الفصل السادس

عندما توفي رسول الله ، كانت أم المؤمنين عائشة في الثامنة عشرة من سني حياتها، فانزَوَتْ في كسر دارها مع جواريها تقطع مراحل العمر في هدوء وسكون وتفني دقائق الحياة في تلاوة القرآن وعبادة الديان.

كانت على جانب كبير من الذكاء، تُلِمُّ بمسائل كثيرة من الفقه كما أنها على نصيب وافر من سائر العلوم، كانت أحب زوجات الرسول وقضتْ معه شطرًا كبيرًا من الحياة، فلا غَرْوَ إذا وَعتْ في حافظتها ما كانت تسمعه وتراه من ضروب الأحكام الدينية والمعاملات الشرعية، ولا عجب إذا رأينا الصحابة وعيون الأنصار يتخذونها المرجع في أحكام الدين ومسائل الشرع الشريف، وقد ضربت بسهم وافر في الفتاوى الشرعية، فكانت إذا ذُكرتْ أمام «عطاء بن أبي رباح» قال: «كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة.» وعنها يقول عروة: «ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطِبٍّ ولا بشعر من عائشة.»

بلغت الأحاديث التي روتْها السيدة عائشة ألفين ومائتي حديث وعشرًا، من ذلك مائة وسبعون حديثًا أجمع الاتفاق عليه وأخذ منها البخاري أربعة وخمسين حديثًا.

أما فضلها وحسن رأيها، فيكفي أنها كانت المرجع لأمثال عمر ومَن إليه من فحول الصحابة، أما فصاحتها فيكفي أن يزكيها مثل معاوية بقوله: «لم أسمع خطيبًا أبلغ ولا أفصح من عائشة.» وقال ابن قيس: «سمعت أبا بكر وعمر وعليًّا وعثمان بن عفان فلم أجد في أقوالهم الجزالة والعذوبة التي تترقرق في كلام عائشة.» وكانت تروي الشعر وتعلم وقائع العرب وحروبهم وسِيَرهم، حتى إنه ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا، وفي حديث للنبي عن أبي موسى أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.» وعندما أسَّس سيدنا عمر بن الخطاب ديوان بيت المال في زمان خلافته وخصص مرتبات سنوية لزوجات الرسول ، فكان يعطي كل واحدة منهن عشرة آلاف درهم إلَّا عائشة، فقد جعل لها اثني عشر ألفًا، وقد عارض بعض الناس في هذا الامتياز الصادر من رجل العدل عمر، دون أن يفهموا الغرض منه وسألوه عن السبب فأجابهم: «ذلك لأن عائشة كانت محبوبة الرسول.»

أما هي فكانت تبذل ما لديها من مال ونَشَبٍ في وجوه البر والخير وتهوين حاجات أهل العوز والمساكين، وفي سبيل إعلاء كلمة الدين.

كانت تزور الكعبة في كل عام ثم تعود إلى المدينة، فهذه الزيارات التي دامت إلى السنة الرابعة والثلاثين من الهجرة هي فترات الحركة في حياتها الساكنة، فقد مضتْ أيام حياتها على نسق واحد من النظر في شئون الخير والإحسان، ومن التفرغ إلى العبادات وحل ما يستعصي على المسلمين من الأحكام والمعاملات.

كان لأهل المدينة عاطفة حب شديدة واحترام عميق نحو شخصها المحبوب؛ إذ كانوا يقدِّرون ذكاءها ويباهون بحسن رأيها، ويرون في زوجة الرسول المعزَّزة بين ظهرانَيْهم، الذكرى الخالدة التي تذكرهم بأيام السعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤