حرية التصوف وقتل الحلاج

الدين دينان: دين رسمي تقليدي، ينفذ إلى القلب أو يطفو على اللسان بقوة سلطة خارجية، يؤيدها السيف أو العادة، ودين ضميري، ينبع من القلب، يقرر صلة الإنسان بالكون.

فالدين الأول له أسماء عديدة من يهودية وبوذية ومسيحية وإسلام.

والدين الثاني له اسم واحد هو الصوفية.

والصوفية العربية لا تختلف عن الصوفية الهندية القديمة أو عن الصوفية الأوروبية الحديثة في شيء، والمعقول أنها يجب ألا تختلف؛ لأنها لم تنشأ على أُصول تاريخية تستمد وحيها من الوسط الزماني والمكاني فتختلف باختلاف الجغرافية والتاريخ، وإنما تنشأ من وحي الذهن، وتستصفى من حوار العقل والمنطق، فإذا كان العقل في الهند ومصر وأميركا يقول بأن خمسة وخمسة تساوي عشرة فإنه يقول أيضًا باستنتاجات صوفية واحدة لا يختلف فيها.

وعندما احتك المسلمون بالهنود والفرس، وعرفوا فلسفة أفلاطون؛ نَزعت أفكارهم إلى الصوفية، وتسربت هذه النزعة إلى أئمة الدين، وصبغت الفلسفة الإسلامية.

ويمكننا أن نلخص الأفكار الصوفية السائدة فيما يلي:
  • (١)

    أن الله ليس شخصًا خارجًا عنا، بل هو قوة تشمل الكون، وأنه يمكننا نحن بمجاهدة الشهوات التي تربطنا بالمادة أن نتصل بهذه القوة، فتحل في أنفسنا، وتكشف لنا بذلك أسرار الكون.

  • (٢)

    أن بني الإنسان كلهم إخوة؛ لأنهم كلهم يعبرون عن هذه القوة الحالة فيهم، فصلة التعامل بينهم يجب أن تكون صلة الحب لا المنافسة أو النزاع.

وعلى هذين الأصلين نجد أن ابن سينا يقول مخاطبًا الإنسان:

وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

والمسيح يقول: «لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون: هوذا ههنا أو هوذا هناك؛ لأن ها ملكوت الله داخلكم.»

ويقول محيي الدين بن عربي الصوفي الأندلسي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
ويحسن بنا أن ننقل قطعة وافية من كتب براهمة الهندوكيين؛ حتى يقف منها القارئ على أصل النزعات الصوفية في الإسلام، فقد جاء في صوامي فيفيكا ناندا:

كيف يبتئس ذلك الذي يرى وحدة الوجود، وحدة الحياة، وحدة كل شيء؟

إلا أن هذا الانفصال بين الرجل وأخيه، وبين الرجل والمرأة، وبين الرجل والطفل، وبين الأمة والأمة، وبين الأرض والقمر، وبين القمر والشمس، هذا الانفصال بين الذرة والذرة؛ هو علة كل الشقاء، وقد قالت الفيدانتا: إن هذا الانفصال لا وجود له ولا حقيقة له، إنما هو يبدو على السطح فقط، أما في قرارة الأشياء فليس سوى الوحدة، وإذا أنت تغلغلت إلى قرارة نفسك وجدت الوحدة بين الإنسان والإنسان، وبين المرأة والطفل … وبين العالي والداني، وبين الغنيِّ والفقير، وبين الآلهة والناس، إنهم كلهم واحد، وإذا ما تعمقت ألفيت الوحدة أيضًا في الحيوان، ومن وصل إلى هنا فقد انقشعت عندئذ عنه الغشاوة.

إذ كيف يغشى على بصيرته؟ فإنه يعرف حقيقة كل شيء وسر كل شيء، وكيف يناله شقاء؟ إذ ماذا يرغب، وقد وصل إلى قرارة كل شيء حتى الله؟ ذلك المركز، تلك الوحدة، وهذه هي النعمة الأبدية والمعرفة الخالدة والوجود الدائم، ففي هذا المركز وفي هذه الحقيقة لا يمكن أن نحزن على أحد، ولا أن نرثي لأحد.

وعندما يرى المرء أنه هو والكائن الذي لا يتناهى واحد، وعندما تنعدم هذه الانفصالات، وينعدم الناس والملائكة والحيوان والنبات في هذه الوحدة؛ فعندئذ يزول كل خوف؛ إذ ماذا نخشى ونخاف؟ هل في قدرتي أن أقتل نفسي أو أُوذي نفسي؟ هل في قدرتك أن تؤذي نفسك؟

فهنا تزول جميع الأحزان؛ إذ ماذا يولد الأحزان؟ فأنا الكائن الواحد، فأنا الكائن الوحيد في الوجود، وهنا تزول جميع الأحساد؛ إذ من أحسد؟ هل أحسد نفسي؟ فليس في الكون كله غيري أنا، فلنقضِ إذن على هذا التفريق، على تلك الخرافة التي تقول بتعدُّد الكائنات!

وانتشرت هذه الأفكار الصوفية بين المسلمين، ونشأت فرق إسلامية عديدة غايتها التوفيق بين المذاهب الإسلامية والنزعات الصوفية، وامتزجت الأغراض السياسية بالأغراض الدينية، وصارت الدولة تنشأ وتهدم بقوة هذه الفرق.

ورأى خلفاء بغداد أن المبالغة في التصوف خروجٌ من الإسلام، وزعزعة للدولة القائمة عليه، فكانوا لذلك يضطهدون المتصوفين.

ولنضرب مثالًا على ذلك معاملة الخليفة المقتدر للحلاج.

فقد ذكر ابن خلكان ترجمة الحلاج، ونحن نقتضبها عنه فيما يلي:

قال: هو من أهل البيضاء، وهي بلدة بفارس، ونشأ بواسط والعراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره، والناس في أمره مختلفون: فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفره.

ورأيت في كتاب مشكاة الأنوار قوله: «ما في الجبة إلا الله» وهذه الاطلاقات التي ينبو السمع عنها وعن ذكرها وحملها كلها على محامل حسنة وأوَّلها … وكان جده مجوسيًّا، وصحب أبا القاسم الجنيد ومن في طبقته، وأفتى أكثر علماء عصره بإباحة دمه.

ويقال: إن أبا العباس ابن سريج كان إذا سئل عنه قال: «هذا رجل خفي عني حاله وما أقول فيه شيئًا»، وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر، فأفتى بحل دمه، وكتب خطه بذلك معه من حضر المجلس من الفقهاء، فقال لهم الحلاج: «ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتقولوا علي … وأنا اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وبقية العشرة من الصحابة — رضوان الله عليهم أجمعين — ولي كتب في السنة؟! فالله الله في دمي.»

ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا، ونهضوا من المجلس، وحمل الحلاج إلى السجن، وكتب الوزير إلى المقتدر يخبره بما جرى في المجلس … فعاد جواب المقتدر بأنه إذا كان قد أفتى القضاة بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضربه ألف سوط أخرى، ثم يضرب عنقه، فسلمه الوزير إلى الشرطي، وقال له ما رسم به المقتدر.

وقال: إن لم يتلف فتقطع يده ثم رجله، ثم تحز رقبته، وتحرق جثته، وإن خدعك وقال لك: أنا أُجري الفرات ودجلة ذهبًا وفضة فلا تقبلْ ذلك منه، ولا ترفع العقوبة عنه.

وتسلمه الشرطي ليلًا، وقتله سنة تسع وثلاثمائة هجرية.

وسيرى القارئ أن السهروردي قُتل بفتوى الفقهاء في حكم صلاح الدين لصوفيته أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤