدة بالرغم عن العواصف التي كانت تعصف عليه من الجنوب — عواصف الإخوان.

    • مشهد جزئي مجلس «ستي» فاطمة: صوت من وراء الحجاب فيه نبرات وغنات، وإرادة ماضية تحرِّك العرش، وتحرك الجيش، وتحرك يد العبد سعيد صاحب الخزنة. «ستي» فاطمة تستقبل الناس وتفاوض الوفود، وتُشير على الأمير بالخطة السياسية التي ينبغي اتباعها.

      كانت فاطمة السبهان فصيحةَ اللسان، شديدة الشكيمة، قصيرة النظر. تكره أهل نجد وآل سعود. وكانت سياسة الإمارة بيدها، وكذلك المالية بعد قتل سعود؛ لأن العبد سعيد كان قد عُزِل.

      ومَن هو العبد سعيد؟ في أيام سعود بعد أن بلغ سنَّ الرشد كان لبعض العبيد مقامٌ رفيع في الديوان الرشيدي. وكان الأمير خوفًا من آل سبهان يقرِّب منه هؤلاء العبيد المماليك ويبالغ في إكرامهم، ومنهم خصوصًا اثنان، سعيد المحمد، مملوك سوداني خصي، حمل مفتاح الخزنة منذ أيام عبد العزيز بن متعب، وسليمان العنبر الذي كان يحمل سيف الحجابة الأول، ويدخل على الأمير برأيٍ حتى في السياسة مسموع.

      كان الطواشي سعيد وزيرًا للمالية أمينًا ولا شك، وكان سليمان العنبر مستشارًا مخلصًا، ولكنَّ نظرَ الاثنين في شئون الإمارة نظرُ العبيد لا يتجاوز دائرة معقولهم الصغيرة.

      أما «ستي» فاطمة، تلك القوة وراء الستار، وراء الحجاب، فلا يخلو ما قيل فيها من مجال للنقد. ويكفي ما كان من نتيجة حكمها، وهو أكبر حجةٍ على سوء الإدارة فيه.

      بين هاتين القوتين مشى سعود بن عبد العزيز إلى عرشه، وبين هاتين القوتين قضى ما كُتِب له من سِنِي الحكم، ثم أخنَى عليه الذي أخنَى على إخوته، ولكنه لم يَمُت مثلهم في «الصيد»، مات سعود غدرًا وكان الغادر أجبن الغادرين.

    • مشهد كليٌّ في الفلاة: يجيء الأمير للنزهة ومعه حاشيتُه وعبيده. الرجاجيل يعتنون بالخيل، والعبيد يجمعون الحطب، ويشبون النار للقهوة، والأمير يتبارى وعبد الله بن طلال الرشيد يرمي الرصاص، أو كما يقول العرب: يضرب النيشان (الهدف)، ولم يلازمهما غير عبد واحد من العبيد.

      وقد كان هناك رابع هو القدر جاء يسدِّد الرصاصتين؛ رصاصة الأمير ورصاصة ابن طلال، ويلحق العبد بالذهول.

      أما هدف ابن طلال آل عبيد فلم يكن الهدف المنصوب. رفع الأمير سعود بندقيته، وابن طلال وراءه والبندقية بيده مُصوَّبة في الظاهر على «النيشان» فأُطلقت الاثنتان في وقت واحد، فأصابت رصاصة الأمير كبدَ الهدف، واخترقت رصاصةُ ابن طلال رأسَ الأمير.

      وكان العبد يحدِّق بالهدف مُعجَبًا برمي سيده، فلم ينتبه إلى ما حدث إلَّا عندما خرَّ للأرض صريعًا، ولكنه وقد فتح فاه وعينَيه هوَى هو أيضًا في الحال؛ لم يُعطِه القاتل فرصة للفرار أو للصياح إذ جاءت الرصاصة الثانية تُبعثر دماغه فطاح كالخشبة إلى جانب الأمير.

      رأى أحد العبيد الآخرين ما جرى فصاح بإخوته وهجموا على ابن طلال، ثم جاء الرجاجيل ومعهم عبد الله بن متعب بن عبد العزيز، ابن أخ الأمير المقتول، وهذا عثرة في سبيل العرش، وابن طلال لا يبغي الآن غير العرش. عليه إذن أن يزيل ابن متعب أيضًا من طريقه. قد أسلفنا من مهارته بالرمي مثلَين، وهذا الثالث.

      شرع ابن طلال يرمي عبد الله بالرصاص، وكان العبيد يحولون دون مرماها ويطلقون كذلك بنادقهم، فقُتِل واحد منهم، وأصيب ابن طلال برصاصةٍ أبعدته عن العرش بل عن حطام الدنيا كلِّها.

  • الفصل الرابع في القصر بحائل: عبد الله بن متعب جالسٌ على عرش جدَّة عبد العزيز، جالس على العرش ويدُه على رقبته خشية أن تجيئَه الضربة غدرًا، جالس على العرش وقلبه يخفق جزعًا ورعبًا، جالس على العرش وعيناه الفتيَّتان محمرتان، دامعتان، من الدم المراق على جوانبه. عرشٌ نخَر السوسُ في أركانه، فتزعزع، فهوى، فأمسى مسندًا وحصيرًا في فناء الاضمحلال.

    وماذا عساها تعمل «ستي» فاطمة — فاطمة شمَّر العظيمة — لإنقاذه؟ وماذا عسى يعمل العبيد، ووفاء العبيد، وشجاعة العبيد؟ هبَّت هبوب الجنة! هبَّت من الجنوب، من نجد، من العارض، ولا نجاة لهذا الأمير الصغير، لهذه البذرة الأخيرة من شجرة شمَّر التي كانت تباري رواسي الجبال، هذه البذرة السوداء البيضاء التي تُدعَى عبد الله بن متعب، لا نجاة لها بغير التسليم، والتسليم في الحال.

    وهو ذا ابن طلال الثاني محمد أخو عبد الله القاتل المقتول، وقد جاء من الجوف ليدافع عن حائل. عن حائل؟ لا حاجة ولا سبيل إلى إقناع عبد الله بن متعب، فقد فرَّ ويده على رقبته، ولاذَ بابن سعود. وهو اليوم ضيف مكرَّم في الرياض — آخر آل عبد الله الرشيد!

    جاء ابن طلال الثاني وفي نفسه أملٌ بإنقاذ حائل وبإعادة شيء من المجد إلى شمَّر. فوقف خارج المدينة، وفي حصونها، وعلى أسوارها، يدافع عنها دفاعَ الأبطال، ولكنها وهي تابعة لعرشٍ هَوَى، لمجد تقلَّص ظِلُّه، رأت خلاصها في انفصالها عن هذا المجد وذاك العرش، وفي التسليم إلى ابن سعود. فكان الفتح خاتمة المأساة، مأساة شمَّر وبيت الرشيد، بل كانت الخاتمة حصارًا، ورصاصًا ونارًا.

    وكان محمد بن طلال بن نايف بن طلال من الذين سلَّموا، بل آخر الذين سلموا، وهو الآن ضيف مكرَّم في الرياض.

  • خاتمة المأساة:
    • المشهد الأول: بيت في الرياض يخرج منه ابن طلال في الليل وهو متخفٍّ في ثوب امرأة، فيقبض أحد الرجال عليه ويجيء به إلى السلطان عبد العزيز، فيأمر بنقله إلى القصر. وقد كان في القصر أسيرًا يوم كان المسجل لهذه المأساة في الرياض، ثم أُطلِق سراحه وهو، أي المسجل، لا يزال هناك.
    • المشهد الثاني: المجلس العالي بالقصر. السلطان عبد العزيز جالس على الديوان وعصا الشوحط بيده، وإلى يمينه ويساره رجال بيت الرشيد. وعلى الدواوين والكراسي خمسون ونيِّف من وُجَهاء الرياض وعلمائها.

      يدخل العبيد ومعهم ابن طلال، فيُجلِسه السلطان إلى يمينه، ثم يقول: «اعلموا يا أهل الرشيد أنكم عندي مثل أولادي، وأنتم في الرياض تعيشون كما أعيش أنا وأولادي، لا أزْيَن ولا أشْيَن. ثيابكم مثل ثيابنا، وأكْلُكم مثل أكْلِنا، وخيلكم مثل خيلنا وأزيَن. ترى الصحيح، وليس في القصر، أو في البلاد تحت يدي ما تبغونه ولا يجيئكم. ترى الصحيح. وهل منكم من يشك في ذلك؟ تكلموا.»

      لم يَفُه واحدٌ منهم بكلمة.

      «وأنت يا محمد، ما جرَّ عليك الأسرَ غير نفسك، غير عملك المَشين. كن عاقلًا حكيمًا ولا تُعِرْ أذنك النساء. إني عالم بما تعمل وبما تقول. فاعقل لصالح نفسك. تجنَّب الطرق التي فيها القال والقيل، والتي تؤدِّي إلى الفتن، كن صادقًا مخلصًا تُكرمْ كل الإكرام، تكرم مثل أهلك هؤلاء كلهم. والله بالله إن الضرر الذي يمسسكم يا أهل الرشيد يحرك قلبي قبل لساني إلى مساعدتكم. أنت يا محمد واحد من بيتي الآن … وكلُّ ما عندي للدفاع عن بيتي — عن العيال والحريم أقدِّمه إذا اقتضى الأمر في الدفاع عنك — في الدفاع عنكم كلكم يا أهل الرشيد.»

ها هنا وقف السلطان، فوقف مَن في المجلس وأعطى يدَه إلى ابن طلال قائلًا: «أعطيك عهد الله ما زلت مخلصًا لنا.» فصافحه ابن طلال وهو يقول: «إذا حدث عن الطريق الذي أمرت به اقطع رأسي.»

ثم قبَّل عظمته في أنفه وفي جبينه.

ثم صوَّت يهتف بالدعاء: «أدامك الله ووطَّد أركان ملكك.»

هو صوت كبير بيت الرشيد يومئذٍ، ثالث أبناء حمود، إخوان «الصيد» الثلاثة، صوت فيصل المبسام غفر الله ذنوبه، وذنوب أهل هذا البيت أجمعين.

figure
المدينة المنورة.

أمراء حائل الرشيديون

  • (١)

    عبد الله بن علي بن رشيد. مات موتًا طبيعيًّا سنة ١٢٦٥ / ١٨٤٨.

  • (٢)

    طلال بن عبد الله، انتحر في سنة ١٢٨٣ / ١٨٦٦.

  • (٣)

    متعب أخو طلال، قتله أبناءُ أخيه بندر وبدر سنة ١٢٨٥ / ١٨٦٨.

  • (٤)

    بندر بن طلال بن عبد الله، قتله عمُّه محمد سنة ١٢٨٨ / ١٨٧١.

  • (٥)

    محمد بن عبد الله الذي يُدعَى الكبير كان عاقرًا ومات موتًا طبيعيًّا. تولَّى الإمارة سنة ١٢٨٨ / ١٨٧١، وتُوفِّي في ٣ رجب ١٣١٥ﻫ / ١٨٩٧م، استولى على نجد كلِّه حتى وادي الدواسر.

  • (٦)

    عبد العزيز بن متعب بن عبد الله، قُتِل في المعركة في ١٨ صفر ١٣٢٤ﻫ / ١٩٠٦م.

  • (٧)

    متعب بن عبد العزيز حكم عشرة أشهر، قتله وأخوَيه مشعلًا ومحمدًا أبناءُ حمود بن عبيد في ٢١ ذي القعدة سنة ١٣٢٤ﻫ / ١٩٠٦.

  • (٨)

    سلطان بن حمود بن عبيد حكم سبعة أشهر، قتله أخوه سعود.

  • (٩)

    سعود بن حمود بن عبيد حكم أربعة عشر شهرًا، قُتِل في القصر.

  • (١٠)

    سعود بن عبد العزيز بن متعب بن عبد الله، قتله عبد الله بن طلال سنة ١٣٣٨ /  ١٩١٩.

  • (١١)

    عبد الله بن طلال لم يحكم، قتله عبدٌ من عبيد سعود.

  • (١٢)

    عبد الله بن متعب بن عبد العزيز بن متعب، سلَّم لابن سعود في ذي الحجة ١٣٣٩ﻫ / ١٩٢٠م.

  • (١٣)

    محمد بن طلال بن نايف بن طلال، سلَّم لابن سعود في ٢٩ صفر ١٣٤٠ / ٢ نوفمبر ١٩٢١.

figure
١  راجع النبذة الثالثة (آل سعود منذ نشأتهم إلى حين استيلاء محمد بن الرشيد على نجد).
٢  George Augustus Wallin.
٣  البدو يصلحون مواشيهم في الربيع — من شباط إلى آخر آيار — فيسرحون طالبين الحيا (المرعى) ثم في أشهر القَيظ يَرِدُون المياه ويقيمون حولها مسالمين، ثم يظعنون في الخريف وعندما تخضرُّ الحقول في آخر الشتاء، وهذه الأشهر في الخريف والشتاء هي غالبًا أشهر الغزو والحرب عندهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤