التنويه بأثرٍ رجعي

هذا أولُ عملي في الترجمة، بدأتُه أواخر تسعينيات القرن العشرين، واستغرَقَ على صِغَر حجمه نحو عامَين لملابساتٍ كثيرة، منها محاولتي الإحاطةَ بسيرةِ الفلسفة اليونانية الغربية منذ اليوناني أفلاطون حتى الألماني هيدجر، إلى جانب التحليل النفسي عند النمساوي فرويد والفرنسي لاكان. ثم نُشِر العملُ أولًا عام ٢٠٠٢م. ولمَّا آنَ وقتُ إعادة نشْرِه في هذه الطبعة الثانية — وها نحن أولاء نَشهَد أصيلَ عام ٢٠٢٢م — استغرَقَ تنقيحُه نحو شهرَين متواصِلَين على ما في هذا من تكلفة. ولعلَّكما سيدتي وسيدي تعرفان — ضمن ما تعرفان — كُلْفةَ النَّظر ثانيةً في ماضي النفس، وهو قريب.

ولكنَّني أَقدمتُ على تنقيح هذا العمل، بوجهٍ خاص، مسرورًا مع غَمْسة من الأسى وغمسات. وللحقِّ، لا أعرف يقينًا، وأنا أكتب الآن، بواعث هذا الإحساس المَشوب.

وإنِّي لأذكُر، وكيف لي أنْ أنسى، المرةَ الأولى التي رأيتُ فيها ترجمةَ سبيفاك لكتاب دريدا «الجراماتولوجي»، رأيتُها في مكتبةٍ أنيقةٍ قليلة الكتب في صالون شقَّة الدكتور عبد المنعم تليمة صيف عام ١٩٩٧م، وبيتُه غير بعيد عن الجامعة. وفي وسط المكتبة المتأنِّقة كصاحبها بقعةٌ مستطيلة احتلَّتْها شاشةُ تلفازٍ يابانيةٌ عملاقة، وأسفلَ منها نوعٌ من أنواع الكاسيت الياباني، كأنَّه العقيقُ الأسود، تنبعث منه موسيقى خافتةٌ جليلة. وأعطانيها لنَسْخِها حريصًا، يكاد أن يُمسك، متوجِّسًا ألَّا أُعيدها إليه. ولكنَّه على ما يبدو توسَّم فيَّ خيرًا.

وإنِّي لأذكُر أيضًا بنَفْسٍ طيِّبة محاضراته في العام الجامعي ١٩٩٤-١٩٩٥م، سنتي الرابعة. كان يسمح بتناول المشروبات، وتدخين السجائر لمَن يريد في رُكنٍ مستقلٍّ من القاعة، ولكنَّه لم يكُن ليسمح بهَمْسةٍ أثناء حديثه. ولم يكُنْ طالبٌ يستطيع هَمسًا! وكيف يهمس فتفوته كلمةٌ من كلماته أو تغيب عنه لفتةٌ من لفتاته أو إيماءةٌ أو حتى نظرةُ عينه المتوقِّدة! كلُّنا ساكتون منصِتون مَشدُوهون! والقاعة كاملةُ العَدد! تحدَّث في محاضرات ذلك العام الختامية عن التفكيك وجاك دريدا وجيفري هارتمان، وكأنِّي غشاني سِحرٌ.

وَقَدْ رَأَيْتُ، وَثَمَّ رَأَيْتُ!

أخذتُ بدعوةٍ كريمةٍ منه أُواظب على صالون الخميس من كلِّ أسبوع منذ أواخر عام ١٩٩٥م حتى منتصَفِ عام ٢٠٠٠م، من السابعة مساءً حتى السَّحَر. ثم متقطِّعًا حتى نهاية عام ٢٠٠٢م. وفي فترة التقطُّع هذه، ابتدأ الصالون يَذْوي رُويدًا رُويدًا، وبدأتْ تتفاوتُ المائدة العامرة بالطعام التي تحين بعد نهاية الندوة قُربَ الحادية عشرة، ومن بعدها كان يأخُذ وتأخذ ثُلَّته في شرابٍ عتيق وسَمَر، على خلفيةِ سيمفونيَّاتٍ جليلةٍ خافتة. تعثَّر كلُّ هذا حتى اختفى.

رأيتُه مرَّاتٍ قُبيلَ السَّحَر، في هذا التوقيت يَنبَعث شجِيًّا ساحِرًا من العَقيق الأَسوَد صوتُ مُحمَّد عبد الوهاب في عَهدِه الأول. ويبدأ الدكتور تليمة في غَمغَمة تَصحَبها رَقرَقة الدُّموع.

كِتَابِي … كِتَابِي. كَيفَ نَسِيتُ الكِتَابَ!
حسام فتحي نايل
الجيزة، صيف ٢٠٠٠م/القاهرة، صيف ٢٠٢٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤