الفصل الثاني والخمسون

عبد العزيز ملك الحجاز

قبل أن غادر السلطان عبد العزيز الرياض في ربيع الثاني سنة ١٣٤٣ دعا العالم الإسلامي لعقد مؤتمر في مكة يقرِّر مصير الحجاز. وقد كرَّر هذه الدعوة بعد ذلك، ثم عزَّزها في ١٠ ربيع الثاني سنة ١٣٤٤ بكتاب خاص أرسله إلى الحكومات والشعوب الإسلامية، فكانت صرخةً في وادٍ لم يُلبِّها غيرُ فريقٍ من مسلمي الهند وجمعية الخلافة هناك، ولكن أولئك المسلمين يريدون للحجاز ما لا يريده أهله. هم يرتئون في حكم البلاد المقدَّسة رأيًا لا يوافقهم عليه أهل الحجاز، وقد قاوموه عندما جاء الوفد الإسلامي الهندي الأول إلى جدة، واستمروا في مقاومته حتى نهاية الحرب، الشريفيون والسعوديون على السواء، الحجاز للحجازيين، هي كلمة الجميع. ولا نظن أحدًا في الحجاز يرغب في هيئة تحكمه مؤلفة من ممثلي الشعوب الإسلامية في العالم.

لذلك طلبوا من السلطان عبد العزيز، بُعَيد دخوله جدة، أن يكون لهم الحرية، تلك الحرية التي وعد بها العالم الإسلامي، والحجاز ركن منه؛ ليقرروا مصير البلاد بلادهم، فأجاب السلطان الطلب.

عندئذٍ تألَّف في جدة لجنة من أعيانها عددُها عشرون، فسافروا إلى مكة واجتمعوا هناك بلجنة من أهلها عددها ثلاثون. وفي ٢٢ جمادى الثانية عقد أعضاء اللجنتين مجلسًا قرَّروا فيه بإجماع الرأي مبايعة السلطان عبد العزيز ملكًا على الحجاز، واتفقوا على شروط البيعة ونصِّها، ثم قدَّموها إلى عظمة السلطان ليرى رأيه فيها، وطلبوا منه إذا حازت القبول أن يعيِّن الوقت لعقد البيعة فأجاب الطلب.

وبعد صلاة الجمعة، في ٢٥ جمادى الثانية سنة ١٣٤٤ /١٠ يناير ١٩٢٦، اجتمع الناس في المكان المُعَد للحفلة عند باب الصفا من المسجد الحرام، وجاء عظمة السلطان في موكبه في الساعة الواحدة بعد الظهر. كان المشهد عربيًّا صافيًا؛ أي بسيطًا ديمقراطيًّا. فلم يكن هناك غير سجادة وقف عليها السلطان وكرسي للخطيب الذي تقدَّمه المنادي قائلًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلِّموا تسليمًا، ثم اعتلى الكرسي الخطيب، فحَمِد ربَّ البيت المعظَّم، وشكر وسبَّح، وبعد ذلك قال:

أيها الإخوان: إن الله — سبحانه وتعالى — قد أنعم علينا بالأمن بعد الخوف، وبالرخاء بعد الشدة، فقد انقشعت غيمة الحروب، وقد توحَّدت الكلمة بحول الله تعالى وقوته، فتعطف علينا عظمة هذا السلطان المحبوب بقبول البيعة المشروعة الواجبة علينا، وإني أتلوها على مسامعكم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود على أن تكون ملكًا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله ، وما عليه الصحابة — رضوان الله عليهم — والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شئونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعُه تحت رعاية الله ثم رعايتكم.

وعندما كان الخطيب يتلو البيعة كانت قلاع مكة تُطلق مدافعها، أطلقت مائة مدفع ومدفع، وكان الناس أثناء ذلك يتزاحمون حول تلك السجادة الواقف عليها السلطان ليتقبَّل البيعة. فتقدم أولًا الأشراف ثم الوجهاء والأعيان، وتلاهم المجلس الأهلي، فالمحكمة الشرعية، فالأئمة والخطباء، فالمجلس البلدي، فأهل المدينة المنورة، فأهل جدة، فبقية خدم الحرم، فالمطوفون والزمازمة، فمشايخ جاوة، فأهل الحرَف، فمشايخ الحارات وأهل المحلات.١

وبعد الحفلة مشى جلالة الملك إلى البيت الحرام فطاف به سبعًا وصلَّى في المقام، ثم جلس في سرادق دار الحكومة للمهنِّئين والخطباء.

– «لا بدَّ للبلاد من ملك مستقلٍّ يكون قادرًا على صيانة الحجاز من الداخل والخارج، والذي يستطيع القيام بهذا الأمر هو عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.»

– «وما أعطاك الله هذا العطاء، يا عبد العزيز، إلَّا لأنك سائر في مرضاته.»

وقال آخر بعد إطرائه الأمة العربية في زمن السلف الصالح: «علينا أن نتمسَّك بذلك الحبل المتين ليرجع للمسلمين ما كان لهم من السؤدد والعز.»

إن في هذه الكلمات الثلاث مثالًا من عقلية القوم ونزعتهم السياسية والدينية، ثم خطب الملك السلطان فقال:

أسمعُ خطباءكم يقولون: هذا إمام عادل، وهذا كذا وكذا. فاعلموا أن ما من رجل مهما بلغ من المنازل العالية يستطيع أن يكون له أثر وأن يقوم بعمل جيد، إذا كان لا يخشى الله. وإني أحذِّركم من اتباع الشهوات التي فيها خراب الدين والدنيا، وأحثُّكم على الصراحة والصدق في القول، وعلى تَرْك الرياء والمَلَق في الحديث. لم يفسد الممالك إلَّا الملوك وأحفادهم، وخدامهم، والعلماء المملقين وأعوانهم. ومتى اتفق الأمراء والعلماء ليستر كلٌّ منهم على صاحبه، فيمنح الأمير المنح، والأمراء يدلِّسون، ضاعت حقوق الناس وفقدنا، والعياذ بالله، الآخرة والأولى. إلى أن قال خاتمًا كلمته: وإني أحمد الله الذي جمع الشمل وأمَّن الأوطان، ولكم عليَّ عهد الله وميثاقه أني أنصح لكم كما أنصح لنفسي وأولادي.

فهتف الناس إذ ذاك قائلين: «جزاك الله خيرًا، جزاك الله خيرًا!»

وفي مساء ذاك اليوم دعا جلالته إلى بيته أعضاء المجلس الأهلي، والوفد الذي قَدِم من جدة، وبعض أهل الوجاهة في أمِّ القرى، فخاطبهم بما معناه:

إننا الآن في وقت العمل وفي ساعة التأسيس. ولا يستقيم الأمر إلَّا بحسن التدبير وبالصدق والنزاهة. أنتم أرباب الرأي والفكر في بلادكم، فعليكم أن تقرِّروا شكل الحكومة، وتضعوا دستورًا لها، وتحدِّدوا العلاقات بين نجد والحجاز، وتبحثوا فيما ينبغي أن يكون موقف الحجاز تجاه الدول.

ثم أمر بأن يؤلَّف من مندوبي مكة وجدة مجلسٌ تأسيسي، فينضم إليه مندوبون من بلدان الحجاز الأخرى؛ للنظر فيما ذكر من المسائل وتقريرها.

وبعد أن تألَّف هذا المجلس انتخب بالاقتراع السري لجنة لوضع القانون الأساسي، ثم عرض أسماءها على جلالة الملك، فأمر بأن يرأس اللجنة الشيخ عبد القادر الشيبي، حامل مفتاح بيت الله الحرام، وأن يُضَم إليها خمسة آخرون، انتخبهم جلالته من الأشراف والتجار.

كذلك في هذا الشرق الجديد يُصلِح التعيينُ الاقتراعَ، ويُكمِل الحاكمُ الفرد ما ينقُص في حكم الشورى.

١  وقد جاءت بعدئذٍ برقيات بالمبايعة من المدينة المنورة ومن ينبع والوجه وضبا والعلاء، وكانت حكومة السوفييت (الروسية) أول الدول التي اعترفت بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، ثم اعترفت به حكومات بريطانية العظمى، والجمهورية الإفرنسية، وهولندة الجمهورية التركية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤