مونتين

للوسط تأثير في مزاج الشخص من حيث التسامح أو التشدد، كما أن له تأثيرًا في اعتباره للفضائل وقيمة ممارستها، فالتجار — مثلًا — أحرص على إنجاز وعودهم من الزُّرَّاع والصُّنَّاع والموظفين. وليس ذلك لأنهم أشرف نفسًا أو أدق ذمة؛ وإنما هم يحافظون على وعودهم؛ لأن التجارة تتطلب ذلك، ولا نجاح لها إلا إذا كانت كلمة التاجر التي يشافه بها تاجرًا أو معاملًا تقوم مقام الوعد المكتوب.

ومن رأى أعمال البورصة، وكيف تُقطع الوعود، فتأتي بالربح أو الخسارة، فلا يمكن أحد الطرفين التخلص منها، مع أنها لم تقطع إلا مشافهة، أو من رأى الصاغة، وهم ينقلون المصوغات الثمينة من حانوت إلى آخر بلا وزن؛ يعجب من مبلغ أمانة هؤلاء التجار، وخاصة إذا قابلها بما يعرفه عن سائر الأفراد من الصنَّاع أو الزرَّاع أو غيرهم، وليس مرجع هذه الأمانة إلى فضل خاص يختص به التاجر دون غيره، وإنما التجارة في ذاتها تحتاج إلى الأمانة الشديدة في المعاملة، وإنجاز الوعود الشفاهية، ومن هنا امتياز أمة تجارية مثل إنجلترا وسويسرا بالأمانة في المعاملة.

ولكن التاجر يمتاز بشيء آخر؛ وهذا لأنه لاحتياجه إلى معاملة جميع الطوائف من جميع الملل يضطر إلى التسامح، فصاحب الحانوت الذي ينتظر رزقه من كل غادٍ ورائح لا يستطيع أن يسب اليهود، أو يرفض بيع ما عنده من السلع لملحد، أو يأبى أن يربح في صفقة على يد كافر بدينه؛ لأنه يعرف أن التشدد — ناهيك بالتعصب — يحصر عدد معامليه في حين هو يرغب في زيادتهم؛ ولهذا السبب نجد المدن أكثر تسامحًا من الأرياف.

وقد نشأ مونتين في وسط تجاري، كان أبوه يتجر بالسمك، وكانت أمه ترجع في نسبها إلى دم إسباني يهودي، فكانت هذه الظروف الخاصة تعمل لكي ينشأ كارهًا للتعصب، ثم رأى أيضًا في حياته مقتلة سان بارتولوميه سنة ١٥٧٢، حين فتكت الكنيسة الكاثوليكية والحكومة بنحو ٢٥٠٠٠ فرنسي بروتستانتي، ورأى أن الكنيسة لم يثب إليها رشدها بعد هذه المقتلة الفظيعة، بل تغلغلت في الضلال والفساد، وأنشأ البابا غريغوري الثالث عشر نوطًا في ذكر هذه المقتلة.

ولد مونتين سنة ١٥٣٢ ومات سنة ١٥٩٢، وتعلَّم اللاتينية ودرس القانون، وتعين قاضيًا في المحاكم الفرنسية، ثم ساح في سويسرا وإيطاليا وألمانيا، ثم عاد إلى فرنسا، حيث صار محافظًا لمدينة بوردو، وبعد ذلك عاش في باريس.

ويُذكر مونتين الآن بمقالاته التي عالج فيها جملة مواضيع، ومن هذه المقالات واحدة عنوانها «عن حرية الضمير» تكلم فيها عن يوليان الإمبراطور الكافر، وجعله مثالًا صالحًا للتسامح الذي يجب أن يتصف به الملك أو الأمير؛ حتى يعيش في كنفه جميع الناس مهما اختلفت عقائدهم الدينية.

وقد احتاج مونتين إلى مداراة الكنيسة، فكان يذهب للصلاة كل أحد؛ ليتقي بذلك غضب الكهنة، وكان لا يقول برأي إلا بلهجة الاعتدال في صورة التساؤل: «ماذا نعرف؟»

وكان من أثره أنه خفَّف ضغط الكنيسة للناس، وطبعت مقالاته الأذهان بطابع التسامح الذي تتسم به الثقافة الأوروبية الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤