الفصل الرابع

الاستيلاء على القصيم

لم يغيِّر فوز ابن سعود في الخرج موقف الترك تجاه ابن الرشيد وابن الصباح، فظلُّوا يجافون هذا ويعلِّلون ذاك بالوعود. ومع ذلك فقد عاد ابن الرشيد إلى الحفر بعد تلك الهزيمة واستأنف الغزو، فأغار على عريبدار قُرْب الكويت، وعلى سبيع في الدهناء، وعلى عتيبة قرب الأرطاوية،١ ثم باشر محاصرة الكويت فأرسل الشيخ مبارك يُعلِم «ولده» عبد العزيز بذلك ويستنجده. والدهر في الناس قُلَّب … فقد صار منجِدًا مَن كان بالأمس مستنجِدًا.

وكان عبد العزيز بعد شهرٍ أقامه في الرياض قد غزَا عرب مطير في الصمان، وعتيبة في عِرق رَغبة بين الوشم وجبل طويق. ممَّا يدل على أن النزعات أو المصالح بدأت تشقُّ القبائل فصار قسمٌ منها يدين لابن سعود، وقسم لابن الرشيد، فيَغير هذا على عتيبة مثلًا السعودية، ويَغير ذاك على عتيبة الموالية لابن الرشيد.

لبَّى عبد العزيز دعوة الشيخ مبارك فسار فزعًا إلى الكويت بجيش لا يقلُّ عن العشرة آلاف، وهو الذي خرج منها بأربعين ذلولًا أجرب منذ سنتين. فرحبت الكويت به وهلَّلت له، وانضمَّ منها إلى جيشه ما كان قد جنَّده مبارك بقيادة جابر بن الصباح، ثم خرج الاثنان جابر وعبد العزيز غازيَين طالبَين ابن الرشيد.

زحف هذا الجيش الجرار المؤلَّف من قبائل الحساء كلِّها — من العجمان وآل مرة وبني خالد وبني هاجر والعوازم والمناصير وسبيع والسهول — البالغ عدده أربعة عشر ألفًا، منهم أربعة آلاف خيَّال، ووجهتهم الحفر، ولكنهم أُخبروا في الطريق أن ابن الرشيد قد عاد إلى بلاده، فهجموا لذلك على مطير في الصمان، فذبحوهم عن بكرة أبيهم، وغنموا أموالهم وأرزاقهم كلَّها، «ذبحناهم وأخذنا حلالهم (أمتعتهم)!»

على أن حلاوة هذا النصر لم تَدُم طويلًا. فقد بلغهم عندما وصلوا إلى ماء طوال الخبر اليقين وهو أن ابن الرشيد — الذي يُحسن مثلهم الخدعة — لم يرجع إلى بلاده، بل زحف إلى الرياض يبغي محاصرتها. وقد مرَّ في طريقه بعربان من السهول فضربهم وضمَّهم إلى جيشه (١٣٢١ﻫ / ١٩٠٣م)، ثم تقدَّم مسرِعًا وهو ينوي أن يُفاجئَ العاصمة بالهجوم ليلًا عليها، فلما دنا منها عسكرٌ عند ضلع يُدعَى أبا أُم خروق٢ دون أن يعلم بذلك أحدٌ من أهل المدينة، ولكنه عندما مشى إليها، وأصبح في ظلال نخيلها، شرَد رجل من السهول المكرَهين ودخل يصيح بالناس: العدو قرب منكم! العدو عند السور!

نهض إذ ذاك الإمام عبد الرحمن بأهل الرياض للدفاع، فخرجوا على ابن الرشيد ونازلوه خارج السور، فردوه خائبًا، فنقل بعد ذلك معسكره من بمخروق إلى نخيل يبعد ساعة عن المدينة، وأقام هناك ثلاثة أيام دون أن يأتي بحركة.

ثم بلغه أن عبد العزيز بن سعود زاحف إلى القصيم، فشدَّ الرحال مُسرِعًا ومشى إلى الوشم عن طريق ضرمة. وكان الإمام عبد الرحمن قد أرسل سرية٣ بقيادة مساعد بن سويلم فاستولت على المحمل والشعيب، ثم زحفت إلى شقرا التي كان فيها أمير لابن الرشيد اسمه الصوَيغ. فلما دنا مساعد من البلد رحل الصويغ إلى ثرمدا، فاستولى مساعد على شقرا برضا أهلها، ثم هجم على ثرمدا فأدرك الصويغ فيها، فقتله، وألقى القبض على العنقري أميرها وأرسله إلى الرياض.

ولم يكن ابن الرشيد بطيئًا في تعقُّبه ابن سويلم؛ فقد هجم عليه في ثرمدا فأخرجه منها، فراح يتحصَّن في شقرا، فتقفَّاه وحاصره فيها.

figure
الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز (في الوسط) عندما زار لندن المرة الأولى.

أما عبد العزيز بن سعود فقد عاد بعد غزوة مطير إلى الكويت، فجاءه وهو هناك البشير من والده يُخبره بهزيمة ابن الرشيد في هجومه على الرياض، فاطمأن بالُه واهتمَّ في نقل عائلته التي كانت لا تزال في الكويت فعاد بها إلى نجد.

وما كاد يصل إلى العاصمة حتى علم أن ابن الرشيد محاصر لشقرا وفيها مساعد بن سويلم، فاستراح يومًا واحدًا وشدَّ للنجدة. ولما وصل عبد العزيز إلى حريملاء علم ابن الرشيد بذلك ففك الحصار ورحل إلى الغاط.٤

استمر عبد العزيز زاحفًا إلى شقرا فاحتلَّها، ولكن سرية ابن الرشيد بقيادة حمد العسكر أمير المجمعة كانت لا تزال في ثرمدا، فأرسل عليها عبد الله بن جلوي، فأعطى عبد الله أهل البلد الأمان، فأبَوا إلَّا القتال فقاتلهم ودحرهم. أما السرية فتحصَّنت في القصر، فأمر عبد الله بمهاجمتها ليلًا، فكانت النتيجة أن قُتِل عددٌ منها ولاذ الآخرون بالفرار.

عندما سلمت ثرمدا إلى عبد الله بن جلوي رحل ابن الرشيد من الغاط ورحلته القصيم، ولكنه ترك سريَّتين في سدير، الواحدة في المجمعة والأخرى في الروضة، فأرسل عبد العزيز سريةً عليهما بقيادة خاله أحمد السديري، فنازلت سرية الروضة فدحرتْها واستولت على البلد، ثم مشت في سدير ظافرة، فاستولت على بقية بلدانه ما عدا المجمعة التي حافظت على سيادة ابن الرشيد فيها، وقد دافعت عنها دفاعًا شديدًا، ولكن عبد العزيز قنع يومئذ بما حاز من النصر فترك سريتَين أخريَين، الواحدة في الروضة والثانية في جلاجل، وأمَّر السديري في شقرا، ثم عاد إلى الرياض.

كل هذه الحوادث — هذه الغزوات والغارات — حدثت في سنة واحدة بعد سقوط الرياض، فلم يكن عبد العزيز وسميُّه الشمري ليستريحَا إلَّا قليلًا في الفترات القصيرة التي هي هدنات اضطرارية.

عاد ابن سعود بعد فوزه في الوشم وسدير إلى الرياض، ولم يكد يتم الشهر هناك حتى جاءته أخبار ابن الرشيد وفيها أنه خرج من القصيم غازيًا، وقصده الهجوم على عتيبة وقحطان (بعد استيلاء ابن سعود على سدير والوشم أصبحت هاتان القبيلتان من قبائله)، فحاصر التويم قرية من قرايا سدير.

خرج ابن سعود مُسرِعًا من الرياض، وكان قد أمر أهل الوشم بأن يبادروا مع أحمد السديري إلى إنجاد سدير. فلما وصل إلى ثادق علم أن ابن الرشيد لم يَفُز بشيء في غزوته وحصاره، بل إنه انهزم وشرَّق فنزل ماءً شمال الأرطاوية. أما المجمعة قاعدة سدير فكانت لا تزال في حوزته وله سريَّة فيها.

سار ابن سعود من ثادق إلى جلاجل فأقام فيها عشرين يومًا وهو يُعِد القوة للحرب في القصيم، فبلغه وهو هناك أن ابن الرشيد قد عاد إلى تلك الناحية مارًّا بالزلفى، فزحف بجيشه إلى المجمعة، واتفق وأهلها على التسليم إذا هو استولى على القصيم.

قد كان جيش ابن سعود مؤلفًا يومئذ من سبعة آلاف من المشاة وأربعمائة ذلول لا غير، فمشى به إلى الغاط ثم إلى الزلفى، فكتب من هناك إلى الشيخ مبارك يسأله أن يُرسِل إليه مَن كان عنده من أهل القصيم، مثل آل الخيل وآل سليم، وما يستطيعه من المدد، فأرسل مبارك أولئك الذين لاذوا بالكويت بعد وقعة المليدا ومعهم مائتان من الرجال فقط.

وكانت تلك السنة قليلة الأمطار، فضاق العيش بسكان الزلفى وبالتالي بالجيش، فصاروا يأكلون حتى رءوس النخل؛ أي لبَّها. لم يكن بالإمكان السير إلى بُريدَة لقلَّة الزاد والركائب، ناهيك بالطريق وليس فيه بلد يأوون إليه. أضف إلى ذلك أن ابن الرشيد كان مستوليًا على القصيم أجمع، فماذا عسى أن يفعل ابن سعود؟ قد كتب إلى بعض الموالين له هناك يطلب منهم أن يؤلِّفوا سريات تهجم على بعض البلدان تمهيدًا لدخوله — تفتح له الباب — فلم يلبُّوه. ولما تيقَّن أنه لا يستطيع الهجوم على القصيم، ولا البقاء في الزلفى لشدة القحط، وضيق العيش فيها، عاد إلى الرياض.

أما ابن الرشيد فرحل من القصيم قاصدًا البطينيات علَّه يظفر هناك ببعض عربان ابن سعود، فأقام على ذاك الماء عشرة أيام وأرسل أربعمائة من رجاله بقيادة ماجد آل حمود بن الرشيد إلى جهة عنيزة، وثلاثمائة بقيادة حسين بن جراد إلى السر، ثم انحدر إلى أطراف العراق ليستنفر شمرًا هناك ويستنجد بالأتراك، فلما علم ابن سعود بارتحال ابن الرشيد إلى العراق شدَّ مُسرِعًا من الرياض (١٣٢١ﻫ / ١٩٠٣م)، وواصل السير بالسرى، فالتقى في ١٨ ذي الحجة من هذا العام بحسين بن جراد في السر، وبادره القتال، فقتله وأكثر مَن معه، وغنم أموالهم وأرزاقهم كلَّها.

تُدعَى هذه الوقعة بوقعة ابن جراد. وقد كان من نتائجها أنها قسمت قبائل حرب المقيمة بين السر والقصيم، والتي كانت كلُّها تابعة لابن الرشيد، فانحاز قسمٌ منها بعد الوقعة إلى ابن سعود.

عاد بعد ذلك عبد العزيز إلى الرياض، فأقام فيها شهر ذي الحجة، ثم مشى في آخر الشهر إلى الغرض الأكبر، فأرسل إلى أهل القصيم في شقرا يأمرهم بأن يوافوه إلى ثادق؛ لأنه يريد أن ينحدر إلى الكويت.

شاع هذا الخبر، فترك عبد العزيز ثقيل أحماله في قصر الجريفة من قصور الوشم، وراح بجيشه يدرهم قاصدًا ماجد بن الرشيد في القصيم، فلما وصل إلى ماء الشريمية في وسط النفود عَلِم بعضُ مَن كان معه من البادية أنه يريد ابن الرشيد فشردوا، فما بالَى ابن سعود بذلك، بل استمر مُسرِيًا، فضلَّ الدليلُ وتاهوا في النفود طيلة ذاك الليل، ثم خرجوا منه فإذا بكشافة لماجد على حواشيه.

نزل ابن سعود في ذاك النهار قصر الحميدية من قصور عنيزة، على مسير أربع ساعات منها، وتقدَّم ساعة الغروب فوصل إلى نخل من نخيل المدينة، فعسكر هناك وأمر مَن كان معه من أهل القصيم، وفيهم آل سليم، أن يهجموا على أهل عنيزة في تلك الليلة، قد كان يومئذٍ بعض الزعماء فيها، مثل آل يحيى وآل بسام مع ابن الرشيد وعندهم سرية من سراياه رئيسها فهيد السبهان. أما ماجد فكان نازلًا قربَ المرَيبط وهو باب من أبواب المدينة.

عندما هجم أهل القصيم على عنيزة اصطدموا بطلائع ابن الرشيد من أهلها ومن شمر، فتلاحم الفريقان، فقُتِل فهيد السبهان وما سلَّمت رجاله، فطلب السعوديون المَدَد، فأرسل عبد العزيز مائتين من رجاله بقيادة عبد الله بن جلوي، وكان عبد الله قد اشتُهر بالبسالة والبطولة، فلما سمع أهلُ عنيزة بالنجدة التي جاء يقودها سلَّموا حالًا إلى آل سليم.

أما ابن سعود فركب بعد أن صلَّى الفجر على رأس سرية من الخيل، و«نحر» المكان الذي كان فيه ماجد بن الرشيد. فلما رأى ماجد خيل ابن سعود لاذَ بالفرار، فتعقَّبه واستولى على مركزه بعد أن قتل أكثر قومه وفيهم أخوه عبيد.

ثم عاد ماجد ومعه بضعٌ وعشرون من الخيل والركائب، وفيهم نفرٌ من آل سعود الذين كانوا منفيِّين في حائل، جاء بهم ليردَّ العدو المنتصر؛ لأنه إذا عرفهم، وهم من آل سعود، قد يمتنع عن القتال فلا يُقتَل أحد منهم، ولكن عبد العزيز عندما عرف أهله — قد دُعوا منذ ذاك اليوم «العرايف»٥ — أمر بعقر خيلهم ليتمكَّنوا من خلاصهم. وكذلك كان. فقد فازوا يومئذٍ بعد عقر الخيل أثناء المعركة بسعود بن عبد العزيز وسعود بن محمد وفيصل بن سعد، فخلصوهم من القتل ومن الأسر.

١٣٢٢ / ١٩٠٤: وفي ٥ محرم من هذه السنة (٢٣ آذار) بعد اندحار ماجد بن الرشيد وفراره إلى حائل، تمَّ فتح عنيزة، فدخلها ابن سعود، وأقام فيها بضعة أيام، ثم شدَّ على بُريدَة فسلَّم أهلها، ولكن أمير ابن الرشيد والحامية فيها تحصَّنوا بالقصر فحاصرهم ابن سعود فثبتوا شهرين في الحصار، ثم سلَّموا في ١٥ ربيع أول، فتمَّ في تسليمهم الاستيلاء السعودي على بُريدَة وعنيزة، وبالتالي على القصيم أجمع.

١  لم تكن تأسَّست هناك البلدة أو الهجرة التي تُدعَى بهذا الاسم.
٢  أهل نجد يلفظونها بمخروق، وهذا الضلع هو على مسير ساعة من الرياض، وفيه غار يخرج إليه الملك للنزهة.
٣  السرية من مائة إلى الخمسمائة خيَّال.
٤  الغاط من بلدان سدير وهي تبعُد عن المجمعة قاعدة تلك الناحية عشرين ميلًا.
٥  إذا خسر البدو في الغزو جِمالهم ثم استعادوها فهم يسمُّونها العرائف — مفردها عرافة — أي المعروف، فأطلق ابن سعود الاسم على أبناء عمِّه هؤلاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤