مقدمة

تدل كل الظواهر على أن تاريخ ملوك البطالمة قد دخل منذ نهاية عهد «بطليموس السادس فيلومتور» في مرحلة غامضة مبهمة لقلة المصادر. وقد أنجب «فيلومتور» ولدين أحدهما يُدعى «يوباتور» الذي أشرنا إليه فيما سبق، وسنتحدث عنه فيما بعد، وقد اشترك مع والده منذ عام ١٥٣ق.م حتى عام ١٥٠ق.م وهو تاريخ موته، وذلك على أرجح الأقوال.

أما ابنه الثاني فكان يُدعى «نيوس فيلوباتور» وقد حكم البلاد تحت وصاية أمه، وهو الذي يُطلق عليه بعض المؤرخين «بطليموس السابع». وفي تلك الفترة كان ﻟ «بطليموس» ملك «سيريني» وقتئذ أعوان — كما ذكر بعض المؤلفين — بين أهالي الإسكندرية، كما كان له أصدقاء في «روما». وكانت «كليوباترا» الوصية على العرش تعتمد على حزب الأشراف في الإسكندرية، وكذلك على طائفة اليهود التي كانت كثيرة العدد في تلك الفترة.

هذا، ونعلم أن آخر عمل قام به «بطليموس السادس فيلومتور» بعد أن انقلب على زوج ابنته «كليوباترا تيا»، هو الاستيلاء على «سوريا الجوفاء» التي كانت مطمع آماله، وحلم من سبقه من ملوك البطالمة، وقد كانت الحروب قد نشبت من أجلها منذ أزمان بعيدة، واستمرت حتى تلك الفترة.

نيكاتور يسترد سوريا الجوفاء

غير أن «ديمتريوس الثاني نيكاتور» ملك «سوريا» عندما علم بموت «فيلومتور» نقض المعاهدة التي كانت قد أُبرمت بينه وبين «فيلومتور»؛ ومن ثم عادت «سوريا الجوفاء» ثانية إلى ملك «السليوكيين». على أن «ديمتريوس نيكاتور» لم يَكْتَفِ بإلغاء المعاهدة؛ بل أخذ فضلًا عن ذلك يعمل على الاستيلاء على جنود الجيش المصري الذين كانوا مرابطين في «سوريا». وتدل الظواهر على أن الجنود المرتزقين الذين كانوا يعملون في الجيش المصري هناك قد انضموا فعلًا إلى جيش «ديمتريوس» دون كبير عناء؛ لأنهم في كلتا الحالتين كانوا مأجورين. هذا، ونعلم على أية حال أن «ديمتريوس» استولى على فيلة الجيش المصري التي كانت في «سوريا الجوفاء». ولا يبعد أنه كان يترقب سير الأحوال في الإسكندرية لينفذ ما كانت تنطوي عليه نفسه من خطط تدل على عدم الوفاء وسوء النية من جهة مصر.

قلة المصادر عن هذا العصر

ومما يؤسف له جد الأسف أن الحوادث التي وقعت في الإسكندرية في تلك الفترة كانت غامضة مبهمة يكتنفها الشك المطبق في نظر المؤرخين القدامى؛ ويرجع السبب الأصيل في ذلك إلى أن المصادر المصرية البحتة (ونعني بذلك الأوراق الديموطيقية) أو المصادر الإغريقية (ونعني بذلك الأوراق الإغريقية وما كتبه المؤلفون القدامى) لم تسعفنا كلتاهما بشيء يوضح تاريخ هذه الفترة. فالمصريون وقتئذ لم يكونوا مندمجين في سياسة البلاد العامة التي كانت في يد المستعمرين من إغريق ومقدونيين وغيرهم، وكل ما وصل إلينا هو ما كُتب بالديموطيقية. والواقع أنه لم يصل إلينا من هذا المصدر إلا نتف لا تشفي غلة. ومن جهة أخرى لم يصل إلينا من المصادر المعاصرة الإغريقية شيء ما؛ وذلك لأن مصدرنا الأصلي وهو «بوليبيوس» الذي اعتمدنا عليه في كتابه تاريخ البطالمة في عهدي كل من «بطليموس الخامس» و«السادس» قد انقطع ووقف عند هذه الفترة، ومن أجل ذلك نجد أن أولئك الذين كتبوا في تاريخ هذه الفترة قد ملأوا الفجوات التاريخية التي كانت تعترضهم بالأساطير والعبارات التي لا تمت إلى التاريخ الحقيقي بشيء. والواقع أن المؤرخين الذين كتبوا عن هذا العصر ليس لديهم مصادر إلا ما كتبه كل من «جوسيفوس» (يوسف) المؤرخ اليهودي، وهو مؤرخ متحيز إلى حد بعيد فيما تركه لنا من مؤلفات تاريخية، وهذه المؤلفات تكاد تكون عقود مدح وإطراء لليهودية أو من ينحاز إليها. ثم لدينا المؤرخ «جوستين» الذي عاش في القرن الخامس بعد الميلاد، وقد نقل كل ما كتبه عن المؤرخ «ترجوس بومبيوس» Torgus Pompeius. غير أن هذا المؤرخ قد نقل لنا ما راق في نظره هو وحسب في كتابه الذي خلفه لنا باللاتينية Justine Hisoriarum Philippicarum.١ أما المؤرخ «جوسيفوس فلافيوس» السالف الذكر فقد وُلد في النصف الأول من القرن الأول الميلادي، حوالي عام ٣٧م، في عهد الإمبراطور الروماني «كاليجيولا» Caligula. وقد كان واسع الاطلاع، وتقلب في عدة مناصب دينية وحربية، وكانت كل كتاباته — كما قلنا — تدل على التحيز لليهودية. وأهم كتاب له هو تاريخ حرب اليهود وتاريخ الآثار اليهودية في عشرين مجلدًا أتمها عام ٩٣ ميلادية.

والبحث في تقصي الأحداث التي وقعت في أعقاب موت «بطليموس فيلومتور» قد يطول الحديث عنه دون طائل؛ إذ لا تزال تُوجد عقبات تصادف المؤرخ كما ذكرنا من قبل لقلة المصادر، ومن ثم لا بد من الاكتفاء مؤقتًا بما لدينا من معلومات ضئيلة إلى أن تكشف لنا تربة أرض الكنانة عما تخفيه في جوفها من مصادر كثيرة لا تزال دفينة تحت الأرض.

وعلى ذلك سنأخذ بالرأي القائل أن الفرد الذي ورث عرش «فيلومتور» في الإسكندرية هو ابنه «بطليموس نيوس فيلوباتور» وسنحاول — فيما بعد على ضوء ما لدينا من معلومات — الكشف عن شخصيته.

كليوباترا الثانية وموقفها من إيرجيتيس الثاني

وقد كان هَمُّ «كليوباترا الثانية» بعد موت زوجها «فيلومتور» هو أن تضمن عرش ملك مصر لابنها بزواجه من أخته «كليوباترا الثالثة» متبعة في ذلك سنة الزواج في أسرتها. وكان في إمكانها بهذه الوسيلة فقط أن تُبقي النظام الحاضر، وبخاصة فصل مصر عن «سرنيقا» التي كان يحكمها «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الذي كانت تخشى «كليوباترا الثانية» الوصية على العرش قيامه بحركة لتولي عرش مصر الذي كان قد طُرد منه — كما أسلفنا القول في ذلك — وقد زاد من خوفها أن الجيش المصري كان بعيدًا عن مقر الحكم؛ إذ كان — كما قلنا — لا يزال في «سوريا الجوفاء» ولم يُسمع عنه شيء بعد وفاة «فيلومتور». ومن هنا كانت ترى «كليوباترا» أنها هي وابنها الملك الفتى قد أصبحا تحت رحمة هجوم «إيرجيتيس الثاني». وفي هذه الفترة لم يكن لديها ما يحميها من شر «إيرجيتيس الثاني» إلا فريق من أهل الإسكندرية في صفها؛ إذ إن أهالي الإسكندرية بما تعودوا عليه من تدخل في الثورات التي كانت تقوم في القصر الملكي؛ كانوا يعتبرون الملكية المصرية في نظرهم وظيفة لا يمكن التصرف فيها إلا بموافقتهم. وعلى أية حال كانت الإسكندرية وقتئذ منشقة على نفسها فريقين؛ أحدهما كان هواه مع «كليوباترا الثانية» وابنها، والفريق الآخر كان مواليًا لمليكهم القديم «إيرجيتيس» ويتحرق شوقًا لإعادته إلى عرش البلاد المصرية. وعلى الرغم من أن أعظم سكان الإسكندرية ذكاء وثقافة كانوا لا يرغبون في عودة «إيرجيتيس الثاني» ملكًا عليهم، فإن «كليوباترا» لم تُفِدْ من ذلك باتباع سبيل المهادنة معهم؛ بل هاجمتهم، وانتهى الأمر باتساع شقة الخلاف بينها وبين عظماء رجالات الإسكندرية، وفي غمرة هذه الحوادث نجد فضلًا عن ذلك أن الطبقة الدنيا من شعب الإسكندرية كانت قد نسيت ما كان عليه «إيرجيتيس الثاني» من استبداد تجاه شعبه، وما كان يبديه من خضوع واستسلام للرومان. والواقع أن كل ما كان قد بقي في أذهان جماهير الإسكندرية هو أنه قد تربع على عرش ملك مصر فيما سبق بثورة سياسية، وعلى ذلك فإن إعادته ثانية على عرش مصر تُعتبر فرصة لإظهار ما لهم من قوة وإرادة، وذلك على نقيض ما كان يفكر فيه المخادعون الذين يدعون حقوقًا شرعية على ملك مصر.

ميل كليوباترا لليهود ساعد على عودة إيرجيتيس الثاني للملك

وقد زاد في اشتداد سوء الحال بالنسبة للملكة «كليوباترا» وابنها أنها قد أعلنت جهارًا مساعدتها وميولها لحزب اليهود الذي كان مكروهًا ممقوتًا مرذولًا في طول البلاد وعرضها، وبخاصة في الإسكندرية؛ فقد كانت هذه الفئة الضالة التي لا وطن لها تسعى إلى نيل كل الحقوق المدنية التي كان يتمتع بها أهالي الإسكندرية وحدهم. ولقد كان ميل «كليوباترا» شديدًا لليهود لدرجة أنهم كانوا يُمثَّلون في البلاط بقائدين للجنود في الجيش المصري، وهما «أونياس» و«دوسيتي» Dosithe وقد تحدثنا عنهما فيما سبق.٢ ويحدثنا «جوسيفوس» بأنه كانت هناك بداية حرب أهلية، وأن هذين القائدين قد أدارا هذه الحرب التي انتهت بهزيمة الثوار، وكذلك أخبر «أونياس» باقتراب «إيرجيتيس الثاني»، غير أن «جوسيفوس» لم يذكر قط «إيرجيتيس الثاني» الذي كان قد غادر «سيريني» ليخلع «بطليموس نيوس فيلوباتور» من عرش الملك. وقد عمل «إيرجيتيس»، على دخول الإسكندرية بجيش صغير، وأعلن حربًا على المغتصب.
أما المؤرخ جوستن٣ فلم يحدثنا في تلك الفترة إلا عن وفد ذهب من الإسكندرية إلى «سيريني» ليقدم تاج مصر إلى «إيرجيتيس»، وكذلك ليقدم له يد «كليوباترا». ويقال إنه دخل الإسكندرية دون حرب، واستولى على عرش أخيه.

تدخل الرومان لمساعدة إيرجيتيس الثاني

وتدل شواهد الأحوال على أن «روما» كان لها ضلع في هذه المؤامرة؛ لأنه لم يكن من باب الصدفة أن الشريف الروماني «لوسيوس منيوسيوس» Lucius Minucius الذي كان دائمًا في جانب «إيرجيتيس الثاني» كان موجودًا في الإسكندرية في تلك الأيام بالذات، ومما سبق يتضح أن كلًّا من المؤرخين سالفي الذكر يخالف الواحد منهما الآخر، ولكن إذا فرضنا أن كلًّا منهما قد قص علينا بعض الحقيقة — وقصتاهما في ظاهرهما متناقضتان — فإنه من السهل — على أية حال — التوفيق بين رأييهما؛ فالمؤرخ «جوستن» يقول: إن ابن «فيلومتور» قد نُصب فعلًا ملكًا، وذلك بوساطة أمه، وكذلك بوساطة عظماء الإسكندرية؛ أي إن الذين نصبوا الملك الجديد هم أشراف المقدونيين. أما المؤرخ «جوسيفوس» الذي كان دائمًا يهتم بأمر اليهود أهله فقد عزا أمر قيادة حزب «كليوباترا» إلى اليهود، وقد كان هؤلاء يناصرون الحزب الشرعي في البلاد، ومن أجل ذلك كان يمجد الملكة وابنها الذي على عرش البلاد، وعلى الرغم من أن الملك هو صاحب الحق الشرعي في العرش إلا أننا نلحظ أن «چوسيفوس» قد اشتط في معاضدته.
أما «إيرجيتيس» فإنه — من جهة — كان مرشح حزب الشعب الذي كان يمقت الأرستقراطية كما كان في الوقت نفسه يكن البغض الدفين لليهود، هذا إلى أنه كان مندفعًا بوازع الوطنية لضم شمل المملكة المصرية التي كانت موزعة وقتئذ بين ملكين متخاصمين، ومن أجل ذلك أسرع الشعب الإسكندري إلى استدعاء ملك «سيريني» إلى الإسكندرية لتولي العرش. على أن ذلك لم يكن المقصود منه طرد الملك الصغير من الحكم جملة؛ بل كان في إمكانه أن يشترك مع عمه في الملك، أو على الأقل يكون الوارث للعرش من بعده. وعلى أية حال فإن زواج «إيرجيتيس» من أرملة أخيه «فيلومتور» قد حفظ حقوق الملكة أم الملك الصغير، وكذلك حقوق ابنها، ولا نزاع في أن مثل هذه الحلول كانت قد سبق أن أفلحت في «مقدونيا» في حالات أخرى؛ مثل زواج «أنتيجونوس دوسون» من أرملة «ديمتريوس» بوصفه مربي «فيليب الخامس» ملك مقدونيا.٤

سياسة روما تجاه مصر في تلك الفترة

وعلى أية حال تدل الشواهد على أنه لم يكن هناك ما يدل أبدًا على وقوع حرب بين الحزبين المتخاصمين، وبخاصة عندما نعلم أن «روما» كانت ترقب سير الحوادث عن كثب، وأرسلت من تدخل للتوفيق في إصلاح ذات البين قبل وصول «إيرجيتيس الثاني» إلى الإسكندرية. ولا غرابة في ذلك فقد كانت قوة «روما» يُشار إليها وقتئذ بالبنان، وبخاصة أنها كانت قد تخلصت في تلك الفترة من كل ما كان يشغل بالها من جهة «قرطاجنة» بما أحرزته من انتصارات حربية حاسمة عليها، وكذلك فضت ما كان بينها وبين الحلف الآخي من مخاصمة ونزاع، ومن ثم أخذت «روما» من جديد تتفرغ لشئون مصر وما كان يدور فيها من منازعات أسرية. والظاهر أن سياسة «روما» في تلك الفترة بالنسبة لمصر كانت ترمي إلى فصل «سرنيقا» عن أملاك الدولة المصرية. غير أن «إيرجيتيس الثاني» كان له في «روما» موالون يعاضدونه بكل ما لديهم من نفوذ وقوة، وكان في وسعهم أن يقدموا حججًا تقوض ما يرغب فيه «نيوس فيلوباتور» وأمه، وبخاصة أن «فيلومتور» لم يخضع لأوامر «روما» فيما سبق، وتمادى في ذلك دون أن تنزل به أي عقاب، ومن أجل ذلك لم يجد معضدو «إيرجيتيس» في «روما» أي حرج في إعادة جمع شمل ممتلكات مصر من جديد لصالح رجل كان دائمًا يعمل عميلًا ﻟ «روما»، لا سيما أنه أصبح الآن مكروهًا من أهل البلاد ولا يمكنه المقاومة دون أن تشد «روما» عضده. وفضلًا عن ذلك رأى الرومان أن يَدَّعُوا — لأجل تغطية موقفهم وما يرغبون فيه — بأنه لا مأرب لهم ولا غرض إلا العمل على الصلح بين الحزبين المتخاصمين.

الحكم المزدوج في مصر

وقد وعد «إيرجيتيس الثاني» نزولًا على تنفيذ سياسة «روما» بأن يكون خير عون للملك الصغير،٥ وأنه فضلًا عن ذلك غير مغرض. والواقع أن «إيرجيتيس» قد أظهر الرضى التام عن كل ما طُلب إليه، بالرغم من أنه في قرارة نفسه كان يظهر غير ما يبطن؛ إذ كان قد وطد العزم على عدم التمسك بأية ارتباطات من جهة الملك الصغير. وعلى هذا عاد «إيرجيتيس» إلى الإسكندرية التي طُرد منها فيما مضى، وهو يضمر في نفسه مشاريع تنطوي على الغدر والخبث والشر الدفين، والواقع أنه إنما كان يخشى حزب أشراف الإسكندرية، وكذلك الطائفة اليهودية التي كانت تنظر إلى عودته للملك نظرة الخائف المتوجس شرًّا.

بطليموس السابع لا يعترف بحكم بطليموس السادس منذ عام ١٧٠ق.م: قتل الملك الصغير

ولم يَكَدْ يتولى زمام الحكم في البلاد حتى بادر الشعبَ بعدم اعترافه بأن أحدًا قد خلفه على عرش ملك مصر وممتلكاتها منذ أن طُرِدَ من البلاد في عام ١٧٠ق.م، وهو العام الذي نصبه فيه الشعب ملكًا على البلاد مؤيدًا له ومناصرًا، ويقول المؤرخ «جوستين»: إن «إيرجيتيس» بدأ انتقامه بأن أعمل السيف في حزب الملك الصغير ابن أخيه. ومن الجائز أنه استفتح انتقامه بعد قتل الملك بالهجوم على الأشراف الذين كانوا يناصرون الملك «نيوس فيلوباتور» المقتول، ويرون أحقيته في تولي الملك بدلًا منه، وفضلًا عن ذلك فإنه لا بد قد صب سخطه وعذابه على طائفة اليهود التي كانت تميل كل الميل إلى «كليوباترا» وابنها «نيوس فيلوباتور».

انتقام إيرجيتيس من اليهود وأعدائه

على أن ما ألحقه «إيرجيتيس» باليهود من تنكيل وتعذيب وتشريد قد كان يقوم به وهو يعلم أنه بذلك يُدخل السرور والفرح والبهجة على الشعب المصري، وبخاصة أهالي الإسكندرية الذين كانوا يبغضون اليهود أشد البغض. ولا بد أن نلحظ هنا ما قام به «إيرجيتيس الثاني» من الأعمال الوحشية كتنفيذ حكم الإعدام في عدد كبير من أعدائه أو نفيهم أو الاستيلاء على أملاكهم، هذا فضلًا عن المذابح التي كانت تحدث في الشوارع، وكذلك ظهور النقص في عدد سكان الإسكندرية بما كان يرتكبه جنوده من جرائم بشعة شنيعة، وقد قدم لنا المؤرخون كل ذلك في صورة رهيبة؛ ولا بد أن كل ذلك لم يكن قد حدث في فترة واحدة، بل لا بد أن كل هذه الجرائم كانت قد ارتُكِبَتْ في فترات متعددة طوال مدة حكمه الطويل الذي كان غنيًّا بأمثال هذه الفجائع المحزنة الفظيعة. وعلى أية حال فإن المؤرخ «جوستن» قد صور لنا الإسكندرية منذ السنين الأولى من حكم «إيرجيتيس الثاني» بأن سكانها قد نقصوا بصورة محسة بسبب ما حل بأهلها من تقتيل وتعذيب ونفي وهجرة، وبعد ذلك أخذ يسكنها أجانب.٦

العلماء يفرون من الإسكندرية خوفًا من اضطهاد إيرجيتيس الثاني

هذا، وقد قيل عن هذه الفترة — ولكن بصورة يُشتم منها رائحة المبالغة — إن علماء «المزيون» قد هجروا الإسكندرية في تلك الفترة. حقًّا قد يكون من الجائز أن بعض هؤلاء العلماء قد نزحوا من البلاد، ولكن لم ينزحوا جميعهم منها — كما قيل — دفعة واحدة. ويحدثنا في هذا الصدد المؤرخ «أثنا» الذي نقل قوله عن عالمين عظيمين، وهما «منكليز» Menecles البرقي و«أندروت» الإسكندري، أن عملية الاضطهاد كان أثرها في العهد الروماني كالأثر الذي وقع فيما بعد عندما استولى الترك على «القسطنطينية» عام ١٤٧١م، وهو العهد الذي شُتت فيه شمل علماء النحو والفلسفة والهندسة والموسيقى والرسم، ثم المعلمين والأطباء، وجم غفير غيرهم من المفتنين وأصحاب الحرف. وهؤلاء العلماء قد صاروا في حالة فقر مدقع في عهد «إيرجيتيس الثاني» لدرجة أنهم أصبحوا يُعَلِّمُون ما في صدورهم من علم مقابل الحصول على لقمة العيش التي تحفظ كيانهم. ولا نزاع في أن هؤلاء كانوا يؤلفون مجموعة من أعلام العلم والمعرفة الذين حرمتهم الإسكندرية المكث في مهد العلم والعرفان في تلك الفترة من تاريخ البشرية.

أهم العلماء الذين عاصروا إيرجيتيس

ونخص بالذكر من هؤلاء العلماء الذين هجروا الإسكندرية — العالم النحوي «أرستاركوس» Aristarchus، وقد كان مربي «بطليموس إبيفانس» و«بطليموس إيرجيتيس» البطين نفسه، وهذا العالم كان قد تلقى علومه في الإسكندرية في مدرسة «أريستوفانيس» البيزنطي، وبعد ذلك أسس مدرسة للأجرومية للنقد كان لها شهرة عظيمة لمدة طويلة في الإسكندرية أولًا وبعد ذلك في «روما». وعلى أية حال فإنه هجر الإسكندرية بسبب سوء المعاملة التي لاقاها هو والفلاسفة الذين كانوا معه على يد «إيرجيتيس الثاني» الذي كان يُلقب بالبطين، وقد ولى وجهته شطر «قبرص» حيث مات هناك وهو في الثانية والسبعين من عمره عام ١٤٤ق.م. وكان أكبر علماء عصره في النحو والنقد حتى إنه كان يُلَقَّبُ بأمير النحاة، وقد كان أول من فسر شعر «هومر» في نسخة صحيحة لم يُسْبَق إليها.٧

الثورات في عهد إيرجيتيس

حدثت عدة ثورات في الإسكندرية قام بها الأهالي من غير الموالين للملك «إيرجيتيس الثاني» الذي قام بقمعها بسفك الدماء، وكلما ازدادت تلك الثورات اشتد هذا الطاغية في إخماد نارها بكل ما لديه من قوة وبطش، وقد استمر على هذا المنوال إلى أن أصبحت البلاد في سلام، غير أنه لم يتأت له ذلك إلا بعد أن طهر البلاد من سكانها الهيلانستيكيين الذين كانوا حربًا عليه، وسنرى فيما بعد أن ما ارتكبه من جرائم قد ولد — بطبيعة الحال — الكره والحقد والضغينة عليه. ومن أجل ذلك كان الأهالي لا ينفكون ينفجرون من وقت لآخر بثورات جديدة، وكان هو بدوره يعمل السيف في رقابهم دون مراعاة أية شفقة أو رحمة. هذا، ويُلحَظ أنه بعد أن هدأت الأحوال أخذ يتتبع أثر الرجال البارزين الذين كانوا موضع ثقة عند «فيلومتور»، وكان ذلك تحت ستار أسباب مختلفة. فمن بين هؤلاء «أتامانيس جالاتيس» Athamanes Galates الذي كان قد عاد من «سوريا» من غير جيش، فقد اتهمه بأنه سلم كل الجيش عن طيب خاطر لأعداء مصر، وعلى أثر تجريده من كل شيء التجأ الأخير إلى بلاد الإغريق حيث انضم إليه عدد من المحكوم عليهم بالنفي.

ومن الغريب أن «إيرجيتيس» قد قام بهذه الاضطهادات وبخاصة العلماء مع أنه كان أديبًا؛ فقد كتب مؤلفًا عن ذكريات منوعة، منها ما دونه عن خرافات عمه «أنتيوكوس إبيفانس».

١  راجع: A Dictionary of Greek and Roman Biography and Mythology Vol. II. p. 610–614.
٢  راجع مصر القديمة الجزء ١٤.
٣  راجع Justin XXXVIII, 8, 2.
٤  راجع: B. L. I. p. 280.
٥  وقد كان أول عمل قام به أن قتل «بطليموس نيوس» في نفس الليلة التي تزوج فيها من «كليوباترا الثانية».
٦  راجع: Justin, XXXVIII, 8, 7.
٧  راجع: A Dictionary of Greek and Roman Biography and Mythology I, p. 290.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤