المسيحية والحرية الفكرية

سبق أن قلنا: إن الدين في ذاته لا يمكن أن يَضطهد، وإنما الذي يضطهد هو السلطة الممثَّلة في الدين أو المستعينة بالدين؛ فهناك طائفةٌ من الناس تضطهد الناس باسم الدين، وقد تكون هذه الطائفة من رجال السياسة أو من رجال الدين.

وأنت عندما تقرأ الإنجيل تجد أن المسيح لم يكن يقصد إلى وضع نظام كنسي جديد له كهنة وحكومةٌ، وأن المسيحيَّ الصادق في نظره هو الذي يدخل غرفته ويصلي لربه بعيدًا عن أعيُن الناس. والحق أن لهجة المسيح كلها تُوهم القارئ أنه كان يعتقد أن يوم القيامة قد أزف، فليس هناك ما يدعو إلى إيجاد نظام وحكومة، وإنما يجب على الناس أن يتهادنوا، ويعيشوا معًا بسلام هذا الوقت القصير، قبل أن ينشر الناس وينصب الميزان.

ولكن المسيحية نشأت في حضن اليهودية، وعاشت مدة غير قصيرة والمؤمنون بها يَعتبرون أنفسهم يهودًا لهم مذهبهم الخاص؛ ولذلك جرت المسيحية في نظامها على ما رأت من النظم اليهودية، فصار لها كهنة، وكان هؤلاء الكهنة هم المضطهِدون للعلم والفلسفة مدة ألف عام تقريبًا، فالكنيسة اضطهدت العلماء، والمسيح — الذي كان يطلب من المسيحي أن يدخل غرفته، ويقفل على نفسه ويصلي — لم يفكر قط في إنشاء كنيسة وإقامة كهنة عليها، وإنما جاءت هذه الفكرة من بولس، فالمسيحية الفاشية الآن ومنذ القرن الأول للميلاد هي مسيحية بولس، وليست مسيحية المسيح. ونقول — بعبارة أخرى: إن الدين للمسيح والكنيسة لبولس، وإن الدين إذا كان قد عاق العلم أحيانًا ببعض عقائده فإن السبب هو الكنيسة التي اضطهدت العلماء.

وقبل أن نعرض للاضطهاد الديني يجب أن نعرف هنا العلل التي يرجع إليها نجاح المسيحية دون الأديان التي كانت تحوطها، والتي كانت أقوى منها، وكانت تستند إلى قوًى كبيرة عند ظهور المسيحية.

فأول ما يجب ذكره أنه عند ظهور المسيحية كانت الثقافة الرومانية والإغريقية قد ضعضعت الآلهة، وأزالت من النفوس ما كان لها من حرمة، واستعد الناس للإيمان بإلهٍ واحد.

ثانيًا: لما استبحر العُمْران، وانتشرت الحضارة الرومانية والإغريقية والمصرية؛ تداخلت الأديان، وصارت العقائد الخاصة بأحدها تدخل في الآخر، وعندما كثرت المهاجرات زاد هذا التدخل، ولما ظهرت المسيحية دخلتْها طائفةٌ كبيرة من العقائد الفاشية في ذلك الوقت في تلك الأديان، وما زلنا — نحن المصريين — نعرف في المسيحية فكرة الثالوث: الآب والابن والروح القدس، وأنها هي الفكرة التي كانت فاشيَة عند المصريين باسم أوسوريس وإيسيس وهورس، وقد يسَّر هذا التداخُل على الناس الإيمانَ بالدين الجديد.

ثالثًا: الديانة المسيحية هي ديانة البر والتسامح والغفران، وهذه كلها فضائل يقدرها الفقير أكبر تقدير، وإن كان الغني القادر لا يبالي بها كثيرًا؛ لأن نفعها يعود على الفقير، وقد كان الفقر من نصيب تسعة أعشار سكان الإمبراطورية الرومانية؛ ولذلك انتشرت بينهم المسيحية.

رابعًا: كان من الممكن أن يؤمن الناس باليهودية دون المسيحية؛ لأن لكل منهما إلهًا واحدًا، إنما كانت تمتاز المسيحية عن اليهودية من حيث إنها كانت تقبل جميع الناس، بخلاف اليهودية التي كانت تقصر الدين الموسوي على اليهود كأنهم شعب الله المختار.

وقد بدأت المسيحية تفشو كأنها مذهب خاص من مذاهب اليهودية، ولم يكن بين المؤمنين بها أولًا سوى اليهود، ولكن بولس أخرجها من هذه الحظيرة الضيقة، وجعلها دينًا عامًّا لجميع الناس، ولقي في عمله هذا عنتًا كبيرًا من اليهود.

خامسًا: بقيتْ الكنيسةُ المسيحية ضعيفة حتى انتقلت عاصمة الإمبراطورية من رومية إلى القسطنطينية؛ فانفرد عندئذٍ بابا رومية بسلطان كبير لم يكن له مدة وجود الإمبراطورية في رومية.

•••

كان الروماني مفطورًا بطبعه وتربيته وجغرافية إمبراطوريته على التسامح، فلم يكن يعارض المصريين أو الإغريق أو الألمان في ممارسة أديانهم ما دامت هذه الأديان لا تُنكر سلطان رومية.

ولكن المسيحية كانتْ تُنكر هذه السلطة، فكان الشاب الروماني يرفض الانخراط في سلك الجندية؛ لأن المسيحية تنهاه عن مقاومة الشر بالشر، ولم يكن سلطانُ رومية قائمًا إلا على قوتها الحربية، التي إذا تزعزعت لم يبق لهذا السلطان من أثر.

فيمكننا الآن أن نتصور مقدار الحنق الذي كان يشعر به والٍ في إفريقيا أو إسبانيا أو سوريا عندما كان يرى أمامه شابًّا رومانيًّا، قويَّ العضل متين البنية، يقف أمامه، ويرفض إخمادَ فتنة تهدد الدولة بالخطر العظيم؛ لأنه ينتمي إلى جمعية صغيرة تُدعى جمعية المسيحيين، اتفق أعضاؤها على أن لا يمتشقوا حسامًا ولا يدخلوا في حرب.

وكان مثل هذا الوالي يبحث بالطبع عن الكتاب الذي يحتوي على عقائد هؤلاء المسيحيين، فيقرأ الإنجيل فيجده ينطوي على الثورة على الأغنياء والأقوياء والمتسلطين، وكان يقرأ في «الرؤيا» وصفًا للمدينة الفاجرة القائمة على التلال أو الجبال، فلا يفسر لنفسه كل ذلك إلا بأن المدينة هي رومية، وبأن الكفار المتسلطين هم الرومانيون.

ثم كان العامة يرون هذا الدين الجديد يندسُّ بينهم، وخاصة بين العبيد الفقراء الذين كانوا يرون منهم من احتقارهم لأصنامهم ما كان يُثير غيظهم. فكان من ذلك كله أنه قام في ذِهن رجال الدولة أن يُقمع هذا الدين الجديد؛ لأنه ينافي مصالح الدولة.

وبدأ الاضطهاد من ذلك الوقت، ولم يكن الاضطهاد من الدولة وحدها، بل كان من الأمة أيضًا، فإنه عندما احترقت رومية في عهد الوغد نيرون حمل العامة على المسيحيين، فأثخنوهم قتلًا، وأعملوا التدمير في بيوتهم، بحجة أنهم هم الذين أشعلوا النار لتخريب رومية.

ولا يمكن أن يُعرف عدد الذين قتلوا باضطهاد الدولة الرومانية للمسيحيين؛ فالأغلب أنهم لا يزيدون عن بضعة آلاف في جميع أنحاء الدولة، من إنجلترا إلى العراق ومن ألمانيا إلى مصر، والسنة القبطية يبتدئ تاريخُها باضطهاد دقلديانوس للمسيحيين، مما يدل على الأثر الكبير الذي تركه هذا الاضطهاد في نفوس الأقباط. ولكن ليس هناك ما يدل على أن الأقباط الذين قُتلوا في هذه الاضطهادات يزيدون على بضع مئات؛ فإن القاضي الروماني لم يكن يدرك شيئًا من المسيحية سوى ما كان يتعارض فيها والسلطة الرومانية، فكان يقنع بأوهى اعتراف بهذه السلطة لتبرئة المسيحي في العهد الأول لظهور المسيحية.

ثم لما زاد عدد المسيحيين زاد الاضطهاد، فصارت الدولة تقتفي آثارَهم، وتكبسهم في معابدهم، وتقدِّمهم طعامًا للوحوش في الملاهي الكبرى، وقد اشتهر باضطهاد المسيحيين إمبراطور يدعى دقلديانوس، مات سنة ٣١٣، وأخفق في إدارة الدولة إخفاقًا تامًّا، حتى خلع نفسه عن العرش، وذهب يزرع الكرنب في دلماطيا، ولم تكن مسألة المسيحيين إلا إحدى المسائل العديدة التي عالجها ولم يستطع حلها.

ولنضرب مثلًا على عجزه بمسألة أخرى: فإن كثرة الضرائب على أصحاب الأرض جعلتهم يهجرون أرضهم، ويقبلون على المدن للإقامة فيها وتعلُّم صناعتها، فبدلًا من أن يخفف عنهم الضرائب التي يفرون منها شرع للدولة شرعة جديدة، تقتضي ألا يعمل أحد عملًا لم يعمله أبوه، وأن يقتصر كل إنسان على الصناعة التي كان يعملها هذا الأب — بصرف النظر عن كفايته في أية صنعة أخرى — فكان التاجر يؤخَذ ويرد إلى الأرض؛ لأن أباه كان فلاحًا، وكان البنَّاء يؤخذ من صناعته ويرد إلى الحدادة؛ لأن أباه كان حدادًا، وهلم جرَّا، وقد أحدثت هذه الشرعة ارتباكًا عظيمًا في الدولة، يشبه ما كانت تحدثه مراسيم الحاكم بأمر الله في مصر.

ورأى دقلديانوس في السنة التي مات فيها — بعد أن ترك عرش الدولة بنحو ٧ سنوات — أن المسيحية صارت دينًا معترفًا به من إمبراطور الدولة قسطنطين، فكان يزرع الكرنب، ويفكر في هذا العالم العجيب كيف يصبح دينٌ بعد كل هذه الاضطهادات التي أوقعها هو بالمؤمنين به، دينَ دولة يقضي على كل الأديان التي سبقته؟!

والحق أن دقلديانوس كان قبل أن ينزل عن العرش قد رأى أن خطة القمع لا تجدي نفعًا، وأن الاستشهاد تربةٌ خصبة يتضاعف حصيدها سنة بعد أخرى؛ ولذلك نشر في جميع أنحاء الإمبراطورية منشورًا أذن فيه للمسيحيين بممارسة دينهم، وقال فيه: «لقد كنا نود بصفة خاصة أن نرد إلى سنَّة العقل والطبيعة أولئك المسيحيين المخدوعين، الذين جحدوا الديانة والشعائر التي اتخذها السلف، ثم افتأتوا على القدماء، وازدرَوا بهم، واخترعوا قوانين وآراء أسرفوا فيها بمقدار ما سمحت لهم مخيلتهم، ثم أنشئوا جمعية مؤلَّفة من الأقاليم المختلفة في إمبراطوريتنا.

وبما أن المراسيم التي أذعناها؛ بغية تحتيم عبادة الآلهة قد عرَّضت كثيرين من المسيحيين للخطر والكوارث، وبما أن كثيرين منهم قد قُتلوا، وكثيرين أيضًا ممن لا يزالون مصرين على جنونهم الفكري قد حُرموا من ممارسة علنية — فقد رأينا أن نبسط لهؤلاء التعساء ثمرة تسامحنا؛ ولذلك نرخص لهم بممارسة آرائهم والاجتماع معًا في معابدهم بدون خوف أو مضايقة، وذلك بشرط محافظتهم على قوانين البلاد وحكومتها، واحترامهم لها.»

ومنذ ذلك الوقت أخذ الفقراء يدخلون في الدين أفواجًا في جميع أنحاء الإمبرطورية، وصارت المعابد والأصنام تُهدم، ولم يحافظ على الوثنية سوى الأشراف والسادة في المدن الكبرى، وحوالي سنة ٤٠٠ أمر الإمبراطور جراتيان بهدم تمثال النصر من «السنات» أي مجلس الشيوخ في رومية؛ لأن الأعضاء المسيحيين كانوا يتأذَّون برؤية هذا التمثال، واحتج الأعضاء الوثنيون، ولكن احتجاجهم لم يؤدِّ إلا إلى نفي بعضهم من رومية.

وانعكس مجرى التيار، فصار الأباطرة يضطهدون الوثنيين بعد أن كان أسلافهم يضطهدون المسيحيين، ولكن هذا الاضطهاد لم يدم طويلًا، ولم يبلغ من الحدة ما بلغته الاضطهادات السابقة لسببين؛ أولًا: أن الوثنيين كانوا من السادة أرباب الحكم. والثاني: أن هؤلاء الوثنيين عندما رأوا أن أبواب الشرف والسيادة قد انفتحت في الكنيسة لم يتوانوا عن وُلوجها، والتمتُّع بامتيازاتها.

وفي هذا الوقت نجد أشراف الرومانيين يدافعون عن حرية الرأي بحماسة لم يعرفوها مدة اضطهادهم للمسيحيين، فكان منهم سيماخوس الذي مات سنة ٤٠٥ يقول في الدفاع عن حرية الرأي:

لماذا لا نعيش — نحن الوثنيين — مع جيراننا المسيحيين في سلام ووفاق؟! فكلانا ينظر إلى نجوم واحدة، وكلانا على سفر في هذا الكوكب، وكلانا يعيش تحت سماء واحدة، فهل من المهم أن نعرف الطريق التي يختارها كل فرد لبلوغ الحقيقة؟!

ومنهم تيمستينوس؛ فإنه رأى أن الإمبراطور فالنس (مات سنة ٣٧٨) قد انضم لطائفة مسيحية على طائفة أخرى، وكان هو نفسه وثنيًّا يؤمن بديانة آبائه، فقدم إليه هذه النصيحة الغالية:

إن هناك ميدانًا لا يمكن الحاكم — أيًّا كان — أن يمارس فيه سلطانه، وهذا هو ميدان الفضائل، وخاصة عقائد الشخص الدينية، فإن الإجبار هنا لا يُثمر سوى النفاق، والتمذهب بمذهب ما لا يقوم إلا على الغش، فخيرٌ للحاكم أن يتسامح مع جميع العقائد؛ لأنه بالتسامُح يمكن تجنُّب النزعات المدنية.

والتسامح — زيادة على ذلك — ناموسٌ مقدس، فإن الله نفسه قد أبدى رغبتَه واضحةً في أن تكون لنا عِدَّةُ أديان، والله وحده قادر على أن يميز بين الطرق التي يتبعها الناس؛ لكي يُدركوا الحقائق الخفية والربانية. وإنه لَيَسُرُّ اللهَ أن يرى تعدد الطرق التي يعبَّر عن الولاء له بها، فهو يحب أن يرى المسيحيَّ يمارس شعائره، بينما اليوناني أو المصري يمارس كل منهما شعائرَ أُخرى.

ولكن كل هذا الكلام ذهب هباء، وابتدأ المسيحيون يضطهدون غير المسيحيين بهمة لا تعرف الكلال، ومضوا على ذلك نحو ألف سنة.

فكانت الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق منقسِمة طائفتين تقتتلان في الإسكندرية، وفي كل بلدة كبيرة، وكان الكاثوليك في الغرب يُقاتلون الأرثوذكس في الشرق كما يقاتلون المسلمين.

ثم ظهر بعد ذلك البروتستانت، فدارت المعارك بينهم وبين الكاثوليك مدة طويلة أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤