في المقر السري!

كان ضوء الشمس لامعًا تمامًا وشديدًا للغاية خارج المقر السري، حتى إنَّ «أحمد» لم يستطع أن يحتمل وهجَ الشمس ويقف قليلًا في شرفة حجرته الواسعة؛ لذا أسدل الستائرَ الرقيقة، وعاد إلى مكتبه الصغير، فتح ملفًا أزرق اللون، وأخذ يتصفحه في هدوء، لم تكن عيناه تقفان عند الكلمات المكتوبة على الورق الأبيض المصقول؛ فقد كان عقله مشغولًا في ذلك التقرير الذي أرسله له رقم «صفر» أمس، لقد أضاع النوم من عينَيه، كان التقرير غامضًا تمامًا، وكان التقرير يقول: إنَّ هناك عصابةً غير معروفة تقوم بالتخلص من زعماء السلام في العالم، فكلما ظهرت حركةٌ من حركات السلام في أيِّ بلدٍ من بلدان العالم، تظل وراءها هذه العصابةُ حتى يختفيَ زعيمُها، إما بالتخلص من حياته أو اختفائه إلى الأبد، ولا أحدَ يعرف له مكان؛ فقد تخلصوا من زعيم دعوة السلام في إيطاليا، وتخلصوا من زعيم دعوة السلام في فرنسا، وفي بلجيكا وإسبانيا والنمسا وأمريكا والأرجنتين.

لقد كانت الجرائم التي تُرتكب تبدو وكأنها متفرقة، لكن عند البحث، تحدَّدَت نوعيةُ الجريمة، إنَّ هذه العصابة تقف ضد السلام في الوقت الذي يُحاول فيه العالم أن يُحقق نوعًا من التفاهم بين دولِه، فهناك شعوبٌ فقيرة وشعوبٌ غنية، ودعوة السلام تعني أن يتفق العالم وأن تتكاتف الشعوب لإقامة عالم هادئ بعيد عن الحروب والدمار، في نفس الوقت كانت هناك دعوة، يتبنَّاها زعماء السلام في العالم، تدعو إلى إعادة تخطيط الحدود بين الدول، حتى تختفيَ النزاعات التي تُثيرها قضايا الحدود السياسية بين الدول دائمًا.

أغلق «أحمد» الملف الأزرق واستغرق في التفكير، كان تفكيره يدور حول نقطة محددة، مَن المستفيد من هذه الجرائم؟! إنَّ الجريمة لا تقع أبدًا دون أن يكون وراءها مَن يستفيد منها؛ فإذا تحدد المستفيد، فإنَّ الجريمة تبدأ في حلِّ نفسها بنفسها. ردَّد السؤال مرةً أخرى بينه وبين نفسه: مَن المستفيد من هذه الجرائم؟

وقبل أن يناقش الإجابة دقَّ جرس التليفون بجواره، وعندما رفع السماعة ظهرَت صورة «إلهام» على شاشة التليفون. ضغط على زرٍّ في الجهاز، ثم وضَع السمَّاعة، فظلت صورةُ «الهام» أمامه في نفس الوقت جاء صوتها: أنتَ لم تظهر منذ أمس، منذ أن جاءك تقرير رقم «صفر»، إنَّ الشياطين ينتظرونك.

تنهَّد «أحمد» وهو يقول مبتسمًا: إنني أيضًا أنتظر!

قالت «إلهام»: ماذا تنتظر والتقرير عندك؟

ابتسم وقال: أنتظر الوصولَ إلى حلٍّ.

سألَت: هل تفكِّر وحدك؟

أجاب: حتى الآن نعم، وإن كنتُ في حاجة لمن أفكِّر أمامه بصوتٍ عالٍ!

ابتسمَت «إلهام» وقالت: إذن، فنحن في حاجة إلى اجتماع عاجل!

قال «أحمد»: هذا ما فكرتُ فيه فعلًا.

سألت «إلهام»: وماذا تنتظر؟

ضغط زرًّا في جهاز التليفون، ثم قال: الشياطين مدعوون لاجتماع سريع الآن في القاعة الصغرى!

ثم ضغط زرًّا آخر، فاختفَت صورةُ «إلهام»، في دقائق كان الشياطين يأخذون طريقهم إلى قاعة الاجتماعات، ولم يكن «أحمد» قد غادر غرفته بعد … أمسك بالملف الأزرق، ثم أجرى عينَيه فوق سطوره بسرعة، كان كمَن يستعيد التقرير في ذاكرته من جديد، وبعد دقائق حمَل التقريرَ الغامض، وأخذ طريقَه إلى قاعة الاجتماعات. إنَّ شيئًا ما كان يُحيِّر «أحمد»: لماذا أعطاه رقم «صفر» هذا التقرير، ولماذا طلب منه قيادة المغامرة من المقر السري. من المعتاد أن يخرج الشياطين للتنفيذ، وتكون معظم المعلومات قد تحقَّقَت، أو حتى يظهر طرفُ الخيط الذي تبدأ منه المغامرة، أمَّا هذه المرة، فلا شيء هناك. عندما دخل القاعة كان يبدو مستغرقًا في التفكير، لكنه في نفس الوقت، كان يضع على وجهه ابتسامة صغيرة، أخذ مكانَه بين الشياطين، الذين كانت أعينُهم ترقبه في كثير من التساؤل، وقبل أن يُفكر «أحمد» في الكلام، كان «عثمان» يبتسم ابتسامةً عريضة وهو يقول: إنها تجربةٌ جديدة جيدة!

ابتسم «أحمد» وهو ينظر إليه دون أن يردَّ، فأضاف «عثمان»: هناك دائمًا حلٌّ لكل قضية!

قال «أحمد» مبتسمًا: بالتأكيد … لكن لماذا تقول هذا الكلام؟

ردَّ «عثمان» بسرعة: لأنَّ وجهك يكشفك تمامًا. إنَّ حيرتَك تظهر على وجهك، وهذا يعني أنَّ هناك مشكلة ما!

هزَّ «أحمد» رأسه مبتسمًا وهو يقول: هذا صحيح.

ثم أضاف بعد لحظة صمت: لكن على كلِّ حال لن أواجهَ هذه المشكلة وحدي؛ فنحن فريق عمل.

قال «بو عمير»: إذن، هيَّا حتى لا نُضيعَ وقتًا، ونبدأ العمل فورًا!

ابتسم «أحمد» وهو يفتح الملف الأزرق أمامه، ثم رفع عينَيه إلى الشياطين. نظر لهم لحظةً وكأنه يقول لهم: هيَّا استعدوا.

ثم بدأ يشرحُ لهم ما جاء في تقرير الزعيم، كان الشياطين منتبهين له تمامًا، حتى إنه يمكن سماع أنفاسهم لشدة الهدوء والصمت في القاعة، وعندما انتهى من شرح التقرير، صمت لحظةً ثم قال: لقد طرحتُ على نفسي سؤالًا، أطرحه عليكم الآن!

صمت مرةً أخرى ثم قال: مَن المستفيد من هذه الجرائم؟

قال «باسم»: إنَّ هذا السؤال يحلُّ المشكلة، واسمحوا لي أن أُجيبَ عنه.

سكت لحظةً ثم قال: نحن جميعًا نعرف أن تجار السلاح هم الذين يسيطرون على مجريات الأمور في العالم كلِّه؛ فتجارة السلاح رابحة تمامًا، ودائمًا نسمع عن صفقات السلاح، والتي تتجاوز أرقامها المليارات من الدولارات، نسمعُ عن صفقات بعشرين مليار، يعني عشرين ألف مليون دولار، هذه الأرقام الضخمة كيف يتركها أصحابها، إنَّ الحرب بالنسبة لهؤلاء هي تجارتهم الرابحة، فكيف يتخلَّى هؤلاء التجار الجشعين عن تجارة يكسبون من ورائها هذه الأرقام الفلكية، لا أظن أن أيَّ واحدٍ منهم يمكن أن يتنازل!

قاطعه «خالد» قائلًا: إنَّ هذا ليس من العقل في شيء؛ فما معنى أن يُحارب الناس بعضهم؟

ردَّ «باسم»: معناه هو تحقيق الربح لهؤلاء التجار المدمرين!

قال «أحمد»: هذه وجهة نظر أوافق عليها!

أضاف «باسم»: إننا نسمعُ كلَّ يوم عن حروب تظهر في كل مكان، في أفريقيا، وأمريكا اللاتينية وآسيا، لماذا لم تظهر في أمريكا أو في أوروبا؟!

سكت لحظةً ثم قال: هذه هي إجابة السؤال، محدَّدة، ومركزة، إنَّ مراكز تصنيع السلاح موجودةٌ في أمريكا وأوروبا.

قال «بو عمير»: إنتاج السلاح موجودٌ في أماكن كثيرة من العالم، وحتى أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية، لكن هذه المراكز، وهي مراكز صغيرة نسبيًّا، فإنها أيضًا تُدَار تحت إشراف التجار الكبار … إنَّ الدول الصغيرة التي لديها صناعة سلاح لا يكون إنتاجها إلا في حدود تحقيق بعض حاجاتها منه، أما الأسلحة الاستراتيجية فهي دائمًا من إنتاج الدول الكبرى التي تحقق الأرباح الضخمة!

قال «أحمد»: إذن، نحن متفقون على أن مراكز إنتاج السلاح الكبرى تقع في أوروبا وأمريكا.

رَدَّت «ريما»: هذا صحيح!

أضاف «أحمد»: رغم هذا التحديد؛ فإنَّ العصابة الخفية، أو العصابة السِّرية التي تقوم بتنفيذ اغتيال زعماء السلام قد تكون في مكان بعيد تمامًا عن الدول التي فيها مراكز تصنيع السلاح.

قال «مصباح»: ربما، وربما تكون في دولة صغيرة، لا تلفت النظر. إن عملية الاغتيال لا تحتاج إلى مجموعة، إن فردًا واحدًا يمكن أن ينفذ عملية الاغتيال وينتهي الأمر.

أضافَت «زبيدة»: هذا صحيح، لكن من الضروري أن تكون هناك فرقةُ مراقبة تُتابع خطواتِ زعماء السلام وتحرُّكاتهم، وتأتي مجموعة الاغتيال في النهاية للتنفيذ.

قال «أحمد»: هذا حقيقيٌّ أيضًا، وهذا يعني أننا قد حدَّدنا أو اقتربنا من تحديد الهدف.

سكتَ لحظة ثم أضاف: مع هذا، فنحن ما زلنا بعيدين تمامًا، فهذه المجموعة، وأعني مجموعة التنفيذ مَن هي؟ وأين توجد؟ وهل هي مجموعة كبيرة، أو أنها مجردُ أفراد، وهل هي تَتْبع عصابةً ما، أو أنها تَتْبع هؤلاء التجار البشعين مباشرة!

انتظر لحظة، ثم قال: إن المشكلة كما ترَون ليست سهلة.

قال «فهد»: مع ذلك، فنحن نقترب من الهدف، أولًا فرقة الاغتيالات، لا يُمكن أن تكون فردًا واحدًا، فهي بالتأكيد فرقةٌ كاملة، وهذه الفرقة التي تقوم بالتنفيذ فقط، لا بُدَّ لها كما اتفقنا من فرقة للمعاونة لتحديد المكان والوقت وغيره، وهؤلاء جميعهم يحتاجون لمَن يُدير حركتَهم، ويحدد لهم شخصيةَ زعماء السلام، ومن الطبيعي أن يكون خلف هذه العصابة هؤلاء الذين يتاجرون في السلاح ويربحون من الحرب!

ابتسم «أحمد» وقال: لقد حددتَ الموضوع ببراعة.

فجأة جاءهم صوتٌ هادئ ثم انقطع، ثم تردَّد من جديد، وعرف الشياطين أنَّ هناك معلوماتٍ جديدة قد وصلَت من الزعيم، وأن هذه دعوةٌ للاجتماع معه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤