الخاتمة

نواجه تحوُّلًا جوهريًّا في طريقة فهمنا الفضاء المادي؛ فهو لم يَعُدْ مستقلًّا عن الفضاء الرقمي (الشبكي)، فالويب تحيطنا من كل مكان، ولم نَعُدْ «ندخل» الويب، لكننا صرنا نحملها معنا: نصل إليها عبر التكنولوجيات المحمولة، وتكنولوجيات الخرائط، والتكنولوجيات ذات الإدراك المكاني، وهي مُدمَجة في كل أنواع أجهزة الاستشعار والأجهزة الشبكية. وما الهواتف المحمولة، و«مستقبِلات النظام العالمي لتحديد المواقع» (الجي بي إس)، و«شارات تحديد الهُوِيَّة بالموجات الراديوية» (آر إف آي دي) إلا أمثلة قليلة للتكنولوجيات ذات الإدراك المكاني التي تتوسَّط تفاعُلَنا مع الفضاءات المترابطة شبكيًّا، ومع الأشخاص الموجودين فيها. عندما تعرف هذه التكنولوجيات أين نحن، فإنها تؤثر تأثيرًا حتميًّا في كيفية معرفتنا بالمكان الذي «نحن» فيه.١

يحدِّد موقعنا المادي أنواع المعلومات التي نستخرجها من الإنترنت، والأشياء والأشخاص الذين نجدهم من حولنا. صحيحٌ أن التكنولوجيات صارت ذات إدراك مكاني، لكنه صحيحٌ أيضًا أننا ازدَدْنا إدراكًا لمواقعنا المكانية. ونحن أكثر إدراكًا لمواقعنا المكانية لأننا متصلون بطرق جديدة عبر هذه التكنولوجيات بالفضاءات والأشخاص من حولنا. يمكننا أن نُلحِق معلومات بالأماكن، وأن نحدِّد البيئةَ المحيطة بنا خرائطيًّا، وأن نتصل بالناس من حولنا. يعني إدراك الموقع المكاني الدرايةَ بكل المعلومات والأشخاص الموجودين في ذلك الموقع، كما يعني استخدامَ ذلك الموقع استخدامًا مختلفًا. تخترق التفاعلات الشبكية عالمنا، وتتزايد لامعقولية أن نتصرَّف كما لو أنها لا تفعل ذلك.

هذه هي الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة. إنها عالمٌ متداخِل تداخُلًا عميقًا مع الشبكات الرَّقْمِيَّة التي تنساب خلاله، وهي تتجلَّى في الممارسات الاجتماعية اليومية، مثل رسم الخرائط، وتطبيقات التعليقات التوضيحية للأجهزة المحمولة، والشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع، إلا أنَّ لها آثارًا على كيفية تفاعلنا معًا ومع العالم، بل إن آثارها هذه تمتد إلى خارج تلك الممارسات. إنها تنعكس على السياسة والترفيه والحياة اليومية.

سعينا في هذا الكتاب إلى وضع هذه الظاهرة «الجديدة» ضمن منظور تاريخي. لقد اكتسبَتِ المكانيةُ الرَّقْمِيَّة نفوذًا في الألفية الجديدة بفضل التطور في الشبكات العالية السرعة والتكنولوجيات الموقعية («الجي بي إس»، و«الواي فاي»، و«البلوتوث»). بَيْدَ أنها انبثقَتْ من تاريخ طويل من رسم الخرائط والفنون والأبحاث. إنها ليست نتاجَ «آي فون» و«أندرويد»، ولكنها هي نتاج الحاجة الاجتماعية إلى تحديد مواقع البشر والأشياء، وإلى استحداث روابط تستند إلى الأشخاص والأشياء المتواجدة بالقُرْب. تعبِّر هذه الممارساتُ عن وسائل مختلفة ولكنها متداخلة في مجالِ تحديدِ مواقع الأشخاص والأشياء والأماكن عبر تكنولوجيات الاتصال الشبكي، وخلال عملها هذا تصنع إطارًا لإنشاء فضاءات اجتماعية جديدة وتفاعلٍ مجتمعي. وكلما ازدادت هذه الممارسات شيوعًا، تَبدَّلَ جوهرُ التفاعُل الاجتماعي الذي يقع في الأماكن المادية. ويقل تدريجيًّا الاقتناعُ بفكرة أن الويب وتكنولوجيات الأجهزة المحمولة يقطعان صلتنا بالفضاءات المادية. حتى الروائي ويليام جيبسون، مؤلف رواية «نيورومانسر»، الرجلُ المسئول عن مصطلح «سايبرسبيس» أو الفضاء الإلكتروني، سلَّمَ بذلك في سبتمبر عام ٢٠١٠ في مقالِ رأْيٍ بصحيفة «نيويورك تايمز»؛ إذ يقول: «منذ وقتٍ غير بعيد كان الفضاء الإلكتروني هو فضاء آخَر مميز، فضاء نزوره دوريًّا، ونُطِل عليه من العالَم المادي المعهود. أما الآن فقد انقلب الفضاء الإلكتروني، وأحدث انقلابًا كاملًا في بنيته؛ استوطَنَ الفضاءَ المادي» (جيبسون، عام ٢٠١٠). وهكذا لم يَعُدْ ممكنًا فصل الويب عن العالَم الذي يشغله.

نحن نحيا في أمكنة رقمية، وستستمر هذه الفضاءات في التأثير على طريقة تفاعلنا معًا على المستويَيْن المحلي والعالمي، وعلى الكيفية التي نُعيِّن بها الحدودَ حول فضائنا الخاص. تناولنا في هذا الكتاب الانعكاسات الاجتماعية للأمكنة الرَّقْمِيَّة على الطريقة التي يتفاعل بها الناس مع مجتمعاتهم المحلية وحكوماتهم المحلية وفيما بينهم، واستكشفنا أيضًا المخاوفَ والهواجس التي تبرز عندما يكون كل شيء تقريبًا قابلًا لتحديد موقعه. سيحتاج الناس الذين يعيشون في الأمكنة الرَّقْمِيَّة إلى إعادة النظر في الطريقة التي يفهمون بها الأماكن العامة، والفضاءات الخاصة كذلك؛ فالموقع المكاني الشخصي الذي كان يُعَدُّ شأنًا خاصًّا، يمكن في الوقت الحاضر أن يُذاع إلى شبكةٍ من الأصدقاء وإلى الشركات التي ستستهدف المستخدمين بالإعلان؛ فالأمكنةُ الرَّقْمِيَّة هي فضاءات كُسِيت رداءً سِلَعِيًّا، وهي لا تختلف اختلافًا جذريًّا عن الفضاءات الحضرية التقليدية «غير المتصلة بالإنترنت»، لكنها تُعِيد توجيهَ المُقِيم الحضري ليتحوَّل إلى مستهلك حضري. تمنح الشبكةُ سلطةً للفرد — وقد ذكرنا هذه الظاهرة بالتفصيل في الكتاب — ولكنها تسلِّم الفرد إلى فضاء استهلاكي شديد العقلنة؛ حيث لا يعود التمييزُ بين الاستهلاك والكينونة واضحًا.

تعزِّز التكنولوجيات الأمكنةَ الرَّقْمِيَّة؛ ولكن الأمكنة الرَّقْمِيَّة تَنتج من التفاعلات الاجتماعية. حاولنا خلال هذا الكتاب أن نبيِّن أنه على الرغم من الامتداد العالمي للويب، فهي لا تزال تحافظ على خصوصيتها المحلية. وفضلًا عن ذلك، فإن البنى التحتية التكنولوجية المشابهة تُلاءَم اجتماعيًّا بوسائل متباينة، مؤدِّيةً إلى نشوء أمكنة رقمية متمايزة في أنحاء عديدة من العالم تبعًا لذلك؛ لذا، بينما يُحتمَل أن تزداد الفضاءات الحضرية ترابطًا شبكيًّا في نموها، ستكون الأمكنة الفردية قادرةً على الحفاظ على سماتها الثقافية والسياسية والاجتماعية.

بَيْدَ أن جانبًا كبيرًا من هذا يظل غير قابل للتنبؤ؛ فالتكنولوجيا مستمرةٌ في التغيُّر بإيقاعٍ أسرع وأسرع. وتَتَشَكَّل الأمكنة الرَّقْمِيَّة حاليًّا من خلال مجموعة متنوعة من التكنولوجيات؛ مثل: الكمبيوترات المكتبية، ورسم الخرائط باستخدام «نظام المعلومات الجغرافية»، والهواتف المحمولة، واﻟ «جي بي إس» — كلٌّ من هذه التكنولوجيات متصلة عبر الشبكات الخلوية، والإنترنت، والإشارات القصيرة المدى مثل «البلوتوث» و«الواي فاي». صنعت هذه التكنولوجيات الإطارَ الذي أنتج الأمكنة الرَّقْمِيَّة، لكنْ سيكون من قصر النظر أن نُعرِّف هذه الظاهرة من خلال تلك التكنولوجيات. سيكون ذلك غير منطقي مثل تعريف أجهزة التليفزيون بأنها صندوقٌ يحتوي على صمامات مفرغة.

حتى وقت كتابة هذه السطور في خريف عام ٢٠١٠، لا تزال هذه البنية التحتية تتغيَّر. ومع أنه ليس في نيتنا أن نتنبَّأ بالمستقبل، فالوضعُ الحالي للتطور التكنولوجي يقودنا إلى تزايُدِ الاعتقاد بأنه لن يكون هناك مغزًى من التفرقة بين الهواتف المحمولة وبين الكمبيوترات الشخصية، أو بين التليفزيونات وأجهزة ألعاب الفيديو، أو حتى بين المبرِّدات والسيارات؛ إذ ستصبح جميعها واجهاتٍ تصلنا بالويب والناس والأشياء من حولنا. ومع اندماج الكائنات (التي تشمل الناس والأماكن والجمادات) في الويب، سيتلاشى أيُّ تمييزٍ بين العالم ومعلوماته.

(١) البنى التحتية التكنولوجية

أدَّى التطور السريع لشبكات الجيل الرابع إلى تسارُع التوسُّع في الأمكنة الرَّقْمِيَّة. وتُعرَف تكنولوجيا الجيل الرابع هذه، على الأغلب، بأنها امتداد لخدمات الجيل الثالث الحالية. تمتلك الهواتف المحمولة من الجيل الثالث قدرات الاتصال بالإنترنت بسرعات عالية ومعدلات ثابتة لنقل البيانات، وتتيح لمستخدميها الاتصالَ بالويب، وتشغيل مقاطع الفيديو مباشَرةً عبر الإنترنت، وتحميل التطبيقات بسرعة أعلى كثيرًا من سابقتها هواتف الجيل الثاني؛ كان استخدامها الأساسي في المكالمات والرسائل النصية القصيرة. أما هواتف الجيل الرابع فسرعتها تفوق حتى هواتف الجيل الثالث، وتستطيع التعامل حتى مع تدفُّقات بيانات أكبر (سافيري، ورينجولد، وفيان، ٢٠٠٨). إلا أن الهواتف المحمولة لم تكن دائمًا تمتلك تلك القدرة على الاتصال بالويب.

على الرغم من أن خدمة الهاتف المحمول التجارية كانت موجودةً منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي،٢ لم تمتلك الهواتف المحمولة قدرات الاتصال بالإنترنت إلا عندما أُصدِرت هواتف الجيل الثاني في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ومع ذلك كان الاتصال بالإنترنت في ذلك الوقت قائمًا على التوصيل بتبديل الدوائر، الذي يعني أن العملاء كانوا مُلزَمين بالدفع مقابلَ الوقت الذين كانوا يقضونه متصلين بالشبكة. وكان دخول الويب باستخدام هاتف محمول مُكلِّفًا؛ لأن سرعات الاتصال كانت شديدة البطء؛ لذا، كان عدد الأشخاص الذين كانوا يستعملون هواتفهم لأيِّ شيءٍ أكثر من المكالمات والرسائل النصية القصيرة قليلًا جدًّا. وبدأ هذا في التبدُّل عندما ظهرت الهواتف من الجيل ٢٫٥ في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي، على الرغم من أن الجيل ٢٫٥ لم يكن حقًّا نموذجًا جديدًا؛ فقد استخدم نظامًا يُسمَّى «جي بي آر إس» (خدمة الحزمة العامة الراديوية) التي كانت تعمل على نوع بعينه من هواتف الجيل الثاني.٣ وبالإضافة إلى تقديمها سرعات اتصال بالإنترنت أعلى ممَّا قدَّمَتْه هواتف الجيل الثاني السابقة، أتاحَتْ هواتف «جي بي آر إس» لمستخدميها الاتصالَ بالويب عبر تكنولوجيا تحويل الحُزَم، التي تعني أن المستخدمين كانوا يدفعون مقابل مقدار البيانات الذي استخدموه، لا مدةَ الاستخدام. وتأسيسًا على هذه المنصة، كان «الواب» (بروتوكول التطبيقات اللاسلكية) من أوائل التكنولوجيات التي سعَتْ إلى أن توفِّر للمستخدِمين واجهةً سَلِسة للاتصال بالويب. إلا أن الواب لم يَرْقَ إلى توقُّعات المستخدمين. كان مستخدمو الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة وأوروبا معتادين على دخول الويب عبر الكمبيوترات المكتبية، وهم مرتاحون في بيوتهم أو مكاتبهم، مستخدمين شاشة كبيرة، ولم يشعر كثير من المستخدمين بأن الواب يشبه الويب.

مع ذلك، كان الأمر مختلفًا في اليابان. بدأت شركة «إن تي تي دوكومو»، في وقت أسبق بكثير، في الاستثمار في ويب الأجهزة المحمولة. وزوَّدَ نموذجُ «آي-مود»، الذي كان يُستخدَم في اليابان منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين، الهواتفَ باتصالٍ ثابتٍ بالويب، غير أن الممارسات التكنولوجية لا تنفصل أبدًا عن الممارسات الاجتماعية، فنموذج «آي-مود» كان ناجحًا في اليابان لأسبابٍ، منها: أن الدخول الأول على الويب لمعظم الشباب الياباني كان باستخدام هواتفهم المحمولة. وإذ لم تكن لهم خبرة سابقة مع أجهزة كمبيوتر شخصية، فلم يستشعروا أنَّ ما كانوا يفعلونه بهواتفهم هو «دخول الويب»، ولكنه كان مجرد وظيفة أخرى من وظائف هواتفهم المحمولة (رينجولد، ٢٠٠٢؛ إيتو، وأوكابي، وماتسودا، ٢٠٠٥). بالإضافة إلى ذلك، يسَّرَتْ شركة «إن تي تي دوكومو» كثيرًا لمستخدمي «آي-مود» أن يصنعوا صفحاتهم الصغيرة الخاصة، وأن يرفعوها على شبكة «آي-مود».

أحد الأسباب الرئيسية لشهرة الويب هو إمكانية وجود محتوًى من إنتاج المستخدمين (جنكنز، ٢٠٠٦أ، و٢٠٠٦ب؛ شيركي، ٢٠٠٨). ولم يكن ذلك مختلفًا في حالة الهواتف المحمولة؛ لذا لم يكن أمرًا مفاجئًا أن يصدر أول هاتف من الجيل الثالث في اليابان. وبعد ذلك بفترة وجيزة أُجْرِيت مُزايَدة في المملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى على نطاقات الجيل الثالث، ثم تَبِعَتْهم الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن شبكات الجيل الثالث مَنَّتْ مستخدِمِيها بسرعات عالية في الاتصال بالويب، وبالقدرة على تنزيل مقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية وتشغيلها مباشَرةً على الأجهزة المحمولة، شعَرَ مستخدمو الجيل الثالث الأوائل بخيبةِ أملٍ (ويلسون، ٢٠٠٦). انتقل السعر الهائل الذي دفعه مقدِّمو نطاقات الجيل الثالث إلى خدمات شبكات الجيل الثالث التي طُرِحت بأسعار مرتفعة جدًّا، وفشلت في معظم الحالات في إرضاء توقعات المستخدِم. علاوةً على ذلك، استخدم مقدِّمو النطاقات نهجَ التصميم من أعلى إلى أسفل، الذي جعل من الصعب جدًّا على المستخدمين أن يُنشِئوا محتوى ويب وتطبيقات من صُنْعِهم على الأجهزة المحمولة.

إلا أن التوجهات بدأت في التغير باستحداث أنظمة التشغيل السهلة الاستخدام (مثل «آي فون» و«أندرويد»)، التي مكَّنَتِ المستخدمين من صنْعِ تطبيقات الأجهزة المحمولة، والتفاعل بسهولةٍ مع محتوى الويب على الأجهزة المحمولة، وإنتاج هذا المحتوى. وبالطبع، بعد أن يصبح للمحتوى موقعٌ، ويسهل التعرف على موقعه، تصبح قدراتُ الويب للأجهزة المحمولة جليةً. ومع أن الشبكات الخلوية الحالية صارت سريعة جدًّا، وتحوَّلَتِ الهواتف المحمولة إلى كمبيوترات مصغَّرة، فلا تزال النظرةُ السائدة إلى هذه الهواتف هي أنها «مجرد هواتف».

في بداية عام ٢٠٠٩ بدأ العديد من شركات الهاتف المحمول في الإعلان عن إطلاق هواتف الجيل الرابع التي وعدت بسرعاتِ اتصالٍ أعلى، وباندماج كامل بين الأجهزة.

بَيْدَ أن تكنولوجيا الجيل الرابع لم تكن متاحةً بشكل كامل؛ فمعظم التكنولوجيا التي وُصِفت بأنها من الجيل الرابع في ذلك الوقت استخدمَتْ معاييرَ مثل ما يُسمَّى «تطورًا طويل الأمد في مشروع شراكة الجيل الثالث» (إل تي إي)، أو «واي ماكس» (وهو نوع من الشبكات اللاسلكية البعيدة المدى)، لم تمتثل امتثالًا كاملًا لمعايير الجيل الرابع. وبالرغم من قدرة هاتف محمول واحد على التعامُل مع اتصالات من خلال عدد متزايد من التكنولوجيات الشبكية (اﻟ «إل تي إي»، و«الواي فاي»، و«آر إف آي دي»، و«البلوتوث»، وغيرها)، فهي تُبقَى منفصلة في الاستخدام الفعلي؛ فالهواتف المحمولة لا تنتقل تلقائيًّا إلى أفضل تكنولوجيا، اعتمادًا على ما هو متاح في موقعها المكاني. وطبقًا للباحث في التكنولوجيا، سيمون فراتازي، لا يوجد التقاءٌ بين الشبكات؛ فتكنولوجيات الربط الشبكي («الواي فاي» والشبكات الخلوية) مقصورةٌ على أجهزةٍ وتطبيقاتٍ محددة، على سبيل المثال: لا تزال شبكات «واي فاي» تُستخدَم بشكل عام في الكمبيوترات المحمولة، في حين أن الشبكات الخلوية هي التكنولوجيا اللاسلكية الافتراضية للهواتف المحمولة.

ويدل الاتجاه العام على أنه سيصبح في مقدور الهواتف المحمولة أن تتصل بالويب بسرعات متزايدة، إلا أن الأسعار الموجَّهة للمستهلكين في تلك النقطة ما زالت مرتفعةً جدًّا على نحوٍ يعوق انطلاقَ شبكات الأجهزة المحمولة العالية السرعة.٤ بَيْدَ أنه حتى حينما تنطلق شركات الهاتف المحمول، تؤدي الطريقة التي تعلن بها عن شبكات الجيل الرابع (بالتركيز على الهواتف) إلى إغفال الصورة الكبيرة لما يمكن أن يكون في انتظارنا؛ فشبكات الجيل الرابع التي هي نموذج الجيل الثالث إلا أنها أسرع، هي ما يصفه فراتازي وآخرون (٢٠٠٦) بأنه «رؤية خطِّيَّة للجيل الرابع». فالقدرات الحقيقية التي تنطوي عليها بنية الجيل الرابع التحتية تكمن مع ذلك فيما يَدْعونه «الرؤية التزامنية للجيل الرابع»، التي لا تعني مجرد تحسين التغطية والكفاءة النطاقية، والسعة، والقابلية للاعتماد عليها (كاتز وفيتزيك، ٢٠٠٦؛ جافيد وآخرين، ٢٠٠٨)، ولكن تمكين الاتصال عبر المنصات والخدمات. من السمات الجوهرية للجيل الرابع أنه يجعل أنواعًا مختلفة من الأجهزة قادرةً على التواصُل وتَشارُك المعلومات والمصادر. أحد الأمثلة هو استخدام «نُظُم النقل الذكية» (آي تي إس) الحالية لتخطيط مسارات المَرْكَبات وإدارة المرور (جافيد وآخرين، ٢٠٠٨). لا تزال نُظُم النقل الذكية موجودةً منذ سنين عديدة، إلا أن تزايُد عدد المدن العملاقة حديثًا في آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا أنجَزَ جيلًا جديدًا من نُظُم النقل الذكية التي تشمل أشياء، منها: الإدارة الموحدة لأجرة الانتقال، والتنبؤ بحالة المرور. تستغل نُظُم النقل الذكية الجديدة التكنولوجياتِ المعتمدةَ على الموقع المكاني التي تربط نُظُم النقل بأجهزة المستخدمين المحمولة؛ ونتيجةً لذلك، يمكنها: تنبيه الركاب بموعد وصول الحافلة التالية، وتحويل مسار التدفقات المرورية، واقتراح مسارات جديدة للسفر، مستنِدةً إلى: معلومات مرورية مباشِرة، وإدارة نظامٍ متكاملٍ لأجرة الانتقال ورسوم الانتظار (هوتن، وراينرز، وليم، ٢٠٠٩). والهدف من نُظُم النقل الذكية هو إحداث تكامُلٍ سَلِسٍ بين شبكات النقل العامة والخاصة المزوَّدة باﻟ «جي بي إس» (كالحافلات، وقطارات الأنفاق، والطائرات، والسيارات، والدراجات الهوائية)، وبين تكنولوجيات اتصال الأجهزة المحمولة ذات الإدراك المكاني من خلال نظام إدارة ذكي.

تُعَدُّ هذه الأنظمة تحوُّلًا في كيفية فهمنا للويب؛ فهي لم تَعُدْ مجرد شبكة رقمية مدعومة عن طريق «تي سي بي»/«آي بي» (بروتوكول ضبط الإرسال/بروتوكول الإنترنت) يربط بين خوادم وموجِّهاتٍ عبر الكرة الأرضية، ولكنها ملتقًى لممارسات الربط الشبكي التي تبدأ من المستوى المحلي، واصلة بين أنواعٍ متباينة من الشبكات (اﻟ «واي فاي»، اﻟ «واي ماكس»، و«البلوتوث»، واﻟ «وايبرو»، والشبكات المتداخلة)، وأنواعٍ متباينة من الأجهزة (الهواتف المحمولة، والسيارات، والمباني، والمستشعرات، وأجهزة التتبُّع، والأجهزة الإلكترونية).

تشمل منصة التشغيل التعاونية المتوخاة عبر الجيل الرابع المتزامِن طيفًا واسعًا من الأجهزة، والشبكات، والخدمات المستندة إلى نموذج «الحوسبة اللامحدودة» الذي اقترحه في الأصل مارك وايزر في بداية التسعينيات من القرن العشرين في مركز أبحاث بالو ألتو التابع لشركة زيروكس. تفترض فكرةُ الحوسبة اللامحدودة أن كل مستخدِم يعمل على خدمته عشرات أو مئات من الأجهزة الكمبيوترية، التي لا تتواجد فقط على سطح المكتب، ولكنها منتشرةٌ في أنحاء البيئة المحيطة (وايزر، ١٩٩١). ففي الحوسبة اللامحدودة، العالَمُ المادي هو موقعُ التفاعل مع عملية الحوسبة. يُرغِمنا نموذجُ الحوسبة اللامحدودة على التفكير في الكمبيوترات بطريقة مختلفة: لم يَعُدِ الكمبيوتر الشخصي ما يقبع على سطح المكتب، ولكنه كلُّ أنواعِ الأجهزة الإلكترونية، والمستشعرات، والخدمات المتاحة لنا في بيئتنا. يلحظ آدم جرينفيلد (٢٠٠٦) أن تطوير فكرة وايزر المبدئية خرَجَ عن المسار خلال العَقْد الذي تلا ابتكارها؛ فبدلًا من التمسُّك بمبدأ عامٍّ ارْتَأى الدمْجَ العام الكُلِّي لعناصر الحوسبة في عالمنا المادي، ركَّزَ جانبٌ كبير من مجتمع الأبحاث والتطوير لما بعد الكمبيوتر الشخصي على العديد من المجالات المحدودة، مثل الحوسبة القائمة على الدراية بالسياق، والحوسبة المحمولة، والحوسبة القابلة للارتداء، وما إلى ذلك. بَيْدَ أنهم أثناءَ فعل ذلك غفلوا عن الصورة الكبيرة والعناصر المشتركة التي تُدمِج كلَّ هذه التكنولوجيات. وإضافةً إلى ذلك، فهو يرى، من وجهة نظر المستخدِم العام، أن الناس يتعرَّضون في أغلب الأحيان لخبرة التعامل مع منظومة متكاملة من الأجهزة والمنصات، معظمها لا علاقةَ له بفكرتنا الأصلية عن «الكمبيوتر» بوصفه الكمبيوتر الشخصي المكتبي. بعبارة أخرى، لا يهمنا أيَّ أداة نستخدم ما دامَتْ تعمل بكفاءة، ولا يهمنا أين ندخل الويب ما دامَت بدهيَّة، وسهلَة الاستخدام، ولا تسبِّب إزعاجًا. ويقترح جرينفيلد حاجتنا إلى مصطلحٍ جديدٍ يتلامس مع هذه المنظومة الكمبيوترية المتكاملة، يدعوه Everyware أو «حوسبة الأشياء» (٢٠٠٦، صفحة ١٧).

إلا أن مصطلحات مثل «الحوسبة اللامحدودة» أو «حوسبة الأشياء» تشير إلى تطوُّر «البنى التحتية التكنولوجية». وعلى الرغم من أن هذه المصطلحات تتعلَّق بخبرةِ تعامُل المستخدِم مع التكنولوجيا، فهي تصف غالبًا أنماطَ التكنولوجيات المستخدَمة في توفير الاتصالات الشبكية؛ لهذا السبب هي مختلفة عن الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة. فالْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة هي تحوُّل ثقافي في كيفية خبرتنا بفضاءاتنا المكانية وصِلاتنا الاجتماعية. صحيحٌ أنها مدعومةٌ من تطوُّر البنى التحتية للحوسبة اللامحدودة، ولكنها تُعنَى حقًّا بما يحدث لنا ولمجتمعنا ولفضاءاتنا، حالما تتواجد هذه البنية التحتية.

(٢) البنى التحتية الاجتماعية

نحن ننتج تكنولوجياتِنا وتكنولوجياتُنا تنتجنا (تيركل، ١٩٩٥). تُشَكَّل التكنولوجيات بفعل الأماكن والمناطق التي توجد فيها (دوريش وبيل، ٢٠٠٧)؛ لذا لا يمكننا الاكتفاء بتمعُّن البنى التحتية التكنولوجية، وينبغي أن نأخذ في حسباننا البنى التحتية الاجتماعية، أو السياق الاجتماعي لاستخدام التكنولوجيا؛ فعلى سبيل المثال: في آسيا، عادةً ما تفرض الرقابةُ الاجتماعية والحكومية كيفيةَ استخدام التكنولوجيا (بيل، ٢٠٠٥). فبرمجياتُ تصفية الرسائل النصية القصيرة التي تطبِّقها الحكومةُ الصينية، والإجراءاتُ والممارسات الوطنية للرقابة على الأجهزة المحمولة وعلى الويب في سنغافورة، والقيودُ الصارمة على استخدام الجماعات الدينية الهواتفَ المحمولة في ماليزيا وإندونيسيا؛ كلُّ ذلك يبرهن على أن التكنولوجيا هي نتاج المكان الذي توجد فيه والمؤسسات التي تحتويها.

لكن البنى التحتية ليست تكنولوجيات رقمية فقط؛ فالخططُ العمرانية، والتدفقاتُ المرورية، ومواعيدُ المَرافق وكثافتها، هي جميعها بنًى تحتية تُشكِّل خبرةَ المرء بالمكان والحياة الاجتماعية، فمثلًا: مع ارتفاع أعداد الأشخاص الذين يعملون من المنزل بدوامٍ كامل في الولايات المتحدة، تزايَدَ الطلبُ زيادةً كبيرة على البنى التحتية التي تيسِّر حياةَ العاملين عن بُعْدٍ؛ لذا، فالعاملون من المنزل سيأكلون في مطاعم محلية، وسيذهبون إلى أسواق المزارعين، وسيحضرون المعارض والمهرجانات، ويقرءون الصحف المحلية الأسبوعية؛ فالحياة المحلية هي نتيجةٌ للأحداث والمؤسسات والثقافات المحلية.

هذا الاعتماد على المعرفة المحلية؛ أيِ الشعور المتزايد القوة بالهُوِيَّة المحلية وما يوافقها من سلوكيات وأولويات، هو الذي يُشكِّل صورَ المرافق المحلية وتخطيطها. وهنا يأتي دور الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة؛ فالهواتفُ المحمولة وأجهزةُ اﻟ «جي بي إس» تيسِّر الحراكَ الاجتماعي؛ إذ تُقدِّم الاتصالَ والترابُطَ مع الأماكن، وهي في الوقت ذاته ملائمةٌ اجتماعيًّا. ويتفاوت الاتصالُ والترابطُ مع الأماكن في الأسلوب والوظيفة. يُحدِّث مالكو أجهزة اﻟ «جي بي إس» الخرائطَ من الشبكة باستمرارٍ، للحصول على أحدث المعلومات المعتمدة على الموقع، مثل المنشآت الجديدة أو الحواجز المرورية. وتتغيَّر ممارسةُ الرسائل النصية بحسب السياق المحلي؛ ففي الهند، يستخدم الصيادون المتواجدون في عرض البحر الرسائلَ النصية للاطِّلاع على الطلب على الشاطئ، وبناءً على ذلك يوجِّهون صيْدَهم إلى الميناء المناسب (لانكا بيزنس أونلاين، ٢٠٠٩). وفي كينيا، يدفع الناس مقابلَ تكلفةِ السفر جوًّا، وتذاكر القطار، وتذاكر الحافلات عبر الرسائل النصية (قنسطنتينيسكو، ٢٠٠٩). وفي أوغندا، كثيرًا ما يجد المزارعون إجاباتٍ عن الأسئلة المتعلقة بالممارسات الزراعية والأمور الصحية باستخدام رسائل «جوجل» النصية وخدمة شركات الهاتف المحمول (أرنكويست، ٢٠٠٩). إن تكنولوجيات الأجهزة المحمولة هي أشياء ثقافية واجتماعية بقدر ما هي تكنولوجية (نيجروهو، ٢٠٠٢؛ أوزجان وكوجاك، ٢٠٠٣). وما دامَتِ الثقافاتُ والمجتمعات المختلفة تمتلك قِيَمًا وتوقُّعات وممارسات مختلفة، فستظل الأمكنةُ الرَّقْمِيَّة دائمًا مختلفةً من ثقافةٍ إلى أخرى، ومن مجتمعٍ إلى آخَر.

(٣) المُضي قُدُمًا

مع انتشار الويب في كل مكان واندماجها في الفضاء المادي، ثمة حاجةٌ لفهم الأهمية المتنامية للمحلية. في المقابل، ربما نظنُّ أن الحدود الوطنية تتآكل، وأن المدن تفقد خصائصَها الفريدة. هناك بالفعل — كما يلاحظ كاستيلز (٢٠٠٩) — «أزمةٌ في وضع الدولة القومية بوصفها كيانًا سياديًّا» (صفحة ٣٩). ومع ذلك، «لا تختفي الدول القومية، على الرغم من الأزمات المتعددة الأبعاد؛ فهي تتحوَّل لتتأقلم مع سياقٍ جديدٍ» (صفحة ٣٩). هذا السياق الجديد هو الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة؛ فحقيقةُ أن الويب تمضي بخطًى ثابتة على الدرب إلى المحلية، هي دلالةٌ على أن المجتمعات والثقافات والسياقات المحلية كانت دومًا مهمة، وستظل دومًا كذلك. من السذاجة إنكارُ تأثيرِ الشبكات العالمية على المجتمعات المحلية، بَيْدَ أن ما يمكننا ملاحظته في وقتنا الحالي، وربما بكثافة مماثلة، هو تأثير المعرفة المحلية والمعلومات المحلية في تشكيل الشبكات العالمية. ومن علاقة الشد والجذب تلك بين المحلي والعالمي تتكشف الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة.

تُغيِّر الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة معنى الويب وقيمتها، لا لأن التكنولوجيا حتَّمَتْ أن يكون الحال كذلك، ولكنْ لأن الناس ما برحوا يستخدمون التكنولوجيات المترابطة شبكيًّا للأغراض المحلية. وبعد ٢٠ عامًا تقريبًا من الوجود، تتجلَّى الآن الحاجةُ لفهم الويب في سياقها المحلي. لقد ولَّى زمن المقارنة بين الافتراضية والمادية؛ فنحن لا نترك أجسادنا، ولو لحظيًّا، من أجل التفاعلات الرَّقْمِيَّة. وعلى نحوٍ متزايد، لا نترك سياقَ منطقتنا بغية التفاعل مع الشبكات الرَّقْمِيَّة وداخلها. نحن نتواجد في مجتمعات محلية وأحياء وشبكات وفضاءات، والشبكاتُ العالمية التي تعزِّز هذه التفاعلاتِ تشكِّل الظروفَ، ولكنها لا تُنتِج المعنى؛ فالمعنى يُصنَع محليًّا.

هوامش

(١) كُتِبت الصِّيَغ الأولية لهذا الفصل بالتعاوُن مع جين وانج.
(٢) لتفصيلاتٍ أكثرَ في هذا الشأن، انظرْ: فارلي، ٢٠٠٥؛ آجَر، ٢٠٠٤؛ جوجين، ٢٠٠٦.
(٣) كانت تعمل تحديدًا على هواتف «النظام العالمي لاتصالات الأجهزة المحمولة» (جي إس إم) من الجيل الثاني.
(٤) سيمون فراتازي، اتصال شخصي، ٢٥ أغسطس، ٢٠١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤