الفصل الأول

الأميرة زبيدة

كما أن شيب الرءوس والعوارض من علامات الشيخوخة للأفراد ومن أدلة اقترابها نحو حلقات الضعف والذبول، كذلك انغماس الأمم في مماشي الرفاهة ومسالك السفاهات من إمارات انحطاطها ودنو ساعتها، والسر في ذلك أن عناية الخلق بضروب الزينة وإعراضهم عن الجوهر وتمسكهم بأهداب العَرَض وإكثارهم من التهافت على الكماليات يسوقهم حتمًا إلى هجر أوضاعهم القديمة وأنظمتهم التي درجوا عليها وتقاليدهم التي نشئوا معها، فيشرعون في توسيع شأنهم وترفيه حالهم، فتبدأ عامتهم في مشاركة الملوك والخواص في مظاهر لباسها ومعاشها، ويصبح حب الراحة من قواعد العرف وأحكام العادة، ويهجر قواد الحروب مضارب الخيام وظهور الخيول إلى التنعم في مغاني الأنس والتلهي تحت ظلال الأمن والدعة، فيختل النظام وتسري الفوضى ويسود الفشل، وتضعف تبعًا لذلك الأنظمة المقننة لسياج المُلْك وصيانته، إلى أن يأتي دور الانحلال فالاضمحلال، وتتم كلمة القضاء المسطرة في لوح الأزل.

حقًّا إن الأمم إنما تسير حسب الحكمة الصمدانية المرسومة لها في كتاب قَدَرها، وإن «لكل أجل كتابًا»، ولكن لا يجب أن نستسلم من جراء ذلك ونركن الأقدار تُسيِّرنا ذات اليمين وذات اليسار، وإنما علينا أن نمتلئ بالأمل، ونعمل بجد على إصلاح الحال والمآل؛ إذ من الثابت المقرر أن من القضاء ما هو معلق كما هو وارد في الكتاب العزيز: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.١

ما أجلَّ هذه الفلسفة وأروعها! إننا لنسجلها هنا بيد الإعجاب والتقدير لذلك الفيلسوف الداهي والمؤرخ الكبير العلَّامة الحاج خليفة المعروف في عالمَيِ الأدب والعرفان باسم كاتب شلبي؛ ذلك لأنها القانون الأزلي لوقائع الأيام والناموس الخالد لحوادث الزمان، هذا الناموس الخالد لهو — في عرفي — المقياس القويم والقسطاس المستقيم لجميع الأدوار التي تتقلب فيها الإنسانية، فالحكومات التي توالت والدولات التي تعاقبت الواحدة تلو الأخرى، ما انحدرت من أوج الإقبال إلى وادي الإدبار وما سقطت من سنام العز إلى حضيض الذل إلا بسبب تلك العلل والأدواء التي بيَّنها لنا المؤرخ العلامة «كاتب شلبي».

هاكم صفحات التاريخ، فكلها عظات وعبر، تحدثنا بأوضح بيان وأفصح لسان عن مصر، جميع الحكومات والأمم، شرقية كانت أم غربية، وكيف انطفأ نور سعادتها وخبا ضوء عزها، في طريق العظمة وسبيل غرورها وتمشيها في مسالك الرفاهة والنعمة، وكيف كان ضياعها وفقدان مزاياها وامِّحاء شخصياتها عقب ولوجها مناهج الغرور.

أجل، ما حال تلك الأمم والشعوب؟ لقد خبا نور عزها بعد أن كان ساطعًا مشرقًا، وتقوضت دعائم مجدها بعد ثبات ورسوخ، فذهبت ضحية الاحتشام والدبدبة، وهوت من سماء العالم كما تهوي النجوم السيارة في ليالي الصيف.

ما من أمة استطاعت أن تقف في وجه هذا القانون الأزلي؛ فبغداد لم يغنها علمها وعرفانها فتيلًا، والقاهرة لم يُجدِها صناعاتها وفنونها نفعًا، وتونس لم ينفعها سحر بدائعها شيئًا، كل هذه العواصم التي ازدهت بأنوار المدنية والعمران وازدهرت بأشعة العلوم والفنون زمنًا ما وكادت تصل الذروة أو تقترب من قمة الكمال، اعتراها الدوار وهي في الطريق، فلم تحرص على أوضاعها القديمة التي أوصلتها إلى تلك الحال.

هذا داء استعصى دواؤه على نُطُس الأطباء وأجِلَّة الحكماء، واحتار في تعليله وتشخيصه جمهور العلماء والأدباء، وكما أن تيمورًا الفاتح الكبير لم يتمكن من الاحتفاظ بملكه الشاسع، كذلك الأندلس لم نجد وسيلة إلى تخليد مجدها وعظمتها، وهكذا الحال مع حكومات الرومان واليونان، فما من قائد أو حاكم اشتهر بين قومه بالبطولة والعظمة ترك عادته القومية وتربيته الوطنية وحياته الساذجة الصافية إلى حياة الرفاهة والدعة إلا وقد غُلب على أمره ولاقى وبال نفسه، فها هم رجال الحرب والكفاح من أبناء الرومان من الذين جالدوا وناضلوا في المعامع والمعارك حتى تكللت رءوسهم بأكيال النار، ما كاد هؤلاء يتقلبون على فراش النعمة ويتوسدون رياش الراحة، حتى فارقتْهم صفات البطولة ومزايا الرجولة التي شرفتهم ورفعتهم على هامات الشعوب، فصار أحدهم بعد تلك الخشونة وممارسة أنواع الصعاب وضروب المشقات، يجرحه النسيم ويدميه لمس الحرير ويتأذى من وريقة الورد إذا وُجدت عرضًا بين حشايا فراشه الناعم الرقيق.

وهل أتاك حديث الإغريق، وما كان من شأن علماء أثينا الذين خلبوا ألباب العالم بواسع أفهامهم، وعظيم ذكائهم؟ ألم تر كيف كان بهاء مجدهم وانتشار مدينتهم واستفحال كلمتهم في مشارق الأرض ومغاربها؟! ثم انظر إلى مصيرهم بعد تلك العظمة وإلى انطفاء نورهم بعد ذلك الإشراق، سلكوا سبيل الرفاهة والزينة فانفرط عقد نظامهم حتى أصبح موطنهم مزرعة للدسائس والفتن، وفقدوا الانسجام الكامن في حياتهم الشخصية كما تفقد الكرات موازنتها الطبيعية وهوَوْا إلى الحضيض فالدمار.

وقد كانت بغداد، تلك المدينة الإسلامية الزاهية الزاهرة وعاصمة الخلافة وركنها الركين هدفًا لهذا القانون، فتمشت مع تياره، ولم تستطع ثباتًا أمام سلطانه، وصلتْ إلى أوج العز ومنتهى الكمال ثم تدهورت إلى مهاوي الانحطاط ومنحدرات السقوط كغيرها من الأمم السالفة والممالك البائدة.

قامت بغداد هذه في العصر الثاني للهجرة تمثالًا حيًّا لمدنية الإسلام وبرهانًا ناطقًا على أن هذا الدين المبين من أكبر العوامل على الرقي والفلاح، وما كاد ينقضي عام ونصف على تأسيسها حتى انتشر العمران في خراباتها وسرى نور العلم والعرفان في عرصاتها، يخطف الأبصار ببريقه الوضاء، ثم تبدَّل فقر الأهالي وإملاقهم إلى الغنى والرفاهة وبسطة الرزق وسهولة العيش، وفي ذلك إدلال على إعجاز هذا الدين وتنبيه إلى جلاله وعظمة شأنه، فطوبى للأمم التي تصل مواطن العز ودرجات الإقبال من طريق تنظيم حياتها وفقًا لأوامر الدين، وطوبى لأولئك الذين يصلون تلك المرتبة العالية من طريق العمل بالأمر النبوي الجليل: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.»

١  تقويم التواريخ لكاتب جلبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤