الفصل الثالث

زفاف عائشة الصديقة رضي الله عنها

عندما وصل أهل أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — إلى المدينة، نزلوا في «بني الحارث بن الخزرج» وفي الشهر الثامن من الهجرة النبوية، قام الرسول ومعه جماعة من الأنصار فشرف دار صَدِيقه في الغار، ودخل على السيدة عائشة — رضي الله عنها — وقد كانت هذه الزوجة الثانية المباركة من أزواج النبي، الصادق الوعد الأمين، صبية حسناء ذات غضارة ونضارة.

وإليك وصفَ حفلة زفافها من حديث لها قالتْ: «تزوجني النبي فأتتْني أمي وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فأتيتُها لا أدري ما تريد مني، فأخذتْ بيدي فأوقفتْني على باب الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقُلْنَ: على الخير والبركة وعلى خير طائر. فأسلمتْني إليهن فأصلحنَ من شأني فلم يرُعني إلا رسولُ الله ضحًى فأسلمتْني إليه وأنا يومئذٍ بنتُ تسعِ سنين.»١

وكانت معهما في الحجرة «أسماء بنت» عمر فحدثتْ تقول: لم يكن في وليمة السيدة عائشة من الطعام سوى قليل من اللبن، شرب الرسول بعضه ثم مدَّ يده الكريمة بالإناء إلى عائشة فخجلتْ ولم تتناوله، فقلتُ لها: لا ترُدِّي ما يعطيه لك النبي وشربتْ أسماء ما تبقَّى.

على هذا النحو من البساطة والصفاء وقِلَّة الكلفة تمَّ زواج النبي — صلوات الله عليه وسلم — من السيدة عائشة الصديقة — رضي الله عنها — في الشهر الثامن من الهجرة.

كانت عائشة صبية صغيرة ذات ملامح جذابة وكانت في عنفوان الصِّبا حتى إنها في أوائل زواجها كانت لم تنقطع بعدُ عن لعبها مع صواحب لها، وهي في انعكافها على ألعابها وانشغالها بعرائسها وإذا بالرسول يدخل غرفتها على حين فجأة، فاستحيين رفيقاتها وتوارَيْن في الحال، أما السيدة عائشة فرمتْ عرائسها على الفراش وأسدلتْ عليهن مئزرًا، فلعب الهواء بالمئزر وظهرتْ أطراف اللعب فاقترب الرسول منها وسألها: ما هذا؟ فقالت: هي لُعَبي.

وسلم مبتسمًا.

وكانت أم المؤمنين عائشة، لبيبة فطنة، شاعرة، خطيبة يلقبها الرسول بالحُمَيْراء، ويحبها محبة أكيدة، وكان من دواعي سروره أن يُرضِيَها ويعمل ما فيه سرورها، حتى توثَّقتْ محبته لها وازدادتْ مكانتها في قلبه الطاهر.

كان الرسول يصلح نعله ذات يوم وكان الحر قد بلغ أشده، فتندَّى جبينُ الرسول وتلألأت قطرات العرق تتدحرج على خده، وكانت السيدة عائشة وهي تعجن الدقيق تشاهد هذا الحال بحيرة وولهٍ فالتفتَ إليها الرسول يقول: ماذا دهاك؟

فأجابتْ: لو رآك الشاعر عروة بن الزبير لكنتَ المعنيَّ بقوله يا رسول الله، فسألها: أي قوله؟ فأجابتْ: حين يقول:

فلو سمعوا في مصر أوصاف خَدِّه
لما بذلُوا في سَوْم يوسف من نَقْد
لوامى زليخا لو رأَيْنَ جبينَه
لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي

فترك الرسول ما بيده وقام إليها يُقبِّلها من عينيها وهو يقول ما معناه: «قد سررتِني، سرَّك اللهُ يا عائشة.»

وقال لها الرسول ذات يوم وهو جالس عندها (ما معناه): إنني أعلم وقت غضبك مني حيث تقولين إذ تحلفين: وربِّ إبراهيم «أما إذا كنتِ راضية عني فتحلفين بربِّ محمد.» فأجابتْ: إنني يا رسول الله إذا غضبتُ أغفلتُ اسمك فأما حبي لك فلا يتغير.

كان النبي يقضي أكثر أوقاته بجانب زوجته المحبوبة عائشة، وكان الناس أملًا في الحصول على رضا الرسول يتحرَّوْن بهداياهم يوم عائشة، وكان الوحي ينزل عليه وهو بجانبها؛ فلذلك كانت السيدة عائشة تشاركه في تأثراته النبوية؛ إذ كانت واقفة على دقائق أحواله وحركاته وكل شأن من شئونه.

وقد شكا زوجات النبي من تحري المسلمين يوم عائشة لهداياهم، فاجتمعْنَ إلى أم سلمة التي تقدمتْ بذلك إلى الرسول ورجتْه أن يخطر الناس بذلك فقال لها: «لا تؤذونني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها.»

لم تيأس أم سلمة من هذا الإخطار النبوي، بل عادتْ إلى تحقيق أملها وتوسلتْ هذه المرة بفاطمة الزهراء التي جاءتْ إلى أبيها تخبره بذلك، إلا أن الرسول سألها: هل تحبين مَن أحبه، فلما ردتْ عليه بالإيجاب قال لها: إذن أحبي عائشة.

قد كانت لعائشة منزلة سامية في نفسه حتى كان يقول لزوجته الطاهرة: إن حبه لها كالعروة الوثقى لا انفصام لها، فكانت السيدة عائشة تسأله من حين لآخر، اطمئنانًا على مكانة هذه المحبة فتقول: كيف حال العروة يا رسول الله؟ فيجيبها: إنها على حالها لم تتغير ولم تتبدل، وقد أثَّرتْ تعاليمه العالية في نفسها الكريمة وجدت منبتًا صالحًا حتى تشرَّب قلبها النبيل مبادئ الزهد والقناعة، فكان عروة بن الزبير يقول عنها: «رأيتها تتصدق بسبعين ألف درهم في سبيل الله وهي في قميص خلق.» وأخرج ابن سعد من طريق أم درة قالت: «أتيت عائشة بمائة ألف ففرَّقتْها وهي يومئذٍ صائمة، فقلت لها: أما استطعتِ فيما أنفقتِ أن تشتري بدرهم لحمًا تفطرين عليه؟ فقالتْ: لو كنتِ أذكرتِني لفعلتُ.»

•••

للسيدة عائشة ميزة خاصة وشرف وجلال بين مُخدَّرات العالم الإسلامي لم تتوفر لسواها من السيدات؛ فقد كانت أديبة لبيبة، عالمة، خطيبة، شاعرة، من أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة، وعنها يقول عروة بن الزبير: «ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة.»

يا له من فخار تحوزه السيدة عائشة، تلك التي استطاعتْ في فترة كبيرة من حياة الرسول الشريفة أن تُدخِل عليه السرور والراحة وتغمر قلبه بالغبطة والأنس، فكانت أمام عينيه الشريفتين التمثال المجسم للسعادة، وما كان ينقصها في حياتها تلك إلا أن تكون أمًّا لئلا تُحرَم من التَّكَنِّي باسم طفلها، إلا أن فخر الكائنات لم يدع سبيلًا إلى غمها من هذا القبيل فكنَّاها بابن أختها عبد الله بن الزبير؛ إذ كان قد درج في البيت النبوي وشبَّ بين أحضان العائلة النبوية المطهرة.

افتتن الرسول بخصالها الممتازة فتعلق قلبه الطاهر بحبها، حتى كان أنس بن مالك يقول: «أول حب ظهر في الإسلام حب الرسول وأم المؤمنين عائشة.» أما أم المؤمنين فكانت تتباهى بهذا الحب وتقول: فُضِّلت على نساء الرسول بعشر: فذكرت مجيء جبريل بصورتها، ثم قالت: ولم ينكح بكرًا غيري ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وقُبض بين سحري ونحري في بيتي وفي ليلتي، ودُفن في بيتي.

كانت من أحب خلق الله إليه هي وأبوها الصديق، كيف لا وقد أضاءت حياة الرسول بعلمها وجمال نفسها حتى صارت الجوهرة اللامعة في عِقْد تلك الأيام السعيدة المباركة، لقد كانت تاج الفخار في زمانها وخزينة السرور لسيد الكائنات، فطوبى لتلك النفوس العالية التي تترك أثرًا من السعادة والأنس والصفاء في محيطها الذي تعيش فيه وفي الأحياء التي تشاركها والأشياء التي تلامسها، ولقد تظل ذكرى تلك النفوس خالدة بعد زوال رسومها؛ لتصور لنا جلال «الماضي» وتنفخ في صورة «الحال» روح الخيال.

١  روى هذا الحديثَ البخاريُّ ومسلم وأبو داود والنسائي، وفي هذا الحديث معانٍ كثيرة منها استحباب الدعاء بالخير والبركة لكلٍّ مِن الزوجين، وفيه استحباب تنظيف العروس وزينتها لزوجها واجتماع النساء لذلك وفيه جواز الزفاف نهارًا. (المعرب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤