الفصل الأول

الخرائط

أعلن ليور رون — مدير إنتاج جيوسيرش في شركة «جوجل» — في مؤتمر «أين ٢٫٠» الذي عُقِد في مايو ٢٠٠٨ أننا يجب أن نتوقف عن التفكير في تطبيق «خرائط جوجل»، وأوضح بفخرٍ أننا بدلًا من ذلك نحتاج إلى التفكير في البحث باستخدام «جوجل» على الخرائط. تشير هذه العبارة إلى الانتقال من تطبيق ويب منفرد له وظيفة محددة إلى طريقة جديدة تمامًا للتفكير في البحث؛ فمعظم المعلومات هي محددة المكان أو قابلة لتحديد مكانها، والخريطة — وفقًا لما قاله رون — يمكن أن تصبح الواجهة العالمية التي من خلالها نصل إلى تلك المعلومات. وقد أوضح فكرتَه بالإعلان عن ثلاث سمات جديدة لخرائط «جوجل» وهي: روابط لعرض مقالات «ويكيبيديا»، والصور، والمصادر الإخبارية. بتشغيل هذه السمات، تتحوَّل الخريطة فعليًّا من أداة للملاحة إلى واجهةِ بحثٍ. وكانت هذه هي فقط أول قطرة من الغيث؛ فقد أعلَنَ رون للحضور أنه بازدياد الإنتاج التلقائي لمعلومات المواقع بواسطة تكنولوجيات «الجي بي إس»، أو «الواي فاي»، لن تصبح المعلومات غير محددة الموقع هي القاعدة. وبالفعل فإن معظم الصور الرَّقْمِيَّة موسومةٌ\ بإحداثيات الطول والعرض على مواقع مثل «فليكر» و«بيكاسا»، والمقالات الإخبارية مربوطةٌ بمدن وأحياء، بل مربوطة حتى بمربعات سكنية معينة، والتدوينات محدَّد بها مكانَا التحميل والمحتوى، كما هي حال معظم المدونات التي تتبع أسلوبَ التدوين عبر الأجهزة المحمولة (أو ما يُطلَق عليه «موبلوج»). وفي الآونة الأخيرة، قدَّمَ بليز أجويرا إي أركاس (٢٠١٠) — مصمِّم خرائط «بينج» الخاصة بشركة «مايكروسوفت» — تطبيقًا لرسم الخرائط يُحوِّل الخرائط الإلكترونية إلى مشاهدَ ثلاثيةِ الأبعاد اعتمادًا على مستوى التكبير الخاص بالمستخدِم. أما الابتكار الحقيقي في خرائط «بينج» فهو أنها لا تسمح للمستخدم فقط بالحصول على أي نوع من البيانات الموسومة جغرافيًّا (أيْ محددة الموقع الجغرافي) — كما هو معتاد مع خرائط «جوجل» — ولكنها تسمح له أيضًا بالوصول إلى البث الحي من كاميرات الشوارع. كما تتيح خرائط «بينج» أيضًا للمستخدمين الوصولَ إلى بثٍّ حيٍّ من الكاميرات الداخلية في المنازل؛ ومن ثَمَّ لم تَعُدِ الفضاءات الخارجية فقط هي التي تُرسَم لها خرائط، ولكن أيضًا الأماكن الداخلية. وبينما يتواصل تطوير البنية التحتية لتكنولوجيا تحديد المواقع، يصبح الموقع وسيلةً عالمية للبحث عن بيانات العالم.

ثمة صناعة متنامية تتمحور حول عملية تحديد مواقع المعلومات. أُقِيم مؤتمر «أين ٢٫٠» — أحد أهم مُلتقَيات العاملين في هذه الصناعة — في عام ٢٠٠٥ برعاية شركة «أورايلي ميديا»، ليكون وسيلة لحشد الطاقات الصناعية وراء الإمكانات الجديدة التي انفتحَتْ نتيجةَ التقاء تكنولوجيات الموقع والويب. لعقودٍ عديدة، كان مجالُ تحديد الموقع الجغرافي مُرَكِّزًا على تطوير برنامجِ نظامِ معلوماتٍ جغرافية متطوِّرٍ من أجل أبحاث السوق والأبحاث الاجتماعية، وكذلك من أجل الأغراض العسكرية. ولكن، عندما أُطلِقت «خرائط جوجل» في فبراير عام ٢٠٠٥، وأصبحَتْ واجهةُ برمجة التطبيقات الخاصة بها متاحةً للعامة بعد ذلك ببضعة شهور فقط، صار النطاقُ المتخصِّص لمبرمجي نظام المعلومات الجغرافية نطاقًا متوافرًا لكل المستخدمين العاديين. وقال الجغرافي مايكل جودتشايلد عن برنامج «جوجل» الجديد: «إن تأثيره يشبه تأثيرَ الكمبيوترات الشخصية في سبعينيات القرن العشرين؛ حيث لم يكن يوجد قبل ذلك من مستخدمي الكمبيوتر إلا نخبة قليلة. وتمامًا مثلما أشاع الكمبيوتر الشخصي استخدامَ الكمبيوتر، فإن أنظمةً مثل تلك ستجعل نظام المعلومات الجغرافية شعبيًّا» (باتلر، ٢٠٠٦). وصار إدراجُ المعلومات على الخرائط — فيما أصبح معروفًا الآن باسم «مازجات خرائط جوجل» — أمرًا معتادًا. ومنذ اللحظة التي أطلقَتْ فيها «جوجل» واجهةَ برمجةِ التطبيقات الخاصة بها، بدأَتِ الخرائطُ تنتشر في أنحاء الويب عن كل شيءٍ، من الجريمة إلى العقارات وحتى الترفيه. وبالرغم من أن «جوجل» لم تكن أول من يدخل مجال الخرائط الإلكترونية، فإنها كانت ناجحةً في تحفيز تعميم ممارسات إعداد الخرائط.

ما بدأ بوصفه أداةً مفيدة، ثم استمرَّ بوصفه ممارسةً للهواة، تحوَّلَ إلى صناعة ضخمة؛ فصناعة تحديد الموقع الجغرافي — التي تركَّزَتْ في السابق على أدواتِ رسمِ خرائط معلومات لأغراض محددة فحسب — تحوَّلَتْ إلى أدواتٍ تجعل المستخدمين يقدِّمون تلقائيًّا بياناتٍ وصفية موقعية حول كل المعلومات — أو تشجعهم على ذلك — بحيث يمكن أن تكون للخرائط وظيفة ذات مجالات أكثر تنوعًا. فالصناعة الجديدة مبنية على فرضية أن رسم الخرائط على الويب هو مستقبلُ البحث المرتبط بالمكان؛ مستقبلٌ قائمٌ على فرضية أن تصبح إحداثيات الطول والعرض شيئًا مألوفًا مثل أسماء الملفات.

اسْتُخدِمَت مصطلحات عديدة لوصف هذه الظاهرة: «الويب الجغرافية المكانية» (كون، ١٩٧٠؛ شارل وتوخترمان، ٢٠٠٧)، «الجغرافية الجديدة» (تيرنر، ٢٠٠٦)، «صنع الخرائط على الويب ٢٫٠» (هاكلاي وسينجلتون وباركر، ٢٠٠٨). ولكن هذه المصطلحات تُستخدَم عادةً لوصف التكنولوجيات أو الأهداف الفريدة لاستخدامها، لا لوصف العمليات الاجتماعية والظواهرية للتفاعُل مع فضاءات مترابطة شبكيًّا. يصف مصطلحُ «الويب الجغرافية المكانية» البنيةَ الأساسية اللازمة لصنع الخرائط على الويب، ويصف مصطلحُ «الجغرافية الجديدة» مدى انتشار الممارسات التي تُكَوِّن الشبكةَ الجغرافية المشتركة، ويسعى مصطلح «إعداد الخرائط على الويب ٢٫٠» للجمع بين هذه الأشياء لتحديد آليات العرض في أداة ناشئة. أما ما لم يُتناوَل كما يجب، فهو كيف أن هذا السياق الجديد لإنتاج المعرفة الجغرافية من خلال صنع الخرائط على الويب يفعل ما هو أكثر من تغييرِ ممارسات صنع الخرائط؛ فهو يُحدِث تغييرًا في الاتصال على نحوٍ أكبر. توحي المكانية الرَّقْمِيَّة بطريقة مختلفة لمعرفة الفضاء المكاني والخبرة به، ولا تقتصر على أداةٍ مختلفةٍ لإظهاره.

لكن الخرائط ليسَتْ شيئًا جديدًا؛ فحتى قبل أن تدخل الأماكن ضمن الشبكة، كانت الخرائط تُستخدَم لفهم المعلومات في الفضاءات المادية. كتب بطليموس — الفيلسوف عالم الرياضيات اليوناني الذي ظهر في القرن الثاني الميلادي — معلنًا في السطور الأولى من كتابه «الجغرافيا» أن الخرائط هي «تمثيلٌ مصوَّر لمجمل العالَم المُدرَك وما يحتوي عليه من ظواهر» (بطليموس، ١٩٩١). لم تكن الخرائط مجرد رسوم مسطَّحة للفضاء، بل كانت تمثيلًا لكل شيء يمكن تحديد مكانه. ولكنْ بالطبع لم يمتلك رسَّامو الخرائط الأدواتِ الضروريةَ لإدراك هذا التصوُّر. وحتى تمثيل الحدود الجغرافية بدقةٍ كان في حد ذاته عمليةً صعبة تستلزم استخدامًا مكثفًا للأيدي العاملة، وتتطلَّب رحلاتِ استكشافٍ طويلة وأعدادًا كبيرة من الناس. وكان رسم خرائط للواقع المتغير للتجارة أو العلاقات المتشابكة بين البشر أيضًا؛ أمرًا يفوق ما تستطيع الخرائط فعله. ومع ذلك، فإن التطورات التكنولوجية — وخاصةً تلك التي وقعت خلال القرن الماضي — قد دفعَتْ صنع الخرائط ليغدو أقرب إلى قلب الحياة اليومية. وبينما كان يوجد دومًا اضطرار إلى تنظيم المعلومات وفقًا للأماكن المادية، فإن هذا الأمر قد تجسَّدَ تجسدًا واضحًا في الآونة الأخيرة فحسب. والآن، بعد أن صرنا محاطين بالبيانات، نجد أن الخريطة هي أكثر الأُطر المنطقية التي يمكن من خلالها فهم البيانات. سنتحدث في هذا الفصل عن كيفية تغيُّر الخرائط من أدوات ملاحية ذات وظيفة واحدة، إلى أدوات متعددة الوظائف للملاحة الشخصية عبر المجتمع والسياسة والثقافة.

(١) صنع خرائط المعلومات الاجتماعية

في عام ١٨٥٤، عانَتْ لندن من التفشي الأكثر جسامةً لوباء الكوليرا. كان مئات الناس يمرضون ويموتون بالأحياء في كل أنحاء المدينة. وأثناء الهلع، سادت نظرية الهواء الملوَّث: كان الهواء الملوَّث الذي ينبعث من المجازر أو المصانع المنتنة يسبِّب تعرُّضَ الناس للعدوى المعوية، وكانت الروائح الكريهة مكافِئةً للهواء الموبوء. إلا أن طبيبًا يُسمَّى جون سنو شكَّكَ في هذه النظرية، مدَّعِيًا بدلًا من ذلك أن جراثيمَ في ماء الشرب كانت تسبِّب تفشِّيَ الكوليرا. حاوَلَ في البداية أن يُثبِت هذه النظرية بالتعرُّف على هذه الجراثيم المجهرية، ولكن تحليله تحت المجهر لم يكن حاسمًا. وعلى الرغم من منطقيةِ مزاعِمِه، لم تَحْظَ نظريةُ الجرثومة بجاذبيةٍ كبيرةٍ لدى غالبية المجتمع العلمي. أبدَتْ قلة من الناس استعدادها للتخلِّي عن نظرية الهواء الملوَّث، ولكن سنو كان شديدَ التيقُّن أن السببَ ماء الشرب، حتى إنه أقدَمَ على جهدٍ غير مسبوق لإثبات نظريته؛ إذ غامَرَ بالدخول في «الهواء الموبوء» وإلى جانبه القسُّ الموقَّر هنري وايتهيد، وطرَقَ الأبوابَ ليستعلم عن المكان الذي حصل منه الناس على مياه شربهم. وبعد الطواف في أرجاء الحي، شرع وايتهيد وسنو في تسجيل بياناتهم على خريطةٍ للمدينة. لاحَظَ أنه كان يوجد تركُّز ملحوظ لحالاتٍ على مقربة من بئرٍ في شارع برود. الأهالي الذين كانوا يستخدمون هذه البئرَ للحصول على مياه شربهم كان احتمالُ تعرُّضهم للمرض أعلى بكثير. نجحَتِ الخريطةُ فيما فشل فيه المِجهر، وهو توفير دليلٍ حاسم، وأجبر هذا المجلسَ المحلي (الذي كان أعضاؤه حتى ذلك الوقت مدافعِين ثابتِين عن نظرية الهواء الملوث) على تعطيل البئر بإزالة الذراع المستخدمة لاستخراج الماء منها.

fig5
شكل ١-١: تمثيل سنو ووايتهيد لحالات الإصابة بالكوليرا على خريطة للندن عام ١٨٥٤. نُشِرت الخريطة لأول مرة في كتاب جون سنو «عن طريقة تفشِّي وباء الكوليرا»، ١٨٥٥.

تمكَّنَ سنو ووايتهيد — من خلال التمثيل المرئي المكاني للمعلومات الاجتماعية — من إقناع جمهورٍ ومجتمعٍ علمي متشككين بالتفكير بطريقةٍ مختلفة تمامًا. دُفِعت الخريطة إلى دائرة الضوء بصفتها أداة للتفاهم الاجتماعي، وشجَّع هذا علمَ الأوبئة الوليد، وأرسى استخدامًا جديدًا لعلم رسم الخرائط (ميريل وتيمريك، ٢٠٠٦). وأثبتَتِ الخرائطُ جدواها في تحديد العلاقات، وليس مجرد تحديد الاتجاهات. ضُمِّنت البيانات في إحداثيات جغرافية، وما إن وُضِعَتْ حتى أوضحَتِ التجاوُرَ بين نقطة وأخرى. ومع وجود نظامِ صرفٍ تحت الأرض ممتدٍّ مثل نظام الصرف في لندن، الذي كان يحتوي على وصلات دائرية بين المصادر والأنابيب والآبار، كانت الإشارة بإصبع الاتهام إلى بئر شارع برود عملًا بارعًا. بَيَّنت خريطة سنو كيف أن الحيَّ كان مقسَّمًا بين آبارٍ كثيرة مختلفة، وأن القرب من بئر شارع برود كان أمرًا تخمينيًّا، ولم يكن حاسمًا فيما يختصُّ بالوفيات نتيجة للمرض. اكتشف سنو ووايتهيد بالتحدث إلى الأهالي من بيت إلى بيت أن بعضهم — وحتى هؤلاء الذين سكنوا قريبًا للغاية من بئر شارع برود — ربما كانوا يجلبون مياهَهم من مكانٍ آخَر إذا كان ذلك أكثر ملاءَمةً للعمل أو للأسرة. فلم يكن تحديد أماكن الوفيات وحده هو ما جعل الخريطة شديدةَ الأهمية، بل رسم خريطة للمعلومات الاجتماعية — التي جُمِعت وعُرِضت بعنايةٍ — هو ما أطلق حقبةً جديدةً من علم رسم الخرائط (تافت، ١٩٩٧).

ومنذ ابتكار سنو، صار صنع خرائط للمعلومات الاجتماعية أو البيئية ممارَسةً شائعة في المجالات الآخِذة في التطوُّر؛ كعلم الأوبئة، وتصميم المناظر الطبيعية، والتخطيط العمراني، وصور أخرى من الأبحاث الاجتماعية والطبيعية. ببساطةٍ أثبَتَ تراكُبُ البيانات فوق تمثيل جغرافي — وهو ما أصبح معروفًا باسم «طبقات الكعكة» — جدواه وتلبيته عددًا من الأغراض. وكانت إحدى اللحظات الاستثنائية في رسم الخرائط المتعددة الطبقات حينما استخدم جون كيه رايت تعليقاتٍ مركبة لرسم خرائط للكثافات السكانية في منطقة كيب كود بولاية ماساتشوستس (١٩٣٦). استطاع رايت — بجمع بيانات التعداد إلى جانب بيانات من وكالة المسح الجيولوجي بالولايات المتحدة — تحديدَ ملامح في الأراضي غير المأهولة في الكيب من شأنها أن تساعد على تحديد انعكاساتها البيئية والاجتماعية. هذا العمل الأولي قاد رايت إلى أن يفكِّر في أهمية الجمع بين الخرائط والمعلومات الاجتماعية. في مقالة ترجع إلى عام ١٩٤٧، عَرَّفَ رايت ما يُسمَّى «الجيوسوفيا الخرائطية» قائلًا: «تشمل المقاربة الخرائطية إلى الحكمة الجغرافية (الجيوسوفيا) صنْعَ الخرائط التي تقدِّم معلوماتٍ عن توزيع المعرفة الجغرافية. من الواضح أن كل خريطة تخبرنا شيئًا في هذا الشأن؛ فالخريطة الجيوسوفية هي خريطة مصمَّمة تحديدًا لهذا الغرض.» كان المفهوم القائل بأن بعض الخرائط أُنْتِجت بصفة أساسية لإضفاء الصبغة المكانية على المعلومات — عوضًا عن تقديم معلومات عن الفضاء المكاني — مهمًّا إلى حدٍّ بعيد في تطوُّر علم رسم الخرائط؛ فوضْعُ الكثافات السكانية على خريطة من أجل تحديدِ توزيعاتِ الدخْلِ الفردي، شديدُ الاختلاف عن وضْعِ مواضع الأنهار والمجاري المائية؛ فالنوعُ الأول يستخدم العدسة الجغرافية لإبراز مجموعة البيانات، والثاني يستخدم البيانات لإبراز الجغرافيا. بعد ذلك، قسَّمَ رايت دراسةَ الجيوسوفيا الخرائطية إلى فئتين: الأولى هي خريطة تقدِّم المعلومات عما هو معلوم أو ما كان معلومًا عن مناطق جغرافية مختلفة — ومن ذلك شيء مثل المسح الجغرافي للكثافة السكانية الذي ذكرناه آنفًا — أو حتى أبحاث الرأي، وهذا هو ما نطلق عليه رسم خرائط للمعلومات الاجتماعية. أما الفئة الثانية فكانت نظرية، وربما تشمل الوضْعَ الكلي للآراء والاتجاهات، التي لا تُستخرَج فيها بياناتُ المستخدم بواسطة متخصِّص، ولكن ينتجها المستخدمون بأنفسهم. أما بالنسبة إلى راسمي الخرائط والمرسوم على الخريطة، فالفارق يكمن في التفاعل مع المعلومات غير المعروفة بعدُ، التي تظهر للوجود من خلال العملية الجماعية لرسم الخرائط. ولكن رايت استنتَجَ أنه «سواء أكانت هذه الخريطة الجيوسوفية تحديدًا أمرًا مستطاعًا أو مرغوبًا أم لا، فإن الخرائط الجيوسوفية بوجهٍ عام تُظهِر بجلاء التباينَ بين ظلمة الجهل ونور المعرفة» (١٩٤٧). بعبارة أخرى، الخرائط لا توضِّح فقط ما نعرفه بالفعل، ولكنها تقدِّم أيضًا الظروفَ لإعادة صياغة الأسئلة. هذه الفئة الثانية من الخرائط الجيوسوفية ليست وثيقة منتهية، ولكنها مرحلة يدخل فيها راسِمُ الخرائط والمرسوم على الخريطة في حوارٍ مستمرٍّ حول موضوع محدَّد بفضاء جغرافي. كان هذا المفهوم أساسيًّا في توجيه تطور الخرائط للدخول في بيئات الحوسبة. وفي ستينيات القرن العشرين، أعادت قدرةُ أجهزة الكمبيوتر المركزية الهائلة على معالجة البيانات تشكيلَ معنى الخريطة حرفيًّا.

(٢) نظام المعلومات الجغرافية: ملاقاة الخرائط والكمبيوترات

في أوائل ستينيات القرن العشرين، أُسِندت إلى روجر توملينسون — وهو رسام خرائط كان يعمل لحساب وزارة الاستصلاح والتطوير الزراعي الكندية — مهمةُ أتمتة خدمات رسم الخرائط الخاصة بها. ساعَدَ توملينسون — بالاشتراك مع شركة «آي بي إم» — في تطوير نظام المعلومات الجغرافية الكندي. كان هذا أول تنفيذٍ لما يُطلَق عليه في وقتنا الحالي «نظام المعلومات الجغرافية». كان دافع توملينسون لتطوير نظامٍ كهذا بسيطًا؛ إذ كان للخرائط الورقية أوجه قصورٍ كبيرة، أولها إمكانية عرْضِ قدرٍ معين فقط من البيانات الوصفية على خريطة واحدة. وفقًا لتوملينسون (١٩٩٨): «محتوى بيانات الخرائط الورقية محدود بحجم الورقة التي تُسجَّل عليها المعلومات، وبالحيز الذي يحتاجه كل بند من البيانات ليظل مقروءًا» (صفحة ٢٢). يستطيع الكمبيوتر تغيير كل هذا: إذ يوفر مرونةً غير محدودة في العرض، وفي نفس الوقت بتشفيره لتحليل البيانات من خلال معاملَيْ خط الطول وخط العرض. بالإضافة إلى ذلك يجب أن تُقرَأ الخريطة الورقية وتُحلَّل بواسطة إنسان. ويضيف توملينسون: «كي تخزِّن مقدارًا كبيرًا من البيانات على الخرائط، يجب أن تنشئ عددًا كبيرًا من الخرائط. واستخراج المعلومات على نحوٍ مرئي من عددٍ هائل من الخرائط يمثل مهمةً صعبة فيما يتعلَّق بالقراءة والقياس» (١٩٩٨، صفحة ٢٢). يمكن للكمبيوتر أن يُحَلِّل البيانات آليًّا؛ موسِّعًا نطاق مجموعات البيانات التي يمكن رسم خرائط لها توسيعًا هائلًا.

بينما قدَّمَ نظامُ المعلومات الجغرافية الكندي إمكانيةَ التكامل بين الكمبيوترات والخرائط، فإن قدرًا كبيرًا من الابتكار في هذا المجال نبع من الجامعات. ونخصُّ بالذكر هنا عملَ هوارد فيشر الذي أضفى الشرعيةَ على مجال الدراسة هذا؛ فعندما كان فيشر مهندسًا معماريًّا في شيكاجو في ستينيات القرن العشرين، عمل مع بعض مبرمجي الكمبيوتر لإنتاج أداةِ رسمِ خرائط ترابطية (سايماب)، وهي نظامٌ بإمكانه استيعاب النقاط والخطوط والمساحات بوصفها مُدخَلات، وإنتاج خريطة تفاعلية. وبعد حصوله على دعمٍ مالي كبير من مؤسسة فورد كي يستمر في العمل على مشروعه، انتقل في عام ١٩٦٥ إلى كامبريدج بولاية ماساتشوستس لينشئ معملَ رسوم الكمبيوتر في كلية الدراسات العليا للتصميم بجامعة هارفرد. أصبح هذا المركز مركزًا لرسم الخرائط باستخدام الكمبيوتر، مع وجود عشرات من طلبة الدراسات العليا وأعضاء هيئة التدريس الذين عملوا على رفع كفاءة نظام «سايماب»، إلى جانب تطوير أنظمة أخرى. وبنهاية ستينيات القرن العشرين، كان هذا النظام موزعًا على نطاقٍ واسعٍ على العديد من المعاهد والجامعات والمؤسسات في القطاعَيْن العام والخاص. وفي ذلك الوقت، كانت الجامعات في أنحاء أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة — ومنها وحدة رسم الخرائط التجريبية بالكلية الملكية للفنون وجامعة أوريجون وجامعة كانساس — توجِّه جهودَها نحوَ إنتاجِ أنظمةٍ جديدة أتاحَتْ تقدُّمًا كبيرًا في المسح التصويري والتحليل الطوبوغرافي، فضلًا عن أنها غرسَتِ الجوانب المنهجية للجغرافيا الكمية، ويشمل ذلك ما أصبح معروفًا بالإحصاء الجغرافي. كان نظام المعلومات الجغرافية متطورًا تطورًا كافيًا فيما يختصُّ بتكنولوجيات ومنهجيات استخراج البيانات لكي يكون له حضور قوي في التخصصات المكانية، مثل: التخطيط العمراني، وعلم الأوبئة، والهندسة المعمارية، والجغرافيا، وعلم البيئة. ولكنه بالتأكيد لم يكن مقصورًا على العمل الأكاديمي؛ فمع حلول ثمانينيات القرن العشرين، أدَّتِ احتياجات المجالس البلدية وباحثي السوق والجيش إلى تحويل نظام المعلومات الجغرافية إلى صناعةٍ بمليارات الدولارات (بينج وتسو، ٢٠٠٣).

(٣) نظام المعلومات الجغرافية على الويب

في أواخر تسعينيات القرن العشرين، غيَّرَتِ القدرةُ على تقديم أدواتِ نظام المعلومات الجغرافية أو منتجاته عبر الويب من الجدوى الاجتماعية لرسم الخرائط. فما كان يُعْتَبَر أداةً للاختصاصيين لمعالجة مجموعات البيانات المجمَّعة باحترافيةٍ بهدف التحليل المتخصِّص، صار ممكنًا نشْرُه حينئذ على نطاقٍ واسعٍ على الويب (بينج وتسو، ٢٠٠٣). طُرِح برنامج «زيروكس بارك ماب فيووَر» عام ١٩٩٣، وأتاح استخراجَ الخرائط المحلية من خلال روابط تشعبية. استمرَّتِ التطبيقاتُ المتخصصة في الظهور، وفي منتصف تسعينيات القرن العشرين أرست منظمة «أوبن جيوسبيشال كونسورتيوم» قواعِدَ لتَوَافُقِيَّةِ رسم الخرائط، كي يتمكَّن مختلف مطوِّري نظام المعلومات الجغرافية على الويب من مشاركة البيانات الجغرافية. وكانت شركاتٌ مثل «إيزري» — مستغِلَّةً مصادر البيانات المفتوحة حديثًا — محوريةً في الانتشار الواسع لنظام المعلومات الجغرافية على الويب. وسرعان ما استخدمَتِ المنظماتُ العامة والحكومات هذه الأدوات لإتاحة البيانات لمجتمعاتها الانتخابية. وتواجدت سوق محدَّدة للخدمات المكانية؛ فلم يكن الأمر بمنزلة فرض هذه التكنولوجيا على العامة، بل إن العامة أنفسهم أرادوا معرفةَ مكانِ تواجُد الأشياء. على سبيل المثال: فُتِحت قواعدُ البيانات الخاصة بالبلديات في أونتاريو بكندا، وفي كاليفورنيا بالولايات المتحدة لاستخدام العامة، فأتاح ذلك للناس الوصول إلى الخرائط الرسمية لحدود المِلكية ومسارات مرافق الخدمات. وفي عام ١٩٩٧ جعلَتْ مدنُ صناعة النسيج بمقاطعة كاباروس بولاية كارولينا الشمالية كلَّ سجلات الأراضي العامة متاحةً على الويب؛ فصار باستطاعة المستخدمين البحثُ عن أيِّ قطعة أرض، واستخراج سجلات تاريخ ملكيتها وتقسيماتها، بالإضافة إلى سجلات الضرائب. يَسَّرَ النشرُ عبر الويب وصولَ المستخدمين التقليديين إلى الأشياء العالية القيمة المُكوِّنة لعمليات نظام المعلومات الجغرافية. وكما ذكر كريستيان هاردر (١٩٩٨)، فإن هذا التحول في الانتشار قد تكون له تداعيات مهمة على المجتمع. وردًّا على أولئك الذين يدَّعُون أن الويب لا تغيِّر السمةَ الأساسية لنظام المعلومات الجغرافية، وأنه جعلها فقط متصلة بالشبكة، يفنِّد هاردر هذا الادِّعاء قائلًا إنه: «يماثل القولَ بأن آلة الطباعة لا تغيِّر السمة الأساسية للكتاب؛ فقيمةُ المعلومات الجغرافية (مثل كل أشكال المعلومات الرَّقْمِيَّة) وقوةُ تطبيقات نُظُم المعلومات الجغرافية في حل المشكلات متناسبتان مع إمكانية الوصول إليهما» (١٩٩٨، صفحة ١). أتاحت الويب للناس في المنازل والمكاتب في كل أنحاء العالم الوصولَ إلى خرائط مُنتَجة بالكمبيوتر للتعرُّف على مُدُنِهم وأحيائهم، أو الحصول على إرشاداتِ الطرق لقيادة سياراتهم، أو ليصمِّموا شبكاتٍ اجتماعيةً. وأيًّا ما كان محتوى هذه الخرائط، فإن الإمكانية اللامحدودة للتوزيع عبر الإنترنت قد تُعِيد صياغة السجال الدائر حول نظام المعلومات الجغرافية مرةً أخرى. إمكانيةُ الوصول لا تختصُّ فقط بعدد الناس الذين يحصلون على نوع محدد من التكنولوجيا، ولكنها ترتبط أيضًا بكيفية تغيير التكنولوجيا للممارسات الاجتماعية والثقافات المحلية. وبالعودة إلى مثال الكتاب، ففي دراستها المستفيضة لأثر آلات الطباعة في أوروبا الحديثة، تشير المؤرخة إليزابيث آيزنشتاين (١٩٧٩) إلى أن سهولة النشرِ أسفَرَت عن أعدادٍ هائلةٍ من الكتب بلغات غير اللاتينية؛ وهذا ما أسهَمَ في نهاية الأمر في اعتماد العديد من المقاطعات العامية المحلية لغةً رسمية. ونتيجةً لذلك، صار ممكنًا تعليم القراءة لعددٍ أكبر من الناس، وأدى هذا إلى زيادةِ عددِ مَن يعرفون القراءة والكتابة. بالإضافة إلى ذلك، كان للقدرة على الوصول إلى نسخ عدة (متعارضة) من الأعمال نفسها أثرٌ في تطوُّر العلوم الحديثة (وتبع ذلك ثقافة تقوم على الشك في كل شيء والتجريب)، وقاد ذلك أخيرًا إلى الإصلاح البروتستانتي. وعلى المنوال نفسه، فإن ازدياد سهولة الوصول إلى نظام المعلومات الجغرافية عن طريق الويب لم يغيِّر فقط طبيعةَ فهمنا لنظام المعلومات الجغرافية، ولكنه غيَّرَ طبيعةَ نظام المعلومات الجغرافية ذاته بوصفه واجهة تفاعلية، وهذا ما يُشكِّل طرقًا جديدة نتفاعل من خلالها مع البيانات المكانية.

لم يعتبر الجميع هذا النشرَ الواسعَ النطاق لنظام المعلومات الجغرافية شيئًا جيدًا (فورسمان، ١٩٩٨). شكَّك بعض النقاد في أن ينتج من هذا الشكل الكمبيوتري لرسم الخرائط أيُّ نموٍّ معرفي. وبينما أكثر مناصِرو نُظُم المعلومات الجغرافية من استخدام تعبيراتٍ مثل: حرية، وفرصة، وتمكين، وتواصُل، وديمقراطية، ليدلِّلوا على إيمانهم المستمر بالدور الحسن لهذه التكنولوجيا؛ استخدم المعارضون تعبيرات مثل: سيطرة، واستغلال، وتقييد بغيض ومبهم ونخبوي (كلارك، ١٩٩٨). كانت القوة المركزية للنقد تنبع من أنه من خلال إدراج المعلومات الاجتماعية آليًّا على الخرائط، فإن الذوات التي أنتجت البيانات الأصلية قد شُيِّئت واخْتُزِلَت إلى مجرد مجموعات بيانات. وادَّعَى النقادُ أن نظام المعلومات الجغرافية يعمل عن طريق اختزال الذاتية البشرية المعقَّدة داخل آلةٍ لتعالَج وتعمَّم؛ ولهذا فإنها تناهض الفرضيات المؤسِّسة للديمقراطية الليبرالية.١ ومع أن الانعكاسات العملية لهذا النقد لم يَبْدُ أنها تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على صناعة نظام المعلومات الجغرافية المزدهرة، فإنها أفادت في تأطير الجدال الأكاديمي بشأن نظام المعلومات الجغرافية حول مسألتَي الديمقراطية والنزعة الإنسانية. ما الذي يصير على المحك عندما تُجَمَّع بيانات المرء الشخصية وتُدْرَج في صورة تمثيل للفضاء المكاني؟ وإذا كان من الممكن رسم خرائط للمكونات الخاصة بحياة المرء — كالعِرْق، والدخل المادي، والمعتقدات السياسية — بطرقٍ لا حصرَ لها لإثبات نقاط متباينة، فما السلطة التي يضحِّي بها المرءُ عندما يجعل بياناته متاحةً؟ هل تحطَّمَتْ قوة الفاعلية الشخصية نتيجةَ إمكانيةِ صنع الخرائط الكمبيوترية؟ هل يزيد هذا من الفجوة بين من يصنع الخريطة ومن يُدْرَج في الخريطة؟ ولكن الويب تعهَّدَت بأنْ تبدِّد الكثيرَ من هذه المخاوف؛ فلم تَعُدْ هناك حاجة إلى أن يُحَلِّل مجموعة من الخبراء مستندًا ما، فخريطةُ نظام المعلومات الجغرافية المنتجة بالكمبيوتر يمكنها أن تتواصل على مدًى واسع؛ فانتقلَتْ من كونها وثيقةً علميةً وأصبحت منطقًا ثقافيًّا، وأزالت الموقعَ من نطاق الخبراء ووضعَتْه في أيدي العامة.

يصف ياسِك مالتشفسكي (٢٠٠٤) ثلاث مراحل رئيسية لتطوُّر نظام المعلومات الجغرافية: الأولى: هي مرحلة الأبحاث الأولية في فترة خمسينيات وستينيات القرن العشرين. والثانية: هي مرحلة الاندماج التي وُظِّفَ فيها نظام المعلومات الجغرافية للأغراض العامة في الكثير من السياقات العلمية، وكان ذلك في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. والمرحلة الثالثة: هي مرحلة الانتشار التي يميِّزها التحوُّل إلى نظام معلومات جغرافية عبر الويب، موجَّه إلى المستخدِم، وذلك في تسعينيات القرن العشرين. وبالفعل، بحلول عام ١٩٩٨، كان البحث عن اتجاهات القيادة على الطرق، أو تحديد موقعِ شركة ما، أو تتبُّع الأحوال الجوية؛ من أكثر الأشياء شيوعًا في استخدام الاتصال الشبكي (بيترسون، ١٩٩٩). أتاحت الويب للمستخدمين الحصولَ على المعلومات الجغرافية متى شاءوا، ولكنها لم تطرح حتى ذلك الحين الرغبةَ في «تقديم» المعلومات الجغرافية، أو ما سمَّاه مايكل جودتشايلد (٢٠٠٧) «المعلومات الجغرافية المقدَّمة طوعًا». ومع ازدياد أعداد المستخدمين المتفاعلين مع الخرائط، اتضح بجلاءٍ أن الإمكانات الحقيقية لنظام المعلومات الجغرافية تكمن في المستخدمين أنفسهم، لا في جامعي البيانات المتخصصين. وإذ حولت الويب تركيزَها تجاه المحتويات التي يُنشِئُها المستخدِمون، أصبح عالَم نظام المعلومات الجغرافية على الويب يحدِّد الأُطُرَ العامة لعرض الخرائط على الإنترنت. وهذا ما يمثِّل مرحلةً رابعةً من مراحل تطوُّر نظام المعلومات الجغرافية، ويؤدِّي إلى سياقٍ يتخطَّى فيه رسمُ الخرائط دورَه كأداةٍ للتمثيل المرئي، ويصبح أداةً تنظيمية مركزية للاتصال الشبكي (ميلر، ٢٠٠٦). وبصورة أكثر تحديدًا، فإن صنع الخرائط قد تغيَّرَ من شيءٍ يمكنه تحديد مكان المعلومات الاجتماعية، إلى شيءٍ يمكنه أن يجعل المعلومات المكانيةَ اجتماعيةً. حالما يُحدَّد موقع المعلومات جغرافيًّا، تصير هي السياق والمحتوى للتفاعُل الاجتماعي.

(٤) الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة

كان شراء «جوجل» شركة خدمة صنع الخرائط الرَّقْمِيَّة «كيهول» في عام ٢٠٠٤ محفزًا رئيسيًّا للتحول الحديث في أساليب رسم الخرائط. أصبح من الممكن تركيب صور الأقمار الاصطناعية التي كانت تحويها قاعدةُ بيانات «كيهول» معًا، بحيث يسهل تحريكها وتكبيرها، محوِّلة الخرائط الثابتة بفاعلية إلى وثائق ديناميكية مَرِنة. وبالإضافة إلى الرسوم المتجهية التي تتسم به خريطة الإنترنت المعتادة، أضفَتْ صور الأقمار الاصطناعية إحساسًا بالسلاسة والانسيابية؛ فلم تَبْدُ الخريطةُ شيئًا منفردًا، وإنما إعادة تصوير سائلة ﻟ «حالة كوكب الأرض».

ومع أن انسيابية واجهة «جوجل» التفاعلية كانت مهمة، فلم ينشأ الابتكار الحقيقي من تصميمات الواجهة التفاعلية التي قدَّمَها موظفو الشركة، ولكن مما قدمه بعض مخترقي الشبكات المَهَرَة. بعدَ وقتٍ قصير من إصدار «خرائط جوجل»، بدأ المستخدمون استخدامَ واجهةِ التطبيق البرمجية لينتجوا تطبيقاتٍ مركَّبةً من مجموعات البيانات القائمة. أضاف أدريان هولوفاتي — وهو أحد مستكشفي «جوجل» القدامى — إحصائيات الجرائم الخاصة بإدارة شرطة شيكاجو إلى خريطة «جوجل». وعندما نشط الموقع، كان في مقدور المستخدمين البحثُ في الجرائم وفْقَ النوع، أو الشارع، أو التاريخ، أو قسم الشرطة، أو الرقم البريدي، أو الحي، أو الموقع الجغرافي. وعلى الفور أضحى الموقع شهيرًا وسطَ ملَّاك العقارات السكنية أو مشتري العقارات المحتمَلين الذين أرادوا تحديدَ درجةِ أمان الأحياء السكنية.

وبحلول شهر يوليو من عام ٢٠٠٥، قررت «جوجل» إتاحةَ واجهة التطبيق البرمجية الخاصة بها لمن يريدها. وكنتيجةٍ مباشِرة لذلك، اجتيحت الويب ﺑ «مازجات خرائط جوجل»؛ كلِّ شيءٍ، من الصور الشخصية إلى أفضل مسارات الدراجات في المدينة، إلى محتويات الأفلام والبرامج التليفزيونية. وفي العام نفسه، أنشأ مايك بيج (٢٠٠٥-٢٠٠٦) مدوَّنةً سمَّاها «جوجل مابس مانيا» لتكون وسيلة لمواصلة تتبُّع هذه المشاريع. وهذا الموقع في الوقت الحالي يُعَدُّ مرجعًا لآلاف الخرائط، ويحدَّث يوميًّا. الخرائط مرتبة في تصنيفات مثل: الأحداث الجارية، الانتقال والمواصلات، والإسكان والعقارات، والطقس والأرض، والبيرة والنبيذ، والمدونات، والتليفزيون، والأفلام، والمشاهير، إلى آخر ذلك.٢

ما الذي يميِّز هذه المرحلة إذًا من المرحلة السابقة لنظام المعلومات الجغرافية؟ بينما أتاح نظام المعلومات الجغرافية على الويب وصولًا متزايدًا إلى البيانات المكانية، فإنه لم يوفِّر المرونة للمستخدِم لاختيارِ مجموعة البيانات وإنتاجها. ومع أنه وفَّرَ بعضَ القدرة على التفاعل مع البيانات، فإنه لم يُبْنَ على أساس هذا التفاعل. في المرحلة الرابعة من نظام المعلومات الجغرافية، لا تُعتبَر الخرائط مجردَ وثائق بصرية للاستخدام، بل هي واجهات يصل من خلالها المستخدِم إلى البيانات على الشبكة، ويُغيِّرها، وينشرها. فإذا كانت الوظيفةُ الرئيسية لنظام المعلومات الجغرافية هي دَمْج قواعد البيانات مع الخرائط، حيث تظهر قاعدةُ البيانات وتنعكس على الخريطة، فيمكننا أن نبدأ في إدراك الممارسات الحالية على أنها عكس هذه الفكرة؛ «فالخريطة تنعكس في قاعدة البيانات». ودمج هذه المرحلة الرابعة من نظام المعلومات الجغرافية في العديد من جوانب البحث عبر الإنترنت غيَّرَ نهجَ المستخدم حيال البيانات على نحوٍ عام.

تمثِّل خريطة «جوجل» بوابةً نحو قاعدة بيانات شاسعة للمعلومات. إنها تحوي اختيارات للبحث النَّصِّي، بالإضافة إلى الاستعراض البصري للموقع. على سبيل المثال: يجلب البحثُ عن «شيكاجو، إيلينوي» خريطة، ولكن الأهم من ذلك أنه يجلب واجهةً لإجراء عمليات بحث أخرى. وتُمثَّل الصور ومقاطع الفيديو من «يوتيوب» ومقالات «ويكيبيديا»، بالإضافة إلى قوائم الأعمال ﺑ «علامات موضعية»، ويتيح النقر على هذه العلامات الموضعية وصولًا مباشرًا إلى الوسائط والمصادر الخارجية، من خلال نافذةٍ حوارية تنبثق من الخريطة. وبينما يمكن الوصول إلى هذه البيانات من خلال واجهة «جوجل» النَّصِّية، تتيح الخريطة تجميعًا جغرافيًّا يختلف جوهريًّا عن قائمة البحث النَّصية. البياناتُ واحدة، ولكن مع استمرار المستخدمين في التفاعل معها، يتزايد اعتماد التوسُّعُ الهائل لبيانات الويب على التمثيل المجازِي للفضاء المادي والموقع النسبي للمستخدم بداخل ذلك الفضاء المجازي.

حظيت «جوجل» وعملية تخصيص المستخدمين لواجهة تطبيقها البرمجية الخرائطية على تأثير جوهري في تحويل رسم الخرائط من ممارسة متخصصة ومدروسة إلى فعل مِلاحة عام وضمني. وبينما لم تكن «خرائط جوجل» هي الوحيدة في هذا المجال، فإنها غيَّرَتْ مجريات الأمور؛ فقد أسهمت «جوجل» بدور أكبر مما أسهمت به أي شركة أخرى في جعل ممارسات رسم الخرائط نشاطًا طبيعيًّا. وبينما كان ذلك جزئيًّا نتيجةً لجعل واجهة التطبيق البرمجية لخرائطها «مفتوحة المصدر»، كان للأمر علاقة أوثق بجهودها لجعل البروتوكولات الجغرافية عالمية. نتيجة استحواذ «جوجل» على «كيهول» عام ٢٠٠٤، أسَّسَتِ الشركة «لغةَ ترميز كيهول» (كي إم إل)، التي توفِّر مخططًا عامًّا للتعبير عن التعليقات الجغرافية والتمثيل المرئي لواجهات الخرائط الثنائية والثلاثية الأبعاد. و«لغةُ ترميز كيهول» هي النسخة الجغرافية من «لغة الترميز الموسَّعة» (إكس إم إل) التي تُستخدَم في جلب البيانات المنظَّمة من تطبيقٍ إلى الآخَر، على سبيل المثال: لو أن شخصًا أراد أن ينقل مدوَّنةً من موقع «بلوجر» إلى موقع «ورد برس»، لَاحتاج فقط إلى جلب ملفٍ بلغة الترميز الموسَّعة إلى النظام الجديد. يحتوي ملف لغة الترميز الموسعة على معلوماتٍ عن التنسيق والروابط والمستخدِمين. وبالمثل، فملفٌ ﺑ «لغةِ ترميز كيهول» يشتمل على معلومات عن عناصر مثل: العلامات الموضعية، وإحداثيات الطول والعرض، والصور، والمضلعات والنماذج الثلاثية الأبعاد. وهي تسمح لأي شخص بأن ينقل خريطةً من نظامين مختلفين؛ فمثلًا: من نظام «خرائط جوجل» إلى أيِّ نظام مؤهل لاستخدام «لغة ترميز كيهول». ومكَّنَتْ هذه الخطوة «خرائطَ جوجل» من أن تنسلَّ إلى المعلومات الخرائطية الأخرى، كي تُحسِّن من نتائج بحثها. وفي عام ٢٠٠٨، أعلنت «جوجل» عن «تبرعها» ﺑ «لغة ترميز كيهول» — التي كانت بروتوكولًا مملوكًا لها — لمنظمة «أوبن جيوسبيشال كونسورتيوم». وبينما لاقَتْ تلك الخطوة استحسانًا واسعًا في مجتمع مطوِّري البيانات الجغرافية المكانية، فإن رغبة «جوجل» لجعل «لغة ترميز كيهول» مفتوحةَ المصدر لم يكن دافعها خيريًّا، بل كانت دَفْعةً لتطبيع ممارسات رسم الخرائط، كوَّنَتْ كمًّا أكبر من البيانات الجغرافية المكانية المتوافقة مع واجهةِ بحث «جوجل» المعتمِدة على المكان، إلى جانب صنع المزيد من المنافسة.

في البداية، عندما أطلقَتْ «جوجل» واجهةَ التطبيق البرمجية الخاصة بها، كان الابتكار الأوَّلي هو المرونة في اختيار مجموعات البيانات. كان في مقدور المستخدمين الذين لديهم معرفةٌ قليلة بالترميز أنْ يأخذوا أيَّ مجموعةِ بياناتٍ ويدرجوها في خريطة. وفي خلال بضعة أعوام، حسَّنَتْ «جوجل» واجهتَها لتجعل صنْعَ الخرائط في سهولة النقر على زر «خرائطي»؛ وبهذا ازدادَتْ أعدادُ الخرائط الأحادية الوظيفة على الويب زيادةً هائلةً. كانت خرائطُ الحمامات العامة، أو رموز المناطق أو المطاعم، أو مشاهَدات الأجسام الطائرة المجهولة، أو ما شابَهَ ذلك؛ شائعةً.٣ وفي الوقت ذاته، انطلَقَ عدد من المنصات الجديدة التي سعت إلى استغلال الإمكانيات المتعددة الوظائف لصنع الخرائط. وبينما تستطيع خريطةٌ من «خرائط جوجل» أن تعرض مجموعة بيانات مفردة، ما لم تكن مقيدة مسبقًا، فإن الواجهة مفتوحة للوصول إلى بيانات أخرى أيضًا، وصُمِّمت أنظمةٌ مثل «بلاتيال» و«فرابر» للاستفادة من إمكانيات الوظائف المتعددة للخرائط.

يعرِّف موقع «بلاتيال» نفسَه بأنه «دليلُ الناس إلى الأشخاص والأشياء القريبة منهم». يتيح «بلاتيال» — مستخدِمًا واجهةَ تطبيقِ جوجل البرمجية — طريقةً سهلةً لتحديد أماكن الناس والأشياء على الخرائط حول موضوعات محددة. يستطيع مُعجَبان ﺑ «لِيل كيم» أو «فيفتي سنت» أن يعثر أحدهما على الآخَر بواسطة «ملفات التعريف الشخصية» أو «الصيحات» الملحقة بالعلامات الموضعية. وتتراوح الموضوعات من المتاجر المفضلة لخيوط الغزل إلى أفضل قهوة، وهي بمثابة المُنطلَق الذي من خلاله يَتواصَل المستخدمون. وكان هناك أيضًا موضوعاتٌ أكثر جديةً، من إعادة إحياء ساحل الخليج إلى الزراعة المحلية. تشجِّع خريطةٌ بعنوان «إعانة المزرعة» الناسَ في منطقة نيويورك على إدراج المزارعين المحليين. ويستطيع أيُّ شخص أن ينضمَّ ويشارك في هذه الخريطة، ما دامَتِ الخريطة مُصمَّمةً من قِبل مُنشِئِها كي تكون مفتوحةً. ويمكن الاطِّلاع على خرائط «بلاتيال» على موقع «بلاتيال»، أو يمكن أن تُدمَج في المدونات، أو صفحات «فيسبوك»، أو أي تطبيق خرائط آخَر متوافِق مع «لغة ترميز كيهول».

وكذلك، يتيح موقع «فرابر» (الذي استحوَذَ عليه موقع «بلاتيال» في عام ٢٠٠٧) وظيفةً مشابهةً، ولكنه مصمَّم في المقام الأول ليكون أداةً مدمجةً في التطبيقات الأخرى. يستطيع أيُّ شخصٍ أن يصنع خريطة، ويدعو مستخدمين آخَرين للدخول إليها، ويدمجها في شبكة اجتماعية موجودة. يُعَدُّ «بلاتيال» و«فرابر» كلاهما مثالين لأنظمةِ مزْجِ «خرائط جوجل» التي تعطي أولويةً لإمكانات التواصل الاجتماعي المرتبطة بتصفح البيانات الجغرافية وتمثيلها المرئي؛ فكلاهما يستغلُّ الصورةَ المجازية للحالة المادية ليضع المستخدمين ضمنَ مجموعات البيانات، وأهمها موقع المستخدمين الآخرين المُدْرَج، على سبيل المثال: استضاف موقعٌ لمحبِّي المسلسل التليفزيوني الشهير «لوست» — الذي عُرِض على قناة «إيه بي سي» — خريطةً من تطبيق «فرابر» ليتمكن محبو المسلسل من أن يجد بعضهم بعضًا. ادَّعَى لوجان — الذي يعيش في مدينة آيوا — بفخرٍ أنه كان «ممثلًا عن مسلسل «لوست» في منطقة الغرب الأوسط». عملَتِ الخريطة في هذه الحالة على إعادة توجيه المستخدم العادي — المرتبط بالمجموعة من خلال الإعجاب المشترك بمنتج إعلامي غير مرتبط بمكانٍ — إلى موقعه المادي. وبينما لا تزال المجموعة متفرقةً، فإن جمهورَ المعجبين محدَّدُ الأماكن. ويُنشر تطبيق «خرائط جوجل» في أماكن العمل والفصول الدراسية، والمنظمات المهنية وأوساط المعجبين، لتقديم سياق جغرافي لعالَم من البيانات الشبكية التي يُحتمل ألا تكون مرتبطة بمكان. في بعض الحالات، قد تكون هذه الممارسة مجرد استخدامٍ جديدٍ لأداة إلكترونية، بينما توفر في حالات أخرى طبقةً من السياق مهمةً لترابُط المجتمع (كيرشينباوم وروس، ٢٠٠٢).

أضحَتِ الخرائط أكثر من مجرد أدوات أحادية الوظيفة. وتزداد رغبة المستخدمين في الكشف عن مواقعهم ضمن أي مجموعةِ بياناتٍ يشاركون بها. لنتأمل — على سبيل المثال — تطبيقَ «فيسبوك نيبورهودز». تُمكِّن إضافة هذا التطبيق إلى صفحة فيسبوك الشخصية المستخدمين من تجميع مستخدمين آخَرين في نطاق أحيائهم السكنية التي حدَّدوها في التطبيق. ويستطيع المستخدمون التعرُّفَ إلى أشخاصٍ في شبكتهم الجغرافية المحلية، ومع أن التطبيق لا يدمج خريطةً ضمن واجهته، فإنه يمنح أفضليةً للتصنيفات الثقافية للأحياء السكنية على التصنيفات الموضوعية لمحيط المدينة. وكي يعمل هذا التطبيق، يتطلَّب من كلِّ مستخدمٍ تحديدَ موقعه ضمن نطاقٍ جغرافيٍّ ذي صلة. وكاستراتيجيةٍ للنمو، يتضمن التطبيقُ مسابقةً بين المستخدمين لتحديد مواقع المستخدمين الآخرين. يمنح التطبيقُ دافعًا للمشاركة، وذلك بتقديمه نقاط «بنَّاء الحي السكني» (٥ نقاط لكل دعوة، و٥٠ لكل دعوة مقبولة). وتوجد قائمةٌ على جانبٍ من الشاشة الرئيسية تضمُّ بنَّائي الأحياء السكنية الأعلى ترتيبًا، وبجوارهم النقاط التي حصلوا عليها. يضيف التطبيق إلى تأثيره المحلي استراتيجياتٍ تنظيميةً تشبه التنظيم المجتمعي. وعندما يكون المرء منظِّمًا محليًّا داخلَ شبكة عالمية يحصل على إمكانياتٍ للفهم نادرًا ما تُرى في سياسة الأحياء السكنية.

الدافع المحفِّز للمرء على كشف موقعه في شبكة الخرائط الآخِذة في الاتساع هو الروابط البشرية نفسها التي تَحسَّر النقاد الأوائل لنظام المعلومات الجغرافية على فقدانها. إلا إنه خلافًا للنقد الذي شُنَّ ضدَّ الإصدارات الأقدم من نظام المعلومات الجغرافية، فإنه يوجد في وقتنا الحالي خطابٌ حماسي عن النزعة الشعبية وعن تحكُّم المُستخدِم كان غائبًا تمامًا في الأجيال السابقة؛ فتحديدُ موقعك الجغرافي ومواقع الآخَرين يمكن بالفعل أن يكون مصدرَ تمكينٍ، كما أنه يمثِّل أيضًا الهدفَ التجاري الواضح للعديد من الشركات القوية التي تجني الكثير من العالم الذي يتزايد فيه تحديد المواقع (جوردون، ٢٠٠٧؛ تومبسون، ٢٠٠٩). تولي «جوجل» اهتمامًا كبيرًا لجعل موقع كل شيء قابلًا للتحديد؛ فمن خلال محاولتها جعل خرائطها واجهة شفافةٍ لمجموعات البيانات الضخمة — مثلما فعلَتْ مع عمليات البحث الرَّقْمِيَّة والأبجدية التصاعدية — يمكنها أن تضع نفسها في موضع حارس البوابة للمعرفة الجغرافية عمومًا، بالإضافة إلى المعلومات الجغرافية أيضًا.

(٤-١) الخرائط التمثيلية

النظرُ إلى العلامات الموضعية على خريطةٍ شيءٌ، أما التقريبُ حتى الدخول في نطاق شوارع المدينة فذاك شيءٌ مختلف تمامًا. أطلقَتْ «جوجل» خاصيةَ «التجوُّل الافتراضي» (ستريت فيو) في مايو ٢٠٠٧، وهي خاصية أخرى في الخريطة تسمح للمستخدمين أن يقرِّبوا الصورة حتى الوصول إلى سلسلةٍ من الصور الفوتوغرافية البانورامية المتداخلة. وبالنقر على أَسْهُم الاتجاهات، يستطيع المستخدمون «السَّيْرَ» في الشارع ورؤية محيطه. قُدِّمت خاصية «التجول الافتراضي» في البداية بتغطيةٍ لخمس مدن: نيويورك، ولاس فيجاس، وسان فرانسيسكو، ودنفر، وميامي. وفي خلال ما يربو قليلًا على العام، امتدَّتِ التغطية إلى أكثر من ٨٠ مدينة، وفي بعض الحالات تضمَّنَتِ المدنَ المحيطة والضواحي بالإضافة إلى المتنزهات العامة ومناطق الاستجمام، وذكَرَ البيانُ الرسمي للشركة أنها تنوي تغطيةَ العالَم بأسره.

fig6
شكل ١-٢: صورة من خاصية «التجول الافتراضي» لبيتٍ من دُمى الحيوانات المحشوَّة في ماونت إيليوت وإلبا بليس بمدينة ديترويت بولاية ميشيجان. حقوق الطبع ٢٠١٠ «جوجل».

إن تجربة «التجول الافتراضي» أكثر حميميةً من «منظور عين الطائر» الذي تتيحه صور الأقمار الاصطناعية؛ فهي تمكِّن المستخدمين من رؤية شكل المبنى أو الشارع في الواقع. وبخلاف السمات الأخرى في «خرائط جوجل» — التي تُجَمِّع مجموعات البيانات المتواجدة فعليًّا في واجهةٍ على هيئة خريطة — تستلزم خاصية «التجول الافتراضي» إجراءً مباشِرًا من جانب الشركة. تتجوَّل سياراتٌ أو شاحناتٌ مركَّب عليها كاميرات تلتقط آلافَ الصور التي تُدمَج لاحقًا في منظورٍ عالمي وتُربَط بالخريطة. والأمر الأهم هو أن «التجول الافتراضي» يوصِّل إحساسًا «بالانغماس» داخل الخريطة، هذا الانغماس يمكن أن يُوصَف بأنه حالة من «التواجد في المكان» (سميث وآخرين، ١٩٩٨). يقلِّل هذا من المسافة المُدرَكة بين البيانات المُحدَّدة الموقع وبين المستخدِم الذي يختبر تلك البيانات، ومن المرجح أن تطبيقات الخرائط المستقبلية ستبني على هذا الإحساس بالانغماس من أجل الربط ربطًا قويًّا بين المعلوماتِ المتاحة على الويب بغزارةٍ وبين الفضاءات المادية المحلية.

حقَّقَ هذا الأسلوب نجاحًا كبيرًا لدرجة أنه أنتج نوعًا من السياحة عبر الإنترنت؛ فعندما أُطلِقت خاصية «التجول الافتراضي» في البداية، ظهر العديد من المواقع الإلكترونية «السياحية» المخصَّصة لإبراز الصور الجديرة بالعرض، وأطلق موقع «وايرد» الإخباري مسابقةً لقرَّائه لتقديم صورٍ مشوِّقة؛ مبتدِئًا بسان فرانسيسكو ونيويورك، ولاحقًا في لوس أنجلوس وسان دييجو. كانت النتائج مدهشة: رجل يبدو أنه يقتحم مبنًى في سان فرانسيسكو، وحوادث سيارات في مينيابوليس وفينيكس وفي أوشن سايد بولاية كاليفورنيا، ورجل يتطلَّع بشبق إلى امرأةٍ تؤدي تمرينات رياضية في سان فرانسيسكو، ومنزل لدُمى الحيوانات المحشوَّة في ديترويت، ورجل يُقبَض عليه في سان لويس. معظم هذه الصور محض فضولٍ، ولكن بعضها أشعَلَ جدلًا كبيرًا، وأثارَ قضايا شائكةً حيال الخصوصية والمراقبة، وذلك ما سنناقشه على نحوٍ أشمل في الفصل السادس.

تطرح هذه الممارساتُ السياحية بعضَ المسائل المهمة أمامنا. عندما تصبح الأمكنة موصولة شبكيًّا، تُعَدُّ الخرائطُ تمثيلاتٍ لتلك الشبكات (هذا بجانب دورها بوصفها أدوات). تسمح خاصية «التجول الافتراضي» للمستخدِم بأن يستكشف أمكنةً جديدة، وليس فقط تيسير التفاعل مع الأمكنة القائمة. بينما كان الاستكشاف استخدامًا شائعًا للخرائط طوال قرون، كان دورُ الخريطة في السابق تسهيلَ الاستكشاف المادي فحسب، أما في الوقت الحالي، فالخريطة تتحوَّل إلى موقعٍ يستحِقُّ الاستكشافَ في حدِّ ذاته.

يُذكِّرنا القول السابق ظاهريًّا بما قاله مُنَظِّر ما بعد الحداثة جان بودريار عن تأثيرات المحاكاة على العالم «الحقيقي»؛ فقد أكد أنه «لم تَعُدِ الحدودُ تسبق الخرائط، ففي زمننا المعاصر أضحَتِ الخرائطُ سابقةً للحدود» (بودريار، ١٩٩٤، صفحة ١). وباستخدام الأسلوب المجازي في حديثه عن التمثيلات في الثقافة المعاصرة، أشار إلى أن التمثيلات صارت «حقيقيةً» أكثرَ من الأشياء التي تمثِّلها، وأطلق على هذه الظاهرة اسم «الصورة الزائفة». فوفقًا لبودريار، قد تكون الصورةُ السياحية هي الدافع إلى تجربة زيارة المقصد السياحي وليس العكس، ومع ذلك، من الواضح أنه في الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة، لا يحلُّ المقصدُ الرقمي بذاته محلَّ الشيء الذي يمثِّله على الخريطة، ولكنه يزيد الصلة مع ذلك الموقع المادي قوةً. في الحقيقة، يمكن للمعلومات الرَّقْمِيَّة أن تصير جزءًا من الموقع المادي — كما سنرى في الفصل التالي — عوضًا عن أن تدمِّره أو تحلَّ محلَّه. الخريطةُ في حدِّ ذاتها مرغوبٌ فيها، ولكن ذلك فقط لكونها تربط عالَمَ المعلومات بالعالم المادي ذاته.

يتجلى ذلك عندما ننظر لخاصية العرض الثلاثي الأبعاد للخريطة المتاحة في تطبيقات «بينج» و«جوجل إيرث». تضيف أدواتٌ مثل «جوجل إيرث» والتجول الافتراضي الثلاثي الأبعاد بخاصية عين الطائر في خرائط «بينج»، مؤثراتٍ بصريةً تزيد من قُرْب المستخدم إلى الخريطة. عند تشغيل «جوجل إيرث» بصفته تطبيقًا منفردًا أو بصفته مكوِّنًا إضافيًّا على الويب، تقترب الكاميرا نزولًا من صورةٍ للكرة الأرضية برمتها إلى نماذج ثلاثية الأبعاد للشوارع، موضوعة فوق صور عالية الدقة مرسلة من الأقمار الاصطناعية.

وبمقدور المستخدمين أن يصلوا داخل «جوجل إيرث» إلى المعلومات ومقاطع الفيديو والصور وأن يضيفوها، كما يمكنهم أيضًا الوصول إلى نماذج ثلاثية الأبعاد للمباني، وإضافتها باستخدام تطبيق «جوجل سكيتش أب».٤ يمكن لأي نموذجٍ مبنيٍّ باستخدام «سكيتش أب» أن يُوضَع في عرض الخرائط الخاصة بالمستخدم، وإنْ كان جيدًا حقًّا يمكن أن يُرسَل إلى «مستودع النماذج» في «جوجل»، حيث يمكن اختيارُه ليصبح جزءًا من «السجل الرسمي». صُنِعت نماذجُ لمئاتٍ من المدن العالمية بالفعل بهذه الطريقة، وتَظهر مدنٌ جديدةٌ باستمرارٍ على الإنترنت، وييسِّر ذلك برنامجُ «مدن قيد التطوير» الموجود على موقع «جوجل إيرث» الإلكتروني. يمكن لصانعي النماذج أن يوجِّهوا نداءاتٍ لمساهمين آخَرين بعد إتمام بناء ١٢ نموذجًا على الأقل على نحوٍ صحيح، وربطها بإحداثيات جغرافية. وتشير «جوجل» إلى أن لديها أكثر من ٥٠٠ ألف مستخدِم مسجَّل يضيفون بنشاطٍ محتوًى أو نماذجَ طقسٍ أو صورًا أو علاماتٍ موضعيةً إلى قاعدة بيانات العالَم الرقمي السريعة التوسُّع.
شرعت مدن وبلدات في استخدام هذه النماذج للمساعدة في عملية التخطيط المجتمعي، على سبيل المثال: أصدرَتْ مدينة أميرست بولاية ماساتشوستس أمرًا ببناء مركز المدينة في عام ٢٠٠٧ في إطار عملية التخطيط العام للمدينة، وتم تحميل النماذج إلى مستودع النماذج الثلاثية الأبعاد، وأصبَحَت منذ ذلك الوقت جزءًا من خرائط «جوجل إيرث». استخدمَتْ مدينة أميرست النماذج الثلاثية الأبعاد بطرقٍ متعدِّدة، من بينها إطلاع المجتمعات المحلية على الصورة التي يُحتمل أن تبدو عليها التطورات المستقبلية، أو تسهيل الجولات السياحية بالمدينة. قال نيلس لاكور الذي تزعَّمَ وأطلق مشروع «أميرست بثلاثة أبعاد» عندما كان رئيس المخططين في المدينة: «هذا هو بالضبط ما كنا نرجو أن نحقِّقه»، «هذا المشروع وسيلةٌ لتمكين الناس من استشراف مستقبل التطور الاقتصادي الذي يتمحور حول ما يرغبون فيه حقًّا، في مقابل شيءٍ مثل مركزٍ تجاريٍّ صغيرٍ».٥
fig7
شكل ١-٣: صورة مدينة أميرست بولاية ماساتشوستس في «جوجل إيرث». حقوق الطبع ٢٠١٠ «جوجل».
وشرعت مدنٌ أخرى في جهود مماثلة: بَنَت ماكمينفيل بولاية تينيسي — بشراكة مع «جوجل» — نموذجًا ثلاثي الأبعاد لمنطقة وسط المدينة، وكان الهدف الرئيسي من ذلك هو تشجيع التنمية. وقال كريس ويلسون المدير التنفيذي لمؤسسة مين ستريت ماكمينفيل إن الناس متحمِّسون لهذا المشروع لأنه:
يمكنهم معًا تقديم تمثيل مُقنِع يجعل باستطاعتهم ترويج فكرتهم لمشروع تجاري أو صناعي بطريقة مبتكرة وخارجة عن المألوف، وبهذا تستطيع أن تجد الكثير من الفرص في ماكمينفيل. اصنعْ نموذجًا ثلاثيَّ الأبعاد، وأوضِحْ بدقةٍ ما سيراه العميل على أرض الواقع. إنها طريقة لإيضاح أنك فعلتَ كلَّ ما ينبغي أن تفعله؛ أنك تعرف ديناميكيات صنع مشروعٍ ناجحٍ في مدينة صغيرة.٦

تزداد كفاءة أدوات ووسائل الإنتاج، وبها يتسع نطاقُ العالَم الذي يمكن رسم خريطة له. بل إن «جوجل» أقدَمَتْ على وضْعِ خرائط للنجوم والمحيطات، وحاوَلَ آخرون رسْمَ خرائط للأماكن الداخلية، وهكذا يمتد العالَمُ الذي نحيا فيه — ومن العالم القابل للرسم في خرائط — لأبعد من واجهات المباني. تمثل خدمة «إفريسكيب» مثالًا مثيرًا للاهتمام في هذا المجال؛ فهي مُخصَّصة لرسم خرائط للأماكن الداخلية. بينما كان بإمكان «جوجل» و«ميكروسوفت» نشر سيارات مُركَّب على أسقفها كاميرات تجوب شوارع مئات المدن، فإن تصوير المباني من الداخل يمثِّل إجراءً غير عملي وغير قانوني؛ ولذلك شرعت «إفريسكيب» في حشد المصادر الجماعية لهذه العملية، فتعاقدت مع رسَّامي خرائط محليين ليصوِّروا شوارع المدينة والأماكن الداخلية. وكانت استراتيجية «إفريسكيب» في هذا الشأن شديدة الوضوح؛ حيث جعلت «جوجل» في مقام رقيب أو «أخ أكبر» بتأكيدها أنها تعتمد على محتوًى من إنتاج المستخدمين أنفسهم. كانت «إفريسكيب» توفِّر أجهزةَ التصوير الضرورية ومعدات التثبيت على السيارة، وتدفع المال لرسامي الخرائط المحليين — الذين يُطلَق عليهم «السفراء» — مقابلَ كلِّ ميلٍ لينتجوا صورًا بانورامية. ودمجت أيضًا محتوًى من «فليكر» و«يِلْب» و«يوتيوب» في الصور ذاتها، وأتاحَتْ للمستخدمين مشاركة ملاحظات مع الآخرين حول مواقع معينة. تمتلك «إفريسكيب» آليةَ إعلانٍ داخلية، يستطيع من خلالها أصحاب الأعمال أن يضعوا موادَّ دعائيةً في الشارع، أو أن يضيفوا مشهدًا داخليًّا لمنشآتهم. يتضمَّن ميدان «هارفارد سكوير» بمدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس — أحد أحياء «إفريسكيب» الرائدة — ٢٥ منطقة داخلية يمكن استكشافها في ضاحية للتسوق مساحتها ميل مربع واحد فقط. عندما يتصفَّح المستخدمون عبر خاصية «ذي ورلد أون لاين» يستطيعون قراءةَ لوحات إعلانية رقمية، أو العثور على مطاعم وحانات. هذه هي الخاصية التي تأمل الشركة أن تمكِّنها من منافسة «جوجل». قال الرئيس التنفيذي لشركة «إفريسكيب»، جيم شونميكر في حديثه مع صحيفة «بوسطن جلوب»: «أنا واثق تمامًا بأنه لو كانت لدينا تغطيةٌ عالمية للأماكن الداخلية والخارجية، لَترَكَ الناس «جوجل» وأَتَوْا إلينا» (براي، ٢٠٠٨).

هذه الأنواع الجديدة من الخرائط هي تمثيلات للأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ حيث تكون خبرة «التواجد في المكان» هي خبرة التواجُد في موقعٍ يتضمَّن إمكانيةَ الوصول للبيانات. تَضَعُ كلُّ هذه الأدواتِ المستخدمَ في مواقعَ، مستخدِمةً العناصرَ البصرية التقليدية كتقريب الصورة والصور البانورامية، ولكنَّ العمق الحقيقي للانغماس ينبع من حقيقة أن المستخدم محاطٌ بالصور والتعليقات والنماذج وكل ما يمكن ربطه بذلك الموقع المحدَّد. كل هذه الوسائل تنقل شعورًا بتواجُد المستخدم في موقعٍ مكاني ما، ولكن الأهم هو أنها تنقل شعورًا بتواجد الموقع المكاني ذاته مع المستخدم. وبتواجد المواقع المكاني دائمًا، يمكن لهذه الخرائط أن تعطي المستخدم القدرة على أن يرى بطرق جديدة.

(٥) هل العالَم معنا بإفراط؟

تمكننا الخرائط من إدراك المعلومات الواقعة في العالم. ونتيجةً لانتشار الخرائط، فإن كلَّ ما نقوم به عادةً يعود بالفائدة عليها. نحن نبذل أقصى ما في وسعنا لتحديد مواقع الأشياء، ومن ذلك: وضع إحداثيات جغرافية على صورة لموقع فليكر للصور، وتعيين حيٍّ على «فيسبوك» في تطبيق «أحياء فيسبوك»، وتحديد مواقع الأفراد المنتمين إلى مجموعات معجبين أو منظمات متخصِّصة. ونعتقد أنه من الأفضل لنا أن نتعهَّد الخرائط بالرعاية. ولكن هذه الممارسات — مثل معظم الأمور التي تشتمل على محتويات من نتاج المستخدم — يكون لها أثران: أحدهما قد يفيد المستخدم، والآخَر قد يضرُّه. كما في نقاش تريبور شولز (٢٠٠٨) عن الويب بوجه عام، مثلما يُتَوقَّع من هذه الأدوات بأن تتيح لنا تحكُّمًا شخصيًّا أكبر في بيئتنا الشبكية المحيطة بنا، يُتوقَّع أيضًا أن تكون سببًا في زيادة تحكُّم المصالح الخارجية المالية والسياسية في حياتنا. وكما نُحدِّد مواقع الآخَرين، فإننا نبيح أيضًا للآخرين أن يحدِّدوا مواقعنا. وبينما نكتسب سيطرة على العالَم القابل للرسم في خرائط، فإننا نفقد السيطرة عندما نَعِي أننا جزءٌ من العالَم الذي سيُرسَم في الخرائط.

في قصيدة ويليام وردزورث الشهيرة التي تعود إلى عام ١٨٠٧، يحذِّر الشاعر من أن «العالم معنا بإفراط». ويرى — من منظور حقبة أوائل القرن التاسع عشر — أن العالَم المادي الذي نشأ عن الرأسمالية قد أبعَدَنا عن روائع الطبيعة، وجعلنا غير قادرين على رؤية أشياء بالرغم من أنها نُصبَ أعيننا. نحن نفقد العالَمَ لأننا نعتقد أننا قادرون على التحكم فيه، وليس من العسير رؤية الصلة بين كلمات وردزورث القوية وتأثير الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ فكلما ازداد اعتمادُنا على الخريطة لتحديد مكاننا في العالَم، ازدادَتْ صعوبةُ الاستغناء عنها. إن العالَمَ معنا حقًّا، ولكنْ هل هو معنا بإفراط؟ الخريطة تصنع عالمنا، ولا تمثله فقط. لقد تشبَّعَتْ بها ثقافتنا تمامًا، حتى إن مجرد التفكير في انتزاع الخريطة ممَّا تمثِّله قد يكون أمرًا لا طائلَ منه. لكي نمضي قُدُمًا، نحتاج إلى فهم الأنظمة التي صنعناها وأفضل السبل لاستكشافها.

هوامش

(١) تشمل الانتقادات الملحوظة: هاريس وفاينر (١٩٩٦)؛ ماكهافي (١٩٩٥)؛ بيكلز (١٩٩٥).
(٢) في يونيو ٢٠٠٨، تنحَّى مايك بيج عن عرش «جوجل مابس مانيا»، ليحصل على وظيفةٍ بدوامٍ كاملٍ في «جوجل» في فريقها للتسويق الجغرافي.
(٣) انظر: http://safe2pee.org/beta، http://www.usnaviguide.com/areacode.htm، www.toeat.com، www.ufomaps.com، على الترتيب. تم استعراضها في الأول من نوفمبر عام ٢٠١٠.
(٤) أطلقَتْ «جوجل» إصدارًا مجانيًّا وإصدارًا للمحترفين من أجل تعزيز اختراقها للسوق.
(٥) انظر: http://www.sketchup.google.com/3dwh/citiesin3d/amherst.html، تم استعراضها في الأول من نوفمبر عام ٢٠١٠.
(٦) انظر: http://sketchup.google.com/3dwh/citiesin3d/mcminnville.html، تم استعراضها في الأول من نوفمبر عام ٢٠١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤