الفصل السادس والثلاثون

النكاس، والذي يوسوس في صدور الناس

بعد بضعة أشهر من مؤتمر العقير نكس مريض الجزيرة، نكس السلم، والسبب في النكاس مكروب الغزو الذي ظنَّ المتعاهدون أنهم استأصلوه، ولكنهم بنَّجوه فقط، فأفاق بعد أربعة أشهر، ونشط إلى العمل مباشرًا في العراق، أو بالحري على حدود العراق ونجد.

قد يذكر القارئ ما قلناه في عرب شمر الذين لجئوا إلى العراق بعد احتلال حائل، وقد يذكر أن في العراق من هذه القبيلة الكبيرة مَن نزحوا إلى ذلك القطر قديمًا، وهم يُعدُّون من أهله، وأكثرهم ينزلون ما بين النهرين قُرْب الموصل.

هؤلاء العشائر، وفي مقدمتهم آل عبدة التابعون لشيخة عجيل الياور الذي تخصُّه الحكومة العراقية بالمشاهرات المالية، كانوا يرحبون بإخوانهم الفارِّين من نجد ويشاركونهم في شنِّ الغارات على قبائل ابن سعود. قد تخلَّل هذه الغزوات فترةُ سكون عُقِد فيها مؤتمر العقير، ثم عادت تلك العشائر بعد أربعة أشهر، أي في صيف عام ١٩٢٣، تُفسِد ما أصلحه المصلحون وتحاول في غزواتها المتتابعة أن تقضي على السلم في القطرين العراقي والنجدي. فكتب عظمة السلطان إلى المفوَّض السامي وإلى جلالة الملك فيصل يلفت نظرهما إلى هذا الأمر ويحذِّرهما من عواقبه، بل طلب من الحكومة مرارًا أن تردع المجرمين، وتُرجِع ما نهبوه من أهل نجد.

وقد نشر في الكتاب الأخضر النجدي أجوبةَ أولي الأمر هناك، وفيها ما يُثبِت دعوى حكومة نجد، بل فيها الدليل على عجز حكومة العراق — عجزها يومئذٍ — عن تنفيذ ما رأتْه واجبًا عليها.

قال جلالة الملك فيصل في جوابه: «تلقيتُ كتابكم المرسَل مع خادمكم الأمين عبد العزيز الرباعي فكان أعزَّ واصلٍ … أما من خصوص التفاوض، فقد أجرينا اللازم وأخبرنا حامله شفاهًا بما يسهِّل الأمور.»

وقال وزير الداخلية (يومئذٍ عبد المحسن بك السعدون) في كتاب أرسله إلى المفوَّض السامي:

قد أصدرتُ الأوامر إلى متصرِّف الموصل لكي يُرسل رؤساء شمَّر نجد وخصوصًا أولئك الذين اشتركوا في هذه الغارات … وقد وعد الشيخ عجيل الياور باسترجاع الأموال المنهوبة، وتعهَّد بقبول المسئولية عن وقوع الغارات في المستقبل.

ثم كتب معالي الوزير إلى متصرف الموصل كتابًا شديد اللهجة جاء فيه: «إن التأثير الذي ينجم عن هذه الغزوات يُغضِب ابن سعود، فإن لم تتخذ الإجراء المستعجل فأقل ما يُنتظَر هو حدوث غزوات جسيمة مقابلة لذلك١ … وممَّا لا يُطاق احتماله اتخاذ شمر العراقَ مركزًا لحركاتهم الحربيَّة على ابن سعود.» فالحكومة عازمة على اتخاذ التدابير لكَبْح جماحهم ولطردهم إذا اقتضى الأمر.

وكان قد كتب عبد المحسن بك إلى المفوَّض السامي يسأله إذا كان في وسعه «مساعدة الحكومة العراقية بالطيارات والسيارات المدرَّعة إذا كانت القوات الموجودة لديها غير كافية.»

ولكن عجز الحكومة العراقية لم يكن سوى مظهر من عجز حكومة الانتداب، وفي كتاب السر برسي كوكس، المؤرخ في ٢٧ أغسطس، إلى عظمة السلطان ما يُثبِت ذلك؛ فقد جاء فيه أنه، أي المفوَّض السامي، لم يقصِّر «في الإسراع إلى لفت نظر الحكومة العراقية إلى هذه الحركات السيئة من قِبَل رجال شمر نجد المقيمين داخل حدودها.» وأنه «سينظر مع الحكومة العراقية في أمر إمكان وضع دوريات منظَّمة في أطراف العراق لأجل منع حدوث مثل هذه الأمور.» وأنه «واثق من التمكُّن قبل مدة طويلة من القيام بضمانات وافية تُرضِي كلا الحكومتين، ومن اتخاذ تدابيرَ مِن شأنها أن تمنع العشائر من تكرار هذه الأعمال.»

ولكن «الدوريات» لم تُنظَّم في هذه السنة ولا في التالية لها. أما التدابير فقد عُقِد في سبيلها في الأشهر الأربعة الوسطى من هذا العام مؤتمر الكويت (١٣٤٢ﻫ /  ١٩٢٣-١٩٢٤م)، وفي خلال هذه الأشهر، أي من جمادى الأولى إلى شعبان، ساد شيء من السكون في البادية، وقامت مقام الغزوات حربٌ من الكلام في مدينة ابن الصباح.

كانت الحكومة الداعية، بواسطة وكيلها في أبي شهر الكولونل نوكس،٢ إلى هذا المؤتمر، وكان الغرض منه:
  • (١)

    البحث في المواد الباقية بين نجد والعراق ومن جملتها قبائل شمر الملتجئين إلى هذا القطر.

  • (٢)

    البحث في مسألة حدود نجد وشرق الأردن.

  • (٣)

    البحث — إذا شاء ابن سعود — في حلِّ المشاكل التي بين نجد والحجاز.

وقد قال الوكيل في كتابه إلى عظمة السلطان: «إن الحكومة البريطانية مستعدَّة أن تعرض الأمر على الملك حسين.» وإن غرضها من عقد هذا المؤتمر «هو إزالة سوء التفاهُم وحلُّ جميع المشاكل التي بين الممالك المتجاورة.»

قَبِل السلطان الدعوة على شرط أن تكون المفاوضات بين الوفد النجدي وكلِّ وفد آخر من الوفود على حدة؛ أي إن وفد العراق لا يشترك في مباحث شرقي الأردن، ولا وفد شرقي الأردن في بحث أمور العراق. قَبِل الوكيل هذا الشرط وأعلم به الحكومات الأخرى فحاز قبولها، وقد عُقِدت جلسة المؤتمر الأولى في ٧ جمادى الأولى سنة ١٣٤٢ /  ١٧ ديسمبر ١٩٢٣، فتلَتْها أربعُ جلسات، دار فيها البحث بين وفدِ نجد ووفد العراق، فتمَّ الاتفاق بينهم على بضع مواد تختصُّ بمعاقبة الذين يشنُّون الغارات في أطراف البلدين، وبكيفية المعاقبة وبطريقة المراسلة بين الحكومتين فيما يختص بالعشائر.

تمَّ الاتفاق أو كاد يتمُّ. فإن وفدَ العراق، ساعة التوقيع، طلب أن يُضاف إلى المعاهدة أنها لا تكون نافذة ما لم يتمَّ الاتفاق مع الحجاز، ولكنَّ الملك حسينًا رفض أن يُرسِل مندوبًا من قِبَله إلى المؤتمر، وقد قال في بادئ الأمر إنه لا يشترك في المفاوضات ما زال ابن سعود محتلًّا بلدةً واحدة من بلدان الحجاز.

رفض الوفد النجدي المادة الشرطية، وجاء في برقية رئيس المؤتمر الكولونل نوكس إلى حكومته «أنه لا يمكن البتُّ في شأن من الشئون ما لم يُوفِد الحجازُ مندوبَه.» ثم تأجَّل المؤتمر إلى ٨ يناير ليتمكَّن الوفدان من الرجوع إلى بلدَيهما ليستشيروا حكومتَيْهما في المسائل المختلَف عليها.

أما وفد شرقي الأردن فقد كان أشدَّ لهجةً وأكثر صراحة من وفد العراق، فظهرت في خطبِه اليد التي كانت تحركه، والروح — غير روح الأمير عبد الله — التي كانت مسيطرة عليه.

إن ظاهر الخلاف بين نجد وحكومة عمان هو الجوف وقريات الملح٣ فبعد مؤتمر العقير، عندما علم سموُّ الأمير بما كان من الاتفاق بين حكومة بريطانية العظمى والسلطان عبد العزيز بخصوص الحدود النجدية العراقية، أرسل قوةً احتلت القريات، فهمَّ السلطان بإخراج تلك القوَّة منها، فلجأ الأمير إلى الحكومة البريطانية التي طلبت إذ ذاك من ابن سعود أن يتوقَّف في الزحف إلى الجوف، ووعدت بتسوية المسألة بالوسائط السلمية. أما حادث الجوف هذا فقد كان من الأسباب التي عجَّلت في عقد مؤتمر الكويت.

قلت إن وفد شرقي الأردن كان أكثر صراحةً وجرأة من وفد العراق، فقد استهلَّ رئيس الوفد خطابه في إطراء صاحب الجلالة الهاشمية، والنهضة العربية، والحكومة البريطانية التي ساعدت في استقلال العرب، ثم قال: «إن شرقي الأردن هي من ثمار هذا الاستقلال، وإن الجوف وسكاكة وما يتبعهما هي لازمة له، هي ضرورية للمواصلات بين شرقي الأردن والعراق.» فيجب إذن أن تكون تحت إشراف حكومة الأمير.

وفي الجلسة الثانية كانت اللهجة أشدَّ والصراحة أعجبَ؛ فقد قال المندوب الأردني: إن الجوف وسكاكة وتوابعها هي من الأراضي السورية، التي تبدأ حدودها من مدائن صالح، وتنتهي عند بو كمال على نهر الفرات، وإن حكومة شرقي الأردن هي من سورية، فيجب أن يكون الجوف بأجمعه تحت إدارتها.

المندوب النجدي: «إن الجوف وسكاكة ووادي سرحان بأجمعه كانت تتبع التطوُّرات في نجد، بينما أن تشكيلات الأردن الإدارية لم تكن سوى أقضية تابعة للكرك والقدس، ولم يكن الجوف تابعًا لها إداريًّا أو سياسيًّا.»

ثم قال رئيس الوفد: «لا نوافق مطلقًا على اتصال حكومة شرقي الأردن بالعراق. ونطلب أن تكون حكومة نجد متصلة حدودها بسورية حتى تكون تجارتها آمنة. فحفظًا لكياننا الاقتصادي، وحمايةً لروحنا التجارية، نطلب أن يكون الاتصال بسورية أساسًا للاتفاق بيننا وبين شرقي الأردن.»

قلنا إن ظاهر الخلاف بين القطرين هو الجوف. أما الخلاف الحقيقي الجوهري فهو العداء المتأصِّل بين آل سعد والبيت الهاشمي، وقد صرَّح رئيس الوفد — بعد إطرائه جلالة الملك حسين — بما يأتي:

اسمحوا لي أن أصرِّح لحضراتكم بأنه إذا لم تتخلَّ حكومة نجد عن الجوف ووادي سرحان بأجمعه، وعن الأراضي الحجازية التي احتلتها، أي ترَبة والخرمة وخيبر وغيرها، وتجعل تحديد الحدود بين الحجاز ونجد على أن يكون الحدُّ الفاصل هو الصحراء القاحلة، فلا يمكن أن يحصل بيننا اتفاق.» عندئذٍ قال رئيس المؤتمر الكولونل نوكس: «لا يحقُّ لوفد العراق أو وفد شرقي الأردن أن يتكلَّم عن الحجاز … لأن سلطان نجد حينما قَبِل أن يشترك في المؤتمر اشترط شرطًا أساسيًّا قبلناه، وهو ألَّا يحق لحكومة من الحكومات أن تشترك في بحث ما يتعلَّق بالحكومات الأخرى.

توقفت المفاوضات بين نجد وشرقي الأردن كما توقَّفت سابقًا بين نجد والعراق. والسبب الأول في ذلك كما تبيَّن لنا هو الشرط الأخير الذي اشترطه وفدُ حكومة بغداد، والكلام الأخير الذي فاه به وفدُ حكومة عمان. وقد فاز في الحالين الملك حسين.

الملك حسين — وهو يومئذٍ في أَوْج مجدِه — أبى أن يشترك في المؤتمر، ولكنه نفَّذ إرادته في مُمثِّلي حكومتَي نجلَيه، فحالت السياسة الهاشمية دون الاتفاق وسلطان نجد.

وما كانت جلسات المؤتمر الأخرى لتغيِّر في هذه الحال أو تلطِّفها. فقد عاد وفدُ العراق يحمل قرار حكومته، وفيه ألَّا يمكنها أن تسلِّم شمَّر نجدٍ حالًا، وأنها غير مسئولة عن المنهوبات التي سبق تاريخُها تتويج الملك فيصل٤ وأنها لا تقبل بمبدأ إخراج العشائر الملتجئين إليها؛ لأن ذلك «يولِّد ارتباكاتٍ في الحدود العراقية مع سورية وتركية وإيران.»

ولكن مسألة العشائر هي في نظر حكومة نجد المسألة الجوهرية، فإذا كانت حكومة العراق لا تتخذ الوسائط الفعَّالة لتقضي على الحركات العدائية التي تقوم بها تلك العشائر المُجرِمة فالوفد لا يمضي مُلحَقًا أو معاهدة.

وما غيَّر وفد شرقي الأردن لهجته، ولا تنازل عن شيء من مطالبه. وقد اقترح رئيس المؤتمر استفتاء الأهالي في القريات، فقبل الوفد النجدي بذلك «على شرط أن يُعمَل بهذا المبدأ في الأماكن المتنازَع عليها بين نجد والحجاز؛ أي في تربة والخرمة.»

لم يقبل الوفد الأردني بذلك، بل طلب أن يكون الجوف ووادي سرحان منطقة حيادٍ بين القطرين، فرفض الوفد النجدي وانفضَّ المؤتمر، أو بالحري تأجَّل بعد اجتماعه الثاني إلى شهر شعبان  (مارس ١٩٢٤)؛ ليتمكَّن الرئيس من مفاوضة السلطان عبد العزيز، وقد كان يأمل أن يُغيِّر الملك حسين رأيَه فيرسل مَن يمثِّله في المؤتمر.

قد غيَّر الملك رأيه فعيَّن نجله الأمير زيدًا ممثِّلًا للحجاز، ولكنه لم يحضر. وبينما كان وفد العراق، الذي عاد للمرة الثانية يستشير حكومتَه قادمًا للمرة الثالثة إلى الكويت، خرج فيصل الدويش — وقد فرغ صبرُ عربانِه — غازيًا في أطراف العراق، فغضبتْ ولا غروَ الحكومة، وأمرت وفْدَها بالرجوع إلى بغداد، فلم يُعقَد لذلك الاجتماع الثالث.

لِيسمحِ القارئُ أن يشير المؤلِّف ها هنا إلى نفسه. قد كنت في هذه المدة على اتصالٍ مراسلةً بعظمة السلطان، وكنت فيما كتبتُه إلى عظمته ساعيًا في سبيل الوفاق بين البلدين، محبِّذًا عقدَ معاهدة نجدية عراقية أوسع نطاقًا ممَّا سبقها في العقير وفي المحمرة. وقد جاءني من عظمته كتابٌ أقتطفُ منه ما يلي:

أمَّا ما ذكرته عن الاتفاق مع حكومة العراق فقد كنت أرغب به من صميم قلبي … ولكن حكومة العراق لا تزال تعمل ضدَّنا في تأليف العصابات من مجرمي العشائر لمهاجمة رعايانا الآمنين، وقطع الطرق على القوافل … يعلم الله أن جلَّ مقصدي هو أن أعيش بسلام مع جيراني، وأن نتَّحد كلُّنا على ما فيه خير العرب، ولكن الأشراف لا يروقهم ذلك فحسبنا الله …

وفي كتابٍ من القصيم مؤرَّخ في ١٤ رمضان يقول:

قد جئنا القصيم لأمور لا بدَّ منها، ومنها الاستعداد للطوارئ، فقد عيَّنَّا عبد العزيز بن مساعد آل جلوي أميرًا في حائل، وجعلنا المنطقة الشمالية، بما فيه القصيم والجوف وخيبر، تحت إمرته، وزوَّدناه بالتعليمات الكاملة، والقوة الكافية، والصلاحية الواسعة، وبدَّلنا أيضًا أمير الجوف فعيَّنَّا محلَّه عبد الله بن محمد بن عقيل، وأصحبناه بما يلزم من القوة.

هذا جواب عظمة السلطان على مطالب سموِّ الأمير عبد الله وجلالة والده، بل هذي هي نتيجة مؤتمر الكويت.

١  قد تحقق كلام الوزير، بعد بضعة أشهر، في غزوة الدويش.
٢  Col. S. Y. Knox S. I. E. etc..
٣  قريات الملح تتألف من قريتَين كبيرتين؛ إحداهما كاف والثانية أثرى، ويتبعهما ثلاث مزارع، وفي أراضيها معادن ملح كبيرة يُشحن أكثر منتجها إلى حوران وجبل الدروز.
٤  قد قدمت حكومة نجد لائحة بالمنهوبات التي نُهِبت بعد توقيع معاهدة العقير؛ وفيها أسماء المعتدِين والمعتدَى عليهم، فبلغ عددُ مَن قُتِلوا من رعايا نجد سبعةً وعشرين رجلًا، وعدد ما نُهِب من الإبل ٤٦٠، وقيمة ما سُلِب من المال خمسمائة ليرة وأربعمائة ريال، ما عدا ٣٥٠ حملًا من الدهن ومائة حمل من البن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤