العلم والمذاهب الهدامة

من الدعاوى العريضة التي يدعيها أصحاب المذاهب الهدامة أنهم يعتمدون على الحقائق العلمية، ويتجنبون الأوهام والخيالات التي تعلق بها دعاة الإصلاح الأقدمون. ومن أجل هذا يسمون الاشتراكيين السابقين لهم بالحالمين، ويقولون عنهم إنهم خادعون مخدوعون، وإن الاشتراكية الحديثة التي يبشرون بها هي الاشتراكية العلمية التي لا تقيم وزنًا لغير الواقع المقرر بالتجربة والمشاهدة، ولا تعد الناس شيئًا إلا أن يكون مضمونًا حاصلًا أو في حكم الحاصل بعد زمن قريب.

وإذا كان أصحاب المذاهب الهدامة مضلِّلين أو مضلَّلين في كثير من الأمور، فالأمر الأول منها: هو هذه الصفة العلمية التي يسبغونها على مذهبهم، وهو مناقض لكل علم، مخالف لكل حساب صحيح.

مثال ذلك، أنهم يسمون مذهبهم بالمذهب المادي، ويعنون به أنهم يفسرون كل حادث من حوادث التاريخ بالأسباب المادية، ولكنهم يخطئون في تفسير أكبر الحوادث، كما يخطئون في تفسير أصغرها وأهونها، كلما طبقوا عليها سببًا من تلك الأسباب.

فإنهم يتحدثون مثلا عن عصور الفرسان والنبلاء، ويعللون زوال هذه العصور بظهور البارود وظهور المدن التجارية، ومن يتحكمون فيها من كبار التجار وأصحاب الأموال.

قالوا: إن الفرسان كانوا يسودون الولايات لخبرتهم بفنون الحرب وأصول الفروسية، واعتصامهم بالقلاع والحصون، وإن سلطانهم قد زال بعد اختراع البارود؛ لأن البارود قد جعل استخدام السلاح هينًا سهلًا على عامة الناس. وقد جعل الهجوم على القلاع والحصون هينًا سهلًا كذلك على العامة ومن يقودهم من الأعيان والأغنياء.

وقالوا أيضًا: إن انتشار المدن التجارية قد حول النفوذ إلى أيدي أصحاب الأموال والتجار الذين يعرفونهم باسم البرجوازيين، ولهذا زالت سيادة الفرسان الإقطاعيين، وقامت بعدها سيادة التجار وأصحاب الأموال، أو سيادة الطبقة البرجوازية.

ولا يخفى أن تفسير الحركة البرجوازية هو أهم المسائل في الدعوات الهدامة، لأن ظهور هذه الطبقة عندهم هو الدليل على صدق حرب الطبقات، وهو المقدمة عندهم لزوال النظام الحاضر الذي يسمونه بنظام رأس المال.

فهل صحيح أن البارود والمدن التجارية تفعل هذا الفعل في تطورات التاريخ؟

ألم يظهر البارود في الصين قبل ظهوره في القارة الأوروبية؟ ألم تظهر المطبعة نفسها في الصين قبل ظهورها في الغرب بعدة أجيال؟ ألم يكن في الصين سادة يملكون الأقاليم الواسعة من الضياع والبقاع؟ ألم تكن في الصين مدن تجارية راجت فيها التجارة من قبل عصر الميلاد؟ فلماذا لم يحدث في الصين ما حدث في القارة الأوروبية، إن صح ما يزعمون عن تفسيراتهم للتاريخ؟ ولماذا صنع البارود وصنعت المدن التجارية في الغرب ما لم تصنعه في مملكة ابن السماء.

ندع هذا وننظر في نبوءاتهم عن المستقبل، وهي في اعتقادهم حق محتوم كالنبوءات الفلكية عن اقتران الكواكب وعن الكسوف والخسوف.

فمن هذه النبوءات عن المستقبل أن البلاد التي تتقدم فيها الصناعة هي البلاد التي تسرع إلى الدعوة الماركسية قبل غيرها، ويتعرض فيها نظام رأس المال للتداعي والانهيار.

فهل هذا هو الواقع المشاهد كما يدَّعون؟

كلا! بل الواقع المشاهد أن الماركسية ظهرت في البلاد التي تأخرت فيها الصناعة، وأن نسبة المذاهب الهدامة فيها كنسبتها في التأخر، على النقيض من تفسيرات الماديين.

فالصحيح أنه على قدر التأخر في الصناعة يكون الاندفاع إلى المذاهب الهدامة، ولهذا ظهرت في روسيا ثم في إيطاليا وإسبانيا، ثم في البلاد الصناعية الأخرى على درجات تناسب نصيبها من الصناعة الكبرى، وقد بلغت العصمة من المذاهب الهدامة أشدها في الأمم الصناعية العريقة، كما يشاهد في الولايات المتحدة والجزر البريطانية وبلاد الشمال التي أخذت من الصناعة بنصيب موفور.

وتكاد هذه القاعدة أن تطرد في آسيا كما اطردت في أوروبة وأمريكا، ومن هنا كانت الصين أقرب إلى الشيوعية من اليابان. ولم تنجح الشيوعية بين اليابانيين كما نجحت بين الصينيين الذين لم يمارسوا الصناعة الكبرى، ولم يمارسوا ما هو دونها من الصناعات.

ومن نبوءات هؤلاء القوم الذين يفخرون بالنبوءات العلمية أن العمال والصناع تنقص أجورهم، كلما تضخمت المصانع وتضاعف رأس المال، ولا يزال النقص مستمرًّا حتى يعز القوت على العامل، ولا يبقى عنده شيء يفقده غير السلاسل والقيود، ويومئذ يطيع من يدعونه إلى الثورة العالمية؛ لأنها تعطيه ملك العالم كله ولا تضيع عليه شيئًا غير تلك السلاسل والقيود.

تلك هي النبوءة العلمية التي لا تحسب عندهم من الخرافات ولا من الأوهام، أما الواقع العملي الذي لا شك فيه، فهو أن الأجور تزداد مع تقدم الصناعة، وأن العمال يزدادون اعتمادًا على الوسائل الدستورية أو البرلمانية في تحسين أحوالهم، ويزدادون نفورًا من الوسائل التي تعرف بالوسائل المباشرة، أي وسائل الثورة والانقلاب.

ومن الجهل بالحقائق أن يقال: إن الثورات التي تحدث في هذا العصر دليل على صدق النبوءات الشيوعية، وأن العالم يمضي إلى الخاتمة التي تنبأ بها كارل ماركس وتلاميذه المؤمنون بما تخيله وادعاه.

فالثورات والفتن لم تنقطع في القرن التاسع عشر، ولم تنقطع في القرن الثامن عشر، ولم تنقطع في القرون الوسطى، ولم تنقطع قبل ذلك في عهد الدولة الرومانية، ولكنها كانت تحدث لأسباب كثيرة تارة لأجل العقيدة، وتارة لأجل الوطن، وتارة لتبديل حاكم بحاكم أو دولة بدولة. وكل ما تدل عليه أن هناك أسبابًا كثيرة لسخط الأمم واندفاعها إلى إصلاح الحكومات.

ولعل هذا العصر الذي نحن فيه يمتاز بخاصة لم تكن شائعة في العصور الغابرة، وهي الدعوة المتوالية إلى السلام والتحكيم وتوحيد المعاملات والعلاقات. فإنها لم تعهد بهذا الإجماع في زمن قبل الزمن الحاضر، وإن كانت لا تزال في مبدئها ناقصة مختلة، ككل عمل إنساني كبير في حالة الابتداء.

والخلاصة مما تقدم أن الاشتراكية العلمية المزعومة ليست من العلم في شيء، وليست نبوءاتها ولا مقرراتها بأصدق من بشائر المخرفين والحالمين من أدعياء الإصلاح في أزمة الجهالة، وربما كانت نبوءتها الكبرى هي أكذوبتها الكبرى، كما سينجلي بعد حين، ولعله قد انجلى من اليوم لعيان الكثيرين.

فالنبوءة الكبرى في عرف الماركسيين هي نبوءتهم عن اليوم الذي تزول فيه الطبقات التي تستولي على وسائل الإنتاج، ولا يبقى فيه أحد غير المعامل والعمال.

فمن اليوم قد تبين أن وسائل الإنتاج تئول شيئًا فشيئًا إلى أيدي خبراء الصناعة، وخبراء الاقتصاد، وخبراء الدعوة، ومن اليوم قد تبين أن إدارة المعامل وتدبير الثروة لا تئول إلى العامل الصغير بمجرد زوال رأس المال؛ بل تستولي على تلك الإدارة طبقة من ذوي الاختصاص الفني لا تستغني عنها الحكومة؛ بل ستكون هي الحكومة المتصرفة في الإنتاج، وفي المطالب المختلفة، وفي التوزيع والإشراف على طلب الخامات وتصريف المصنوعات، كما قلنا في حديث غير هذا الحديث.

وعلى نقيض ما يزعمه الماركسيون، يأتي الحاضر بتكذيب النبوءات الهدامة واحدة بعد واحدة، ولا يتقدم الزمن فترة بعد فترة إلا انهدم ركن من مذهب هدام، ولحقت به أركان لا تقوى على الثبات.

•••

لو كانت المذاهب الهدامة فلسفة مقنعة لما عول أصحابها على الجهلاء الذين لا يفكرون ولا يهتدون إلى الحقائق ولو صبروا على التفكير فيها. فإن الحكم على حقائق التاريخ في أطوار الإنسانية جميعها مطلب عسير لا يقدر عليه الجهلاء الذين يجندهم الهدامون للتخريب والفتنة العمياء، ومثل هؤلاء قد انقادوا من قبل لكل ناعق، ولم يسألوه قط عن فلسفة ولا برهان مقنع، وحسبهم من الدعاة أنهم يقودونهم إلى الشر والفوضى، ويفتحون أمامهم مصرفًا لما طبعوا عليه من نوازع الجهل والخراب.

وقد يتفق للهدامين أن يستجيب لهم طائفة من المتعلمين أو العلماء، فمن عرف هذه الطائفة أيقن أنها لا تخلو من أحد اثنين: فالعالم الذي يستجيب لمذاهب الهدم إما أن يكون من زمرة ممسوخة الطبائع، مطوية على الحسد والبغضاء، ممتلئة بالغرور الذي يسول لها أن تطاوع كل نقمة، وتستكثر الخير على كل إنسان، فإن لم يكن العالم المستجيب للمذاهب الهدامة من هذه الزمرة فهو مخدوع فيها يتحول عنها بعد العلم بحقائقها والاطلاع على مساوئها، كما قد تحول عنها كثير من الكتاب والحكماء الذين أقبلوا عليها مخلصين، ثم أعرضوا عنها مخلصين.

•••

إن الاشتراكية العلمية إذن خرافة لا علم فيها، وقد يطول شرح هدف الاشتراكية، ويطول البحث في قواعدها ومبادئها، وفي مواطن الضعف منها، ولكن العقل الذي يعرف شيئًا من العلم والفهم، لا يحتاج إلى شرح طويل ليعلم أن نظرة القوم إلى أطوار الإنسانية نظرة باطلة، وأن حكمهم على المستقبل القريب أو البعيد حكم مردود.

إنهم يدعون أن زعيمهم كارل ماركس قد فرض على المستقبل نظامًا لن يختلف بعد آلاف السنين، وأنه قد أجرى حكمه على المجتمعات الإنسانية إجراءً حاسمًا دائمًا، لن يقبل التبديل والتنويع، وقد تجوز على العقل الآدمي المستقيم كل خرافة من خرافات الأساطير، قبل أن تجوز عليه خرافة تزعم أن الفرد الواحد يسلط فكره على الدهور المقبلة إلى غير نهاية، فإن الغول والعنقاء لأقرب إلى العلم من هذه الدعوى التي لا علم فيها ولا تقدم، والتي يروجها دعاتها مع هذا، وهم يفخرون بأنهم هم العلميون، وهم التقدميون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤