الفصل السادس

لما مات الرشيد بطوس، كان المأمون في مدينة «مرو» واليًا على خراسان، وكان الأمين ببغداد وزبيدة بالرقة، فانتشر نعي الخليفة بسرعة البرق وسعى صالح بن هارون إلى الأمين بخاتم الخلافة وسيف أبيه وكسوته الخاصة، مبايعًا له حسب التقاليد والعادات،١ وكان الأمين قد انتقل من قصر الخلد إلى دار الخلافة، ولما كان من الغد صلى مع الشعب في المسجد جماعة وأعقب صلاته بخطبة وجهها إلى الخلق والجند والوزراء فبايعوه بالخلافة عند انتهاء خطبته حسب العادة الجارية، وكان المأمون في خراسان فلم يتمكن من مبايعته بشخصه، وإنما اكتفى بإرسال الهدايا وتقديم التهاني التي تقوم مقام البيعة.

أما زبيدة فقد طاب لها المقام في الرقة، ولم تشأ أن تحضر إلى بغداد ولكن ابنها الخليفة ألحَّ عليها بالحضور والتمس منها ذلك بكل وسيلة، فلم ترَ بدًّا من الإجابة إلى دعوة ولدها المحبوب، فتوجهت إلى العاصمة في شهر شعبان المعظم، وقام ابنها حتى مدينة الأنبار يستقبلها باحتفال مهيب احتشد فيه خلق كثير، وكانت الأعلام المتماوجة والزينات المختلفة وابتهاج الشعب ونشاطه العظيم يلقي على مدينة الأنبار ثيابًا من الروعة ضافيًا، وجلبابًا من الجلال شاملًا.

لقد كان لوصول زبيدة أثر من العظمة الخالدة التي لا يمكن نسيانها، ولتلك المواكب الفخمة روعة دائمة الذكر في صحائف التاريخ، بمثل هذا الاحتشام تقدم موكب الأمين ومن ورائه الوزراء والأمراء والأعيان ثم صنوف الخلق لملاقاة زبيدة القادمة إلى عاصمة المُلك وقصر الخلافة.

هنا أخذ الخيال بيدي إلى منظر آخر في صفحات التاريخ، إلى صورة بارزة للجلال والاحتشام، إلى موكب اجتماع ملكة سبأ بسيدنا سليمان — عليه السلام — ودخولها فلسطين تحفُّ بها آيات الاحتشام ومظاهر الجلال والكمال.

بين هذين الموكبين مشابهة ومحاكاة، فيالله من بهجتهما وإشراقهما! وأي جمال للغرب يضاهي جمال هذا الإشراق الذي يستمد بهجته من ألوان الشرق؟

وصل موكب زبيدة بين الهتاف المتواصل وأصوات التهليل ومظاهر التبجيل والتقدير إلى بغداد، ووقف أمام قصر الخلافة بإلحاح الأمين ورجائه المتواصل وهنا ألقت عصاها واستقر بها النَّوى.

•••

كان المأمون أثناء ذلك في خراسان لا يستطيع تركها لما كانت عليه من الفتن والدسائس، فكانت الأحوال تحتم عليه البقاء في خراسان وتأخير الشخوص إلى بغداد.

كان الرشيد على علم تام بأخلاق ولديه الأمين والمأمون وبصفات ومزايا كل واحد منهما، وقد كان تعيين الأمين لولاية العهد مراعاة لخاطر زبيدة، أما المأمون فقد كان يقدره حق قدره لشخصيته الفذة ومزاياه النادرة؛ ولهذا السبب وجه إليه ولاية خراسان، فأظهر حسن السيرة والورع حتى استمال القواد وأهل البلاد، وكان فاضلًا أديبًا يميل إلى إتقان العلوم والفنون، ذا اطلاع واسع وأهلية تامة في تفسير القرآن وفي الحديث الشريف.٢

وقد كانت له ملكة عظيمة ودراية كبيرة في مسائل الفقه والتشريع حتى فاق أمراء زمانه وأصبح بينهم علمًا يُعتد برأيه وفضله.

كان الرشيد ثاقب الفكر بعيد النظر فتوقع ما قد يفعله الأمين من التهوس وسوء القصد بأخيه فأوصى قبل موته بجميع ما في المعسكر للمأمون، وكان الفضل بن الربيع ربيب نعمة الأمين خليفة جعفر بن يحيى على منصب الوزارة بغير جدارة، يعلم مقدار هذا المعسكر، وما دقَّ وجلَّ من شئون رجاله وأحواله.

وعندما انتقل الرشيد إلى جوار ربه، وولى ابنه الأمين شئون الخلافة من بعده، زرع الفضل بذور الفساد والتمرد بين أفراد الجيش ثم روج بينهم الدعوة إلى نكث أيمانهم ومواثيقهم للرشيد بأن يكونوا في إمرة المأمون، حتى مالوا معه وقفل بهم إلى بغداد، ومعهم جميع ما في المعسكر من مال وذخيرة، وعندما وصل وزير الأمين وربيب نعمته إلى عاصمة الخلافة قابله الخليفة بالحفاوة والإكرام وأغرقه بالصلات والهبات، ثم وزع على الجنود الخائنة ضعفي مرتباتهم تلطيفًا لخواطرهم.

أما المأمون فقد وجد نفسه بلا جيش ولا مال، فعمل على استمالة قلوب الشعب واكتساب رضا الناس وجمع رؤساء خراسان وأكابرها حوله وبدأ يدبر شئونه بمعونتهم، وخفَّض الضرائب، وسار في الرعية سيرة العدالة والمروءة، ولم يجابه مع ذلك أخاه بالعدوان أو يقابله بالإساءة، إنما كان في أحواله وأطواره أميرًا عادلًا يصدر عن روية ويورد عن إنصاف وتدبر.

وبينما كان المأمون في خراسان على هذا النحو من التدبر والتعقل وحسن السيرة، يجمع حوله أمراء أبيه المحنكين وشيوخ الدولة المدربين؛ ليستعين بثاقب أفكارهم وناضج آرائهم، كان الأمين ببغداد منهمكًا في اللذات وشرب الخمر، حتى أرسل إلى جميع البلاد في طلب الملهين وضمهم إليه وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقسَّم الأموال والجواهر في خواصه وفي الخصيان والنساء، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد وعلى صورة الفيل وعلى صورة العقاب وعلى صورة الحية وعلى صورة الفرس٣ يتنقل من واحدة إلى أخرى، عاكفًا على تمضية الوقت بين الغناء والمنادمة، وقد كان لراقصاته صيت ذائع وكن مائة قد انتخبهن من أمصار مختلفة، تجيد الواحدة منهن ضروبًا من الرقص وفنونًا من الحركات التي تدهش الأبصار، وقد صرف عليهم مبالغ جسيمة؛ إذ كُن في أبهى لباس وأثمن حلية يبهرن النواظر وهن يرقصن بأغصان النخل في أيديهن، وكلما اشتد إعجاب الناظرين ازداد غروره وتمادى في غيه والاعتداد بما صنفه من مظاهر العز والترف، في تلك الفترة الرهيبة كان أعداء الإسلام يراقبون الأحوال بعين اليقظة، منتظرين الفرصة السانحة التي تبدو لهم من خلال غفلته وانهماكه في اللذات، وقد انفرجت لهم ثلمة الفرصة في خلال هذه الفترة وبدءوا يرفعون ألوية العصيان ويتحركون بعد السكون والجمود والأمين لاهٍ ساهٍ كأنه في نوم عميق يبدد أموال الدولة في سبيل لذاته وشهواته بدل أن ينظر في شئون حكومته، ويعمل على سد حاجاتها المادية والمعنوية.

أما الفضل بن الربيع وزيره الأمين فقد خاف العواقب، وكان كلما افتكر فيما فعله مع المأمون من نكث عهد الرشيد ووصيته بطوس ارتعدت فرائصه فرقًا، وقد وضع نصب عينيه أن ولاية المأمون للخلافة إن عاجلًا أو آجلًا معناها موته والقضاء عليه؛ لأن المأمون لا يترك له هذه الخيانة دون عقاب صارم، فلم يُطِقِ احتمالًا لهذه الفكرة التي كانت تقلق خاطره ليل نهار وتنفي النوم من عينه، فحسَّن للأمين خلع المأمون والبيعة لابنه موسى فلم يوافقه أولًا، ورأى الفضل أن آماله كادت تخيب فألحَّ عليه في هذا الرأي وأشرك معه شريك النفاق والرياء علي بن عيسى، فروَّجا هذه الفكرة وحسَّناها للأمين وما زالا به حتى مال إلى أقوالهما وشرع في خداع المأمون باستدعائه إلى بغداد، فلم ينخدع وأدرك ما في ذلك من الخطر والبوار إن هو ترك خراسان، فكتب يعتذر وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما ونهض الفضل بن سهل بأمر المأمون واستمال له الناس، وضبط له الثغور والأمور، واشتدت العداوة بين الأخوين: الأمين والمأمون، وقطعت الدروب بينهما من بغداد إلى خراسان وفُتِّشتِ الكتب وصعب الأمر، وقطع الأمين خطبة المأمون ببغداد وقبض على وكلائه، ثم خلعه وولى بدله ابنه موسى وليًّا للعهد بلقب «الناطق بالحق»، وأحضر كذلك وصية أبيه من مكة المكرمة ومزقها إربًا.

على هذا المنوال نما الشر بين الاثنين، وقضي على مشروع الرشيد، ولم يبقَ من آثاره سوى ما كان له من حسن النية.

لقد حنث الأمين بيمين قطعه على نفسه ونكث عهدًا عاهد به أباه، ولم يعبأ بتلك الوصية التي تحرمت بتعليقها على جدران بيت الله الحرام.

لم يندم الأمين على ما فعل، ولم يخجل عندما ارتكب تلك الفعلة الشنيعة، فلا بدع ولا عجب؛ لأنه شبَّ منذ الصغر صغير النفس وضيع الهمة لا يقدر لشرف الوعود والإيمان قدرًا.

لذلك رأينا المأمون يستعد، وكان بقدْر ما عنده من التيقظ والتبصر والضبط، بقدر ما عند الأمين من الإهمال والتفريط والغفلة، وقد بلغ من تفريطه أنه أرسل إلى حرب أخيه رجلًا من أصحاب أبيه يقال له: علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفًا، ويقال: إنه ما رُئي قبل ذلك ببغداد عسكر أكثف منه، وكان معه السلاح الكثير والأموال الوفيرة، وخرج معه الأمين مشيعًا مودعًا، وكان أول بعث بعثه إلى أخيه، فمضى علي بن عيسى بن ماهان في ذلك المعسكر الكثيف وكان شيخًا من شيوخ الدولة، فالتقى بطاهر بن الحسين قائد عساكر المأمون بظاهر مدينة «الري»، وكان عسكر طاهر حدود أربعة آلاف فارس فاقتتلوا قتالًا شديدًا فكانت الغلبة فيه لطاهر، وقُتل علي بن عيسى وجيء برأسه إلى طاهر.

وأرسل طاهر إلى المأمون يبشره بذلك الفوز، وأرسل البشرى مع رجل من رجال البريد، فوصلت إلى المأمون في ثلاثة أيام وبينهما مسيرة مائتين وخمسين فرسخًا.

ومن الغريب أن الطاهر في كتابه الذي بشَّر به بذلك الظفر، أوجز غاية الإيجاز مع الإلمام بالموضوع من جميع وجوهه وهذه نسخته:

أما بعد فهذا كتابي إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ورأس علي بن عيسى بين يدي، وكان خاتمه في يدي وجنده تحت أمري والسلام.

وقديمًا فعل ذلك «جول سيزار» عندما تغلَّب على قبائل الغول ودخل مدينة «لوتاس» وهي المدينة الأثرية التي بُنيت على أطلالها باريس، فقد كتب إلى مجلس الأعيان بروما ثلاث كلمات فيهن كل وصف وإطناب وهي:

جئتُ فرأيتُ فقضيتُ.

لقد اغتاظ الفضل من انتصار المأمون وأطلق لغضبه العنان إلى حد مصادرة أمواله وعقاره وحجز ولديه الصغيرين ببغداد، ولقد همَّ أن يقتلهما لولا ممالقة الأمين، ثم توالت البعوث من جانب الأمين بعد هزيمته المنكرة وكانت الغلبة للمأمون في كل مرة، وفي سنة ثمان وتسعين ومائة، هجم طاهر بن الحسين على بغداد بعد قتال شديد وحاصرها عدة أشهر وأخذ الأمين أمه وأولاده إلى عنده بمدينة المنصور وتحصَّن بها، ولقد أشاروا عليه بالفرار إلى الشام فلم يفعل ارتكانًا على مروءة أخيه وشهامته إن هو سلَّم نفسه إليه وبادر في مذكرات الصلح وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه، وحصره طاهر هناك وأخذ عليه الأبواب والمنافذ، ولما أشرف على أخذه طلب الأمين الأمان من «هرثمة» وأن يطلع إليه فروجع في الطلوع إلى طاهر فأبى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمانٍ وتسعين ومائة، خرج الأمين بعد العشاء الآخرة وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود فأرسل إليه هرثمة يقول: إني غير مستعد لحفظك وأخشى أن أُغلب عنك فأقم إلى الليلة القابلة، فأبى الأمين إلا الخروج تلك الليلة، ثم جاء راكبًا إلى الشط فوجد حراقة هرثمة، فصعد إليها فاحتضنه هرثمة وضمه إليه، ثم شد أصحاب طاهر من الأعجام على حراقة هرثمة حتى أغرقوها، فسبح الأمين وهرثمة حتى وصلا إلى الساحل بكل جهد ومشقة والتجأا إلى بيت صغير، وكان هرثمة قد غطى الأمين بطيلسانه حفظًا له عن الأعين وعمل ما في وسعه لنجاته، ولكن كيف يستطيع ذلك بمفرده؟ وأنى له أن يثبت أمام مشيئة الأقدار؟ إن «لكل أجل كتابًا»، فقد وصل الأعجام إلى الأمين في مكمنه، وهجموا عليه بسيوفهم المصلتة حتى قتلوه، ولقد غضب المأمون من جراء ذلك على القتلة وأمر بجمعهم ومجازاتهم لما ارتكبوه وأجرى النفقات على الموجودين في قصر أخيه وألحق ولدَيِ الأمين بزبيدة لتربيتهما، وهكذا عمل ما في الإمكان لتلافي ما حدث بغير رضاه وبلا أمر منه.

قُتل الأمين، ولد زبيدة المحبوب في الثامنة والعشرين من حياته، وكانت مدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسر.

لقد أقسم الأمين أمام أبيه بحفظ وصيته وعاهد ربه ثلاثًا أمام جمع حافل أن يكون مستحقًّا لغضب المولى — عز وجل — وقهره إذا هو خان الأمانة؛ ثم نكث بالعهد وحنث بالقسم ولم يعبأ بشرف الوعد، أفلا يكون في ذلك دليل على الغباوة والجهل وقلة التدبر؟

١  الأمير علي.
٢  الأمير علي.
٣  وفي قول أبي نواس:
سخَّر الله للأمين مطايا
لم تُسخَّر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برًّا
سار في الماء راكبًا ليث غاب
عجب الناس إذ رأوك عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات سور ومنسر وجناحيـ
ـن تشق العباب بعد العباب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤