الإغريق والحرية الفكرية

كان الدين عند القدماء أمثال المصريين والكلدانيين مثوى علوم هذه الأمم، وكانوا قانعين به، يفسِّرون جميع الظواهر الكونية والطبيعية به، وكان عند هذه الأمم شيء كثير من العلوم والمعارف، ولكنهم لم يضعوها في مكان الاعتراض على الدين، فالبردي الذي يُنسب إلى الفرعون أهمس مثلًا يثبت أن المصريين عرفوا شيئًا عظيمًا في الرياضة قبل سنة ١٧٠٠ق.م، وكذلك الشهورُ القبطية تُثبت المدى العظيم الذي بلغوه في الفلك.

وكان في الفُرات مراصدُ في القرن الثامن قبل الميلاد، وقد عرف المصريون شيئًا كثيرًا عن التشريح وعن النباتات.

فالأُمم القديمة مارست العلوم، ولكنها لم تنزع نزعة علمية، ولم تحاول أن تفسر الظواهر الكونية والطبيعية بالعلم وحده دون الدين، وبعبارة أُخرى نقول: إن هذه الأمم لم تصنع «النظريات» العلمية، فكانت علومُهم أشبهَ شيء بعلوم القرون الوسطى في أوروبا: مجموعات من المعارف، ليس لها خُطة عامة، ولا غايةٌ نهائية، ولا بحث عن أول الكون ونهايته؛ ولذلك لم يَضطهد رجال الدين في هذه الأمم القديمة أحدًا.

أما الإغريق فيشذون عن الأمم القديمة بالنزعة العلمية، فهم لم يقتنعوا بجمع المعارف، بل وضعوا النظريات، والنظرية هي كل شيء وأهم شيء في العالم؛ لأن مداها أبعد من المعارف المجموعة، وهي في نفسها ضربٌ من الاقتصاد الذهني، يسهل جمع المعارف والاستغناء أحيانًا عن بعضها، فالإغريق أول أمة نزعت نزعة علمية، وقد ساعدها على ذلك شيئان:
  • أولهما: أنها لم تكن تؤمن كاليهود بإله واحد قادر على كل شيء؛ إذ كانت آلهتها عديدة، وكانت ذات صفات إنسانية، تنتصر وتنهزم وتعجز عن تحقيق أغراضها؛ ولذلك لم يكن لها السلطان القاهر الذي كان لإله اليهود مثلًا على اليهود، فلم يجد العلم حرجًا من أن يفتئت أحيانًا على حقوق الآلهة، وإن كان قد ناله أيضًا شيء من الاضطهاد.
  • والثاني: أن ديانة الإغريق لم تَصِرْ في وقت ما شريعةً؛ وذلك لأنه إذا كان دينها شريعة التعامل فإنه عندئذ يصير جزءًا ملتحمًا بالحكومة وبالقضاء، فيدمغهما بالجمود، ويَحُول دون حرية الفكر ودون تطوُّر الأمة المدني؛ لأن التطور هو التبدُّل والتحول، والدين هو — غالبًا — التقاليد التي لا تتبدل ولا تتحول.

وأول ما نسمع عن النظر العلمي البحت في القرن السادس قبل الميلاد، ففي سنة ٦٤٦ مات «طاليس» وكان يقول بأن أصل العالم ماء، وصدم الدين لأول مرة بقوله: إن الآلهة لا شأن لها في خسوف القمر في حرب الليديين والفرس، وإن هذا الخسوف ظاهرة جوية مثل سائر الظواهر.

وفي سنة ٤٢٨ق.م، مات «أناجزاجوراس» وهو أول من نعرفه ممن اضطهدهم الدين، فإنه كان يعلِّم تلاميذه بأن الشمس ليست مركبة يركبها الآلهة كما تقول الديانة، بل هي قطعة من نار، وأن القمر يحتوي على جبال، وبحث في المادة الأولى التي يكون منها الكون بجميع أجرامه، وكاد يحدث نظرية التطور، فتألَّب عليه رجال الدين وحبسوه في أثينا، ثم نفوه منها فمات في آسيا الصغرى.

وهناك رجل آخر يُدْعَى «بروتاجوراس» مات سنة ٤١٥ق.م، وهو يُعتبر أول إنسان ذكره التاريخ صرح بكفره بالآلهة، فقد ذهب إلى أثينا، وأخذ ينشر بين الناس آراءَه الدهرية، وخلاصتُها أن الإنسان هو المقياس الأصلي لكل شيء في العالم، وأن العمر أقصر من أن ينفق في البحث عن وجود الآلهة أو عدمه، وأننا يجب أن نوجِّه نشاطنا إلى تحسين العالم وزيادة مُتَعِه.

وكانت أثينا تعاني عقابيل حرب طاحنة بينها وبين إسبارطة، فلم تكن في حال تسمح لها بإغضاب الآلهة، وعلى ذلك قُبض على بروتاجوراس وقُدم للمحاكمة.

ولكن هذا الكافر لم يكن يتطعم الاستشهاد في سبيل العلم والحرية، ففر من حبسه، ونجا بنفسه في سفينة تقصد إلى صقلية، وتحطمت السفينة وغرقت وغرق معها.

ومنذ ابتداء القرن الرابع قبل الميلادي نرى النزعة العملية تقوى في بيئة موافقة، يتخللها قليلٌ من الاضطهاد الديني، ففي سنة ٤٠٠ أو قريبًا منها نجد مؤلفًا — غير معروف اسمه لنا الآن — يؤلف كتابًا عن الفالج، فينكر فيه علاقة هذا المرض بالآلهة أو بالأرواح النجسة، ويقول: إنه مثل سائر الأمراض «ينشأ من أشياء تدخل الجسم وتخرج منه، مثل البرد والشمس والرياح، وهي أشياء دائمة التغير، ولا تهدأ.»

وفي هذه السنة عينها أخذ «ديمقرايطس» يضع نظرية غايتها الاستغناء عن الآلهة في تفسير أصل الكون ونهايته، فرد المواد كلها إلى ذرات، وقال: إن العوالم تختلف؛ فهي دائمةُ النمو والفساد، ونحن الآن في عصر النظرية الذرية التي أحياها العلماء في القرن الماضي، ولم يذكر التاريخ أن أحدًا اضطهده لهذه الآراء.

وحول هذا الوقت نجد ثلاثة أشخاص لا يزال لأسمائهم روعةٌ وأثر في الثقافة الحاضرة، نعني بهم: سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس.

أما سقراط فيُمثِّل نوعًا من الانتكاس في النظر العلمي، فهو الأديب الذي يكاد يعلن كراهته للعلم، ومن أقواله: إنه من العبث «أن يعرف الإنسان المعارف لِذاتها»، وكان يقول أيضًا بخلود النفس، وإن «ضمير الإنسان الخفي هو معيار كل الأشياء، أو يجب أن يكون كذلك، وإن الآلهة لا تُقرر مصيرنا، وإنما هذا المصير في أيدينا.»

ثم كان يختصر الآلهة كلها في إله واحد غير منظور، ولم يكن في كل ما قاله سقراط ما يمكن أن يأخذه عليه مؤمنٌ، ولكن السياسة وَجَدَتْ سبيلًا إلى قتله عن طريق فلسفته؛ فإنه كان «معتدلًا» في وقت يتطلب الغلو، فقد كانت أثينا بين حزبين، حزب العظاميين وحزب العصاميين، وكان سقراط يتوسط بينهما، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ لأنه لم يكن يظن أن الخير كله في إحدى هاتين الفئتين، فلما انتصر العصاميون سنة ٤٠٣ق.م، رأى سقراط أنه لن يعامل بتسامح، وحضه أصدقاؤه على الفرار من أثينا فرفض، ولم تكن إلا أيام حتى عقد له مجلس مؤلف من ٥٠٠ قاض لمحاكمته على كفره، وقد دافع سقراط عن الحرية دفاعًا مجيدًا ما زلنا نحن في حاجة لأن نسمع مثله.

قال سقراط: «ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يُمْلي على الآخر ما يجب أن يؤمن به، أو يَحرمه من حق التفكير كما يهوى»، وأيضًا: «ما دام الإنسان على وفاق مع ضميره فإنه يستطيع أن يستغني عن رضا أصدقائه، وأن يستغني عن المال وعن العائلة وعن البيت، ولكن بما أنه لا يُمكن أيَّ إنسان أن يصل إلى نتائج صحيحة بدون أن يفحص المسائل — ما لها وما عليها — فحصًا تامًّا فإنه يجب أن يترك الناس أحرارًا، لهم الحرية التامة في مناقشة جميع المسائل، بدون أن تتدخل الحكومة في مناقشتهم.»

وكانت حجج سقراط، في دفاعه عن نفسه ورَدِّ تهمة الكفر التي اتُّهم بها؛ قوية إلى حدِّ أنْ خاطبه المجلس في الكف عن تعليم تلاميذه، بحيث إذا وعد وعدًا صادقًا بذلك فإن المجلس يعفو عنه، فكان جواب سقراط على هذه «التسوية»:

كلا، ما دام ضميري — هذا الصوت الهادئ الصغير في قلبي — يأمرني بأن أسير، وأُعلِّم الناس طريق العقل الصحيح؛ فإني سأوالي تعليم الناس، وأصرح لهم بما في عقلي بدون اعتبار للنتائج.

ولم يكن بعد ذلك سوى الأمر بقتله، فقُتل وتجرع السم بين تلاميذه، ومات مرتاحَ الضمير هادئ النفس، وتفرَّق تلاميذُه بعد مقتله مرعوبين، ولكن لم تمض عشر سنوات حتى عادوا إلى روعهم، وعادوا يعلِّمون الناس فلسفته.

وقام بعد سقراط تلميذه وراويته أفلاطون، وقد وضع أفلاطون هذا أولَ طوبة معروفة في التاريخ، مثَّل فيها السعادة الإنسانية، في نظام عمراني يختلف عن النظام الذي كان يعيش فيه اختلاف الاشتراكية الروسية الآن عن نظامنا. ومع ذلك لم تضطهده حكومة الأثينيين. وكان أفلاطون صوفيًّا، بل هو أول الصوفيين يقول بأن شهادة الحس على الحقائق غيرُ صحيحة؛ لأنها دائمةُ التقلُّب، فمعرفة الحقائق يجب أن تصدر عن الفكر لا عن الحواس.

وقد اعتمد رجالُ الدين في القرون الوُسطى على مذهب أفلاطون هذا في مقاومتهم للعلم، وتنقُّص قيمة المذهب العلمي القائم على الحِسِّ والتجربة، وأنت عندما تقرأ كتابًا لأحد الصوفيين المسلمين والنصارى؛ تجده يعتمد الاعتمادَ كله على هذا المذهب، الذي يقول بأن ما نُدركه عن سبيل حواسنا ليس كل شيء، وإنما نُدركها بذهننا فقط.

وجاء بعد أفلاطون أرسطوطاليس معلم الإسكندر، ويمتاز أرسطوطاليس عن أفلاطون وسقراط بأنه عالم لا يشوبُ ذهنه شيء من الصوفية الأفلاطونية، بل هو أول من فصل الأدب من العلم عندما ألَّف كتاب «التاريخ الطبيعي» وتتلخَّص آراء أرسطوطاليس من حيث النظر العلمي فيما يلي:
  • (١)

    أن المادة دائمةُ، غير مخلوقة، ولا تفنى.

  • (٢)

    أصل المادة أربعة عناصر، وهي: الماء والهواء والتراب والنار.

  • (٣)

    الأرض كرة وهي مركز الكون.

  • (٤)

    النجوم والكواكب تدور حول الأرض.

  • (٥)

    الكون محدود.

وكانت كل هذه الآراء تُعارض العقائد الدينية عند الإغريق، ومع ذلك لم يجد حرجًا في إذاعتها، بل كان هو يصرح بأن الآلهة لا تستطيع أن تخالف النواميس الطبيعية، وقد كانت آراء أرسطوطاليس مادة الفلسفة والجدل نحو ألفي سنة عند العرب والإفرنج، ولكن روح أرسطوطاليس — وهي روح التجربة والاختبار الحسي — لم تَعُمَّ العالم الذهني في اليونان؛ فإن مدرسة الإسكندرية كانت تنزع نزعة علمية، ولكنها كانت نزعة نظرية غير قائمة على الاختبار والتجربة، وكان لأفلاطون أثرٌ كبير فيها.

فإننا إذا عزونا نظريات إقليدس وأرشميدس إلى روح أرسطوطاليس فإننا نجد روح أفلاطون قوية كل القوة في «فيلو» الفيلسوف اليهودي الإسكندري، الذي وُلد سنة ٢٠ق.م؛ فإنه اعتمد على فلسفة أفلاطون، وجعل الله مبدأً غيرَ محسوسٍ، لا يمكن أن يتسم بصفات، أو تُنسب إليه عواطفُ — على النحو الذي نراه مشروحًا في رسالة «حَيِّ بنِ يَقظان» لابن طفيل.

ولكن فلسفة أفلاطون كان من أثرها أنها أَكْبَرَت من شأن الروح، وصغَّرت من شأن الظواهر الحسية، فكانت بذلك أداةً تعاون الدينَ وتؤخر العلمَ؛ تعاون الأول بما تدعيه من الاستغناء عن الحواس في إدراك ماهية الروح أو الله، وتؤخر الثاني بتصغيرها شأنَ الحواس والتجارب، وهي لازمةٌ لتقدم العلوم.

فمنذ سنة ٤٠٠ق.م إلى سنة ١٦٠٠ بعد الميلاد كان العلماء عند العرب وعند الإفرنج ينزعون نزعة أفلاطون، ويَقبلون جميع آراء أرسطوطاليس دون أن ينزعوا نزعته، وقد نزع العرب نزعةً علمية في أواخر أيامهم، ولكن هذه النزعة لم يوحِها إليهم فلاسفةُ اليونان، وإنما كانت ترمي إلى البحث عن الذهب وإحالة العناصر، فهداهم هذا الخيالُ الكاذب إلى أن يعثروا في طريقهم على جملة أشياء ذات قيمة علمية. ولكنك إذا رجعت إلى الكتب الدينية والصوفية عند الإفرنج والعرب في القرون الوُسطى تجدها كلها ترجع إلى أفلاطون، فهذا الجدل الذي نراه في حقيقة الله والنفس يرجع إلى البذرة التي طرحها أفلاطون عندما فصل الذهن عن الحواس.

ولكن أفلاطون وأرسطوطاليس وفيلو الإسكندري وأرشميدس وإقليدس كلهم — وطائفة كبيرة أخرى — عاشوا في ظل الحرية الفكرية الإغريقية، ولم يكن يتحرج أحد منهم في إبداء رأيه، ولسنا ننسى أن أرسطوطاليس فَرَّ من أثينا عندما علم بموت الإسكندر، ولكن فراره كان قائمًا على الظروف السياسية، وربما خشي مع ذلك أن يتعلل عليه الأثينيون بعلل فلسفية، ولكن الروح السائدة في تاريخ الإغريق القدماء هي روح التسامح البالغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤