الثورة الفرنسية

أخبرُ الناس بالثورات وأعرفُهم بطبيعتها هم الروس؛ ولذلك يجب أن نعرف الثورة هنا بقلم أحد كتَّاب الروس الذي يقول عن تجربة واختبار:

الثورة هي قلبٌ سريعٌ، يحدث في سنوات قليلة للمؤسسات التي امتدت جذورها في التربة عدةَ قرون، والتي يبدو لمن ينظر إليها أنها ثابتة لا تتزعزع، حتى إن أشد المصلحين حماسة لا يكاد يجسر على مهاجمتها بالكتابة. وهي سقوطٌ وتهدُّم يحدثان في فترة صغيرة لجميع ما كان يعد إلى ذلك الوقت أصلًا لحياة الأمة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية.

وهذا التعريف ينطبق على الثورة الفرنسية كل الانطباق، وليس من شأننا هنا أن نذكر تاريخ الثورة، وإنما نحن نمس منها ما له علاقةٌ بحرية الفكر التي هي موضوعُ هذا الكتاب. ولهذه الثورة إرهاصات أنبأتْ عنها، وكان يمكن للحكيم أن يتوقع الثورة منها لولا غشاوات الطمع والكسل والجهل والجبن، التي كانت تحجز نور الحقائق عن عيون الطبقة الحاكمة في فرنسا.

فقد قضى فولتير حياته، وهو يهدم سلطان التعصب، ويُشنِّع على استبداد الحكومة وظلمها، وقضى روسو حياته وهو يُبدي ويعيد في نظرية واحدة، وهي أن طبيعة الإنسان طيبة، وإنما أفسدها الحكومات والشرائعُ، وكان مونتسكيو في «روح الشرائع» يدعو إلى اصطناع الدستور الإنجليزي بدلًا من الأنظمة الفرنسية البالية. وكان رجال «الموسوعة» لا يفتئون يذكرون في كل حرف من حروف المعجم أساليب الظلم، التي تنزل بالناس من أشرافهم وأمرائهم كما يذكرون الأساطير الأولى التي يؤمن بها الناس ويحسبونها من الدين. فكُتُب هؤلاء الكُتَّاب هي خميرةُ الثورة التي هيأتْ لها تربتهم وزوَّدَتْها بما يخصبها.

وليست الثورة الفرنسية فرنسية إلا بالاسم، أما حقيقتها فعالمية، وأنت — أيها القارئ المصري — لو قرأت الدستور الذي وضع لمصر في سنة ١٩٢٣ لوجدت عليه مسحة «حقوق الإنسان» التي أعلنتها الثورة سنة ١٧٨٩، ووجدت فيه ألفاظًا وعبارات تنم على هذا الأصل، وكذلك الحال في سائر دساتير أوروبا فإنها مُشَبَّعَة بروح الثورة الفرنسية.

وفي الثورة الفرنسية عقل وهوس.

أما العقل فهو هذا:
  • (١)

    ذهب الرعاع سنة ١٧٨٩ إلى سجن الباستيل فهدموه، وكان الناس يُسْجَنُونَ في هذا السجن بلا محاكمة، وقد لا يعرفون أحيانًا التهمة التي سُجنوا من أجلها، وبهدم الباستيل وخَنْق وكيله انهدم ركنٌ كبير من الاستبداد.

  • (٢)

    اجتمعت الجمعية العمومية سنة ١٧٨٩، وأعلنت حقوق الإنسان، فقضت بذلك على الحكم الإقطاعي، وأهم ما في هذه الحقوق: (١) أن جميع الناس يستوون أمام الشرائع. (٢) لا يمكن تبرير امتياز فرد على فرد إلا لمصلحة المجموع. (٣) لكل فرد أن يشترك بنفسه أو بنائبه في وضع الشرائع. (٤) يجب أن تحمل الأعباء الوطنية بنسبة قدرة الفرد على حملها. (٥) لا يُسْجَن أحد إلا بحكم محكمة طبقًا للقوانين. (٦) حرية اختيار الدين وحرية الخطابة والصحافة من حق كل وطني.

أما الهوس فهو هذا: إلغاء التقويم المسيحي، وابتداء تقويم جديد من السنة الأولى من الثورة، وإلغاء الأعياد المسيحية، وتقسيم الشهر إلى ثلاثة أقسام كل قسم عشرة أيام، وإلغاء عبادة الله، واختراع عبادة جديدة «لربة الذهن».

وكل هذا الغلو والشطط يرجع إلى ما لاقاه الفرنسيون قبيل الثورة من استبداد رجال الدين والحكومات.

ففي سنة ١٧٩٤ حُملت راقصةٌ جميلة إلى كنيسة نوتردام، وأُلبست لباسًا تشبه فيه ربة الذهن الإغريقية، ثم عبدها الباريسيون في مكان أمامها بالكنيسة سموه «معبد الفلسفة» وكانت النية على أن يُقام تمثال لربة الذهن من المرمر، ولكن نوبة الهوس انتهت قبل أن يشرع في صنع التمثال.

ومضى الباريسيون على هذا الهوس نحو ستة أشهر، أعلن في نهايتها — أي في اليوم السابع من شهر مايو سنة ١٧٩٤ — أن الله قد رُد باحتفال رسمي إلى مكانه في كنيسة نوتردام.

ويجب أن نذكر من هوس الثورة أيضًا أن ١٤٠٠ رأس أطاحتْها المقصلة بلا ذنب أو ذنوب طفيفة.

ولكن بعد كل ذلك هدأت العاصفة، وعرف الناس قيمة التسامُح، وصار لأحرار الذهن أن يعيشوا ويُجاهروا بآرائهم أمام المسيحيين أو اليهود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤