الفصل الرابع

تلك هي ثقة الرشيد بوزيره وأنيس قلبه وحبيبه العزيز جعفر، وإلى هذا الحدِّ البعيد وصلتْ دالَّة الوزير على مولاه الخليفة، كان يرى بنفسه أكبر شئون الدولة وأعوصها، فيقيم أوزانها، ويفصل في قضاياها سواء كان في حضور الحاكم أو في غيابه، وسواء علم الرشيد أم لم يعلم، فهل كان يخطر على البال أن تنفرج بينهما شُقَّة الخلاف؟ وهل كان يُظن أن الشمس تشرق عليهما ذات يوم وهما مختلفان متنافران وقد أحبَّا بعضيهما واستوثقا من نفسيهما إلى هذا الحد؟ لم يكن بين الخليفة ووزيره سر مكتوم، فكل سرائر الخليفة ونياته صفحة مفتوحة أمام جعفر، وكل دخائل جعفر وخفايا نفسه مُلِمٌّ بها الخليفة، فهل يأتي عليهما يوم يتنكَّر فيه أحدهما للآخر؟ ما كان يمضي يوم دون أن يذهب رسول من قصر الخلافة إلى قصر البرامكة، ما أكثر ما كان يخرج جعفر من حضرة الرشيد فيرسل في طلبه! وما أكثر الأوقات التي خرجا فيها إلى الصيد والقنص! ما أكثر الليالي التي أمضياها معًا جنبًا إلى جنب يتفقدان فيها أحوال بغداد! ما أكثر الهدايا والتذكارات الثمينة التي يُهدي بها الخليفة وزيره الصادق! فهل كان لكل هذه الأوقات والساعات والليالي والأيام نهاية وحَدٌّ؟

نعم، كان لها مدًى وغايةٌ، كانت الأيام الدائرة، تلك الأيام التي تمضي بمئات من المشاغل والحوادث تقترب ببطء وهدوء لهذه الغاية، كانت السحب المتكاثفة في سماء مستقبل الوزير تنذر باحتمال حدوث هذا الانقلاب التدريجي؛ لأن أعداء جعفر كانوا يتكاثرون ويتفاقمون بنسبة استفحاله في الشهرة وبُعْد الصِّيت، تَوَهَّم أنه يستطيع أن يستهوي أفئدة الخلق ويستعبد قلوبهم بقيود نعمته وسلاسل جوده، وقد فاته أن الناس قد تنسى كل حسناته إزاء نعمة واحدة يغدقها عليه الخليفة أو ميزة من المزايا يختصه بها دونهم.

لولا الحسد وما تنطوي عليه الصدور من الأحقاد، لولا ما يحمله الإنسان لأخيه الإنسان من ضغينة وغِلٍّ لما استطاعتْ رياح الأقدار أن تطفئ شمس سعادته المضيء.

كثر الساعون في إخلال روابط الثقة المتينة التي بين الخليفة ووزيره، واشتدَّ ساعد الذين يحملون المعاول الهادمة لهذه الثقة، وبين هؤلاء الساعين الأميرة زبيدة، فإنها نَفَرتْ منه منذ حادثة مكة وانتهزَتْ كل فرصة سانحة لتكون ضده، إنها لم تنسَ نظرات جعفر المصوبة إلى ابنها الأمين وهو يحلف ثلاثًا يمين الطاعة وعدم الخيانة بين يَدَيْ أبيه الرشيد وفي حضوره في بيت الله الحرام، لم تنسَ سعيَه في تنصيب المأمون لولاية العهد بعد ابنه الأمين، بل أسرَّتْ ذلك في نفسها، متوعدة الانتقام يومًا ما من هذا المملوك الفارسي.

لم يتدرَّع جعفر إلا بالنعمة، وكان مرتاح الضمير؛ ولذلك لم يخشَ خصومة أحد حتى ولا تنكُّر الخليفة عليه، لم يشُكَّ في إنسان ولم يتوهم أن الخليفة قد يحنق أو يحقد عليه في ساعة من الساعات، لم يخطر على باله أن الخليفة قد يرتاب به أو يسيء إليه الظن وهو يشاهد من شرفة قصره جماهير الخلق المحتشدة في الضفة اليسرى من الدجلة حول قصر البرامكة، لم يدرك أن هذا العالَم إلى فناء وبوار لأن سجف السعادة والرفاهة كانت تستر الحقيقة عن عينيه.

كان ينظر إلى هذا العالم بعينَيْ مسافر يقطع الصحراء ووجهتُه السراب يخطو إليه مبتهجًا مسرورًا مفتونًا مأخوذ اللب، كان يعيش آمنًا مطمئنًا غير حاسب لعاديات الدهر حسابًا، لماذا؟ لأنه كان واثقًا من مودة الخليفة، كان يعلم أن منزلته من نفس مولاه الرشيد هي منزلة العباسة من نفس أخيها، أجل، إن الرشيد ما كان يستطيع صبرًا عن مفارقة أخته العباسة التي شبَّتْ ونشأتْ معه وشاركتْه في أهوائه وميوله، كان التذاذه من مشافهة العباسة لا يقل لذة عن محادثة جعفر، وإن سروره من سماع أشعارها يعادل ابتهاجه من منادمة الوزير له، وكما كانت أدبيات أخته تجلب له السرور والانشراح، كذلك مواعظ جعفر وأقواله الحكيمة تُثلِج صدْرَه وتدعوه إلى الاغتباط، كان يفتخر بجاذبية العباسة ويباهي بوقار الوزير ورزانته، وبالإجمال كان لا يحتمل مفارقة أحدهما فكانا يجلسان إليه معًا في القصر والحديقة ومغاني اللهو يتناشدون الأشعار ويخوضون فنون الحكمة والفلسفة، كانت العباسة على علم ناضج وأدب رائع، تُعَدُّ من حكيمات عصرها وعالمات زمانها، وكان الرشيد يُسرُّ من الرجوع إليها في كثير من معضلات المسائل العلمية ويناقشها ويجادلها الساعات الطوال في مختلف الفنون، وعندما كان ينبئ الأميرة زبيدة بطرف من هذه الحوادث كانت تغضب ويظهر عليها أثر الانفعال، كانت لا تهضم عُلُوَّ كعب العباسة في العلوم ودرجتها المعنوية الرفيعة، فكانت تنفس عليها هذه الرتبة وتغار منها مع أنها على حظ وفير من العلم.

عندما كان يجلس الثلاثة الرشيد والعباسة وجعفر في المجالس المعنبرة ذات القباب المكسوة بآيات الفن من قصر الخلافة فيخوضون لُجَّة الحديث والمسامرة ويشقون عباب الشعر والموسيقى وتمتلئ نفوسهم بالغبطة والهناءة، ينسَوْن بغداد ولا يخطر على بالهم شأن من شئون العالَم، مَن يدري أي الدرر من غوالي الألفاظ وثمار القرائح ونتاج العلم الناضج كانت تسقط في أرجاء تلك المجالس، لو كان للجدران المغطاة بقطع الديباج والمكسوة بأنفَس الحرائر لسان ناطق لأتحفنا اليوم بنكات لطيفة ومعانٍ مبتكرة جميلة وحسنات من اللفظ لا تخطر على البال، ولكن قد تداعتِ الجدران وطارت الأستار على أجنحة آلهة الشعر وذهبتْ تلك الأيام أدراج الرياح، ولم يبقَ لنا من ذلك الماضي المشعشع سوى خزانة محدودة من الخواطر، إننا لنمتطي الآن سفينة الذكرى؛ ذكرى «الأُنْس المُثَلَّث»: الرشيد والعباسة وجعفر، ونخوض خضم تلك الأيام فلا نجد شيئًا ولا نشعر إلا برذاذ من أمواجه.

كان الرشيد مغتبطًا بهذا «الأنس المثلث»، وكان يرمي بنفسه في أحضان هذين العزيزين لينسى مشاغل اليوم ومتاعب الإدارة، كان يشعر بهناءة كبرى من تلك المحادثات والمنادمات التي يعقدها في المجالس ذات القباب ولا يكتم شعوره هذا عن العلماء وأكابر رجال الدولة ممن يمثلون بين يده.

كان يثني على ذكاء العباسة ويقدِّر بلاغة جعفر ويباهي بمنادمتهما له، هذه الحالة الروحية كان ينفر منها العلماء الذين كانوا يتغافلون أو يتغاضَوْن عن مجالس اللهو والشراب المنتشرة في العصر الثاني من الهجرة، كَبُر عليهم مجالسة العباسة للرشيد في حضور جعفر فسدَّدوا إليه سهام نقدهم ولومهم، لم ينتقدوا رفاهة العظماء واستفحالهم في ضروب اللذة، الأمر الشائع في ذلك العصر مثل انتقادهم لهذا الأمر، وكان الرشيد لا يستهجِن هذا النقد ويرى أنهم مُحقُّون في هذا اللوم، ولكنه لم يستطِع أن ينقطع عن أمرٍ يُشبِع روحَه باللذائذ المعنوية، فلم يألُ جُهْدًا في التفكير وإعمال الرويَّة لإيجاد حلٍّ معقول للمسألة، وفي النهاية جمع علماءه في القصر فعقدوا مجلسًا لهذه الغاية.

أعمل العلماء رويِّتهم وشحذوا قرائحهم فوجدوا أحسن حل للمسألة أن يَعْقِد لجعفرٍ على العباسة، إلا أن الرشيد لم يُقنِعه هذا الرأي، إن العباسة الشريفة سليلة العائلة النبوية لا يُمكِنها أن تتزوَّج بجعفر، لا يجوز لمملوك إيراني أن يقترن بسيدة من عقيلات بني هاشم، فلا مناص إذن من إيجاد حل آخر، كان الفقهاء في موقف دقيق لا يسعهم أن يكونوا هدفًا لغضب خليفتهم، فاحتاروا وأُسقِط في يدهم؛ لأنه مُحتَّم عليهم أن يوفِّقوا بين أوامر الشريعة ورغبات الخليفة، وبينما هم في لُجَج الحَيْرة والدهشة خطرتْ على بال أحدهم فكرة عرضها على مولاه فنالت الاستحسان، رأى هذا العالِم أن يُزوِّجها حتى يحل له النظر إليها ولكن لا يقربها،١ وهكذا أجازوا تلك المسامرات الليلية في قصر الخلافة تحت هذا الشرط، فقَبِل الخليفة أن يَعْقِد له عليها ورضي بالشرط، وبذلك تخلص الرشيد من قِيل الناس وقَالِهم وعاد إلى منادمة صديقَيْه العزيزين وجليسَيْه الأليفين.

لم يكن بعد هذه الحادثة إنسان أسعد حالًا من الرشيد، إنه ليقاوم أصعب الأزمات فيفرجها برأيه، إنه ليقف باسمًا هازئًا أمام الشدائد والصعاب يتحكم في القوانين والشرائع والعادات ويبسط سلطان نفوذه على غرائز الطبيعة فيظهر ازدراءه لما يظنه الناس أمرًا مستحيلًا.

أيها الغرور! أيها الطابع الأزلي للإنسانية، كم نفسًا تحطمت على صخرتك العالية؟! وكم أملًا تكسَّر عند أقدامك؟! وكم رغبة حارة رددت أنفاسها الأخيرة فوق مذبحك؟! وأي إنسان استطاع مقاومة مغناطيسيتك؟! لو أحصينا الذين رمَوْا بأنفسهم في أحضانك فكم يبلغ عددهم؟!

أيتها البشرية، لم تستطع الأجيال أن تغير تأثير غرائزك الموروثة، ولم تستطع العصور المتقادمة أن تعدل تربيتك الروحية والفكرية، كان الرشيد يعتبر الساعات التي يقضيها بجانب وزيره من ألذِّ أوقات عمره وأشهاها، كان لا يصبر عنه لحظة واحدة ويستفيد من ذكائه وعرفانه ويتنازل لقبول مشورته وآرائه، ومع ذلك أظهر التردد والخوف أمام علمائه وفقهائه الذين أجازوا اختلاطه بأفراد عائلته معلنًا لهم أنه مملوك فارسي.

أصل جعفر وأرومته هو نقصه الوحيد، ما ولقد أثبت الرشيد بأن المروءة والشهامة وأدب النفس مزايا إنسانية لا تشفع للمرء في جميع أطوار حياته، فقد استنكف أولًا مما عرضه عليه علماؤه، لو أننا وصلنا إلى قرارة نفس الرشيد لعلمنا أنه كان راضيًا عن أمر الزواج إلا أن غروره المتسلط على قلبه وقف حائلًا بينه وبين الرضا بهذا الأمر، أما جعفر فقد كان مغلوبًا على أمره أمام علم العباسة ومزاياها الروحية، فكان يزداد تعلقًا بها وشغفًا بنفسها رغم أوامر الخليفة، كانت العباسة حياة جعفر، يعبدها بروحه وجسمه حتى لقد أصبحت عيناه لا ترى نورًا غير نور هذه النجمة التي سطعت في سماء حياته.

في هذه الآونة كانت العيون والجواسيس التي تأتمر بأمر زبيدة واقفة لحركات جعفر بالمرصاد في غدوه ورواحه إلى قصر العباسة، ويحملون إلى زبيدة حوادث تنزههما معًا في حديقتهما، بين خمائل الورود والقرنفل، وكان الجواسيس لا يتكلفون عناءً كبيرًا في سبيل مأموريتهم؛ لأن جعفرًا كان يمشي بملابسه السوداء شارة العباسيين، ويصل إلى القصر من طريق الشرفة المطلة على الدجلة جهارًا عيانًا دون تنكر إما ممتطيًا صهوة جواده وإما راكبًا زورقه.

كانت أخبار هذه الزيارات الليلية تصل أسماع زبيدة وابنها والفضل، فيعقدون مجلسًا من مشايعيهم لتدبير مكيدة يوقعون جعفرًا في حبائلها.

كان الفضل بن ربيع خادمًا صادقًا للأمين، ذي المزاج المتلون، كان في مبدأ أمره حاجب الخلافة ويشغل الآن مركزًا كبيرًا، وكان يحسد جعفرًا لمزاياه العالية ويطمح إلى الوصول للوزارة، فجعل يعمل على إسقاطه سرًّا ولا يرى فرصة فيها هلاك البرامكة إلا اقتنصها، كان يريد أن يقضي على الذين وقفوا حجر عثرة في سبيل آماله وأطماعه، فلم يقعد يومًا عن سبيل فيه إيذاء جعفر وقد أسعفتْه الأقدار بما كان يبحث عنه، خرج يحيى بن عبد الله العلوي على الرشيد فاغتمَّ الرشيد لذلك وندب إليه الفضل بن يحيى، فذهب إليه الفضل وحاصره، فمال يحيى إلى الصلح وطلب أمانًا بخط الرشيد، فأجابه الرشيد إلى ذلك وسُرَّ به وكتب له أمانًا، فقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد أول الأمر بكل ما أحب ثم أمر بحبسه بعد ذلك، فما سمع الطالبي ذلك حتى أسرع إلى جعفر قائلًا: قد كتبتَ لنا أمانًا فحضرنا إليك فإذا أنت أمرتَ بإبقائي في السجن عرَّضتَ نفسك لقهر الله وغضبه.

وعلى أثر ذلك أطلق جعفر سبيله فاغتنم أعداؤه هذه الفرصة ونقلوا الحادثة إلى الرشيد.

١  ابن الأثير، الطبري، الفخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤