الفصل الخمسون

المناجزات والمكالمات

قبل أن نسرد المهم من حوادث هذه السنة، سنة الحصار، أي بعد ظهور الإخوان للمرة الأولى في سهل جدة إلى يوم التسليم، يجب أن نحيط القارئ علمًا بقوَّات الفريقين وبخططهما الحربية.

عندما بُويِع الأمير علي بالملك — بعد تنازل الملك حسين — أرسلت الحكومة الهاشمية إلى الأمير عبد الله في عمان أربعين ألف ليرة ليبذلها في التجنيد، وفي شراء العِدَد الحربية من أوروبة، خصوصًا الطيارات والسيارات المصفَّحة.

١٣٤٣ﻫ / ١٩٢٤-١٩٢٥م: باشر الأمير التجنيد بمساعدة بعض الزعماء بفلسطين، فجاءت فرقة المتطوِّعين الأولى في ربيع الأول من هذا العام، كما أسلفنا القول، وتلتْها فرقات أخرى حتى بلغ الجند النظامي نحو ألف جندي يوم كنت هناك، ثم جاء في شهر رجب فرقة عددُها مائتان وثلاثون، وفي رمضان فرقة أخرى عددُها خمسمائة.

ولكن هذا الجيش كان معرَّضًا لعاملين مستمرين في تنقيص عدَدِه هما المالاريا والدزنتاريا، ثم الوفيات والإصابات في المناجزات. والذي يُقال في النظام يصحُّ في البدو، وعددهم في أعلى درجة لم يتجاوز الألف والخمسمائة مقاتل.

أما المال فلم يكن للحكومة — بعد أن نفدت خزينتها — غير مصدر واحد هو الحسين في العقبة؛ فقد جاءت «الرقمتين» في شهر رجب تحمل صندوقَين فيهما خمسة عشر ألف ليرة، وجاءت في رمضان بخمسة آلافٍ أخرى، ثم في شوال أبحرت «رضوى» من العقبة وهي تحمل لمساعدة الجيش عشرين ألفًا من الذهب. وفي هذه الأثناء فرضت الحكومة على التجار قرضًا قيمته اثنا عشر ألف ليرة.

ثم نقل الحسين من العقبة — بعُد عن جدة والبُعْد جفاء — فلم يُرسل بعد ذلك غير دفعة واحدة صغيرة؛ أي خمسة آلاف ليرة. فأخذ العسر المالي منذ ذاك الحين يشتد يومًا فيومًا، حتى اضطر الملك علي في صيف هذا العام أن يرهن أطيانه الخاصة في مصر لقاءَ قرض قيمته خمسة عشر ألف جنيه.

ومع أن مجموع ما صرف في سنة واحدة من الحرب لا يتجاوز المائتي ألف ليرة، فلولا الإسراف — والاختلاس — في شراء العِدَد الحربية والذخيرة لكان العسر المالي أخف على الملك وحكومته. لا نذكر غير مَثَلٍ واحد من الفحش في أرباح الوكلاء والسماسرة. فقد دفعت الحكومة سبعة آلاف ليرة إنكليزية ثمن ثلاث طيارات قديمة جاءتها من لندن، وهي لا تساوي بالأكثر غير ألف وخمسمائة ليرة. قبل أن جاءت هذه الطيارات كان عند الحكومة الهاشمية خمس إيطاليات لا يصلح منها للعمل غير واحدة، ثم جاءها من ألمانية في الصيف ست طيارات جديدة تحمل الواحدة من البنزين ما يكفيها لتطير ستَّ ساعات، وهي مجهَّزة بالمدافع الرشاشة، ومعها قنابلها الخاصَّة بها.

أما الطيارون فقد كانوا في أول الحرب روسيين من الحزب القيصري، وكانوا في آخرها من الألمان، ولكن فترة تخلَّلت مجيء هؤلاء وذهاب أولئك فتوقَّفت فيها حركة الطيران. وهناك أسباب أخرى لِما كان في هذا السلاح الحربي من النقص وعدم الكفاءة. فالطيار الأجنبي حريص على حياته فلا يطير واطئًا ليصيب إذا رمى، أو ليرى إذا طار مستكشفًا. ولم يكن لدى القيادة العامة في بادئ الأمر قنابل خاصة، فاصطنعت من القذائف ما لا تأثير كبير لها، اللهم إذا انفجرت طبق الحساب، ولكن أكثرها كان ينفجر قبل أو بعد الوقت المعين. ناهيك بالبنزين فلم يكن لدى الحكومة دائمًا الكمية الكافية منه. وقصة المصفَّحات شبيهة بقصة الطيارات من وجهين؛ هما غلاء الثمن وقلة الفائدة، فالسيارات الخمس الأولى التي خاضت معارك الحرب العظمى، جاءت وصفائحها مفكَّكة، فظلَّ العمال في «الورشة» يشتغلون شهرًا في تأليفها وتركيبها. وهي لا تسير غير ساعتين سيرًا متواصلًا فتحتاج إذ ذاك إلى الماء. أما الاثنتان اللتان جاءتَا بعدئذٍ فجديدتان هما، ومجهزتان بالرشاشات. وقد كانت القيادة تبني عليهما آمالها العالية.

ولكن السيارات التي أفادت أكثرَ من سواها هي تلك النقَّالة من صنع «فُرد» فكانت تنقل الذخيرة من المدينة إلى القشلة وإلى الخط، وتنقل الجنود المصابين بالمالاريا والدزنتاريا، وبعدئذٍ الجرحى من الخط إلى المستشفى في المدينة.

أما المدفعية فقد كان في الاستحكامات — يوم كنت في جدة — اثنا عشر مدفعًا صغيرًا وكبيرًا، وعشرة رشاشات كلُّها صالحة للعمل، ثم جاء من ينبع ومن العقبة مدافع أخرى صحراوية وجبلية واثنا عشر رشاشًا، وجاء من ألمانية مع المصفَّحتَين عشرة رشاشات وألف وخمسمائة بندقية مع حرابها، فأصبح على الخطِّ نحو عشرين مدفعًا وأكثر من ثلاثين رشاشًا.

وقد كان لدى الجيش الهاشمي القنابل الكشَّافة التي تُنِير المكان الذي تنفجر فيه، كما أنه استخدم الأنوار الكشافة لكشف حركات العدو في الليل. أضف إلى ذلك كلِّه ما وُضِع عند أبواب خط الدفاع أمام الأسلاك الشائكة من الألغام، ثم الأسلاك نفسها.

وقد مدَّت هذه الأسلاك على عُمُد من خشب طولها متر واحد في خطٍّ مفرد من البحر شمالًا إلى الكُندرة شرقًا بجنوب، ومنها جنوبًا ثم غربًا بجنوب إلى البحر، فبلغ طوله في هذا الشكل — شكل الهلال — نحو ستة أميال، ثم حُفِرَت وراء الشريط الخنادق، وأقيمت الاستحكامات، وبين الخنادق ووراءها رُبًى ومكامن استُخدمت للكشف والدفاع. وقد قُسِّم هذا الخط إلى مراكز ستة، مرتبطة كلُّها بواسطة الهاتف بالقيادة العامة في القشلة. وهذه المراكز هي أبو بصيلة، والشرفية، والكندرة، والمشاط، والعقم، والطابية اليمانية. فالطابية هي جناح الجيش الأيمن وأبو بصيلة جناحه الأيسر.

وهناك خارج الخط النزلة اليمانية، وهي قرية مهجورة على مسافة ميلين من جدة إلى الشرق الجنوبي، وفيها حامية من البدو صغيرة، مائة نفر لا غير، ونزلة بني مالك على مسافة ميلين من جدة إلى الشمال الشرقي، وفيها حامية أخرى صغيرة من البدو، ثم الرويس وهي أقرب القرى إلى جدة من الشمال.

هذي هي قوات الجيش الهاشمي وعُدَده في الدفاع، أما عُدَد الجيش النجدي فقد كانت محصورة بالمدفعية والبنادق والرشاشات. إن في القصر بالرياض مدافع كثيرة من أنواع مختلفة، ولكن السلطان عبد العزيز لم يأمر بجلب شيء منها إلى الحجاز. أما المدافع التي استخدمها في هذه الحرب فقد غنم جيشه بعضها في الطائف والهدى، ووجد أكثرها في مكة، وكلها صالحة للعمل. وهي من المدافع الصحراوية والجبلية من عيار >٦ و>٧، وعددها لا يقل عن العشرين مدفعًا، كانت تظهر تدريجًا، أو بقدر ما يمكن الاستعمال منها في وقت واحد. وكان لدى الجيش النجدي رشاشات كثيرة وكمية وافرة من الذخيرة وجدوا أكثرها في قلعة جياد بمكة.

أما الجنود فقد كانت القوة في المعسكر يوم الزحف الأول أربعة آلاف، والقوة الزاحفة مثلها، وفيها من الإخوان الغَطغَط، وأهل ساجر، وأهل دُخنة، وقحطان، والداهنة، ورُكبة، وغيرهم. وفيها من الحضر ألوية من أهل القصيم وأهل العارض.

ثم جاء في رمضان فيصل الدويش أمير الأرطاوية بجيش من مطير، وتلاه أهل سبيع والسهول، وبعد هؤلاء وصل الأمير فيصل عائدًا من نجد بنجدة كبيرة فبلغ عدد الجيش في الجبهة ووراءها نحو عشرة آلاف. أضف إلى ذلك الجنود الذين كانوا محاصِرين المدينة والسرايا التي كانت مرابطة حول ينبع والوجه والعلاء، فيدنو مجموع الجيوش النجدية في الحجاز من الاثني عشر ألف مقاتل.

وقد كان توزيع الجيوش في جبهة جدة على الشكل الآتي: عسكرت فرقة الغطغط في الجناح الأيمن (جناح الحجاز الأيسر)، وأهل دخنة في الجناح الأيسر (جناح الحجاز الأيمن)، وأهل ساجر في جبهة معاونة للجناح الأيسر، وعسكر في القلب لواء قحطان من الهياثيم، ووراء هؤلاء كلهم سرية من الخيَّالة، ثم التحق بهم الجيش الذي كان في اليمن من أهل الداهنة ورُكبة، فأصبح في الجبهة نحو أربعة آلاف مقاتل.

مشى هذا الجيش من مكة ومعه الأوامر بأن يحيط بجدة ويهاجم خطَّ الدفاع فيناوش الجنود هناك. أما الهجوم بقصد اختراق الخط والدخول إلى المدينة فلم يكن ليقدُمَ عليه بدون إذن من القيادة العليا. مشى بموجب أوامره، فاحتلَّ في أواخر جمادى الثانية النزلة اليمانية، ونزلة بني مالك، والرويس، ولكن الإخوان الذين احتلوا النزلة اليمانية أخلوها مرتين بعد وقعات مع جنود الحجاز، ثم عادوا فاستولوا عليها. وبعد أن خُرِّبت — ضربها تحسين باشا بالمدافع وحرق الإخوان قسمًا منها — أخلاها الفريقان.

على أن الإخوان ظلُّوا مرابطين في الجبهة الجنوبية أمام الجناح الأيمن من خط الدفاع، وقد اصطدموا مرارًا بمفرزات من الجيش الهاشمي كانت تخرج تارةً للكشف وطورًا لاحتلال آبار الماء في تلك الناحية.

وبعد أن استولى الإخوان على هذه المراكز خارج خط الدفاع تقدَّموا في العراء وباشروا حفر الخنادق، ثم أقاموا عندها استحكامات حصنوها بأكياس من الرمل، فصاروا يحاربون الجنود النظامية بالرشاشات والبنادق معًا. هي أول مرة على ما نعلم حارب الإخوان بطريقة منظَّمة حربَ الخنادق. وكانت قد بدأت في آخر جمادى الثانية حرب المدفعية أيضًا، فلم يتفرَّد فريق من الفريقين بالمفاجآت.

figure
رسم خطِّ الدفاع وما دونه من مراكز الجيش النجدي، وقد نُقِل قسم من المدفعية بعدئذٍ إلى نزلة بني مالك والرويس.

ولكن الحكومة الهاشمية في هذا الشهر خسرت فيما سيَّرت للدهش والإرهاب خسارةً تُعَد في البلاد العربية جسيمة. ففي أصيل اليوم الثالث والعشرين من جمادى الثانية طارت الطيارة التي كان يسوقها الطيار الروسي «تشاريكوف» وفيها المراقب الضابط اللاذقي، والكاتب عمر شاكر الذي دخل إلى المطار خلسة، كما قالت القيادة العامة، فحشر نفسه مع الضابط السوري في مجلس واحد. وقد نَزَا بشاكر قلْبُه إلى ضرب الإخوان من عليٍّ ولو بقنبلة واحدة، فعندما دنوا من المعسكر في الرغامة انفجرت القنبلة في الطيارة وهي تعلو نحو ألفين قدَم عن الأرض فتحطَّمت في الجو، وقد شاهدناها من القشلة تطيح ومَن فيها بين يدي الموت والفناء. ذهب هؤلاء الثلاثة ضحية الإهمال في تنفيذ الأوامر العسكرية. وكان تشاريكوف الطيار الروسي الثاني الذي مات هذه الميتة الفظيعة في الحجاز؛ أما الأول فهو الذي طار إلى الطائف عندما دخلها الإخوان، فسقطت طيارته بينهم، فكانت خاتمة الوجود له ولها محزنة مرعبة.

لنَعُد إلى حرب الإخوان، الذين كانوا يهجمون غالبًا في الليالي المظلمة؛ وذلك لغرضين: ليُلقوا في قلوب الأهالي الرعب والذعر فينهضون على الحكومة أو يهاجرون؛ وليحملوا الجنود على الإسراف بالذخيرة. وقد نجحوا في هذه الخطة بعض النجاح. على أنهم كانوا يهجمون غالبًا هجمات هوجاء، مستبسِلين مُستشهِدين، فلم تُصرَف عبثًا في كلِّ حال ذخيرة الجنود الهاشمية. وقد كانوا يقربون جدًّا من الخط، حتى إن رصاص بنادقهم وقع قرب قصر الملك، وحتى إنهم قطعوا بعض الشريط وأخذوه إلى المعسكر العام.

أما الأهالي فقد كان الرعب سَمِيرَهم، والذُّعْر جليسهم في تلك الليالي؛ لأنهم جهلوا القصد الحقيقي من الإغارات، فظنوا أن الإخوان يحاولون اختراق الخط؛ لذلك كانوا يسمرون كلَّ ليلة ليلاء على أنغام الرشاشات والبنادق وهم يقولون: الليلة يدخلون البلد.

على أنهم كانوا يشاهدون لأول مرة أشياء جديدة في هذه الحرب البدوية الفنية معًا، خصوصًا عندما كانت المدافع تُطلق على العدو القنابل الكشافة فتُنير في سهل جدة ظلماتٍ تبدو هنيهة كالأقمار المكسرة. ناهيك بالأنوار الكشَّافة التي كانت ترسل في ذاك السهل أسهمًا بيضاء من أشعتها، فيهتدي بها الإخوان إلى طريقهم — إلى الأبواب في الأسلاك الشائكة، وإلى الألغام! — وإلى الواقفين في الخنادق. هناك كنت تسمعهم ينادون: «يا إخوانًا يا أهل الشام، ويا شمر، ويا حرب، ويا عقيلات، اخرجوا من الخط وأنتم في وجه الله ووجه ابن سعود. لا تخافوا. والله ما نريد لكم غير الخير، تعالوا إلينا ونحن إخوانكم والله بالله!»

ولكن كثيرين من أولئك الجنود كانوا يحاربون عملًا باعتقادهم أن النهضة العربية لا تقوم إلَّا بالبيت الهاشمي، أما الآخرون الذين اصطيدوا في عمان والعقبة، والذين جاءوا جدة مرتزقين فقد كانوا بين نارَين، ولم يكن لهم يومئذٍ أن يختاروا أصغر الشرَّين.

وإلى القارئ، إتمامًا لصورة الحوادث في تلك الأيام والليالي، أمثلة نأخذها من التقارير الرسمية:

تعرَّضت قوة من البدو على جناحنا الأيسر في الساعة الخامسة (١١ إفرنجية) من الليل فأصلَتْها مدافعنا ورشاشاتنا نارًا شديدة، فانهزمت من حيث أتت تاركةً عددًا من القتلى.

بدأت مدافع العدو ساعة الفجر بالرمي المعتاد فقابلتها مدافعنا قدر ساعتين وأسكتتها.

طارت الطيارة الساعة ١ صباحًا لضرب معسكرات العدوِّ وموضع مدافعه، فألقت أربع قنابل وعادت.

وهاك أمثلة من تقارير القيادة النجدية:

في هذه الليلة سرت طائفة من جندنا إلى حدود العدوِّ، فأطلقت عليه النار فظنَّ أن الإخوان يهاجمون على طول الجبهة، فأخذ يوالي إطلاق المدافع والرشاشات والبنادق من جميع المراكز، واستمر كذلك ثلاث ساعات دون أن يُصيب أحدًا من المهاجمين.

أخرجت القيادة الهاشمية مفرزة لكشف مراكز الإخوان فخرجوا من مكامنهم إليها، وأعملوا فيها النار؛ فسقط منها سبعة قتلى وفرَّ الباقون.

كذلك في شهرَي رجب وشعبان كانت تُحيَا الليالي المظلمة بين المتحاربين. أما في النهار فقد استعرَت بينهما حربُ المدفعية التي استغوت في بادئ أمرها أهلَ جدة، فكانوا يسارعون إلى خارج السور ليشاهدوا قنابلها تنفجر عند الأسلاك الشائكة، وفي أطراف السهل بظلِّ الجبال.

هناك شرقي الكندرة وعلى طريق مكة نُصِبت المدافع السعودية في الأشهر الأولى من سنة الحصار. فكانت تصل قنابلها في البدء إلى ما بين مائة ومائتي متر من الأسلاك، ثم داخل الأسلاك وهي تنقل إلى الأمام بعد حفر الخنادق، ثم عند سور المدينة، ثم داخل السور، فحُرِم أهل جدة إذ ذاك مشاهدة نارها، ولكنهم لم يحرموا مفعولها. وقد كانت مسافة الرمي تتراوح بين الثلاثة والأربعة أميال.

حلَّقت القنابل فوق خط الدفاع فتساقطت في قلب البلد، وقد أصيب مرتين بيت الوكالة البريطانية، فاخترقت قنبلةٌ جدار غرفة النوم وقنبلة دخلت مكتب الوكيل. وقد أُصِيب أيضًا بيت وكالة السوفييت فتكسَّر العلَم فوق السطح. واستمرت تتقدم في تقدُّم المدفعية حتى وصلت إلى الطرف الغربي من المدينة، أي إلى شاطئ البحر، فزارت القنصلية الإفرنسية وتفجَّرت في مخيَّم الهلال الأحمر!

عندما أصيبت الوكالة البريطانية والوكالة الروسية عقَد القناصل مجلسًا للبحث في المسألة، فقرَّروا أن يظلوا رغم هذه الحال على الحياد. وقد أبرق رئيس الهلال الأحمر إلى الجمعية المركزية في القاهرة يستأذن بالرحيل، فلم تأذن الجمعية بذلك.

كان الضرب يبدأ صباحًا فيصلِّي الفريقان الفجر ويتبادلان بالقنابل السلام ساعتين أو ثلاث ساعات، ثم يُستأنَف العمل بعد الظهر فيستمر حتى غروب الشمس، فيوكل إذ ذاك كبيرُ المخربين بالوداع: وهذه قنبلة من «الأوبوس» يا إخوان! وهذه من عيار >١٢ يا أيها الشوام!

عندما اشتدت هذه الحرب المدفعيَّة في شهر رجب وشعبان، نصب النجديون مدفعًا في الرويس، فصارت قنابلهم تقع في الجهة البحرية من المدينة وفي قلبها، فجُرح وقُتل عدد من الناس، واستولى الرعب على الأهالي فشدَّ كثيرون منهم للرحيل. بدأت الهجرة إلى سواكن ومصوع وعدن في المراكب التجارية، ثم طفق الناس يرحلون في السنابيك إلى الليث، ومنها يرجعون إلى مكة، وكانت الحكومة راضية بهذه الهجرة لما فيها من التوفير بالماء والزاد للجنود.

على أن تلك الحرب المدفعية التي كان يتفرج أهل جدة عليها ثم صاروا يفرون منها، وتلك المناوشات في ظلمات الليالي، لم تكن غير مقدمات للوقعة الكبيرة التي يجب أن تُدعَى بوقعة المصفَّحات. وهي المرة الأولى والأخيرة التي برز فيها في رابعة النهار القسم الأكبر من الجيش الحجازي لمنازلة الإخوان.

في ضحى اليوم الثامن عشر من شعبان (١٤ مارس ١٩٢٥) شرع الخط يُطلق مدافعه الكبيرة والصغيرة على الرويس، وبعد نصف ساعة من هذا الضرب الشديد المتواصل خرجت خمس مصفحات من بوابة الكندرة فسارت ثلاثٌ منها تجاه نزلة بني مالك واثنتان تجاه الرويس، ثم مشى من مركزي الكندرة وأبي بصيلة نحو ألف من جنود النظام والبدو مقسومين إلى ثلاثة أقسام، تتبعهم سريَّة من الخيَّالة.

أما الإخوان فقد كانت فرقة من أهل دخنة في الرويس، وفرقة أخرى في بني مالك، وكان أهل العارض والغطغط في الخط الثاني، كما أنه كان من الفريقين في الجبهة الأمامية أي في الخنادق، وعدد الجميع لم يتجاوز يومذاك الألفين. عندما خرجت المصفَّحات تقدَّمت القوة الاحتياطية النجدية نحو مراكز الجيش المرابط، ولكنهم لم يباشروا الرمي لا هم ولا المخندقون حتى خرجت العساكر الهاشمية كلُّها إلى السهل، وكادت المصفَّحات تصل إلى النزلة، فدارت عندئذٍ رحَى الحرب في الناحيتين، تجاه الرويس وتجاه بني مالك، ودوَّت البنادق والرشاشات.

أما المصفَّحات فقد كان من مهمَّتها أن تمنع وصول المدد إلى الجبهة الأمامية، فسارت شرقًا بشمال، تاركة النزلة إلى يسارها؛ لتصدَّ أهل الغطغط والعارض عن الهجوم، فاشتبكت وإياهم في قتال عنيف، ولكنها لم تتمكن من صدِّهم، وقد رأى مَن شاهدوا المعركة من جدة كيف كان الإخوان يصارعون هذه المصفَّحات مستشهدِين، فيدورون حولها وهم يُطلقون البنادق عليها وعلى مَن فيها، وهي ترشُّ الرصاص من رشاشاتها في كلِّ جانب، حتى إن عبدًا من العتاريس دنا من إحداها، بعد أن جال حولها كأنها فارس من الفرسان، فتمسَّك بها وصعد إلى سطحها وهو يُطلق مسدسه، فأُصيب وهو هناك برصاصة فهوَى إلى الأرض.

ظلَّ الإخوان يعاركون هذه المصفَّحات حتى أبطلت الرشاشات، فصار الجنود داخلها يُطلقون الرصاص من مسدساتهم. وقد أُصيب بعضهم برصاص العدوِّ الذي كان يدخل من الكُوَى، وجُرح جراحًا بليغة اثنان من السواق الروس. تراجعت المصفحات وقد تمزَّقت وتكسَّرت جوانب بعضها، وسارع أهل الغطغط والعارض إلى نجدة إخوانهم، فخاضوا معركةً دامت ساعتين في أشدِّ حالاتها، ثم ساعتين في قتال متقطِّع، حتى انتهت، الساعة الثالثة بعد الظهر، في رجوع الجنود الحجازية والمصفَّحات إلى داخل الأسلاك، ورجوع الإخوان إلى مراكزهم. أما مَن بقيَ في ساحة القتال، وهم القتلى، فلا يقلُّ عددُهم عن الثلاثمائة.

جاء في التقرير الحجازي الرسمي: «خسر العدوُّ، بين قتيل وجريح، أكثر من مائتين، وخسر جيشُنا خمسة عشر قتيلًا وأُصيب منه خمسون.»

وجاء في التقرير النجدي الرسمي: «قد تحقق أن خسارة العدو كانت في الأقل ثلاثمائة وعشرين قتيلًا، بدليل بنادقهم التي غنمها رجال جيشنا وأحضروها إلى المعسكر العام. أما خسائرنا فقد كانت خمسة قتلى وخمسة جرحى فقط.»

وممَّا لا ريب فيه أن قد قُتِل في معركة المصفحات لا أقل من ثلاثمائة من العرب! ومن المحقَّق أيضًا أن المصفَّحات لم تنجح في مهمَّتها الأولى، وهي قطع الطريق على المدَد، ولا كانت في مهمتها الثانية أشد فعلًا من الجيش المهاجم، فقد شغلها رجال الغطغط والعارض حتى نَفِد الماء والذخيرة فيها، فرجعت إذ ذاك أدراجها.

أخفقت القيادة الهاشمية في هذا الهجوم العام. فقد كانت خطتها أن تضرب الإخوان المرابطين أمام جناحها الأيسر فتقضي عليهم، ثم تعود شرقًا بجنوب وقد أمَّنت مؤخرها، فتزحف إلى المعسكر في الرغامة فتستولي عليه، وتستمر في خطة الهجوم، فتمشي ظافرة إلى مكة. «سنعيد رمضان بمكة.» هي كلمة الجيش الهاشمي في تلك الأيام. وقد كتب أحد ضبَّاطه إلى المؤلف، قبيل هذه الوقعة، يقول: «وغدًا ندعوك لزيارتنا في الطائف.»

وإذا فرضنا أن الإخوان امتنعوا عن اختراق الخط ومهاجمة المدينة لعجزٍ موَّهوه بالإغارات والمناوشات؛ فقد كان العجز أظهرَ في خطة الجيش الهاشمي بعد وقعة المصفحات.

وبعد هذه الوقعة خمدت في الجانبين نار الحرب. خفَّ ضرب المدافع، وقلَّ الهجوم في الليل، وكان في شهر رمضان شبه هدنة، تَبِعها في شوال مناوشات في الليالي المظلمة. ومع أنه كان قد شاع في جدة أن المعركة الفاصلة ستكون في شوال، فقد ولَّى شوال والتقارير الرسمية تقول: «سكونٌ تامٌّ على الخط.»

على أن القتال استؤنف في الشمال، فالقيادة النجدية أرسلت حملة إلى ينبع لتأديب بعض عربان جهينة الذين اعتدوا على قوافل تحمل أرزاقًا إلى مكة، وكان ابن رُفادة الشيخ إبراهيم — كبير مشايخ جهينة — قد خرج على الملك عليٍّ وعاهد ابن سعود على الطاعة والتوحيد، فأرسلت حكومة جدة إلى قائمقام الوجه الشريف حامد ثلةً من الجنود النظامية وبعض الرشاشات لتأديب ابن رُفادة وجماعته، وكانت قد أرسلت الأمير شاكر إلى ينبع ليحمل على الإخوان في بدر ويستردها.

أما في المدينة المنورة فقد كان صالح بن عدل معسكرًا في الحناكية، وقد التحق بجيشه لواءٌ جاء من جهة حائل. وكان قسم من هذا الجيش، وأكثره من الحضر بقيادة إبراهيم النشمي وكيل ابن عدل، مرابطًا حول المدينة، وهو مأمور بأن يحاصرها فقط، وألَّا يُدخلها بدون أمر من القيادة العليا.

أما وقد علمت ذلك فسنُطلعك على بعض البرقيات التي كانت ترد الحكومة الهاشمية في تلك الأيام:

المدينة ٢١ ذي القعدة

جلالة الملك المعظَّم، جهزنا عبدَكم ولدنا مع عسكره وبعض من حرْب على النشمي، فكسروه وأسروا أربعة أنفار من جماعته. أبشِّركم بذلك سيدي.

قائمقام المدينة: شحات

العلاء ٢٧ ذي القعدة

جلالة الملك المعظم، صباح اليوم الجمعة هجمت على مداين صالح ثلاثة بيارق ودامت الحرب بينهم وبين العدوِّ إلى العصر، والحمد لله انقلب خاسرًا تاركًا جرحاه وقتلاه، مولاي.

قائمقام العلاء

ينبع ٢٦ ذي القعدة

جلالة الملك المعظَّم، احتللنا بدرًا وغنمنا جميع ما فيها. انهزم أحمد سالم (صاحب بدر) ومعه أربعون بعيرًا محمَّلة.

الإمضاء: شاكر

ولكن السلطان عبد العزيز جهز في هذا الشهر حملة إلى الشمال بقيادة ابن عمِّه سعود بن عبد العزيز المعروف بسعود العرافة والأمير خالد بن لؤي. فالتقت هذه الحملة في طريقها من رابغ بأحمد بن سالم، فقصَّ على القيادة قصته، فحوقل خالد وأمر سالمًا بالرجوع. فمشى مع الحملة التي استمرت في طريقها إلى بدر، وبعد أن ضربتها واشتبكت في وقعة مع المدافعين، رجال الأمير شاكر فيها، كتب لها النصر واستولت عليها، ثم أعادت أحمد بن سالم إلى مركزه، ومشت إلى ينبع النخل فعسكرتْ هناك تنتظر الأوامر الجديدة من القيادة العليا، وكانت قد أرسلت تلك القيادة فيصل الدويش أيضًا إلى الشمال فاحتلَّ بجيشه العوالي، حول المدينة، بدون مقاومة.

figure
المحمل المصري.

إذن قد كانت الحالة في الشمال في آخر هذا العام، عام ١٣٤٣، حالة حصار يتخلَّلها شيء من القتال. فكان الإخوان مرابطين حول الوجه وينبع، وكان جيش من الحضر محاصرًا المدينة، وكان سعود العرافة وخالد بن لؤي معسكرين في ينبع النخل، وفيصل الدويش في العوالي، وصالح بن عدل في الحناكية، والغرض الأكبر من هذه التعبئة هو الضغط على أهل المدينة ليحملوا أولياء الأمر فيها على التسليم؛ ذلك لأن القيادة العليا فضَّلت الحصار على القتال، ولم تكن الجيوش هناك مسلَّحة بغير البنادق.

أما حكومة الملك علي فقد استبشرت بهذه الحال في الشمال، وعَزَتْ سكون الجنود النجدية إلى العَجْز. وممَّا أثبت ظنَّها وزادها أملًا بالفوز، رغم ما كانت فيه من العسر، هو أن السلطان عبد العزيز أمر جنوده بالانسحاب من جبهة جدة ليتمكَّنوا من الحج. فلم يبقَ هناك غير قوة صغيرة من الخيَّالة والهجانة لتشرف على الرغامة.

كان اهتمام السلطان بالحج في هذين الشهرين أكثر من اهتمامه بالحرب، بل كان قد بدأ منذ ثلاثة أشهر يمهِّد للحج السُّبُل، فأرسل في غرة شعبان نداء «إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها» يُخبرهم بأن النظام قد ساد في البلدة المطهرة، واستتبَّ الأمن فيها، وأنه يرحِّب بحجاج بيت الله الحرام من المسلمين كافَّة في موسم هذه السنة، ويتكفَّل بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم، وبتسهيل سفرهم إلى مكة المكرمة في أحد الموانئ الثلاثة؛ أي رابغ والليث والقنفذة. وقد كانت تجيء هذه الموانئَ كل خمسة عشر يومًا بواخرُ هندية وخديوية وإيطالية، تجيئها من عدن ومصوع والسويس، حاملات الأرزاق. لم تتمكن الحكومة الهاشمية التي ضربت في أول الحرب نطاقًا بحريًّا من القنفذة إلى رابغ، وحاولت تنفيذه بواسطة الباخرة المسلحة «الطويل» أن تصادر إلَّا قليلًا ممَّا كان يصل من هذه الثغور إلى مكة. وما كانت دائمًا موفَّقة حتى بذاك القليل.

فقد صادرت «الطويل» مرة خمسة سنابيك إيطالية مشحونة من مصوع إلى الليث وجاءت بها إلى جدة، ولكن الحكومة الإيطالية احتجت بواسطة قنصلها السنيور فارس على هذا العمل، وأنذرت الحكومة الهاشمية بأنها تسحب قنصلها من جدة، وتتخذ الطرق القانونية لحفظ حقوقها، إذا كانت لا تعيد كلَّ ما صادرته من السنابيك الرافعة العلم الإيطالي. فعقد الوزراء مجلسًا للنظر في الأمر، وقرَّروا بعد البحث أن يُجيبوا طلب الحكومة الإيطالية.

عُدَّ هذا الحادث نصرًا سياسيًّا لابن سعود، كما أن مجيء ثلاثة آلاف من حجاج الهند، ورجوعهم بعد الحج سالمين عن طريق رابغ هو نصر سياسي آخر، وهناك حادث ثالث، حدث في هذا الصيف، لا يقلُّ أهمية من الوجهة السياسية عن الحادثَين الأولَين، ألا هو نقل الملك الحسين من العقبة إلى قبرص. وقد يكون أهم الحوادث لما كان فيه من الفائدة لابن سعود؛ لأنه أقصى عن الملك عليٍّ ذاك المورد الذي كان يتَّكل كلَّ الاتكال عليه. أجل، قد اشتدت الأزمة المالية في حكومة جدة بعد سفر الحسين إلى قبرص، وهناك خسارة أكبر للحجاز كانت تتعلق بسفر الحسين، وكان الأمير عبد الله يسعى لها، فهو الذي أقنع أخاه وحكومة أخيه بأن يسلِّموا بضم العقبة ومعان إلى شرقي الأردن. وقد ضرب الأمير يومئذٍ على الوتر الحسَّاس؛ إذ قال في إحدى مذكراته إلى جلالة أخيه ما معناه: سلِّموا بضمِّ العقبة ومعان وأنا أضمن لكم من الإنكليز ما يأتي؛ أي ثلاثمائة ألف ليرة تعويض الضم، ومائتا ألف ليرة ثمن الأملاك الغير المنقولة، وقرض قيمته خمسمائة ألف ليرة يُعقَد حالًا، ثم إبعاد ابن سعود عن الحجاز حتى تربة والخرمة، وجعل الخط الحجازي رهْنَ إشارتكم في كلِّ وقت.

أية حكومة في موقف تلك الحكومة الهاشمية لا تقبل ببيع قطعةٍ من أملاكها بهذا الثمن؟! وأي ملك في مركز الملك علي لا تغرُّه تلك الأرقام؟! ولكنها أرقام في كتاب الأحلام.

لم تنحصر انتصارات ابن سعود في أواخر هذه السنة وطلائع سنة ١٣٤٤ بالحوادث الثلاثة التي تقدَّم ذِكْرها. فقد فتح أبوابه للوفود، وبدت منه رغبة في المكالمات لغرض من الأغراض الحربية والسياسية التي يجهلها الناس أيام الحرب، ولا يُقيمون لها وزنًا بعدها. على أن عظمة السلطان كان المجيب لا الطالب. وأول مَن استأذن في رمضان بزيارة الحرم والحج بالعمرة، وطيَّ القصدِ الديني قَصْدٌ حَسنٌ آخر، هم القناصل المسلمون في جدة؛ أي عبد الكريم حكيمُف معتمد حكومة السوفييت، ورادين براويرا نائب قنصل هولانده، وأحمد أفندي لاري وكيل قنصل إيران، فأذن السلطان ودعاهم بعد زيارتهم الحرم لزيارته في مقرِّه بالوزيرية.

وبينما كانوا هناك يتكالمون بالصلح هجم الإخوان في الليل كالعادة على جناح خطِّ الدفاع الأيسر، من البحر إلى الكندرة، هجمة هوجاء، واستمرَّت البنادق والرشاشات تدوِّي دويًّا متقطِّعًا حتى الفجر. وما معنى زيارة القناصل؟ إن ابن سعود سرٌّ من أسرار السلم والحرب يعجز عن كشفه الإنس والجن!

القناصل : «إننا نتكلم مع عظمتكم في هذه المسألة بصفتنا الشخصية، لا بلسان حكوماتنا؛ لأننا شرقيون يهمُّنا الإصلاح والاتفاق بين الشرقيين.»
السلطان : «كأن القوم لم يدركوا حتى اليوم غايتنا ومَرامَنا، فما زال الشريف علي في جدة فلا سبيل إلى الصلح. أما إذا أخلاها وترك المسألة للعالم الإسلامي، فنحن نقبَل بما يقرِّره بشأن الحجاز.»

ثم سُئِل عظمته إذا كان يأذن بقدوم وزير الخارجية الشيخ فؤاد الخطيب للبحث في المسألة، فأجاب أنه يرحِّب بمن أراد القدوم إليه سواء أكان الشيخ فؤاد أم غيره.

وعند رجوع القناصل المسلمون إلى جدة كتب وزير الخارجية إلى عظمة السلطان يقول: إن بعض الأصحاب أنبئوه «بما حقَّق الأمل المعقود»، ويطلب منه تعيين يوم للمقابلة، فأجاب عظمته بالإيجاب على شرط أن يكون سعادة الوزير مفوَّضًا ليوافق على ما يُملَى عليه من الشروط «ثقُلت وطأتها أم خفَّت». فرد الشيخ يقول: إن المأمول من قدومه «أولًا: شرف التعرُّف إلى شخصكم الجليل المعظم، ثانيًا: التمهيد لإيجاد جوٍّ صالح تسود فيه الطمأنينة المنشودة؛ ليكون محور الأعمال فيما يحسُن التفاهُم عليه.» فقال عظمته في كتابه الأخير: «أكون مسرورًا بمواجهتكم.»

نظن أن الشيخ فؤاد شعر بمثل هذا السرور بالرغم عن عقم تلك المكالمة في المخيَّم السلطاني بالوزيرية، تلك المكالمة التي تحوَّلت إلى استنطاقٍ من قِبَل السلطان ضاقت فيه لدى الوزير الشاعر حِيَلُ السياسة كلها.

– «ومَن هو الضامن لهذه التعهُّدات؟»

– «أنت الضامن.»

– «وكيف يكون ذلك؟ أنت تقبل بالشروط وأنا أضمن التنفيذ؟»

الشيخ فؤاد : «اطلب الضامن الذي تريده ونحن نقدِّمه لك.»
السلطان : «لا أعلم ضامنًا له سلطة وأثق به يتكفَّل بما أطلب. فالدول كلُّها على الحِياد، ولا نقبل مداخلتها في الأماكن المقدَّسة كما ترى.»

تحوَّل الحديث بعدئذٍ إلى مواضيع اجتماعية وأدبية، فكان الشيخ فؤاد فيها لامعًا باهرًا، ثم عاد من الوزيرية راكبًا بغلتَه، حاملًا مظلَّته، والقناصل والحكومة والجنود في جدة يتساءلون: ماذا عسى أن يكون تحت تلك المظلة من الآمال؟ لم يكن تحتها غير شاعر أبهر في أحاديثه الأدبية في المخيم السلطاني، وغُلِب في المكالمات السياسية.

عندما سافر القناصل المسلمون للحج بالعمرة قلق زملاؤهم المسيحيون، فأرسل الوكيل الإنكليزي كاتبه الهندي المسلم منشئ إحسان الله إلى مكة لأشغال تختص بالحجاج الهنود، فأقام هناك أسبوعًا، وعرج في رجوعه على المقر العالي بالوزيرية، فنزل ضيفًا على السلطان. أما المكالمة فقد كانت ولا تزال سرِّية.

بيدَ أنه كان معلومًا أن الحكومة البريطانية كانت تفكِّر يومئذٍ في احتلال العقبة ومعان، وأن ابن سعود كان يفكِّر في إرسال حملة إلى تلك الناحية لإخراج الحسين منها.

– نحن ننقل الحسين من العقبة ولا نكلفك مئونة الحملة عليه.

– الحملة ماشية فعليكم أن تعجلوا.

وفي الحقيقة كانت الحملة قد مشت من حائل، فأمر عظمته قائدها بأن يتوقَّف في الزحف.

وقد تلت المكالمات بالوزيرية مكالمات أخرى في مكة، وكُتِب في لائحة المتوسطين الطويلة اسمُ كبيرٍ من حكام العرب. أجل، قد جاء من صنعاء اليمن، من حضرة الإمام يحيى بن حميد الدين المتوكل على الله، بواسطة قنصل إيطالية بجدة، برقيتان الواحدة إلى الملك علي والأخرى إلى السلطان عبد العزيز، يطلب منهما إيقاف القتال، واحترام الأراضي المقدسة، وقبوله حكمًا بينهما. فجاوَبَ الملك علي بالإيجاب وأرسل السلطان جوابًا مآله أننا دعونا المسلمين لمؤتمر يبحث في أمر الحجاز فنرجو أن يحضر مندوبكم معهم.

وفي الأشهر الثلاث الأولى من هذا العام جاء السلطانَ عبد العزيز ثلاثةُ وفود من المسلمين والمسيحيين (١٣٤٤ﻫ / ١٩٢٥-١٩٢٦م) مع الحجَّاج من الهند. أما الوفد الأول فقد جاء من مصر، من قبل الملك فؤاد، للتحقيق فيما قد شاع من أخبار المدينة والطائف، وللتوسُّط كما قيل في أمر الصلح. كان هذا الوفد مؤلَّفًا من الشيخ محمد مصطفى المراغي قاضي قضاة القطر المصري ومحمد بك عبد الوهاب كاتب سرِّ الملك الخاص، وكان ولا شك له غير ما ذكر من الأغراض. فإن الخلافة كانت تُثقِل يومئذٍ بالَ الملك فؤاد وقلبه، فأحبَّ أن يستطلع في أمرها رأيَ ابن سعود.

أما الوفد الإيراني الذي كان مؤلَّفًا من سفير مصر وقنصل سورية العام، فقد كان غرضُه ظاهرًا وباطنًا التحقيق في مسائل الطائف والمدينة. وبعد أن زار الوفد مكة، وكالم السلطان عبد العزيز فيما انتُدب له، عاد السفير إلى مصر وسافر القنصل حبيب الله خان عيد الملك إلى المدينة ليتمَّ مهمتَه.

وقد جاء أيضًا في هذا الشهر، أي في ربيع الثاني، الوفد الإنكليزي أو بالحري السر غلبرت كلايتن١ وكاتب سرِّه وترجمانه وتوفيق بك السويدي مستشاره العراقي، فاجتمع بهم السلطان في بحرة. وهناك كان المؤتمر الذي استمر خمسة وعشرين يومًا؛ أي من ٩ أكتوبر إلى ٣ نوفمبر، فعُقِدَت اتفاقيتان سُمِّيت الأولى اتفاقية بحرة وهي بين العراق ونجد، والثانية اتفاقية حداء، وهي بين نجد وشرقي الأردن.٢

وعندما كان السلطان عبد العزيز في بحرة جاءه من المدينة المنورة رسولٌ اسمه مصطفى عبد العال، يحمل كتابًا من أمير المدينة الشريف شحات يعرض فيه التسليم، على شرط أن يؤمَّن الأهلون والموظفون على أرواحهم وأموالهم، ثم يسأل السلطان أن يرسل أحد أفراد العائلة السعودية لهذه الغاية.

عاد عظمته إلى مكة فجهَّز نجله الصغير الأمير محمدًا الذي مشى بفرقة من الجند إلى المدينة في ٢٣ ربيع الثاني، وعندما دنا من أسوارها عرض على الحكومة والأهالي ما كان قادمًا من أجله، فأبت قيادة الحامية التسليم؛ لأنها كانت تنتظر المدَد من جدة، وقد أبرقت في ٥ جمادى الأولى إلى جلالة الملك تقول: «الذي يهمنا الأرزاق للجند. وعدتمونا بإرسال الدراهم المتيسِّرة بالطيارة. إلى الآن لم نرَ أثرًا لها. دبِّروا وأرسلوا لنا دراهم ولو ببيع إحدى البواخر فترون منَّا ما يسرُّكم.»

وكان الأمير الصغير محمد يشدِّد الحصار على المدينة بدون قتال؛ عملًا بأوامر والده، فأبرقت القيادة في ١٣ من هذا الشهر إلى جلالة الملك بجدة تقول: «انقضى الأمر ولم يبقَ في اليد حِيلة، الجنود ما عندهم أرزاق إلَّا لثلاثة أيام إذا لم تصل الطيارة غدًا الظهر سنفاوض العدو. الإمضاءات: عزت، عبد الله عمَير، عبد المجيد حمد.»

فجاءَ الجواب أنه يستحيل إرسال الطيارة قبل عشرة أيام لعدم وجود بنزين.

مرت الأيام الثلاث فنفدت مئونة الحامية. ومع ذلك فقد صبر الجنود ثلاثة أيام أُخَر، ثم في صباح الجمعة بعث القائد عزت ورئيس ديوان الإمارة عبد الله عمير كتابًا إلى الأمير محمد بن عبد العزيز بن سعود يطلبان ملاقاته، فأرسل الأمير خيَّالة لاستقبالهما. وقد فاوضاه بالتسليم على شرط أن يُعطيَ الجنود والضباط والأهالي الأمان، ويعلن العفو العام.

وفي صباح اليوم التالي؛ أي يوم السبت الواقع في ١٩ جمادى الأولى  (٥ ديسمبر ١٩٢٥) سلَّمت المدينة بعد حصار دام عشرة أشهر.

١  Sir Gilbert Clayton.
٢  في الملحق نصُّ هاتين الاتفاقيتَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤